رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثامن 8 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى الجزء الثامن
رواية أزهار بلا مأوى البارت الثامن
رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الثامنة
“عائلة مع إيقاف التنفيذ”
ـ مامت “سمير” في مكتبي ونفسها تشوفه يا “ليلى”
ـ نعم؟؟ هي عايشة؟؟ قصدي هي موجودة أصلًا؟!
هكذا تسائلت “ليلى” بتعجب من مما سمعته، رمشت السيدة بأهدابها وهي تتنفس بثُقل وكأن العالم تآمر عليها اليوم من كل إتجاه وقالت لها:
ـ أيوا يا “ليلى” موجودة، ومش وقت استفسار دلوقت خالص، أنا خايفة من رد فعل “سمير” لأنه بقاله سنين مشفهاش، أرجوكِ قوليلي على حل أنقذ بيه الموقف أنا دماغي مشلو…
ـ صباح الخير يا مَس “سهام”.
قطمت كلماتها وهي تستدير خلفها على صوت ” سلمى”، تبدلت النظر بينها وبين الصبي الذي كان يقف بجوار صديقتها صامت ووجهه شاحب، وهي أيضًا شُحب وجهها وهي تتبادل النظر بينها وبين “سلمى” لا تعلم ماذا تفعل، هل ترفض تلك المقابلة وتكسر قلب تلك المسكينة اللتي قلبها يتآكل من كثرة أشتياقها لصغيرها؟ أم تجعل الصبي يواجهها ويتحمل جميع النتائج؟
ـ “سمير” ممكن أقولك حاجة؟
هكذا حسمت قرارها، تقدم منها الطفل تحت نظرات السيدة “سهام” كانت السيدة تسألها بعينيها ماذا ستفعل، أعطتها الأخرى نظرة مُطمئنة ثم كست على ركبتيها لكي تصل لقامة الطفل وقالت له بلطف:
ـ أنت عامل إيه؟ كويس؟
ـ آه.
ابتسمت له ثم ربتت على خصلاته برفق وهي تواصل:
ـ طب في حد عايز يقابلك يا “سمير”.
قطب جبينه بتعجب وهو يسألها:
ـ مين ده؟
نظرت للسيدة” سهام”ثم “لسلمى” التي كانت تتابع الموقف بجهلٍ ثم قالت:
ـ هخليها مفاجأة، بس لازم أعرف أنت جاهز ومستعد لأي مواجهة ولا حاسس نفسك تعبان؟
لوهلة شعر الطفل أن يوجد خطبًا ما، وبتردد أومأ لها وهو يقول:
ـ جااهز آه.
وهكذا صرح لها أنه مستعد، داعبت خصلاته وهي تنهض من مكانها وتستقيم في وقفتها، مدت كف يدها له وتحت نظراتهم أخذته وترجلت معه نحو غرفة مكتب السيدة “سهام” ساروا سويًا طُرقة قصيرة حتى وقفوا عِند عتبة المكتب، ضغطت “ليلى” على كفه وهي تنظر له وتقول:
ـ خليك هنا ثواني.
وتحت نظراته المُتسائلة ترجلت هي أولًا ثم غلقت الباب خلفها لكي تحجب عنه رؤية من في الداخل، كانت سيدة هزيلة الجسد تجلس على المقعد الأمامي للمكتب، فور دخول “ليلى” نظرت لها السيدة جيدًا وظهر شحوب وجهها چليًا عليها، كان وجهها نحيف وعظام وجهها بارزًا من تقاسيمها، حتى مقلتيها بُرزت محجريهم بسبب نحافة وجهها، وكانت خصلاتها مُغطاة بطرحة متهالكة سوداء، وهي ذاتها كانت تتشح بعباءة سوداء متهالكة، بعدما تفحصتها ‘ليلى” جيدًا وهي تتقدم منها، ووقفت أمامها وقبل أن تستفسر السيدة عن شيء كانت “ليلى” تقول لها بحذمٍ واضح:
ـ بصي أنا لسه معرفش قصتك إيه ولا إيه حكايتك، بس عارفه ومتأكدة أن وراكِ موضوع كبير، أنا قِبلت أن المقابلة دي تحصل عشان ده حقك، وحق الطفل أولًا، الولد ميعرفش أنه هيقابلك، ولكن أنا هسمح له أنه يشوفك و…ويواجهك! أكيد في حاجات كتير نفسه يقولهالك، أو يسمعها منك.
تنفست الصعداء ثم واصلت بنبرة أكثر هدوءً:
ـ جايز هو كان نفسه في المواجهة دي!
فور انتهاء “ليلى” من حديثها كانت الدموع تنهمر من عيون السيدة، وبرد فعل سريع منها كانت تكسي على يدها تريد أن تُقبلها وهي تقول لها بصوتٍ مُتعب:
ـ ابوس أيدك يا بنتي نفسي أشوفه، ربنا يكرمك يارب زي ما هتكرميني وتخليني أشوف حتة مني.
سحبت “ليلى” يدها سريعًا وهي تقول لها باستياء:
ـ بعد أذنك مينفعش اللي بتعمليه ده.
تنفست وهي ترجع خطوة للخلف ثم استرسلت:
ـ هو هيدخل دلوقت، ياريت تحافظي على هدوءك.
مسحت السيدة دموعها سريعًا وأخذت نفسها المُتهدج لعلها تهدأ، جلست مرة أخرى على مقعدها بسبب أشارة “ليلى” للمقعد، صاحت “ليلى”على”سمير” لكي يدخل لهم، كانت السيدة عيونها متعلقة على الباب، وكأنها تنتظر أن روحها تُرد لها من جديد!
لحظات وكان يظهر جزءً منها أمامها، شعرت وكأن أوصالها بأكملها تخدرت عن الحركة، أنما هو.. فلم يحدث له شيء غير أنه فور وقوع بصره عليها شُحب وجهه وكأنه سُلبت مِنه الروح للتو! أرتد خطوة للخلف سريعًا في حركة تلقائية نتيجة صدمته برؤيتها، كانت “ليلى” تتابع الموقف وهي خلف “سمير” وعندما رأته في تلك الحالة تدخلت سريعًا وهي تقول له:
ـ ماما يا “سمير” بقالها كتير عايزة تشوفك.
صمت ولم يتحدث، كان فقط ينظر لتلك السيدة التي كانت تحملق فيه بتمعن شديد وكأنه يتذكر! يتذكر من تلك المرأة بالتحديد! وفي حين غرة كان يتقدم من السيدة وبهجوم شديد كان يقول لها:
ـ أمي أزاي يعني؟؟
قالها بهجوم شديد، نظر لها بتحدٍ دون أن يرمش لها رِمشًا واحدًا ثم واصل:
ـ أمي اللي جبتني للدنيا وهربت؟
اِلتقط أنفاسه بصعوبه، تقدم خطوة أخرى منها وهو يحاول أن يتحكم في أنفاسه التي على وشك الفرار من صدره، لم يهتم لدموعها التي انهمرت من مقلتيها وواصل بجفاء ظاهر في نبرة صوته:
ـ كنتِ فين يا ماما السنين اللي فاتت؟ طب كنتِ فين لما رمتيني هنا وأنتِ شيفاني بصرخ لك وبقولك متسبنيش أنا مليش غيرك!
ارتجف صوته وهو ينهي جملته، وكأن أشباح الماضي لحقته للتو! نهى كلماته وهو يضع يده على أذنه بعنف.. وكأنه هكذا يمنع صوت الماضي للوصول له، اقتربت مِنه السيدة وهي تبكي بعنف وكأنها هكذا تؤثر عليه لعل قلبه يحن عليها، كانت تحاول أن تنطق بحرفٍ واحد ولكنها فشلت، وكأن الثماني وعشرون حرفًا في اللغة العربية لم يسعفوها للنطق بكلمة واحدة حتى! كل ما فعلته أنها تقدمت مِنه في محاولة منها لأخذه في أحضانها، ولكن هو ومع أقترابها له انتفض وكأن حيّة سامة لدعته! ولم تكن أيّ حيّة وحسب، بل كانت حيّة الماضي اللعين، التي سحبته دون أن يشعر لذكرى بعيدة كان ما يحدث فيها هو عكس ما يحدث الأن حتى في تبديل الشخصيات!
“منذ سنوات ليست ببعيدة”
كان هناك طفل ابن سبع سنوات يحاول ويحاول بكل جهده أن يفلت من يد تلك السيدة الغريبة عليه، ولم تكن سوى “سهام”… كان يحاول بكل جهده لكي يعود لأحضان والدته التي طردته بطول ذراعيها منذ لحظات في ذلك المكان الغريب، كان يبكي بعنف وهو يتوسّل إلى والدته لكي تأخذه معها، وأثناء محاولاته للأفلات من يد السيدة بالفعل نجح وركض نحو والدته بلهفةً، تشبث في ثوبها وكأنه هكذا تعلق بقارب نجاة في عرض البحار! وبعيون تحولت للون الدماء ونفس متهدك أثر البكاء والنحيب كان يقول لها:
ـ يا ماما أنا مش عايز أبقى هنا، خديني معاكِ، متسبنيش مع دول ولا دول.
لم يأتِه الرد وقتها، فقط نظرت له والدموع تلمع في مقلتيها ولم تعقب، بينما هو فتشبث بها أكثر ثم صرخ وكأن ضلوعه هي من كانت تصرخ عندما قال لها:
ـ هو أنتِ ليه بتعملي كده؟؟؟ ليه على طول بتسبيني؟؟ سبتيني أول مرة ليهم وأنتِ عارفة أنهم هيمـ ـوتوني ومشيتي! ودلوقت جيتي خدتيني منهم عشان مكنش زي أخويا؛ وبدل ما تحميني منهم جاية برضه تسبيني بس المرة دي في مكان معرفوش أصلًا؟؟ أنتِ ليه أسهل حل ليكِ أنك تسيبي الدنيا وتمشي؟؟؟
صرخ بأخر كلامه بقلبٍ طفل انفطر حزنًا عل ما وصل له!
وكأنه عاد للحاضر على صوت تلك الجملة وهي تتردد في أذنه دون رحمة، كان يرتد للخلف دون شعور وكأنه هكذا يهرب من ذكرياته، ولكنه فاق من تلك الحالة على تقدم السيدة مِنه وهي تمد له يدها وتقول له بصوتٍ ضعيف:
ـ “سمير” من فضلك متسبنيش وتمشي، أنا عايزة أتكلم معاك، عايزاك!
نظر لها سريعًا وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وكأنه يذكرها بما حدث في ذات المكتب منذ سنوات! وقبل أن تضيف السيدة حرفًا واحدًا كان هو يقول لها بثبات حاول جاهدًا أظهاره لها:
ـ كان أسهل حل ليكِ من سنين أنك تمشي… في كل حال كنتِ بتسبيني وتمشي، ودلوقت طالبة مِني أن أنا ممشيش! شوفتي الدنيا؟
لم ترد، فقط وضعت يدها على وجهها بعدما كست على ركبتيها أمامه وأجهشت في البكاء، بينما هو فنظر لها بحسرة ثم أضاف:
ـ بس دلوقت أنا اللي همشي يا ماما مش أنتِ.
انتهى من كلماته ثم أنصرف من المكتب بأكمله، هُنا وتدخلت “ليلى” التي كانت تتابع الموقف منذ بدايته، اقتربت من السيدة وساعدتها على النهوض وهي تربت على كتفيها بهدوء وتقول لها:
ـ أجمدي، الموضوع مش بالساهل.
صلبت السيدة طولها وهي مازال جسدها يرتجف، نظرت “ليلى” بضعفٍ ولم تعقب، بينما “ليلى” فجلست أمامها على المقعد بعدما طلبت لها مشروب ليمون لكي يهدأها.
*******************
بينما عند “سمير” فكان وصل لغرفته وتكوّر في فراشه وظل يبكي بعنف، بعد وقت قليلًا لحقته “سلمى” كانت الغرفة فارغة لأن ذلك الوقت كان وقتًا مخصص للعب، ولكن ذلك المسكين استغله في البكاء المرير! تقدمت “سلمى” منه بهدوء وجلست بجواره على الفراش، كان يجلس أعلى الفراش يضم ركبتيه لصدره ويدفن رأسه فيهم، داعبت خصلاته برفق لكي تلفت انتباهه، رفع عينيه الحمراوتين لها ولم ينطق، وهي استقبلت بندقيات عيناه بابتسامة هادئة وهي تقول له:
ـ أنت بتعيط ليه؟ أنا عرفت أنك عملت اللي أنت عايزه.
لم يفهم ما قالته، وهي كانت تتوقع هذا؛ لذلك واصلت قائلة:
ـ على فكرة أنا معرفش حصل إيه، ولا حتى إيه الموضوع، بس اللي أنا عارفاه أن أكيد مَس “ليلى” خلتك تقول اللي أنت عايزه للشخص اللي قابلته، صح؟
أومأ لها برأسه وظل صامتًا، بينما هي فتنهدت وهي تمسح دموعه بأناملها وتقول له:
ـ بص يا “سمير” أنت لازم تبقى عارف أن أعظم شيء هو المواجهة، أنك تواجهة اللي قدامك ده قمة القوة، المواجهة بتخليك ترتاح، وأنا متأكدة أنك واجهت الشخص اللي كان مستنيك، صح؟
هذه المرة هو من رفع كف يده ومسح دموعه المنهمرة، نظر لها وبضعفٍ كان يسألها:
ـ هو أنا لازم نسامح؟ يعني لو حد طلب مني اسامحه وأعمله حاجة معينة، المفروض أني أقول ماشي حتى لو أنا مش عايز والحد ده أذاني قبل كده؟ يعني المفروض أوافق على الطلب وبس عشان مبقاش… مبقاش أناني!
ابتسمت “سلمى” عليه؛ فهي نجحت أن تجعله يتحدث ويخرّخ ما في جعبته، ربتت على كتفيه بهدوء ثم قالت له:
ـ بص يا “سمير” أنا هقولك كام حاجة وهسيبك ترتاح شوية، أولًا لازم تبقى عارف أن من حق كل واحد يسامح الشخص اللي أذاه أو لأ، بمعنى أن لو حد ضايقني أوي وجيه بعد فترة قالي متزعلش مني، أنا من حقي أني اقوله أنا مسامح، أو لا أنا مش قادر! طب لو قولتلع مش قادر هل أنا هكون كده أناني؟ طبعًا لا يا “سمير” لأن الحاجة دي بالذات مقدرة، أنت ممكن تقدر وممكن متقدرش.
انتهت من كلماتها ثم اقتربت من مقدمة رأسه وطبعت عليها قبلة رقيقة، رفع عيناه لها وكأنه يشكرها ولكن بنظراته الخاصة لها، ابتسمت له ثم نهضت من مكانها وقالت:
ـ هسيبك دلوقت عشان اليوم كان طويل، وبكرة هنتكلم على كل اللي حصل النهاردة، ماشي؟
وأخيرًا ابتسم لها، أومأ لها بالموافقة وهي أرسلت له قبلة في الهواء، رحلت من غرفة الطفل وكان إتجاها لمكتب السيدة “سهام” حيث تنتظرها السيدة ومعها “ليلى”.
*******************
دلفت” سلمى”لمكتب السيدة، كانت “سهام” و”ليلى”في انتظارها، وفور دخولها للمكتب كانت تقول بغضب شديد موجه حديثها للسيدة:
ـ حضرتك كنتِ لازم تصرحينا بكل شيء يخص الولاد قبل ما نبدأ شغل عشان نفهم أحنا هنأهل إيه بالظبط، لكن أننا كل شوية نكتشف مصايب ونبقى زي العُمي كده مينفعش أبدًا.
رفعت السيدة رأسها لها وتنهدت، لم تغضب من انفعالها؛ فهي مُتفهمه، أشارت لها أن تجلس بجانب “ليلى” وهي تقول لها:
ـ أقعدي بس يا “سلمى” نتكلم.
أخذت هي الأخرى نفس لكي تُهدأ من حِدة انفعالها ثم نظرت لصديقتها وجلست معهم، نظرت للسيدة دون الحديث تنتظرها هي لترد على حديثها، وبالفعل استجابت لها “سهام” وأردفت عليها قائلة:
ـ أولًا موضوع “سمير” ده أنا متوقعتش أنه هيتفتح أصلًا، والموضوع التاني اللي اكتشفتيه ده أنا مكنتش أعرف عنه حاجة وأنتِ عارفة؛ فالمفروض كنت قولتلك إيه يا “سلمى؟”
لما ” ليلى”احتاجت تعرف معلومات عن “ياسين” عرفتها، وهي قدامك أهى تشهد.
هُنا تدخلت “ليلى” تؤكد حديث السيدة قائلة:
ـ مدام “سهام” مش بتأخر علينا معلومات يا “سلمى”، بس الموضوع كله جيه مُفاجأة مش أكتر.
صمتت” ليلى”وهي تتابع صديقتها ملامحها تُلين بعدما كانت مُتشجة بشدة، ثم أضافت:
ـ دلوقت تعالي عرفينا عملتي إيه مع” سمير”؟
تنفست “سلمى” الصعدأ ثم قالت بملامح أكثر استرخاء:
ـ خدته وعملت له تحاليل وأشاعات عشان اتأكد أن مركز المخ والجهاز الهضمي والتنفسي بخير، وسألت الدكتور على حالته وعلى المدة اللي بيتعاطى فيها وطمنّي، مش ناقص غير النتيجة.
ـ وكده العلاج هيتم فين؟
هكذا سألت “سهام” نظرت لها “سلمى” وأجابتها بهدوء:
ـ لازم يكون هنا، بس طبعًا الموضوع لازم يتجهزله كتير أوي.
أومأت لها السيدة ولم تضيف شيء، ولكن من تحدث هي “ليلى” عندما أضافت:
ـ الموضوع مش هيكون سهل، لازم يكون في مرحلة تأهيل شديدة للولد، المهم دلوقت يا “سلمى” كنتِ بتقولي في حاجات مهمة تخُص “مالك” أتفضلي اتكلمي.
تنهدت لكي تحفز حالها على الحديث، نظرت لهم ولعيونهم المُهتمة ثم هتفت:
ـ للأسف “مالك” تعرض للأعتـ ـداء الجنـ ـسي يا استاذة “سهام”.
شهقة عنيفة خرجت من اثنتيهم، ولكن الصدمة الأكبر كانت من نصيب السيدة” سهام” وهي تنهض مفزوعة من مما وقع على مسامعها وهي تصيح بصدمة تعلو ملامح وجهها:
ـ اعتـ ـداء جنـ ـسي! أزاي؟؟ ومن مين؟ هنا في الدار؟؟ مستحيل اللي أنتِ بتقوليه ده.
كانت “سلمى” متوقعة صدمتها، لذلك نظرت لها بهدوء وأردفت:
ـ الموضوع بقاله فترة يا مدام، وكان في بيت من اللي أتكفّل بيه، يعني مش من هنا متقلقيش.
كانت الصدمة مازالت تحتل وجهها، سندت بكفي يديها على سطح المكتب ثم جلست مرة أخرى بضعف، نظرت “لليلى” التي تلبستها الصدمة هي الأخرى وقالت بوهنٍ:
ـ عشان كده حاول يخلص من نفسه لما حاولت أضغط عليه عشان يوافق على العيلة اللي عايزة تتكفّل بيه!
كان حديثها جديد على مسامع الفتاتان لذلك انتبها لها وسألتها “سلمى” مُستفهمة:
ـ إيه حكاية العيلة اللي عايزة تتكفّل بيه دي يا استاذة “سهام”؟
أخيرًا خرجت السيدة من تلك الحالة، حاولت بشتى الطُرق لملمة أعصابها لكي تقِص ليها مقصدها، وبالفعل هدأت حالها ثم بدأت في الاسترسال قائلة:
ـ من فترة في عيلة كانت عايزة تتكفّل “بمالك”، بس… بس هو رفض بشكل هستيري، كان كل ما حد منهم يجي يصرخ ويرفض، ولما كنت بحاول أفهم منه السبب واقنعه أنه يوافق كان بيثور عليا بطريقة ملحوظة.
صمتت للحظات ثم واصلت:
ـ لحد ما في يوم الحادثة أنا ضغطت عليه شوية، وكان نتيجة الضغط ده أنه انتـ ـ ـحر!
الآن فقط ربطوا الأحداث ببعضها، فهما اثنتيهم مقصد “ياسين” عندما قال لها “مش هترتاحي غير لما أعمل زي مالك؟” الآن فقط وضحت الصورة أمامهم، نظرت “سلمى” لليلى” لكي تنهض لأنها تريد أن تنهي ذلك الأجتماع؛ فهمت صديقتها وبالفعل نهضت وهي تقول للسيدة “سهام”:
ـ أنا بقول نقف لحد هنا النهاردة، وبكرا نكمل باقي الأجتماع، ونشوف إيه الخطوات الجاية بخصوص التلات أطفال.
وفقتها السيدة ورحلا الأثنين، وفي صمت كان كل منهم يسلُك طريقه إلى منزله وعقله مازال يدور في تلك الدوامة!
*******************
دخلت “سلمى” إلى منزلها بأرهاق شديد، كانت طوال الطريق تحلم بفراشها وغرفتها التي تتسعها هي وأفكارها العشوائية، ولكن قاطع ركضها نحو أحلامها الوردية نحو فراشها صوت صياح والدتها عليها وهي تقول لها أخر شيء كانت تريد أن تسمعه اليوم:
ـ على فكرة “حسين” كلمني وعايز يحدد معاد للخطوبة.
نهت كلماتها بغمزة من طرف عينيها لأبنتها، نفخت الأخرى وجنتيها بضيق ثم قالت:
ـ منا كنت معاه وهو معاه رقمي، مقاليش ليه؟؟
ضحكت والدتها عليها عاليًا مما أثار حنق الأخرى، نظرت لها بتعجب حتى سمعتها تقول لها ببساطة:
ـ ما هو مكسوف يا بت، وبعدين الواد مش على بعضه، عايزك في أسرع وقت مش قادر يستحمل!
ختمت كلماتها بضحكات عالية أيضًا، نظرت “سلمى” للأعلى وهي تأخذ نفسها لعلها تهدأ، وبالفعل نجحت، اعتدلت في جلستها ثم استدارت لها بكامل جسدها وهي تقول لها بهدوء عكس ما يحدث بداخلها:
ـ ماما ممكن تسمعيني؟
انتبهت لها والدتها، اعطتها تركيزها مما جعل الأخر تسترسل قائلة:
ـ أنا يا ماما مش مرتاحة، حاسة أنه مش الشخص اللي بدور عليه، كل حاجة فيه أنا مش حباها.
انتبهت لأمتعاض وجه والدتها تعبيرًا عن عدم رضاها عن مما تسمعه، لكنها واصلت تحاول أن تصل لها مشاعرها المتخبطة:
ـ يعني مثلًا…. مش بيسمعني خالص يا ماما، نرجسي جدًا! بيحب يتكلم على نفسه وبس! ولما بحكيله على حاجة تخصني مش بيهتم أصلًا، ده غير أنه مش بيقدر مشاعري، وبيزعق دايمًا، حتى مش مهتم بيا ولا بأي حاجة تخصني، متهيألي لو جيت في يوم وقولتله المكان اللي أنا شغاله فيه كان بيولع مش هيهتم أصلًا!
حاولت بكل الطُرق أن تؤثر عليها ولكنها لم تُفلح،؛ فجاء رد والدتها عليها ضرب كل حديثها السابق بعرض الحائط وهي تقول لها بمتعاض وعصبية:
ـ هو أنتِ عايزاه يجي يأكلك في بوقك عشان يكون مهتم بيكِ؟؟ ما الرجل اتصل بيا وقالي شوفي عايزة تعمل الخطوبة فين وتجيب الفستان منين وعايزة كوافير مين وأنا تحت أمرها، إيه؟؟ هو ده كله مش أهتمام؟؟؟ ولا الأهتمام بالنسبالك هو الحاجات الفارغة وبس؟؟
كانت تظنها أنها انتهت من صيحها هذا، وضعت يدها على رأسها ونكستها الأسفل بحزنٍ ويأس، ولكن الأخرى لم تنتهي بعد؛ فنهضت من جوارها ثم استرسلت صراخها عليها قائلة:
ـ فوقي لنفسك وبلاش دلع فاضي، قطر الجواز خلاص هيفوتك، ولو “حسين” راح من أيدك هتفضلي جمبي طول عمرك، يأما هيكون مسيرك مع حد مطلق وجَرر وراه عيل ولا أتنين، ياريت تفوقي يا “سلمى” أنتِ مش صغيرة.
انتهت من كلماتها التي تُشبه نصل السكين البارد ورحلت، رحلت وتركت الأخرى تترنح بين أفكارها المأسوية، هل الأفضل أن تتنازل عن بعض الصفات الأساسية التي كانت تبحث فيها عن شريك حياتها؟ أم تتنازل فيما بعد وتوافق بزوج مثل ما ذكرته والدتها؟ هل سينتهي بها الحال بهذا الشكل إذا رفضت؟ أم هذه ثرثرة فارغة ولا يوجد صحة لها؟ على أي حال؛ فهي ليس بعا عقل ولا طاقة لكي تفكر في أجابة لتساؤلتها؛ فكل ما تفكر فيهِ الأن هو النوم… النوم فقط.
*******************
بينما “ليلى” فعادت لمنزلها هي الأخرى، وعند دخولها لردهة المنزل وقعت عينيها على زوجها المصون الذي يستلقى على الأريكة ويغرق في النوم، بعد يومان قضاهم خارج المنزل ها هو يعود وينام في منزلها وكأن شيًا لم يكن! عند هذه النقطة وفارت دماءها، اقتربت منه وبعنف كانت تُهز جسده وهي تصرخ عليه قائلة:
– هو أنت حد قالك أن البيت بقى أوتيل؟؟ هو أنت مفيش دم خالص كده!
استيقظ فازعًا على صراخها بجانب أذنه مباشرةً، نظر لها وهو يضيق عيناه لها ثم سألها بصوتٍ ناعس:
ـ هو في إيه؟؟
استشاطت منه أكثر، دفعته في صدره بعنف وهي تصرخ عليه قائلة:
ـ يا بجحتك يا أخي، هو إيه مفيش خالص شعور بالحيوانة اللي معاك؟؟ تيجي وقت ما تحب وتمشي وتبات برا البيت وقت ما تحب! هو أنت بجد معندكش مسؤلية خالص! أتجوزت ليه يا “عامر” مادام شغلك واخد كل شيء في حياتك، ليه ربطتني بيك؟؟؟
كانت وصلت لذروة غضبها منه، دفعت كل ما في جوفها في وجهه دون إنذار، وكما هي دفعت ما لديها دون سابق إنذار، هو الآخر هشّم لها قلبها بكلماته دون سابق إنذار عندما قال لها:
ـ اتجوزت عشان أخلص من زن أهلي يا “ليلى” أتجوزتك وأنا ولا بحب الجواز ولا عايزه أصلًا، المشكلة مش فيكِ، المشكلة فيا أنا، المشكلة أن أنا كل حاجة بالنسبالي هي شغلي، شغلي وبس، شغلي اللي دفعت عمري كله عشان أكبره، ومش مستعد أني أخسره عشان خاطر أي حد.
انتهى من كلماته ثم انحنى يلملم أشياءه من أعلى الأريكة، ولكنه قبل أن يغادر المكان بأكمله وقف أمامها مباشرةً ثم ألقى بسهامه في صميم قلبها عندما قال:
ـ أرضي وعيشي يا “ليلى” أنتِ مش حمل أنك ترجعي لأهلك تاني، ولا في حد هيقبل أنه يعيش مع وحدة بقت أرض بوّر مبتخلفش، لكن أنا عاد وراضي، وأنسي الكلام الفاضي اللي قولته قبل كده، أنا أصلًا مش عايز عيال عشان أنا مش فاضي ليهم، يعني أنا وأنتِ أكتر أتنين ننفع لبعض؛ فعيشي وأسكتي يا بنت الناس.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)