رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثالث 3 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى الجزء الثالث
رواية أزهار بلا مأوى البارت الثالث
رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الثالثة
” تجارة بالبشر!
ـ ولا أنتوا مصلحتكم زيهم أننا نمـــ ـ ـ ـوت يا مِس؟؟
صُدمت “سهام” مِما سمعته، انحنت له سريعًا ومسكته من معظمه بعنف، زحفت دموعها هي الأخرى رغمًا عنها وهي تنفي عنها تلك التُهمة البشعة مردفة:
ـ أبدًا يا “ياسين” أبدًا، متقولش كده تاني أبدًا، لو مش عايز تنضم للعيلة دي خلاص مش هكلمك تاني في الموضوع ده، بس أوعى تفكر في كده تاني، أحنا… أحنا لما عرفنا أن “مالك” حاول يمـ..ـ ـ ـ. ـوّت نفسه جبنا أخصائين عشان يعالجوا المشكلة دي، عشان يشوفوا مين فيكم زعلان ويحاولوا يخففوا عنه، هو ده شغل مِس “ليلى” ومِس “سلمى” يا “ياسين” أنهم يحلوا لكم مشاكلكم؛ فأوعى يا حبيبي تفكر في كده أبدًا، أحنا مش زيهم، وعمرنا ما كنا ولا هنكون زيهم.
نهت كلماتها وهي تضمه لحضنها بحنان، كانت كلماتها كالمسكن بالنسبة له، سكّنت له جروحه بشكل جيد، أوقفت عن رأسه أي فكر مسموم يتسرب لها، هم ليسوا مثل الدار السابقة، هم مختلفون عنهم، وما يحدث معه هنا مختلف كليًا عن ما سبق وعاشه وسط الوحوش البشرية السابقة! كفكفت له دموعه ثم حثته أن يعود لغرفته بعدما وعدته أنها لم تفتح معه ذلك الموضوع مرة أخرى، ابتسم بسعادة ثم رحل بعدما قبَّلها على جبينها، ترجلت نحو مقعدتها وجلست عليه بتعب، وبالطبع لم تنتظر”ليلى” أكثر من ذلك؛ فهي كانت تتابع الموقف منذ البداية لكي تستنبط معلومة مفيدة عن ما حدث، وفور جلوس السيدة على مقعدها همّت متسائلة بفضول يتراقص في مقلتيها:
ـ هو كان يقصد إيه؟ زي مين؟ يقصد إيه بكلمة زيهم دي؟
تنهدت “سهام” بتعب، مسحت دموعها بيدها ثم هتفت:
ـ بكرة هقولك، أنا مش قدرة أتكلم خالص، عشان الموضوع هيطوّل وهيخلينا نوضح هدف جديد من اللي قولتلك عليهم هنضيفهم مع الوقت وأكتشاف المشاكل.
كوبت رأسها بين يدها ثم هتفت بتعبٍ:
ـ تقدري تروحي على شغلك.
قطعت أي وسيلة للحديث، مما جعل “ليلى” تستشيط غضبًا، كيف عليها أن تغمض جفونها وهي على علم أنه يوجد شيء هام مخفي عنها مثل ذلك؟! ومن واقع خبرتها فهي تستشف أن الموضوع بهِ ألغاز كبيرة! ولكن ما باليد حيلة، عليها أن تنتظر وحسب.
༺༻
بينما على جانب آخر، كانت “سلمى” اعتذرت من ذهابها للدار اليوم لأنها على موعد هام؛ فاليوم موعد مقابلتها لذلك العريس الذي تقدم لها، هندمت نفسها وحاولت أن تُهدأ حالها على قدر الإمكان، ودعت والدتها ثم ترجلت للأسفل وأخذت سيارة أجرة واتجهت نحو المطعم المنشود، خمسة عشر دقيقة وكانت أمام باب المطعم، أخذت نفسًا عميقًا ثم مدت يدها وسحبت مقبض الباب، دارت بعينيها في المكان حتى لمحت ذلك الشخص الذي تمتلك صورة له على هاتفها، تنحنت ثم ترجلت نحوه، نهض وهو يبتسم لها باتساع فور رؤيتها، بعد السلامات والترحيب ببعضهم حلّ الصمت بينهم، ولكن هو كسر ذلك الصمت عندما جذب أطراف الحديث وسألها:
ـ وأنتِ بتشتغلي يا “سلمى”؟
ابتسمت له ثم رفعت وجهها له قليلًا وقالت:
ـ آه، شغالة حاليًا أخصائية في دار أيتام، الشركة الأم هي اللي حولتني للمؤسسة دي من فترة صغيرة.
ابتسم لها بهدوء ثم هتف قائلًا:
ـ بس دي فرهدة خالص! على كده بتقبضي حلو يعني؟
شعرت أن حديثه يُهين من مكانتها وعملها الذي تعطي له كل جهدها ووقتها! وبغضب طفيف كانت تزمجر قائلة:
ـ هو مش موضوع فلوس على فكرة! الموضوع أن شغلي ده بالنسبالي كل حاجة في حياتي، أنا بشتغل عشان أنا بحب الشغل ده، تقدر تقول كده أنا بدّي لشغلي كل شيء كان نفسي أني أخده من الحياة مثلًا!
نهت حدثها بابتسامة واسعة على شفتيها وكأنها تتذكر ما فعلته لكي تصل لِما هي عليه، بينما هو فلم يهتم لحديثها، كل ما فكر بهِ أنها مثلها مثل فتيات هذه الحقبة، يهللون بحقوق المرأة ومكانتها الوهمية في المجتمع، ولكن حسنًا، إذا كان هذا هو عيبها الوحيد فلا بأس؛ سيحاول معها وبالتأكيد سوف ينجح، كان ذلك التفكير الدائر في رأسه، لاحظ أنها انتهت منذ فترة وهو لم يرد عليها مما جعل استياءها يظهر چليًا على وجهها، عدل من جلسته سريعًا ثم قال لها ببسمة رسمها على شفتيه بصورة سريعة:
ـ آه آه فاهم طبعًا، أهم حاجة تكوني بتحبي الحاجة اللي بتعمليها، ده بيدل أنك لما بتحبي حاجة بتديها كل وقتك، وأكيد أنتِ هتحبي بيتك؛ وده يخليني أتطمن على بيتي عشان بالتأكيد هتديه كل الحب، ولا إيه؟
تبخر استياءها في لمح البصر، احتلّت الابتسامة الخجولة وجهها البيضاوي، وهو أيضًا ابتسم لها ابتسامة جذابة ثم تناولوا سويًا أطراف الحديث في موضوعات مختلفة.
يبدو أنه شخصًا لطيفًا، ليس ذو بشرة بيضاء ولا حتى خمرية، بل يمتلك بشرة سمراء مميزة، يمتلك تفاصيل في وجهه تعطيه وسامة غير طبيعية، وعندما يتحدث أو يبتسم تظهر تلك النغزة التي تحتل جبينه الأيسر وتعطيه جمالًا مضاعفًا، واضح أن نظرتها في الزيجات التي بدون سابق معرفة سوف تتغيّر!
༺༻
ولكن عند “ليلى” فكانت حالها مختلف عن صديقتها؛ فهي الآن تقف أمام غرفة في مشفى ** التخصصي؛ فالسيدة “سهام” طلبت منها الذهاب “لمالك” لكي تحاول أن تتحدث معه، لعل وعسى يستجيب لها!
وقفت أمام غرفة الطفل وأخذت نفسًا بهدوء، أغمضت عينيها ثم فتحتهم مرة أخرى تزامنًا مع فتحها لباب الغرفة، كان طفل صغير في الثلاث عشر من عمره، هزيل الجسد صاحب بشرة فاتحة وخصلات شهر سوداء ناعمة وعيون واسعة أخذت ذات لون خصلاته، ابتسمت له وسحبت كرسي لكي تجلس أمامه، كان مستلقي على الفراش على جانبه الأيسر، وعندما شعر بوجود شخص اِلتف وسند بظهره على الوسادة الكبيرة الموضوعة خلفه، تابعها بنظراته حتى جلست أمامه، ابتسمت هي بتوتر ثم بدأت في تعريفه بنفسها قائلة:
ـ ازيك؟ أنا… أنا مِس”ليلى”كنت جاية عشان أتكلم معاك شوية، ممكن؟
لم يرد عليها، فقط رمقها بنظرات مبهمة بالنسبة لها ولم يصدر أي رد فعل، بينما هي فابتسمت من جديد واستطرد قائلة:
ـ أنت مش بترد عليا ليه؟ أنا عرفت من الدكتور أنك كويس وحالتك كويسة.
لم يأتِها رد، ظلت تثرثر معه بعض الوقت على نفس الحال، فقدت الأمل أن يتحدث معها، تنهدت بحزن ثم هتفت قائلة:
ـ تعرف أنا كنت جاية وعارفه أني هفشل، وأنك أكيد مش هتتكلم معايا ولا هترد عليا، بس كان نفسي ترد عليا عشان تقولي ليه!
نجحت في جذب انتباههُ، بعدما كان يشيح بوجهه للجهة الأخرى استدار لها وأعطاها انتباههُ، ابتسمت له بشحوب ثم واصلت:
ـ عايزة أعرف أيه السبب اللي وجعك أوي وخلاك تفكر في الأنـ…ـ ـ ـ… ـتحار! للدرجة دي ممكن يكونوا في الدار مش مهتمين بيكم عشان كده فكرت في اللي عملته ده؟
كانت تنتظر منه أي أجابة، وبالفعل جاءتها منه أشارة بأنه يرفض ما دار في عقلها، ابتسمت ثم اقتربت من فراشه بجسدها وقالت:
ـ تعرف أني زمان حاولت أعمل زيك؟
جذبت انتباههُ من جديد، كان واضح أنه يعطي لها كامل تركيزه؛ وهي استرسلت قائلة:
ـ حاولت وفشلت زيك، بس أنت حظك أحسن من حظي، أنت في ناس حواليك متفهمين اللي أنت عملته، اللي حواليك بيحاولوا يساعدوك وياخدوا بأيدك.
تنهدت بأسى وكأنها تتذكر بالفعل ما مرت بهِ، ثم واصلت:
ـ بس أنا قابلت اللي عملته ده بعقاب! مكنش حد فاهم يعني إيه وليه اللي عملته، كلهم كانوا شايفين أني بتدلع!
نظرت له من جديد واسترسلت قائلة وكأنها ترمقه بنظرات فخر:
ـ بس أنت غيري! أنت الكل بيحاول يساعدك! استغل النقطة دي في صالحك يا “مالك”.
نهت كلماتها وهي تنهض من مكانها وتبتسم له، أخذت حقيبتها ثم قالت له:
ـ مِس” سهام” برا، هي كانت بتخلص إجراءات خروجك من هنا، هتيجي دلوقت تستقبلك عشان ترجعوا الدار، وأكيد هشوفك تاني في الدار.
ودعته ثم غادرت الغرفة، ذهبت للسيدة “سهام” وأخبرتها أنها تحدثت معه لكن لا يوجد استجابه محددة، شكرتها “سهام” ثم أعطت لها الأذن بالانصراف، ولكنها أكدت عليها أن غدًا لابد أن تأتي باكرًا هي وصديقتها لوجود أجتماع هام يخص الأولاد، ابتسمت لها “ليلى” وعقلها يدور لماذا صرّحت أمام الطفل أنها حاولت أن تفعل في نفسها مثل هذة الجريمة؟ خاصةً وهي
تعلم أن حديثها ليس في مصلحتها على الإطلاق! ولكنها لم تعثر على أجابة، هي فقط شعرت أنها تريد أن تقول له أنه ليس وحده من تعرض لخذلان و وحدة وعدم فهم من الأقرايبن! فيوجد مثله ومثلها الكثيرين! كان لابد أن توضح له أن وضعه أفضل من الكثيرين! بل أفضل مما رأته هي بالتحديد!
*༺༻
كانت “سلمى” عادت لمنزلها منذ وقت ليس بالقليل، بالطبع استقبلتها والدتها بالتساؤلات المتتالية وهي أجابت عليها بقتطاب شديد، كانت تستلقى على فراشها وتحاوطها جدران غرفتها، كانت تحملق في السقف وهي تحاول تحليل أفعاله وكلماته معها، ولكن جاء صوت رنين هاتفها مُعلنًا وجود اتصال من صديقتها “ليلى” ابتسمت والتقطت الهاتف سريعًا وهي تشعر أن الله ارسلها لها في الوقت المناسب.
بعد السلامات والترحاب بينهم همّت “سلمى” وقصّت على صديقتها ما حدث لها فور سؤالها، كانت تقُص عليها كل شيء وكل مخاوفها، قالت لها أنها تشعر أنه يتلاعب بكلماته معها ولكنه مجرد أحساس! قالت لها أن ملامحه مُريحة بالنسبة لها كثيرًا، ظلت تتحدث معها حتى قاطعتها “ليلى” قائلة بحذم:
ـ “سلمى” بلاش تمشي ورا الشكل وفكرة أنك كبرتي وخلاص! لازم تسألي نفسك سؤال مهم الأول؛ الشخص ده متوافق فكريًا معاكِ؟ حاسه يعني أن دماغكم فيها كميا من بعض؟
تنهدت بأسى ثم واصلت:
ـ عدم التوافق بيدمر أي علاقة.
وكأن عقلها الآن أعطى لها أنذار بالخطر! بالفعل أهم ما يميز أيّ علاقة في الكون هو التوافق!
دائمًا أي علاقة أيًّا كان مسماها مسيرها الفشل بسبب عدم التوافق!
من المستحيلات أن ترى صداقة بين اثنين دامت لفترة طويلة وبدون أذى وهم غير متوافقين سويًا، أو اهتمامتهم مختلفة بشكل كلي! لا يوجد علاقة بين أيّ ثنائي نجحت وبينهم اختلافات جوهرية، بالتأكيد الاختلاف بين الشخصيات مطلوب؛ ولكنه بحدود وبمنطق!
فاقت من شرودها على صوت صياح “ليلى” عليها في الهاتف، تنحنحت ثم ردت عليها قائلة:
ـ عندك حق، أنا فعلًا لازم أشوف افكاره إيه، لازم أفهم تفكيره زي تفكيري ولا هيكون في بنا فجوة مثلًا!
ابتسمت لها وشجعتها على قرارها، بعدما انتهوا من الحديث في ذلك الموضوع بدأت “ليلى” في قص ما حدث معها اليوم في الدار وما ينتظرهم غدًا، وبدأت الفتاتان العمل على تدوين الملاحظات التي دونتها “ليلى” اليوم، استمرت المكالمة بينهم لساعات حتى انتهيا من الحديث عن هؤلاء البراعم الصغيرة!
༺༻
شرقت شمس يومًا جديد، كانت العصافير تزقزق على سطح الشرفة القابع بجانب مكتب السيدة”سهام” مديرة دار “أزهار المسقبل” كانت السيدة تجلس على كُرسي مكتبها الجلدي والصديقاتان يجلسان أمامها، كانت تدون أشياء في الورق أمامها، انتهت مما تفعله ثم رفعت وجهها لهم وخلعت نظارتها الطبية وقالت لهم:
ـ الهدف الجديد هو الأمان، “ياسين” فاقد الأمان في كل شيء بمعنى كل شيء، وده لأسباب مختلفة يعني حصلتله.
تنهدت ثم صمتت، ولكن “ليلى” لم تصمت مثلها، همّت سريعًا وسألتها بلهفة:
ـ حصلوا إيه؟ وإيه اللي كان يقصده امبارح؟
رفعت السيدة وجهها لها ببطيء ثم أردفت:
ـ ياسين مش ابن الدار من وهو وصغير.
صمتت لثوانٍ ثم استرسلت قائلة:
ـ هو كان جايلنا من دار تانية يعني.
ـ وده بسبب إيه؟
هكذا سألتها”سلمى”بعيون ثاقبة منتظرة الأجابة، وبالفعل أجابتهم السيدة بحُزنٍ على ذلك المسكين:
ـ عشان الدار اللي كان فيها كانوا بيتاجروا بالأطفال البشرية بطرُق مختلفة.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)