رواية آصرة العزايزة الفصل السادس عشر 16 بقلم نهال مصطفى
رواية آصرة العزايزة الجزء السادس عشر
رواية آصرة العزايزة البارت السادس عشر
رواية آصرة العزايزة الحلقة السادسة عشر
🦋الآصرة السادسة عشر🦋
كتب أحد الرجال الذين لم ينصفهم الحب :
-عزيزتي الجميـلة:
لقد أخطأت بحقنا عندما أحببتك بهذا العالم القاهر للغاية .. لو كُنا بـ عالم آخر موازي لانقلبت الموازين وتعانقت قلوبنا ..و كُنا الآن معًا نطل عليه من نافذة غُرفتنا ..
أما هذا العالم مستبد لدرجة الجنـون ، فمن باب الرحمة بتلك القلوب المحترقة أن توضع قوانين لتحمي القلب قبل حماية المواطن .. ويحصل منها كل فرد على حقه من الحقوق العاطفية ، وينال كُل منـا مُراد قلبـه … ومن يسعى خلف تحطيم قلبين عاشقين يصدر عليـه حُكم الإعدام كما كان يسعى لفعل ذلك معنا ومع قلوبنا المُتيمة ..
#نهال_مصطفى .
••••••••••
-” اللهم أذهب البأس رب النـاس ، و اشف أنتَ الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك .. شفاء لا يُغادر سقمًا ”
طلب هارون من هِلال أن يصعد لأختـه ليرى ما بها بعد ما أكد عليه أن يرسل ريح الطمأنينة لقلبها بمجيئه إليها بعـد توديع الضيوف مع بقية أخوته ، ذهب هلال لعندها وأمر بمغادرة الجميع من الغُرفة فلم يتبقى معهما إلا هاجر ، ختم مراسم الرقية الشرعيـة بدعائه الأخير وهو يضمن رأسها لصدره ويمسح على رأسها بحنان زاخـر ، فطالع وجهها الباكي وأخذ ينفث بهدوء على ملامحهـا الذابلة فسألها :
-حسيتي حاچة !!
تشبثت بكف أخيها وهي تشكو همها :
-مش عاوزة الچوازة تتم يا هلال ، جبـل يا أخوي وكاتم على نفسي .. عاوزة أصرخ وما قادراش ..
بطرف كُمه كفكف دموع صغيرته المصبوغة بكُحل حزنهـا ، وهو يواسيهـا قائلًا :
-كُل هذا من العين أم هناك أسباب آخرى ؟
تدخلت هاجر بمزاح لتُلطف الأجواء :
-شكلها مش عاوزة تهملنا وتمشي ..
ثم فتحت ذراعيها لتضم أختها باحتواء:
-ولا أنا كمان قادرة اتخيـل البيت من غيـرك .
رفع هلال رأسه ليُقبل جبين أختـه الحزينة وقال بدفء :
-مفيش حاچة هتحصل من غير رضاكي .. طمني قلبك بهذا .
في تلك اللحظة ؛ مال مقبض الباب الذي فُتح ليظهر منه هارون الذي تملص من حشد المعازيم المتزايدة وقال بحزم :
-هلال خد هاجـر واطلعوا ..
عارضته هاجر وهي تتشبث بأختهـا :
-لا مش ههملها يا هارون ، سيبني معاكم أنت مش واعي لحالتها .
نظر لأخيه بهدوء ما يسبق عواصفه ، ففهم هلال على أخيه فقال بصوت متزن :
-هاجر لا تجادليـن !!
تقهقرت هاجر من جوار أختها بعد ما قبلت وجنتها وهي تقول بحزن وخيـم :
-متبكيش تاني وإلا هروح اخلص على ضيا دهون ونستريحوا منه .
تبادلن الابتسامات الحزينـة حتى تمسكت هاجر بكف هلال أخيها وغادر الثنائي الغرفة ، أحكم هارون غلق الباب خلفـهم ثم دار لأخته فاتحًا ذراعيـه بحنان أب:
-خبر أيه !! حُصل ايه لده كُله !!
ثم جلس على طرف الفراش أمامها وكفكف بإبهامه دموعها :
-دموعك دي تنزل وأخوكي في ضهرك !! أومال لو متت ؟!
هبت بهلع :
-بعد الشر عنك يا خوي ، حِسك في الدنيا ..
بنبرته الخفيضة أكمل :
-جرى أيه ما أنتِ كُنتِ زينه من الصبح وفرحانة ؟
-حاجة كتمت على قلبي يا هارون ومبقتش قادرة اتحمل هملت المكان وقومت ، أنا مش فاهمة روحي ، ليّ شهور عاوز أبعد وكل ما افتح السيرة مع أمك تهت فيّ كإني عاملة عملة ، كنت بنزل المية بنفسي اذوق المراكب الواقفة عشان تسير وأقول معلش يابت بكرة ربك يحلها ويهديه أهي چوازة والسلام هتقعدي لحدت ميتى ..وهو كان يجي يضحك عليّ بكلمتين وبعديهم يقلب تاني ، تعبت يا هارون تعبت .. ومابقتش عارفة أعمل إيه!!!!
تأرجحت عينيه بغضب دفين :
-صفية كانت عارفة كل ديه وساكتـه !!
تدلت عينيها بانكسار على حالتها ، فأمسك بذقنها لترفع جفونه لعنده قائلًا :
-أبوكي وأخواتك حسهم في الدنيا ، وما عاش ولا كان اللي يكسر عينك ..
ثم جلى حلقه وتعاهدت أعينه قبل الألسن :
-واثقه في أخوكي !! وواثقة في كلامه !!
ردت هيام ملهوفة :
-لو قولت لي أرمي روحك البحر مش هفكر حتى..
-وأنا عمري ما هسمح بحاچة تضرك ، وكلمة من أخوكي الچوازة دي مش هتتم ، بس عاوزك تسمعي كلامي زين !
اتسع بؤبؤ عينيها :
-كيف يا خوي!! ده الفرح بكرة وخـ…
-ويمين الله ما هيلمس منك شعره ، بس أنتِ فتحي مخك معاي وأنا هقول لك تعمـلي أيه ..
لقد كانت لديه القدرة الكافية على احتواء وترميم شقوق روح الجميع أما عن مصائبه هو عاجز تمامًا … فقط كُل ما يحتاجـه المرء منا وبالأخص الأنثى هو والاحساس بالأحتواء والدفء وأن هناك كتف قوي يتلقى من عنها الطعنات؛ اكتفت بإلقاء رأسها على صدر أخيها وهي ترتجف من الحزن وتعتذر له :
-حقك عليّ يا خوي عشان هحطك في موقف محرچ زي ديه ، بس…
ربت على كتف صغيرته بهدوء :
-بطلي عبط … أنا أرمى روحي في النار ولا دخانها يطولك .
ثم تحمحم بهدوء لا يتناسب مع حرارة الموقف :
-قومي اغسلي وشك ونامي وسيبك من العالم اللي تحت وانا هتصرف معاهم …
••••••••••••••
~بالأسفـل …
-“قالوا شقيـة قُولت من يومي ، قسمـوا النوايب طلع النايب الكبيـر كومي ”
جلسـت صفية على أحد درجات السُلم وهي تنوح على بختها المائل بجملتها الأخيرة وسط السيدات اللاتي انقلبـن من اماكنهما ليواسوها ، فاردفت أحداهن :
-وحدي الله يا حچـة ..
وضعت كفها على وجنتها وأكملت فقرة النواح على حال ابنتها :
-“لما قالولي ده ولد اتشد ضهري واتسند ، ولما قالولي دي بِنية جات الدِنيـا وحطت عليا .. يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات .. ”
فأعقبت الأخرى :
-عين وصابتها يا خالتي متقهريش روحك ، بكرة هتبقى زي الفل والياسمين …
مالت ليلة على مسامع أحلام التي تُسبح على أحجار مسبحتها البنية وسألتها بحيرة :
-طنت صفية بتغني ولا هي زعلانة كده ولا هي بتقول أيه ؟
صاحت “أحلام” بضيق كي تكف عن تعديدها :
-ما خلصنا يا صفية ، استغفري ربك وقومي اطمني على بتك .. وبطلي حديت فارغ .
صاحت الأخرى بجهل وقلة دين :
-اللي تكوي قلبي ما تبقاش بتي يا أحلام .. بتي مش عاوزاني أفرح بسترتها ولما اشوفها في بيتها متهنية .. ياريتني چبتهم كلهم ولاد ولا حرقة القلب دي ..
جاء هلال في تلك اللحظة وكلمات أمه تقع على قلبه كجمر يحرقه ، فاقترب من أمه واعظًا ومستدلًا بحديث الرسول :
-يا أمي لا يجوز لواحدة مثلك زارت بيت الله أن تقول أقوال جهالة .. ألا تتذكرين قول النبي “ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية”
لم تكف صفيـة عن ندبها :
-واللي عملته أختك ، دي عاوزة تجرسنا وچوزها زمانو چاي يهنيها ويتحنى .. هتخلي سيرتنا على كل لسـان .
-أختي لم تفعل شيء نخجل منه ، ويحق لها الاختيار لمن سيرافقهـا الدرب .. نحن معهـا على أي حال .. أختي لم تقترف ذنبًا واحدًا ..
ألقت ” رقية ” نظرة لأمها كإنها تستأذنها للتحدث بما ما أعجبت بحديث ولطف هلال مع أمه ؛ فتدخلت قائلة برغبة منها :
-يا خالة صفية متزعليش واسمعي كلام الشيـخ هلال ..
ثم ألقت على وجهه المتدلي بالأرض وأكملت :
-أهم حاجة عندنا راحتها وفرحتها ، يعني هتفرحي لما تشوفيها متنكدة وقرفانة في عيشتها !!
-لا ، المهم تتچوز وتتسر ..
فأكملت رقية بجملتها التي رُدت بقلب مولانا المغرم بصوتها :
-تتچوز وتتهنى وبعدين نقولوا دي اتسترت .. لكن تتجوز ووتتنكد إكده مسهماش سترة دي جُرسة ياخالة..
-الله يفتح عليكِ يا أخت رُقية ..
قال جملته وهو ينهض من مكانه ليُقبل رأس أمه ويتأهب منصرفًا من مجمع النساء الذي اقتحمه إثر ثرثرة أمه الباغضة وقال :
-بالأذن .. استهدي بالله وقومي توضي وصلي وربك يرسل تيسيره إلينا …
ثم انحنت رأسه بالأرض تحت أعين بعض النسوة الخبيثات :
-تأمري بشيء يا أخت رقيـة ؟
أحمر وجهها وقبل ما تجيبه تدخلت زينـه لتقول بقلة حياء :
-هتعوز أيه يعني واجبها واتاخد – ثم صاحت بالباقية- ولو سمحتوا الحنة باظت ومفيش عروسـة يلا يلا كل مراه على بيتها أهل البيت عاوزين يرتاحـوا … المولد فض .
كظمت رقية غضبها من بجاحتها واكتفت بنظرة ثاقبة لها وهي تزيح كفها من عليها وبدون أي كلمة تخصها ، فخير رد على السفيه الصمت ، استغفر هلال بسـره وهو يعلن انسحابه فأوقفه زمجرة صوت هارون أخيه الواقف بمقدمة درجات السُلم وهو يقول بتأدب :
-“العروسة تعبانة شوية من الشقى ، وبكرة مستنينكم على الفرح في معاده ، نورتونـا … ”
رمقه هلال بنظرات معارضة سايسها هارون بإشارة منه بأن هناك أمر جديد لا يعلمه ، وثبت صفية لتستنشق نسـيم الراحة وهو تصدح بالزغاريـد :
-يعني الفرح هيتم !! يا فرحة قلبي .. مش قولتلكم چلع بنته !! بتي متعملش في أمها إكده واصل ، ربنا يخليكي لقلب أمك يا هيام …..
•••••••••••
~السـاعـة الثانيـة بعد منتصف الليـل .
نام الجميع من الساعة العاشـرة مساءً ، كان الهدوء يـعم النجع بأكمله لا يقطعه إلا عواء الذئاب ونباح الكلاب ..اجتمع الأخوة بالحديقـة حول بؤرة النيران المتقـدة للتدفئة حتى قص عليهما هارون كل ما يتعلق بأمر أخته .. قفل هاشم هاتفه إثر رنين رغد المتواصل بعد ما ارسل لها جملته الأخيرة ” هكلمك لما اطلع ” وقال بنبرته القاطعة كالسيف:
-وكيف صفية تسكت على الكلام ده لحدت ما ورطتها !! هي مش هيام كانت حباه ورايداه وهو ديه اللي خلانا نحطو مركوب ونوافقوا بيه !
فأكمل هيثم مغلولًا :
-الناقص، ورب الكعبة ما هعتقده يا هارون..
لم يكف هلال عن ذكر الله الذي يفرغ به دخانه غضبه المحترق ، فقال :
-الجزاء من جنس العمل .. وهو يستحق كل ما يناله منا .. يستغل عرضنا ليؤذينا فيه .. الدنيء.
فتدخل هيثم مقترحًا :
-أحنا نروح له بربطة المعلم ونرنه العلقة التمـام لحد ما يقول حقي برقبتي ويطلقها ، أنا مش هسيبله أختي يا هارون ..
فتدخل هاشم بحدة :
-محدش هيسيبها ، الواد ديه لازمًا يتصفى ويشقش عليه نهار ، ودي سيبهوالي .
تقابلت أعين هلال وهارون المتزنـة والتي تُحكم عقلهـا حتى ترجم هلال مقصد أخيه وقال :
-المچلس أنا هحلهـا ، بس التسچيل مش حُجة يُأخذ بهـا ..
أشعل هارون سجارتـه بهدوء وهو يهز رأسه عالمًا بسير بخُطاه :
-عالم حسابه ..
قاطعهم هاشم الذي يحترق داخله كما تحرق النيران الفحم أمامهم:
-أنتوا أيه البرود اللي أنتو فيه ده !!! أنا هروح بيتهم أخلص عليه الـ*** ابن الـ*** ..
فوثب هيثـم متحمسًا :
-وانا معاك ، أحنا نروح نولعو فيه وفي دارهم وفي اللي معرفوش يربوه .. الناقص ولِد الـ***، جاي يلعب مع أسياده ..
وقف هارون ليثبط من ثروة أخوته برزانة :
-اللي عدى البحر في سفينة نايم .. غير اللي عدى وسط القروش عايم .. يعني اركزوا عشان أنا عارف هعمل أيه لان لو غلطة واحدة هتغرقنا كُلنا ..
عارضه هيثم :
-يعني ايه يا هارون ؟! ما تفطمنا يا وِلد أبوي ؟
-يعني تروح تنام أنت وهاشـم والصُبـح هتعرفوا .
عارضه هاشم بضيق :
-ما دامت عارف هتعمل ايه قولت لنا ليه من أصلو ،، هارون افهمني اقطع عرق وسيح دمه أنا عاوز اختي تترمل ، أحسن من ندخلو في حوارات ومجالس وو
-وأنا قدامك مش عتحنجـل ، قولت لك الموضوع خلصان ومحدش هيفتح خشـمه .. روح نام واشبع نوم ..
ثم سحب عباءته الصعيدية بنفور وقال :
-بالإذن …
تراقصت النظرات الحائرة بينهم حتى أيده هلال قائلًا :
-اسمعوا كلام هارون هو عارف عيعمـل أيه ..
ثم ربت على كتف هاشم قائلًا :
-مش بالباع والذراع ، المخ له أحكامه يا سيادة الرائد ..
انتظر هثيم رحيل هلال فجهر مقترحًا على أخيه :
-أنا عارف فينو دِلوق ، تيچي نخلصـوا عليه ونتاووه في أي بير !
هناك مقولة عسكرية تقول :
“إذا كان الطريق آمن فاعلم أن هنالك كمين” صحة هذه المقولة لمْ تثبتها الأحداث التاريخية فقط بل أثبتتها حتى المعاملة اليومية بين أبناء البشر! فإذا ما قابلت شخصًا كُلُّ صفاته الظاهرة نزيهة، ولا تدع في قلبك مجالًا للشك، فإنّك حتمًا وبموقفٍ واحدٍ _ربّما_ سيتّضح لك أنّك كنت على خطأ، وأنّ تلك الثقة التي قمت بمنحها قد صُنع بها كمينًا محكمًا للإيقاع بالمخدوعين أمثالك .
هرب هارون لجُحره الخاص وعالمـه الذي يهون عليه مرارة العيش ، فتح باب غُرفتـه الخشبيـة وأشعل إضاءتها وتحرر من كل ملابسه الصعيدية التي تشد أغلالها على عنقـه ، فتح خزانته الصغيرة وأخرج ملابسه الرياضيـة .. توضأ وصلي ما فاته من فروض أثناء يومه ثم أشعل النيران للتدفئة ووقف ليعد كوبًا من القهـوة يبدو أن هناك أمرًا يشغل رأسه فيود أن يصرف شبح النوم عن عينيـه حتى يتلقاه …
وعلى الجـهة الأخرى ؛ كانت ليلة متيقظة فهي لم تعهد النوم مبكرًا مثلهم فلم تنل إلا قسطًا قليلًا من النوم ونهضت على اتصال أمها التي لم تتوقف عن الرنين ، بعد ما انهت تلك المكالمة التي لا تخلو من الاوامر والتأكيد على تناول الأدوية بانتظام و التي اعتادت أن تنساها في الفترة الأخيرة .. فتحت باب غرفتها المُطل على الحديقة بعد ما ألقت وشاحًا على كتفيـها وأخذت تتفقد المكان بيأس .. تاه بها الفكر حول أي سبب آتى بها لهنا ؟! وأي قدر أوقعها مع أشخاص مثلهم ؟! وأي مجهول ينتظرها ؟!
وهي تسير تحت ظل النجوم المختبئة وراء الغيوم كإختباء قدرها المجهول تقاوم صدح تذبذب الجرعات السامة برأسها فـ بدّ لها قرص القمر الساطع يتلألأ نوره في خد السمـاء ، اتسعت ابتسامتها بمرحٍ وهي تقول بصوت مسموع يملأه الانبهار :
-واو !! القمر مكتمـل يعني الخواتم المفروض تكون اختفت في الوقت ده !! معقولة ؟
كان القمر ينعقد ضوءه فوق سطح غرفته المفتوحة والتي ينعكس منها النور فتعلن وجـوده ، مددت أنظارها للباب الموارب فخفق قلبها بدون أدنى إرادة منها بنبضة مجهولة لا تعلمهـا ، سارت خطوتين إليه ولكنها تراجعت برجفة قلب أصابتها :
-لالا .. عيب ميصحش آكيـد نايـم ..
ولت ظهرها معلنةً غروبها من اي مكان يجمعهما معًا ، فـ ظهر من باب حجرته وهو يرتشف قهوتـه وهنـا انعقد حاجبيـه باستغراب ، فنادى جاهرًا :
-أنتِ !!!!
تمنت ولو الأرض تنشق في تلك اللحظة وتبتلعها ، ما هذه الصدف التي تآمرت عليهمـا ؟! ما تلك الورطة التي وقعت بها في تلك الساعة التي تضم القمر والغيـوم ورجل مثير للفضول مثله !! أخذت نفسًا طويلًا وهي تدور نحوه وتدنو منه بخطوات مترددة :
-أنت لسه صاحي !!
هبط درجتي السُلم الخشبي وقال متسائلًا :
-فين المُشكلة ؟!
ردت مبررة :
-المفروض بكرة عندك يوم طويل وكمان النهاردة كان متعب ، وبتشرب قهوة في الوقت ده ،قصدي ترتاح شـوية عشان صحتك .
ارتشف رشفـة من فنجانه وهو يعقب على حديثها بشموخ :
-لا الصحـة بومب.
ردت بعفوية :
-يبقى تحافظ عليها ، مش تضيعها !!
رفع حاجبه مع تلك الابتسامة الخفيفة وأكد :
-قولت لك بومب …
أحست بالارتباك قليلًا فسحبت من يديه كوب قهوته التي أحبتها كثيرًا وأخذت منها رشفة بدون استئذان لتقول بمزاح يتنافس مع براءة ونقاء قلبها لا تقصده منه أي شيء :
-هشرب من كوبايتك عشان تجري ورايا ..
استقبل جُملتها باعتراض قطعه سيف حاجبه المرفوع :
-لا ياشيخة ؟!
-أنتَ مش مصدقني !! دي أسطورة شهيرة جدًا ، بتقول أن لو واحدة شربت من كوبايـة واحد أو العكس ؛ كده معناه أنه هيقع في حبها من أول وجديد وهيفضل العمر كله يجري وراها ومش هيشوف بنت أحلى منها ..
ثم وضعت الكوب بيده وأكملت بثناء :
-وبعدين دي هو كل كلمة أقولها كده تقف عندها ؛ منا كلامي واضح أهو ؟! فين المشكلة مش فاهمة ؟!
مال إليهـا وهو يُطيل النظر بعينيها الخضراء :
-أهي هي دي المشكلة في حد ذاتها ؛ مشكلتك حافظة مش فاهمة ..
تعلقت بسحر عينيه التي تقرأ تعويذة الحُب عليها لتقول بخيبة أمل مواجهة تلك الحقيقة التي تحاول الهرب منها :
-يعني أنت كمان شايفني فاشلة زيهم ؟!
خربشت قطته على جدار قلبه بسؤالها ، فـ رد بنبرته الهادئة وهو لا يفارق موجة عينيها المتقلبة :
-أنتِ مش فاشلة ، أنتِ لسـه يومك مچاش ..
حقيقة: ” فقد يهبط القبول قبل الحبّ بمدة” فيكونُ على هيئة انشراحٍ عجيبٍ وأُلفة غير مفهومة، وتلك منزلة عزيزة تُساق إليها قدرًا ولطفًا؛ لا بسعيٍ منك ولا سابق اجتهادٍ وترصّد.. مازالت “ليلة” تحت سُكر تلك النبرة الهادئة الجميلة التي تملك دفء وبرودة الغيوم وعزف النجوم :
-ولما يجي هنجح وكُل الناس هتشاور عليـا وهكون مبسوطة !
-لو قلبـك مستني كل ديه مسيره هيقابله ..
فأخذ نفسًا عميقًا وأكمل :
-وما زرعَ اللهُ في قلبِكَ رغبةً في الوصُول لأمرٍ معيَّن .. إلا لأنه يعلمُ أنك ستصلُ إليه.
تجلى حلقها الذي جف من نار ونور ذلك الحديث الدائر بينهم لتسأله بعفوية :
-وأنت قلبك قابل اللي كان مستنيه زمان ؟.
-أنا عمر قلبي ما استنى حاجـة عشان يقابلهـا .. أنا غيرك وغير أي حد .. أنا رامي قلبي تحت رچلي .
غسان كنفاني اختصر القصة كلها لما قال :
أنا لا أستطيع أن أتحمل خذلاناً جديداً، ولو كان خذلاناً تافهاً .. هكذا هو حال شخص مثل هارون ، خذلته الحياة حتى أجبر على خلع ماتور الشعور بهذا الجسد كي لا يُعذب مرة آخرى ، عارضته ليلة السابحه بمعالم وجهه التي لم تكف عن تأملها :
-بس ده مش صح ..
انتبه لتصبب قطرات العرق من جبينها التي توحي بارتباكها الشديد من حرارة نظراته التي ذوبت ملوحـة حزنها وطرقت على باب المجهول ؟! باب الحب أم باب العذاب يا ترى ؟!
عاد له رُشده على الفور ، كمن نزع حذائه وحملق بالسمـاء وسارت قدميه الحافية على الرمل بدون وعى حتى ابتلت أقدامه كإنذار له عن الغرق ففاق للتو وتشتت عن أمر شروده ، تحمحم وهو يولي ظهره محتجًا بترك الكوب بأي مكان :
-لو مش هتنامي تعالي نشوفوا حابة تروحي فين عشان تصوري .
ردت بصوتها المتهدج وهي تراقب بُنيته القوية التي تفتقدها بجسدها الضعيف وقالت :
-شوف أنتَ ، أنا معاك في أي حاجة …
هرول للعودة لغرفته وفرغ محتوى الرفوف بطاقة غريبـة ، يبدو إنه كان يود الهرب من أمور كثيرة فتمسك بطرف اجتماعهما معًا .. أعطى لها كتابًا خاصًا بمعالم “قنا” وطلب منها ان تطلع عليه وهو الأخر مسك كتابًا ورزع بذور أعينه المحملة بـ داء التطلع لها بصفحات الكتاب ، فما سيثمره يا ترى ؟!!!
مرة قرابة النصف ساعة فثاوبت ليلة وأحست بالملل من كآبة ذلك المحتوى الذي يقع بين يديها ؛استند مرفقها على سطح الطاولة التي تجمعهما ساندة وجنتها على راحة يدها وهي تتأمله بنظرات لم تعلم أنها تسحبها لقعر حُبه ، كان منشغلًا بالكتاب الذي بين يديه مرتديًا نظارته الطبية وما أن شرع في قلب الصفحة فتزحزحت عينيه عن ورقات الكتاب لورقتي أعينها المنفرجة نحوه وهي تقول :
-لايق عليـك جدًا تكون دكتور في الجامعة..
تحمحم بهدوء متجاهلًا خربشاتها على جروحه وسألها :
-خلصتي الكتاب اللي معاكي !!
-تؤ…
أصدرت صوتًا نافيـًا ثم أتبعت :
-لا طبعًا ، لو خلصت أنتَ كتابك ، خُد خلص ده كمان عشان أنا بصدع بسرعة !
رفع ذلك الحاجب الذي يسبقه في أي اعتراض وسألها :
-وأنتِ هتعملي أيه لما أخلص كُل الكُتب دي بروحي !!
هزت كتفيها ببراءة :
-مش لازم أعمل حاجة ، بس ممكن أحكي لك عن شهرزاد وقصص ألف ليلة وليلة وأنت بتذاكر !
رد متعجبًا:
-فاضية أنتِ تقري قصص لكن مش فاضية تعرفي لك معلومة تنفعك ..
هبت من مكانها لتنتقل لمقعد آخر أقرب له وقالت بحماس :
-ده كلام مفيد جدًا ، أنا أصلًا واقعة في حُب شهرزاد !! اسألني ليه يلا ..
قفل الكتـاب مرغمًا ومغرمًا لينصت لها وقال :
-اشمعنى ؟!
تكورت يديها المسنودة على الطاولة تحت ذقنها وهي تمارس على تمرده سحر النظرات وقالت :
-عشان هي الوحيدة اللي خلت الملك يتوقف عن بحور الد.م اللي كانت مغرقة المدينة في الوقت ده ، عارف ليه ؟! هقول لك أنا ..
ثم سحبت كتاب التاريخ من تحت يدها بعبث وقالت :
-لأنها الوحيدة اللي حبها …. تحب أحكي لك ؟!
هـنا لقد دق هاتفه بالرسالة المنتظرة التي سحبته من سطوها لهاتفه وهو يتفقده بلهفة حتى صاح فارحًا :
-ينصر دينك …
فرمقها بسعادة بالغة تتلألأ من عينيـه وهو يغادر مقعده ليجري مكالمة تليفونية ويخبرها :
-وشـك حلو عليّ ..
رمقتـه باندهاش عندما وجدته يغادر المكان :
-حصل أيه ؟! فهمني طيب ..
••••••••••
قضت ليلة بعض الوقت مع هارون حتى استقر الاثنان على مكان زيارتهم الجديد ثم عادت لغرفتها مع أذان الفجـر على صـوت الشيخ هلال الذي أشادت بجمال صوته ، ما أن رأتـه يتوضأ كي يستعد للوقوف بين يدي ربه ، أصابت الغيرة قلبها فطلبت منه أن تستأذن لتأدية الصلاة في غُرفتها وتدعه يرتاح قليلًا …
انفلق الصباح وانفلقت معـه حكايات جديدة وأقدار لا يعلمها إلا الله .. بدأ اليوم من منزل ” بكر فياض ” الذي يرن قعر صـوته بالبيت بأقذر المصطلحات الدنيئة وتطاولـه المستمـر على أهل بيته ، جاءت زوجته حاملة كوب الشـاي بغل ووضعته أمامه على الطاولة وقالت بنفاذ صبر :
-ينفع توطي حِسك عشان البت نايمة ..
رفثت قدمه الطاولة بما عليها وطالت يده زوجتها وهو يلعنها قائلًا :
-يعني ايه وطي حسك ؟ ديه بيتي واللي مش عاچبه يغور في ستين داهية ؟! هو أنتِ هتقوليلي أعمل أيـه ومعملش ايه ؟!
ظل يفرج حممه البركانية من الغضب بتلك المسكينة التي مسحت الأرضية المبللة بدموع عينيها وملابسها ، سحبها من شعرها بقوة وظل يعنفها بجنـون ثائر ، كانت تصرف وتستغيث ولكن لا حيـاة لمن تنادي عليه ولكن الله الواحد القاهر يطلع على كل شيء .. دفعته بكل قوتها كي تهرب من سطو اثره وهي توبخه :
-فالح تعمل رجل عليّ روح اتشطر على اللي فتحت نفوخك وقعدتك في البيت زي الولايـا ..
لم تستطع الهرب من تحت يده بل فرغ فيها بمنتهى الوحشة تجبره وقوته الجسدية التي ميزها الله بها ليحميها لا ليستقوى عليها حتى تصبغ جسدها بكدمات الشر الزرقاء والحمراء …..
~وعلى الجهـة الأخرى :
تقف ” رُقيـة ” مع أمها بالمطبخ التي تغسل الصحون وهي لم تكُف الحديث عن هِلال الذي شغل حيزًا كبيرًا من رأسها ، قضمت ثمرة الخيار التي بين يدها المضمومة :
-عارفة ياما أنا أول ما شفت هِلال كأني شفت عفريت و مكنتش طايقاه ، بس بعد موقفه الچدع معانا ووقفته قصاد بكر ، كبر قوي في عيني وحسيته جدع ، وشوفتي كمان وهو عيتحدتت مع أمه !! أخلاقه عالية قوي ..
فتحت أمها الصنبور وهي تغسل ما بيدها وتقول بخبث :
-والله الراجل من ساعة ما شوفته وهو دخل قلبي .. ده مفيش زيه فالعزايزة كلهم .. أدب واحترام .. وحلاوة وعينه معتترفعش من الأرض .. يابختها يا هناها اللئ مكتوبـلها.
هزت رقية كتفيها باستنكار وهي تنفي تلميحات امها :
-آكيد مش أنا ، أنا أصلًا مش هتچوز وهعيش العمر كله جارك .. أنا بس عحكي معاكي والكلام جاب بعضه .. وأصلا مش حِلو ولا حاچة دي لحيته وأكلة وشه ..
ثم اقتربت منه أمها وقبلت وجنتها وأكملت بشغفِ :
-بس لما بشوفه قلبي بيدق بسرعة ، وبحس نفسي عبيطة قوي قدامه .. يمكن عشان هو هادي زيادة عن اللزوم وأنا أصلًا هبله ؟!
قفلت أمها الصنبور وهي تتراقص على اوتار قلب ابنتها التي تنكرها :
-لا يابت بطني ميتة عاوزاكي تخللي چاري ، أعيش وأشوفك متهنية في بيت عدلك ، وياخد بكر ولد فياض ويريحنا ..
ثم غمزت بطرف عينيها :
-ويچعل من نصيبك اللي دق له قلبك يا هبلة يا بت الهبلة ..
أحمر وجهها بحياء وهي تفرغ خجلها بالخيارة :
-وبعدهالك ياما ..
-متتكسفيش يابت ، دا أنا أمك ومحدش هيعرفك قدي ..
قبلت رقية أمها بثغرها الضاحك شاكرة القدر على وجودها بحياتها ثم عادت لتروي لها عن تفاصيل أمس:
-شوفتي اللي اسمها زينة ، يا بوي منيها ياما ، بت سماوية قوي ، أنا مش عارفة كيف خالتي صفية مصرة عليها، ده حتى هارون ديه وِلد خلال ويستاهل الخير..
ردت صفاء بعد اقتناع :
-بت أخوها ولازمًا تچوزها لواحد من عيالها .. أومال هتسيبها وتسيب الخير اللي وراها لمين ؟
-وهما ناقصين خير ياما !!
-البحر يحب الزيادة يابتي ..
ختمت صفاء جملتها وهي تتأوه ممسكة بقلبها الذي عاد مرة آخرى ليؤلمها مستغيثة بابنتها :
-ألحقيني يا رقية يا بتي .. قلبي رچعت له الحالة من تاني و مش قادرة .. وديني الوِحدة يابتي …..
جن جنون رقية وهي تتحرك كالفاقد لعقله بالبيت ، وضعت وشاحًا فوق رأسهـا وأخذت مفاتيح سيارة أبيها ذات الطراز القديـم ، وهرولت بأمها للمستوصف الخاص بالنجع وهي تبكي تارة وتمنحها الأمل طورًا …..
••••••••••••
مر اليـوم سريعًا كل شخص منهم مشغولًا في مهام يومـه .. يوم نمطي لأي عروس بنجعهم ، الذبائح والولائم والازدحام والمارة في كل صـوب وحدب وجمهرة الأصوات ، الجميع يتحرك على قدم وساق والكل يتسابق مع عدد الساعات لينجزون ما يمكن انجازه ….
قرعت الطبـول بعد صلاة المغرب ، وفرشت الأراضي بالورد والرمـل ، وتوافد المعازيم من كافة القبـائل المجاورة والمعروفـة .. تزينت العروس وهي تحت تأثيـر صدمتها حول كيف سيخلصها أخيها من ذلك المأزق ، لم تجب على اتصالات ضيا المتكررة حتى فاض بها الصبـر وقفلت هاتفها وهي تتساءل عن أخيها ؛ أين هو ؟!
جهزت صفيـة مائدة عشاء العروس وأعطت له مفتاح البيت لهيثم كي يرسلها لبيت أخته بسيارته مع فردوس .. نفذ هيثم ما طُلب منه بنفور ، الأربع أخوة لم يلامس الفرح وجوههم ، بل كان الصمت يعُم الأجساد …
قضت ” ليلة ” نهارها نصفه نائمة إثر تناولها جرعة الدواء القاتل لخلايا مخها والنصف الآخر جاءت لتُرافق أحلام الجالسة بمفردها بغرفتها وتتبادل معها الحديث ….
أما عن “نغم” التي اغتالت مشاعرها وجاءت لحضور حفل الزفاف إثر إلحاح زوجة خالهـا ، كي لا تكن مضغة الأفواه .. كانت تتحاشى النظر تمامًا عن طيف هارون ، حتى الحوار الذي كانت تتعمد أن تخلقه معه ، اغتالته مع شوك مشاعرها …
مرت الساعات ولم يخلٌ الفرح من تهامـس وتنمر النسوة عن حادث الأمس وعن رفض العروس للزواج ، كانت هيام جالسة على مقعد العروس بصمت منتظرة مجيء عريسها ليأخذها لبيتهما كمن ينتظر قدوم قابض الأرواح .. الجميع يتحرك أمامها ويقومن السيدات بادعاء المعازيم للعشاء افواج أفواج وراء بعضهـا ومن بعدها يعودون ليضعوا نقوط العروس بذلك الصندوق الكائن بجوار قدميها كمباركة لها .. الكل منشغل عنها أما هي وقلبـها لا يشغيلان بال أحد …
اقتربت منها ” ليلة ” التي ترتدي ملابسها العصرية لتجلس بجوارها بالكوشة وتربت على ظهرها :
-أنا واخدة بالي إنك مش مبسوطة ومدايقة ، أنا نفسي اساعدك بس مش عارفة إزاي؟
يبدو أن القلوب المتألمة تُنادي بعضها وتنجذب لبعضها البعض ، رمقتها هيام لتقول بخزي :
-عمري ما اتخيلت أعيش اليـوم ديه ويكون جوايا الحزن ده كُله …
أشفقت ليلة على حالها :
-طيب ليه سكتي كل ده ؟!
-النصيب ؟! ليلة ، هارون أخوي فين؟!
ليلة بحب لمساعدتها :
-تحبي أكلمه ؟!
هنا لاحظت زينـة حديث هيام مع تلك الغريبة التي تشعل النيران بصدرها ، فاقتحمت مجلسهم :
-جرى أيه يا عروسـة ؟! هنقضيها حكاوي وحواديت مفيناش راس !!و مش فاضيين دي الليلة ليلتك وهنيالك هتنامي في حضن حبيبك …
ثم رمقت ليلة بتخابث:
-عقبالي يارب أنا وهارون وساعتها انا مش هبطل رقص لحدت ما يطلع علينا نهار ..
زفرت ليلة باختناق من ثرثرة زينة العبثية :
-ممكن تحترمي حزنها شوية !! أنتِ مش واخدة بالك أنها مضايقة ؟! بلاش أسلوبك الأناني ده ..
صاحت زينة بامتعاض وهي تلوح بذراعيها :
-البيت بيت أبونا والغُرب چايين فيه يربونا !!
ردت ليلة ببراءة :
-ااه لما تكوني بقلة الذوق دي يبقى لازم الغُرب يعلموكي الأوصول ..
ثم نظرت لهيام مستأذنـة :
-انا هكلم هارون بيه أقوله هيام بتسأل عليك ..
وقفت زينة أمامها بإعتراض:
-وأنتِ تكلمي هارون چوزي ليه ؟! في ايه بينك وبينه …
تدخلت هيام التى فاض صبرها من حماقة زينة :
-أنا اللي قولت لها يا زينة ؛ ينفع تُسكتي وكفياكي حديت ..
لوحت بهاتفها أمامها وقالت :
-والله ما حد يكلم هارون غيري .. -فرمقت ليلة بسخط -اقعدي ريحي روحك من الفرك رجليكِ دابت ..
تمتمت ليلة بضيق وهي تشكو لهيام :
-بني آدمة لا تُطاق بجد !
حاولت زينة الاتصال بهارون مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى عادت لهيام حاملة خبز خيبتها الساخن وقالت :
-ماعيردش ، شكلو مشغول مع الرچالة ..
في تلك اللحظة فتحت ” ليلة ” هاتفها الذي يزاحمه الأنوار والغلاف الخارجي المفعم بالرسومات وهي تحرك أظافرها المزينة لتهاتف هارون وشغلت مُكبر الصوت وكأنها أعلنت الحرب على زينـة ، وضعت ساق على الأخرى ومع ثالث جرس للمكالمة آتاهن صوت هارون قائلًا بعجل رغم الازدحام حوله :
-اتفضلي يا أستاذة .
ضرب الغضب برأس زينة واتسعت ابتسامة ليلة التي وضعت ساق فوق الأخرى بانتصار وهي تقول بنبرتها المتغنجة التي تعزف على كمان قلبه :
-يا حضرة العمدة ، هيام عايزاك ممكن تيجي لعندها دلوقتي .
رد باختصار :
-قوليلها متفكريش كتير .
سحبت زينة الهاتف من يد ليلة عنوة :
-هارون أنتَ اشمعنا رديت عليها وعليّ انا لا ؟!
جز على فكّيه بامتعاض:
-كنت مشغول ولما فضيت رديت .. سلام يا زينة ..
كانت ليلة تربت على كتف هيـام بحنان ، ففاقد الشيء هو الوحيد الذي يمنحه وبقوة وقالت :
-انا مش فاهمة حاجة بس هو بيقولك متفكريش كتير ، اسمعي كلامه هو لما بيقول حاجة بيكون أدها ….
عادت زينة لـ ليلة المنشغلة بالحديث مع هيام وألقت لها الهاتف قائلة بغيظ:
-محمولك ، وأبقي امسحي رقم چوزي من عندك عشان أنا عغيـر عليه ؟!
ردت ليلة متعمدة إثارة غضبها وهي تفارق المكان كي لا تصطدم معهـا :
-لا ده عشان بس انتِ مش واثقة في نفسك يا زينة … اللي بيني وبين حضرة العمدة شُغل وبس .
•••••••••••••
~المشفى .
-طمني يا دكتـور ، أمي مالها هي مش هتروح معاي ؟
خرج الطبيب من غرفة الفحص وقال بحزن :
-انا طلبت الإسعاف تيجي تأخدها لمستشفى الجامعة ، عشان لازم تتحجز هناك ..
-طب فهمني هي مالها ؟
رد الطبيب بأمل :
-اطمني ، هتعمل الأشعة والتحاليل اللي قولت عليهـا وهنحدد حالتها بالظبط ..
ثم تدخلت الممرضة مقترحة :
-تقدري تروحي تجيبيلها هدوم ووكل عشان هتتحجز في المستشفـى مش أقل من يومين ..
جففت رقية عبراتها وهي تحس بالوحدة وثِقل الحمل عليها فقالت للممرضة موصية :
-خلي عينك عليها بالله عليكِ ، هروح أجيب طلباتها وخالتي چايلها دِلوق ، متهمليهاش واللي عاوزاه أنا هديهولك ..
ربتت الممرضة على كتفها لتطمئنها :
-اطمني والله في عيني ..
هرولت رقية الباكية لتغادر المشفى وتعود لبيتها لتحضر الملابس والثياب الشتوية والكثير من النقود المحفوظة بالخزانة من تحصيل إيجارات الأراضي .. تشعل كشافات سيارتها القديمة لترى الطرق الخالية من المارة إثر اجتماع أهلة البلدة كلهم بدوار العمدة .. فلم يشغلها شيء إلا العود لأمها في اسرع وقت ..
وصلت رقيـة البيت فهبطت من سيارتها وهي تركض وتدعو ربها أن يحفظها لها أمها ، بعد محاولات كثيرة من يديها المرتجفة آخيرًا فتح الباب ، دعت المفتاح بداخله وهرولت لأعلى بدون وعي ….
ومن الخلف ، ظهرت تلك الأعين التي تتلصص النظر أمام بيتهم ، تجرع آخر جرعة من زجاجة السُكر بيده ثم مسح فاهه بكُم جلبـابه وهو يخطو نحو بيتهـا بخطواته التي تحمل لهب الانتقام متبعًا نصيحة أحد رفاق السوء ” اغتصب من تُحب وسيزوجها لك عرف العزايزة قسرًا لأنها باتت ملكًا لك ” ..
وقف على أعتاب البيت يراقبه بأعين الذئاب التي على موعد مع فرائسها ، منتظرًا اللحظة المناسبة للاقتحام ولقد حان موعـدها لشره .. خطوة واسعة من قدميـه المغبرة بداء الانتقام وكان بداخل بيتهم وهو يحكم غلق الباب بقوة ويحكم غلقـه بالمفتـاح ..
فسقط صندوق النقود من يدها وهي بغرفة أمها وأبيهـا بهلع عند سماعها صوت قفل الباب :
-مين چيه تحت ؟!!!!!!!!
•••••••••••••
~عودة لدوار العزايـزي .
قيل :
“ستخوض غمار كل شيء حتى تؤمن أنك لن تُدرِك الأبد، ولن تبلغ الجبال طُولاً، وأنّ مغانمَ العمر في خلوِّ البال، وتمامِ الصحّة، وأيامٍ محايدةٍ تنام إثرها موفورًا بالرِّضا والأمان.”
وصل ضيـا وصُحبته إلى البيت وأعلن ناقوس الفرح والغنـاء بساحة البيت الواسعة ، تلألأت طلقات النار في الهواء والجميع يغني ويتراقص ، مال الحج خليفة على مسامع ابنه هلال :
-أومال أخواتك فيـن يا ولدي مش واعي لولا واحد فيـهم ؟!
رد هلال بهدوء يُحسد عليـه :
-الغائب حجتـه معه يا حچ ..
-أختك مين هيسلمها لعريسها معاك !!
-أهدأ يا حچ وكله سيكون على ما يرام..
ركضت زينة لمجلس النساء وهي تزف الخبـر السعيد وهي تتراقص :
-العريس چيه ياخد عروسـته ، يألف بركة .
وقفت هيـام تتفقد المشهـد حولها وإذًا بدخول ” ضيـا “من باب البيت في جلبابه الأبيض ليستلم عروسـته ، فطافت عينيها بالمكان تبحث عن أخوتها فلم تجد أحدًا منهم ، أغرورقت عينيها بالدمع والخوف وهي تقول في سرها :
-أنتَ فين يا هارون ؟!
لتفيق على نداء ضيا ويده الممتدة لها ونظرته المُخيفة لها التي لأول مرة تراها على حقيقتها الخبيثة :
-يالا بينا على بيتنا يا عروسـة ..
••••••••••••
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)