رواية أزهار بلا مأوى الفصل السابع 7 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى الجزء السابع
رواية أزهار بلا مأوى البارت السابع
رواية أزهار بلا مأوى الحلقة السابعة
“الدار غير آمنة”
ـ عشان أنا اتعرضت للأعتـ ـداء الجنـ ـسي.
وقعت الجملة على مسامعها كدلو الماء البارد في يومٍ شديد البرودة! فتحت مقلتيها على وسعهما ولم تنطق بحرف، لكنها سريعًا لملمت أعصابها وسألته بنبرة جاهدت أن تكون طبيعية:
ـ من مين يا “مالك”؟
انسابت دموعه دون أن يشعر، مسك ذراعه الأيسر وظل يفرك فيهِ وهو يتذكر ما حدث له ثم قال:
ـ منهم… منهم هما.
ـ الدار؟؟
نفى برأسه وهو مازال يذرف الدموع وأردف:
ـ من الناس اللي بروح لها من خلال الدار.
ختم كلماته وانخرط في البكاء، اقتربت منه ومسحت دموعه بأناملها، مسكت وجهه بيدها ورفعته لها وهي تقول له:
ـ خليك عارف يا “مالك” ان ده ماضي، ماضي خلص وعايزين نعالجه، عايزين نعالجه عشان عاملنا مشكلة كبيرة، كل الحاجات دي انتهت، بس أحنا عايزين نعالجها عشان هي تعباك، صح؟
رفع عينيه لها بضعفٍ، كان يتوقع أنه يرى في عينيها نظرة أشمئزاز ورفض، ولكنه رأى نظرة الفخر بوضوح تتراقص في مقلتيها! ابتسم لها من بين دموعه وهو يرفع يداه ويمسح بها دموعه ثم بدأ في قص معاناته منذ نُشبها:
ـ من 3 سنين تقريبًا في عيلة اتبنتني، العيلة دي كانت مكونة من رجل وست ومعندهمش أطفال، بس… بس كان في ولد بيجي عندهم على طول.
كانت “سلمى” تُعطي له كامل تركيزها، مسكت ورقة صغيرة وقلم وبدأت في تدوين النقاط الهامة، عندما لاحظت أنه صمت طرقت القلم من يدها ونظرت له بتركيز وسألته:
ـ مين الولد ده؟ وعنده قد إيه؟
ـ كان ابن اختها، بس كانت هي اللي مربياه.
قال أخر كلمة بسخرية شديدة، نظر لها ثم واصل قائلًا:
ـ كان أكبر مني بكتير، كان في ثانوي تقريبًا وأنا وقتها كنت أصغر من دلوقت، وكان بيجي عندها كتير جدًا.
نظرت له “سلمى” بتركيز ثم سألته بوضوح:
ـ هو اللي عمل كده صح؟
نكث رأسه للأسفل ولم يرد، بينما هي ففهمت وأنتقلت للسؤال التالي لكي تساعده على الاسترسال:
ـ قولي أول مرة عمل إيه يا “مالك”؟ وكانت أزاي وأهل البيت معاك؟ وحسيت إيه وقتها؟
تنهد بعمقٍ وكأنه يتذكر أبشع لحظات حياته، رفع وجهه لها ثم أجابها قائلًا:
ـ كنت لوحدي أنا وهو في البيت، يومها كانوا هما في مشوار وسابوه معايا، أنا كان ليا معاد نوم، يومها جيه معاد نومي ودخلت نمت، بس قبل ما أدخل في النوم لقيته داخل ورايا الأوضة وجيه ينام جمبي! كنت فاكر عادي يعني يمكن فكرني خايف ولا حاجة، بس… بس طلعت كنت ساذج!
زحفت دموعه من جديد على وجنتيه لكنه واصل بكسرة نفس وروح أيضًا قائلًا:
ـ كان عمال يلمس جسمي بطريقة غريبة، وعمال يقرب مني بطريقة أغرب، أنا… أنا مكنتش عارف أعمل إيه، كنت… كنت عمال أزقه بعيد عني وهو بيقرب برضه! مكنتش فاهم! والله ما كنت فاهم!
ختم كلماته ثم أجهش في بكاء مرير، كان جسده يرتجف بشده،
اقتربت منه سريعًا وربتت على ذراعه بحذر وهي تقول له:
ـ لو مش قادر تكمل..
ـ لا هكمل.
حاولت أن تنهي معه تلك الجلسة لكنه رفض وبشده، أخذ نفسه ثم رفع وجهه لها واستطرد قائلًا:
ـ الأول كان بيكرر الموضوع على فترات متباعدة، لحد ما في يوم جيه الشيـ ـطان ده وقالهم أنه عايز ياخدني ونروح رحلة، أنا رفضت، بس هو هددني أنه هيضربني، وروحنا الرحلة دي.
لمحت نظرة رعب في مقلتيه وكأنه يخشى ما آتيّ، وقبل أن تسأل أي شيء واصل هو قائلًا:
ـ كانت هي دي السبب في كل حاجة، الرحلة كانت مدتها يومين، في اليومين دول هو مسبش فرصة غير وهو… وهو بيعتـ ـدي عليا فيها! كنت أنا وهو في أوضة وحدة، كان يخدني ونطلع الأوضة كأننا هنغير هدومنا ونرجع تاني لباقي المجموعة! وقتها بقى لما رجعت من الرحلة دي وأنا.. وأنا حسيت نفسي أني أتشوهت نفسيًا وجسديًا.
ـ يعني إيه؟
ـ يعني من يوم ما رجعت وأنا فيا حاجة غلط؛ بقيت كل ما حد يقرب مني بصرخ، بتنفض أول لما بشوفه، جسمي كله بيعرق والذكريات السودا بتلحقني في كل مكان في الشقة، بقيت دايمًا قاعد بعيط.
ـ وبعدين؟
سألته بعيون متلهفة، تنهد هو وواصل:
ـ في مرة… ويمكن دي كانت أخر مرة يحاول يقربلي فيها..
“منذ زمن ليس بعيد.”
كان ذلك الطفل المسكين يجلس أعلى فراشه وهو شارد الذهن كعادته في الآونةٌ الأخيرة، كان يضم ركبتيه لصدره ويحاوطهم بذراعيه وكأنه هكذا يحمي حاله من شرور العالم، ولكنه شعر أن حصونه التي كان يحاول بنائها انهدت فوق رأسه عندما سمع صوت باب المنزل يُغلق عليه وصوت خطوات تتقدم من غرفته، كان يعلم جيدًا صاحب تلك الخطوات، وقبل أن يظهر أمامه كان جسده يرتجف بشدة، ضم جسده بعنف وكأنه يتمنى أن يختفي في هذا الوقت بالتحديد، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يحصل عليه! في ذلك الوقت سمع أكثر صوت يبغضه في الحياة، كان يستمع لخطواته التي تقترب مِنه بعدما غلق باب الغرفة وكأنها خطواته للموت، كان يأبى أن يرفع وجهه له، كان ذلك الشيـ ـطان المُتنكر في هيئة شاب يجلس بجانبه وهو يتفحص جسده بطريقة مقززة، كان يتفوهه بكلمات بذيئة لكي يُثير ذلك المسكين، وعندما رأى أنه لا يوجد استجابة كالعادة مد يده لكي يقربه له، ولكن وفي حركة سريعة غير محسوبة ولا متوقعة بالمرة كان “مالك” يدفع يده بمقص شديد وهو يصرخ في وجهه بأن يبتعد عنه، حملق فيه الأخر بعدم استوعاب ثم تجهم وجهه بغضب، نظر له ثم زمجر حانقًا وهو يمسكه من معصمه ويقربه له رغمًا عنه:
ـ في إيه مالك؟؟ خلص عشان هيجوا بسرعة النهاردة.
هُنا وحدث ما لم يتوقعه ذلك الشاب، دفع “مالك” يده بعنف شديد وهو يصرخ في وجهه بشبه أنهيار بأنه يبتعد عنه، كان جسده يرتجف بشكل ملحوظ، غير تلك قطرات المياة التي تكونت على جبينه، ومقلتيه اللتان تصبغا باللون الأحمر! فُزع الآخر من حالة الهياج هذا، وأيضًا من صوت الجيران التي أجتمعت على صوت صراخه وهي تسأل ماذا يحدث بالداخل؛ وعند سماع “مالك” لصوت هؤلاء الجيران شعر أن يوجد من يستنجد بهِ، عَلى صوته أكثر وظل يصرخ حتى شعر أن حباله الصوتية أنجرحت بفضله، بينما ذلك الشاب فأتنفض في مكانه عند سماعه لصوت الأناس في الخارج، بدأ في الزمجرة وتهديد ذلك المسكين لكي يصمت، لكن لا حياة لمن تنادي؛ “فمالك” كان شبه في حالة من الأنهيار العصبي، عندما فشل ذلك الشاب في تهدءته، خرج الشاب للجيران وقال لهم أن “مالك” يصرخ بلا سبب واضح، وبعد نصف ساعة كان أهل المنزل يحاوطون ذلك المسكين ويتسألون ماذا أصابه؟
“عودة لِما هو عليه الآن”
ـ وبعدين حصل إيه بعد المرة دي؟
هكذا سألته بتركيز شديد، فاق “مالك” من تلك الدوامة على سؤالها، مسح دموعه ثم قال لها بصوتٍ مبحوح:
ـ وقتها فضلوا يسألوا إيه اللي حصل ومقولتش حاجة، بس زي ما قولتلك، بقيت كل ما حد يقربلي أتنفض وأصرخ، طبعًا من وقتها والولد ده مبقاش يقربلي أصلًا، بس هما مبقوش قادرين يستحملوا عياطي وصراخي المستمر اللي بدون سبب، ده غير حالة الصرع اللي كانت بتجيلي لما بشوفه أصلًا!
ـ ورجعت هنا أزاي؟
تنهد بثُقل ثم أردف:
ـ بعد اللي بدأ يحصلي بفترة قليلة أوي، هما مقدروش يستحملوا، ورجعوني هنا.
مسكت قلمها ونظرت له وسألته أخر سؤال يدور في عقلها:
ـ أنت فضلت عندهم قد إيه؟
نكث رأسه للأسفل ثم أجابها:
ـ سنتين، سنتين في القرف ده!
طرقت الورقة الصغيرة التي كانت في يدها على مكتبها وهي ترفع أناملها تمسح دموعها، تخلّت عن مقعدها ثم اقتربت مِنه، كست على ركبتيها ولكنها أعطته مساحته الخاصة لكي لا ينزعج مِنها، مسكت كفيّ يداه في يدها الكبيرة بالنسبة له ثم قالت بنبرة لينة حنونة هو يفتقدها كثيرًا:
ـ كل اللي حكيته ده يا “مالك” يدل أنك قوي، قوي أوي أوي، اللي قدر يعدي بالحاجات دي كلها يبقى بطل، أنت مش مذنب أبدًا، هما اللي عالم مريضة، أنت اللي حصلك ده بيحصل لأطفال كتير أوي على فكرة، أنت مش لوحدك، ولازم نعدي اللي حصل ده، لازم منخلهوش يقف عقبة في حياتنا، صح؟
رفع وجهه لها ببطيءٍ، كانت عيناه تمتلئ بالدموع وهو يسألها:
ـ تفتكري هقدر؟ الناس مش… مش هتقرف مِني؟
نفت برأسها سريعًا ثم قالت:
ـ الناس لما تعرف هتقول قد إيه أنت بطل وعرفت تعدي كل ده لوحدك.
ابتسمت له وأعطته نظرة فخر، بينما هو فمسح دموعه وهمس لها بكلماتٍ معدودة تحمل في طياتها شعوره الأمتنان :
ـ شكرًا أنك سمعتيني.
ابتسمت له هي الأخرى وهي تضم كف يدها بطريقة ما ثم مدتها له، نظر لكف يدها ثم فعل مثلها وضرب يده بيدها وعلى محياه ابتسامة صغيرة؛ لكي تكون تلك الحركة هي علامة الشُكر بينهم من اليوم.
༺༻
بعدما انتهت “سلمى” من جلستها مع “مالك” ركضت سريعًا نحو ذلك المقهى الذي تركت فيهِ “حسن” يجلس بهِ بمفرده بعدما جاءها مكالمة هاتفية من السيدة “سهام” تحثها فيها على القدوم فورًا، وصلت للمكان وهي تلهث بعنف، ترجلت نحو طاولته وهي تعتذر له مُتلهفة:
ـ متأسفة بجد يا “حسن”، بس كانت جلسة مهمة أوي.
خلعت نظارتها الشمسية ثم واصلت وهي تلتقط انفاسها غير منتبه لذلك الملامح المُتجهمة:
ـ تصدق أن ولد من ضمن الولاد اللي معانا في الدار اتعرض ل..
ـ ميهمنيش أعرف يا “سلمى! ”
هكذا قاطعها قبل أن تواصل، تعجبت من ردة فعله، ضيقت بين حاجبيها وهي تسأله بتعجب:
ـ يعني كل اللي هتقوليه ده ميهمنيش، أنا استنيتك عشان أقولك أن مفيش وحدة محترمة تسيب خطيبها وتجري على شغلها! على كده بقى لما نتجوز منين ما يعزوكي هتجري ليهم زي ما حصل دلوقت؟؟ أنتِ مش المفروض النهاردة أجازتك؟ أزاي تروحي ليهم أول لما يتصلوا بيكِ كده؟؟ طب كنتِ عملتي حساب حتى للي قاعد معاكِ!
صُدمت من رد فعله الغير مبرر بالنسبة لها! حديثه الحاد معها وعن عملها ذكرها بحديث أهلها، التقليل… فهو منذ ما تعرفت عليه وهو يُهمش عملها ودورها من الأساس! تذكرت أنه دائمًا لا يهتم لمشاركتها لأي إنجاز هي تفعله؛ حتى لو كان من وجهة نظرها هي فقط! أليس شريك الحياة لابد أن يشارك الطرف الآخر كل شيء؟ أليس من المفترض أن لا يقلل من أي شيء يفعله الطرف الآخر؟ إذن لماذا هو يفعل عكس كل شيء من المفترض أن يحدث؟ لماذا حديثه معها ذكرها بتقليل أهلها مِنها في جميع مجالات الحياة؟ لماذا تشعر في هذه اللحظة بغصة مريرة في موضع قلبها؟؟ فاقت من شرودها الغير مبرر بالنسبة له على صوت “حسن” وهو يقول لها:
ـ أنتِ معايا؟
هُنا وشعرت بسائل دافئ يجري على وجنتيها، تجاهلت تلك الدموع وبصوتٍ مبحوح كانت تقول له:
ـ أنت مبقتش خطيبي لسه يا محترم، وبعدين أني أسيبك عشان أروح أنقذ طفل؛ فده متهيألي أسمى شيء ممكن أن حد يعمله، وهو مش تقليل مني أبدًا زي ما بتقول! أنت لو كنت أديت لنفسك فرصة تسمعني في وسط الميت مرة اللي بتتكلم فيهم عن نفسك كنت عرفت أنا دوري إيه في شغلي، وعرفت الولاد دي بتعاني من إيه؛ على الأقل وقتها كنت هتفهم أنا ليه جريت على الولد أول لما طلب يقابلني.
انتهت من كلماتها وهي ترفع رأسها للأعلى بشموخ، أما هو؛ فلم يرد عليها، فقط نكث رأسه للأسفل وهو يعض شفتيه السفلية، شعر أخيرًا أنه كان حاد معها، وقبل أن يلبث أن يفعل أي رد فعل كانت هي من تنهض من مقعدها وتسحب حقيبتها وتقول له على عجل:
ـ بعد إذنك.
ـ أستنى بس.
هكذا أوقف طريقها عندما مسكها من معصمها سريعًا، نظرت على يدها بنظرة حادة مشتعلة جعلته يفلت يده سريعًا وهو يقول لها بآسف:
ـ أنا.. أنا مكنش قصدي اللي فهمتيه ده، أنا بس كنت قلقان عليكٍ.
نظرت له ولملامحه التي مازالت باردة ثم قالت له وهي تبتسم له بأصفرار:
ـ ويلا يهمك، عن إذنك اتأخرت.
انتهت من كلماتها ثم ركضت تسابق الرياح، كانت تشعر أن حِمل العالم تحمله فوق صدرها، تشعر إنها على وشك الأختناق، كل شيء يحدث يكون ضدها، حتى ذلك الشخص الذي كانت تعطي لحالها فرصة للتعرف عليه؛ من الواضح أنه غير سوي نفسيًا، أو ربما… ربما تفكيره العقلي غير متوافق معها من الأساس!
༺༻
ولكن بعيدًا عن كل ذلك وذاك، كانت “ليلى” تجلس على فراشها وحيدة بعدما تركها زوجها الحبيب في تمام الساعة السادسة صباحًا لأنه لديه عمل كثير اليوم! مر اليوم بأكمله عليها وهي على ذات الوضع، تتسطح على فراشها وتنظر للأعلى بشرود، تفكر في كل شيء يحدث حولها، وأيضًا أخذها عقلها لكي تفكر في ذلك العالم الذي أنكشف لها دون أدنى مجهود، وهو عالم الأطفال اللواتيّ بلا مأوى! كانت تتذكر حديث الأطفال معها وتتذكر ما علمته عنهم، ورغمًا عنها تذكرت أن مازال يوجد الكثير لا تعلم عنه شيء! فاقت من شرودها على صوت طرق على باب منزلها، نظرت على ساعة الحائط ثم ترجلت من على فراشها بملل وهي تُصيح أنها آتية، وعندما فُتحت الباب تفاجأت بوالدتها! السيدة “ابتسام” منذ متى ووالدتها تأتي لها لكي تزورها؟ ابتسمت لها ثم رحبت بها في منزلها، كانت السيدة تشبهها كثيرًا، ذات العيون وذات الشعر القصير، ولكن بشرة “ليلى” كانت تصبغت أكثر بفضل الشمس التي تستقبلها كل يوم على رأسها ووجهها.
كانت “ليلى” تجلس أمام والدتها بصمتٍ بعدما قدمت لها مشروبًا باردًا يرويها من حرارة الشمس، عندما لحظت السيدة صمتهم الذي طال تنحنحت هي قائلة:
ـ مش بتيجي ليه تزورينا يا “ليلى؟ ”
ابتسمت الأخرى بسخرية ولم تعقب، هل والدتها لحظت للتو إنها لم تقم بزيارتهم؟ عندما رأت تركيز والدتها عليها في انتظار أجابة ابتسمت لها بإصفرار قائلة:
ـ مش بفضى بقى يا ماما، عشان شغلي وكده.
لوت الأم شفتيها بسخرية وبعدم رضا عقبت قائلة:
ـ برضه شغلك! أنتِ لسه برضه يا بنتي شغالة في المؤسسة التعبانة دي؟؟
ضغطت “ليلى” على كفي يدها وهي تنظر للأعلى لعلها تُهدئ من حالها، ولكنها في نهاية الأمر فشلت! رجعت بنظرها لها وهي تُجيبها بتهجم:
ـ ماله شغلي يا ماما؟ مش بدل ما أقعد طول اليوم بوزي في بوز الحيطة؟؟ على الأقل شغلي التعبان ده محسسني أن ليا لازمة في الحياة!
لم يرق لها الحديث، صدر من فمها صوتًا شعبيًا معترضًا وهي تعقّب عليها قائلة:
ـ يا ختي ما أنتِ لو مديّه بيتك وقتك واهتمامك زي شغلك اللي مش مأكلك عيش ده كان زمان بيتك نفع! كنتِ عرفتي تهتمي بجوزك ولا تجبيله حتت عيل تربطيه بيه، على الأقل كنتِ ضمنتي حاجة في الدنيا بدل ما تفضلي طول عمرك عايشة على كف عفريت!
قالت كل ما يقبع في جوفها في وجهها دون أن تشعر أن يوجد قلب تفتت لشظايا أثر كلماتها! دائمًا والدتها تعاملها كأنها سلعة، لابد أن تُباع لمن يقدرها بتمن أعلى، ولكي تثبت أنها سلعة جيدة؛ لابد أن تستغل المُشتري! والدتها كانت تشجع ذلك الزيجة لأن “عامر” من طبقة عالية، رغم أن “ليلى” تُعَد من طبقة مرموقة الحال ولكنه هو كان أعلى منها أجتماعيًا وماديًا، وهذا ما راق لوالدتها كثيرًا، بعدما تمت الزيجة ظلت تثرثر في أذن ابنتها لكي تجلب لهو الطفل لكي تربطه بجوارها كما يقولون! دائمًا تقول لها أن طفلها هو الذي سيفوز في نهاية اللعبة! وكأنها تحركها كعروس المريونيت وليس كأبنة!
ـ مبقاش ينفع يا ماما.
قالتها “ليلى” ما بين دموعها التي زحفت على خديها دون أن تشعر، لم تفهم والدتها شيء، عقدت حاجبيها ثم سألتها:
ـ بتعيطي ليه؟؟ هو إيه اللي مش هينفع؟
رفعت رأسها وهي ترمق والدتها بنظرات اللوم والعتاب ثم صرخت بنفاذ صبر قائلة:
ـ يعني كنتِ بتزني عشان أتجوزه وأعيش مرتاحة صح؟ كنتِ بتزني عشان أخلف وأضمن حقي في فلوسه صح؟ كنتِ بتزني عشان أعمل أي حاجة أخرها فلوس صح؟؟ أحب أقولك بقى أن خلاص مبقاش ينفع.
صمتت وهي تجهش في البكاء، كانت نظرات والدتها تحاوطها، لذلك رفعت رأسها من جديد واستطرد قائلة:
ـ أنا وصلت لسن اليأس يا أمي، مينفعش أحمل خلاص!
شهقة مُفزعة صدرت من الأم، وقبل أن تعلق بحرفٍ كانت “ليلى” تواصل قائلة وهي مازالت تذرف الدموع من مقلتيها:
ـ الأمل اللي كنت عايشة ومستحملة عشانه راح مني! الدكتور قالي أنتِ اتأخرتي أوي! لو.. لو كنت متجوزة حد غير “عامر” حد قادر يعمل لحياته وبيته قيمة كان زماني بقيت أم!
نهضت من مكانها ثم دارت في المكان بشرود وهي تواصل بصراخ:
ـ لكن هو مش فاضي لحد! مش فاضي ليا ولا لبيته! حتى لما رجع من سفره وقالي كل حاجة هتتصلح، كان بيكدب زي ما بيكدب عليا دايمًا! هو لسه بيسهر برا، لسه بينزل بدري ويجيلي وش الفجر، أنا لحد دلوقت محستش ولو ليوم واحد أني متجوزة بجد وحاسه بالأمان!
انتهت من كلماتها ثم انهارت كليًا، نهضت والدتها سريعًا وهي ترمقها بحُزنٍ، كست على ركبتيها وأخذتها في أحضانها وهي تربت على خصلاتها بحنان وتقول لها هامسة:
ـ كل ده مكتوب، يمكن ربنا يعمل معاكِ معجزة، ربنا قادر على كل شيء.
لم ترد عليها، فقط سكنت في أحضانها لوقتٍ قليل حتى رفعت وجهها الذي شحب كثيرًا أثر أنهيارها وقالت بترجيّ ظهر واضحًا في نبرتها:
ـ ماما أنا عايزة اتطلق، أنا مش قادرة استحمل العيشة دي!
هُنا ولم تستطع والدتها السيطرة على حالها، اتنفضت من مكانها وهي تبعد ابنتها عنها وتزمجر بغضب:
ـ تطلقي! عايزة تكوني مطلقة والناس تاكل وشي؟؟؟ أنتِ اتجننتي صح؟؟
حاولت “ليلى” أن تتكئ على الأرض حتى نهضت من مكانها، نظرت لها برجاء ثم واصلت بملامح هزيلة شاحبة:
ـ متجننتش، بس تعبت! أنا حاسة أني بشحت منه العيشة والوقت وكل حاجة! ليه أوافق بحاجة زي كده يا أمي؟؟
ـ عشان ده نصيبك وقسمتك يا بنتي.
هكذا أجابتها بنبرة غير قابلة للنقاش، كانت الأخرى تعبت من تلك المقابلة، نظرت لها بخذلان ولم تعقب، وهي الأخر ترجلت بخطوات سريعة نحو الباب وهي تقول لها محذرة:
ـ شيلي الكلام الفارغ ده من دماغك يا “ليلى” بنات “ابتسام” مش بيتطلقوا، مش على أخر الزمن سيرة بنتي تبقى لبانة في بُق كل الناس!
انتهت من كلماتها ثم رحلت من المنزل بأكمله! وقفت “ليلى” أمام عتبة منزلها تنظر في أثرها بحزن، شعرت أن الدنيا بأكملها ضاقت بها وأصبحت غير قادرة على سعيها هي وحمولها! أغلقت الباب ثم ترجلت بثقل نحو الأريكة، نظرت على ساعة الحائط كانت السادسة مساءً، مسكت هاتفها ونظرت على سجل المكالمات ثم ابتسمت ساخرة، منذ متى وهو يتذكرها بمكالمة هاتفية حتى وهو في عمله؟ تشعر أن عقلها مشوش، هل هي تريد أن تقترب منه وتواصل حياتها معه؟ أم تريد ما طلبته من والدتها منذ دقائق؟ وإذا انفصلت كما تريد، هل ستحتمل الحياة مع والدتها من جديد؟ هنا وشعرت أن عقلها توقف عن العمل، كل ما كانت تريده هو النوم، النوم فقط وكأنها هكذا تهرب من حياتها!
༺༻
مر اليوم عليهم بثقله بكل شيء سيء فيهِ وحل عليهم شمس يومًا جديد، كانت “سلمى” تقف على عتبة غرفة “سمير” تنتظره لكي يذهبان سويًا لعمل التحاليل المطلوبة، انتهى من ارتداء ملابسه ثم خرج له، كانت ملامحه متوترة بشدة، عكسها تمام؛ فهي كانت تستقبله بابتسامة مشرقة ونظرة فخر تتراقص في مقلتيها، مدت كف يدها له ثم هتفت بحماس:
ـ جاهز يا بطل؟
ـ مش جاهز، أنا خارج أقولك أني مش رايح في حتة.
سقطت ابتسامتها فور سماعها لكلماته، نظرت له بحزنٍ وسألته باهتمام:
ـ ليه يا “سمير”؟
ـ عشان أنا محدش بيحبني يا مَس، دايمًا مرفوض، أشمعنا أنتِ اللي عايزة تساعديني وتعملي كل ده؟ ليه مش رفضاني زيهم؟
انحنت على ركبتيها وهي تبتسم له بهدوء، مسكته من معصمه ثم سألته:
ـ هو ده كلام بتقوله ولا سؤال؟ أصل الجملة مش مفهومة يا “سمير”.
لم يأتيها رد منه، فقط نظر لها ولهث بعنف كأنه في سباق ضد نفسه! نظرت له وعلى محياها ذات الابتسامة ثم واصلت بهدوء:
ـ مين قال أن محدش بيحبك بقى؟ أنت كل صحابك بيحبوك هنا على فكرة.
نفى برأسه وبنبرة حزينة تحمل في طياتها الخذلان والوجع قال:
ـ “مالك” امبارح زعق وصرخ لما قربت منه وجيت ألعب معاه، هما رفضني ومش عايزني معاهم، زي… زي كل الناس! أنا مش مستغرب على فكرة، أنا اتعودت، بس مستغرب منك، أشمعنا أنتِ اللي مش رفضاني! بس أكيد هيجي يوم وترفضيني زيك زيهم.
نظرت له بتمعن ولم ترد، رفعت أناملها ثم مررتها على وجهه بهدوء وهي تبتسم على تلك البراءة التي يمتلكها! نفت برأسها وهي تقول له مردفة:
ـ “مالك” مش رفضك زي ما أنت فاكر يا “سمير” بس هو عنده مشكلة ومش عارف يتخطاها، هو مش بيستحمل أن حد يلمسه! وأنت أكيد لمسته صح؟
نظر لملامحها الجادة والتي كانت تنتظر منه أجابة ثم هز رأسه بنعم، ابتسمت هي ثم واصلت:
ـ أنت مش مرفوض يا حبيبي، أنت جميل، اللي يقدر يتغلب على مشكلته يبقى جميل وقوي، وأنت أهو عرفت تعترف بمشكلتك وهتقدر تتغلب عليها.
رغمًا عنه ابتسم على كلماتها، أما هي فاستقامت في وقفتها ثم قالت له بمشاكسة:
ـ وعلى فكرة أنا عمري ما هرفضك زي ما بتقول، وبعدين هو في حد يرفض حد أسمراني وحلِوة كده؟ يا حلو أنت يا حلو.
ختمت كلماتها بنبرة مشاكسة وهي تراقص له حاحبيها، ضحك عليها ثم سار معها وهو يفكر في تصرفاتها الحنونة معه، فخرّها بهِ جعله هو نفسه يفتخر بذاته، بفضلها أدرك أنه قوى ولذلك ها هو يخطو أول خطواته في بناء حياة سليمة خالية من أي أخطأ أو تصرفات هوجاء!
بعد وقت وصل أمام تلك المشفى، نظر لها وبخوفٍ حاول جاهدًا أن يخفيه سألها:
ـ أحنا هنعمل إيه بالظبط هنا؟
ابتسمت له ثم قالت له وهي تواصل سيرها:
ـ هنعمل شوية فحوصات وأشاعات عشان نتطمن عليك ونمشي على طول.
لم يعقب عليها، ولكنه للحظة لمح شاب يكبره بعدة سنوات يُجر رغمًا عنه نحو غرفةً ما وهو يصرخ فيهم أن يتركوه! وفي ثوانٍ تذكر اسم تلك المشفى، “مشفى الأمل لعلاج الإدمان! ”
وبسرعة كبيرة كان عقله يصور له سناريوهات بشعة ويقنعه أن ذلك ما ينتظره بداخل ذلك المكان! عند هذا الحد ولم يستطيع أن يتمالك أعصابه، فلت يده من يدها بعنف وتصلبت قدمه في الأرض وهو يسألها بحِدة:
ـ أنتِ جيباني هنا عشان تحبسيني وتسبيني وتمشي صح؟؟
تعجبت “سلمى” من رد فعله المُفاجأ، قطمت حاجبيها ثم انحنت له وسألته بهدوء:
ـ مين قال كده؟ أنا قولتلك أننا هنعمل شوية تحاليل وهنمشي، حتى أوضة التحاليل هناك أهى.
انتهت من كلماتها وهي تُشير على معمل التحاليل الخاص بالمشفى، نظر لها بشك ولم يعقب، ولكن نظراتها الواثقة جعلته يهدأ من روعه ويسير معها مرة أخرى بهدوء.
دخلا سويًا لتلك الغرفة، عند دخولهم استقبلتهم فتاة بشوشة الوجهة، رحبت بهم ثم طلبت من “سلمى” التحويل الطبي اللازم لعمل التحاليل، خرجته “سلمى” من حقيبتها وسلمته لها، ابتسمت لها الفتاة ثم استأذنها لكي تقوم بتجهيز أغراضها، عند ابتعادها عنهم اقتربت “سلمى” من “سمير” وبهدوء كانت تقول له:
ـ دي روشتة التحاليل اللي الدكتور كتبهالي، أنا سألته وقولتله حالتك بالظبط، وعشان نكسب وقت هو قالي نعمل التحاليل والأشاعات دي الأول وبعدين هيشوفك.
أومأ لها وصمت، بينما هي فلم تصمت، اقتربت منه أكثر ومسكت كف يده لعلها هكذا تطمئنه وواصلت:
ـ مش عايزاك تخاف أبدًا يا “سمير” أنا اتعهدت قدام ربنا أني مش هسيبك غير وأنت معافي، وأنت وثقت فيا، وأنا عمري ما هخون ثقتك دي أبدًا.
كلماتها داوّت له جروحه، شعر أنها هكذا تعتذر له عن حماقة العالم بأكمله! شعر ولأول مرة أن يوجد من يهتم بهِ ويريده في أفضل حال، بل يوجد من يريده في العموم! فاق من شروده على صوت الفتاة وهي تقترب منه وتقول له ببتسامة هادئة:
ـ يلا بينا يا بطل؟
༺༻
ولكن في “أزهار المستقبل” كانت “ليلى” تجلس في شكل دائرة ويجتمع حولها الأطفال، كان جميعهم صبية بمختلف الأعمار وهذا نظرًا لأن الجناح المسؤلة عليه هي وصديقتها هو جناح الصبية وليس الفتيات، كانت تجلس بجانبهم وتسأل كل منهم سؤالًا عبثي أو ربما مهمًا بالنسبة لها!
نظرت “ليلى” لطفلًا في الثانية عشر من عمره، ثم سألته وهي تضم ركبتيها لصدرها:
ـ قولّي يا “مازن” نفسك في إيه؟
صمت الولد للحظات ولم يرد عليها، وعندما رأى العيون التي ترمقه بشغفٍ ابتسم بحُزنٍ ثم هتف:
ـ أنا نفسي يبقى ليا عيلة.
قال كلماته وهو يرفع كتفيه للأعلى دلالةً على بساطة طلبه!
وقبل أن ترد “ليلى” تكلم طفل أخر وأضاف:
ـ وأنا نفسي أحس أن لينا أهمية، هو أحنا لينا أهمية يا مس؟؟
صدمت الأخرى من كلمات ذلك الطفل، ولكنها تخلت عن صدمتها سريعًا وهي تبتسم لهم بهدوء بعدما لحظت تركيزهم عليها ثم هتفت قائلة:
ـ أنتوا عارفين أنكم مهمين أوي أوي في الدنيا دي؟ يمكن لدرجة محدش فيكم يتخيلها أصلًا؟؟
علامات الجهل اعتلت وجههم؛ لذلك اعتدلت في جلستها وأردفت:
ـ أنتوا عارفين يا ولاد أن في ناس ربنا حرمها من الخلفة؟ حرمها أن يكون ليها ابن أو ابنة في الدنيا؟؟ يعني تخيل كده أن أنت كبرت ولقيت نفسك لوحدك! محدش معاك أبدًا! أحساس وحش صح؟؟
أومؤوا لها جميعهم باهتمام، وهي استطرد قائلة:
ـ أنتوا بقى واللي زيكم بيكون العوض، العوض للناس دي، بتكونوا عوضهم في الدنيا وعن خذلانها، يعني لولاكم كان زمان الناس اللي… اللي زيي دي حصلهم حاجة من الوحدة!
ختمت كلماتها مع تساقط دموعها، ابتسمت لهم وهي تلاحظ حملقتهم فيها ثم أردفت:
ـ أصل أنا زي الناس دي يولاد، أنا عاقر مش بخلف، عشان كده عارفه أهميتكم أوي!
انتهت من حديثها ثم انهمرت الدموع من مقلتيها، ودون مقدمات كان الأطفال جميعهم يقتربون منها ويكفكفون دموعها بيدهم الصغيرة وهم يرتمون في أحضانها، أخذتهم في أحضانها وهي تشعر أن روحها ترفرف في الهواء من فرط السعادة، وللحظة داهمتها فكرة ربما تكون مجنونة، ولكنها بالتأكيد ستغير حياتها مائة وتمانين درجة! ماذا لو أصبحت هي بدلًا من كانت تتحدث عنهم؟ ماذا لو هي من تكفلت بطفلٍ كفالة متكاملة وأصبح ذلك الطفل عونًا وسندًا لها في الحياة عند الكبر؟؟؟ خرجت من كل تلك الأفكار الوردية على صوت السيدة “سهام” وهي تخبرها أنها تريدها في أمر هام، نظرت للأطفال بحب ثم هتفت وهي تنهض من مكانها:
ـ شكلها فيها مصيبة يا ولاد، ربنا يستر.
ضحكوا عليها ثم تابعوها وهي تنصرف من غرفتهم، كانت السيدة تنتظرها على أعتاب الغرفة، وفور خروجها من غرفة الأولاد استقبلتها “سهام” بكلماتها التي ألكمّت تلك المسكينة وهي تقول لها:
ـ مامت “سمير” في مكتبي ونفسها تشوفه يا “ليلى”
ـ نعم؟؟ مامت “سمير! ” هي عايشة؟؟ قصدي هي موجودة أصلًا؟!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)