رواية آصرة العزايزة الفصل الرابع 4 بقلم نهال مصطفى
رواية آصرة العزايزة الجزء الرابع
رواية آصرة العزايزة البارت الرابع
رواية آصرة العزايزة الحلقة الرابعة
🍃الآصــرة الرابعــة 🍃
يبدو أن نزار كان متنبًا بمصيبة هارون عندما وصف سيدتـه قائلًا :
-“قـدر أنتِ بشـكل إمراة .. ”
ومن نسيج اللقاء الأول سطر القدر الحكاية ..
ومن تلك الليلة الغامضة التي فَتحت أبوابها دعوة أم بنية مُخلصة ؛ ماذا سيكون بعدها مصيره !!
ستكون قدره الجميـل !
أم
قدره المُعذب !!
#نهال_مصطفى .
••••••
“”قـدر أنتِ بشكــل إمرأة “”
~ببيت خليـفة العزايـزي .
-أؤمريني يا عمتي ؟!
أردف ” ضيا ” سؤاله بعد ما قَبل رأس صفية وجلس بجوارها ناطقًا بتنهيدة يخالطـها المَلل ، أمتدت أنظار صفية بعتب :
-وبعدهالك يا ضيا !! مزعل هيـام ليه ؟! أنا مش هخلص من مشاكلكم .
تلون بالحديث كعادته ليكسبها ككل مرة :
-الـ يزعل هيام ما يوعاها يا عمتي ! وبعدين دي هي اللي مزعلاني وأنا جاي اشتكي لك منها ، برن على محمولها ليل نهار ولا بتكلف خاطرها وتسمعني صوتها .
عادت مستفهمة :
-يعني ما قولتش حاجة تزعلها !!
رد باندفاع يخالطه دهاء الذئاب :
-يتقطع لساني قبل ما أقول كلمة تزعلها ، دي هتبقي مرتي وكرامتها من كرامتي ..
غلف عقل السيدة التي خُلقت على الفطرة بكلمتين فقط ، تنفست بارتياح :
-يكملك بعقلك يا حبيبي ..
ثم لمحت هيـام متدلية من أعلى ، فجهرت منادية :
-وأهي هيام جات ، تعالي يابتي ..
وختمت حديثها وهي تميل على مسامعهُ ناصحـة :
-هقوم أعملكم حاجة تشربوها .. عايزة ارجع ألقى ضحكتها منورة وشها .
كانت تقطع الأرض بخُطى عسكري .. خطوات ثابتة واسعة وبوجه متصلب التعابير ، زفرت باختناق شديد وهي تقف مستندة على ظهر المقعد المُذهب :
-والله !! وكمان جاي تبلف أمي بكلمتين يا ضيا .. قولت لك الـ عندي ، وفضها سيرة .
-وبعدهالك يا بت بطني !!
حدجتها أمها كي تتوقف عن تلك الأفعال الطفولية التي لا تَليق بابنة خليفة العزايزي وقالت وهي تتأهب مغادرة :
-هعملكم حاجة تشربوها .
وقفتها هيام مُصرة على رأيها:
-خليه يطلقني ياما وأحنا على البر .. قبل ما تبقوا حكمتوا عليّ بالمؤبد .. أنا مش عايزاه..
-ما أنت بس لو تقوليلي عمل أيه !! لكنك ساكتة والراجل وِلد أصول وشاري .
تدخل ضيا بحوارهم بأسلوبه الثُعباني :
-ورب المعبود شاري ..
هتفت صفية بنفاذ صبر :
-أنا هسيبكم تخبطوا في بعض بس عايزة أرجع ألقاكم اتصالحتوا .. عدوا ليلتكم يا ولاد واخزوا الشيطان ..
انتظرت حتى غادرت أمها ، فرمقته بتحدٍ ولم تتراجع عن موقفها :
-طلقني يا ضيـا ..
شبح ابتسامة خافتة رُسم على محياه إثر إصراره على كتب الكتاب قبل ستة أشهر ، كي يضمن بقاءها ، كي يحافظ على طُعم أهدافه المُضللة :
-شكلك نسيتي العادات !!
ثم داهمها بمكر أعينه اللامعة وأكمل:
-معندناش طلاق يابت الحج خليفة ، جوازاتنا جوازة نصارى يا قلب ضيا .
وبختـه بتمرد على حديثه :
-يعني أيه !! أنتَ عتقول أيه أصلًا ؟!
زفر ثاني أكسيـد كيده وقال متخابثًا :
-شكـل العلام لحس مخك ونساكي تقاليعنا ..
-لا ، أنا عارفـة عاداتنا يا ضيا ، أنا لساتني مرتك على ورق وبس ، يعني من حقك تطلقني في أي وقت !!
وفي نفس اللحظة تحولت نبرته الدنيئة محاولًا لمس كتفها فأبت قطعًا :
-ضيا متقربش مني !!
-وحشتيني ، وخلاص حقك عليا ، وحياتك ما هتتكرر تاني آخر مرة .
تأرجحت عينيها بالمكان كي تتأكد من خلاءه ، دنت منه خطوتين وهي تخرج الحروف من وراء فكيها المنطبقين مشيرة بسبابتها بنبرة منخفضة :
-دي مش أول مرة يا ضيا تغلط في هارون أخويا ودايما حاطط راسك براسه ، ومش أول مرة تهلفط في الكلام عن أخواتي .. أخواتي دول الـ لو شموا خبر عن السواد اللي جواك ناحيتهم صدقيني مش هتشوف نهار .
مضغ شفته السُفلية بغـل وهو يكبح غضبه عنها :
-وه ! متخنيش رأسك ، دول مكانوش كلمتين .. عديها المرة دي ومش هتتكرر ، تعالي نتكلموا في فرحنا ..
ثم غير نبرتها لتلك النبرة المتحمسة:
-يابت خلاص جيه اليوم اللي حلمنا بيه وهيتقفل علينـا باب واحد !! فُكي التكشيرة دي بزياداكي نكـد .
ثم دنى منهـا أكثر وهو يمسـح علو وجنتها بمكر مخادع :
-أنتِ عارفة إني رايدك ومقدرش أستغنى عنك .. أنتِ حبيبة القلب يا بت ، طيب افتكري لي حاجة زينـة تشفع لي ..
ثم تمطق كأنه يستعيد مذاق الماضي :
-طيب حتى افتكري اترفضت كام مرة لحد أبوكي ما زهق مني ووافق !!
نجح في رسم الضحكة على وجهها الشاحب المتنبئ بمصيرها المنتظر ، تجاهلت صوت إحساسها وعقلها وأتبعت هوى كلماته المعسولة التي دومًا ما يذوبها بمحلول خبثه ويحقنه بوريدها .. ما أن رأي ضحكتها ألتوى ثغر الصعلوك بابتسامة الظفر وقال :
-أيوة كده .. عليا النعمة بدر منور في سماه ..ومش كل عركة تقولي طلقني ومش هتجوزك يا ضيا ..
ثم جهر معلنـًا :
-بدل الشاي خليه شربات يا أم هارون ..
-دا أنا وشـي حلو على كده !!
فأتاهم صـوت ” نجاة العزايزي ” التي دخلت من الباب وبيدهـا طفل ذو الثمانية أعوام في ثوبها الأسـود الطويل وحجابها الذي يسطع بياض وصفاء بشرتها والوجه البشوش الذي يضخ زهور الحياة من ثنايا ملامحها ..هذه الفتاة التي تزوجت قسرًا بعمر العشرين عام من رجل لا تُريده ولم يكن لديها أي رغبة فيـه وباليوم التالي من كونها أصبحت أم لطفـل توفى عنها زوجها إثر حادث أليم وتركها أرملة وهي بعامها الواحد والعشرين تعول طفل لوحدها ..
ما أن رأتها هيام ، ركضت لعندها لتُرحب بمجيئها وهي تعانقها بلهفة :
-نجاة !! أيه الغيبـة دي ، تعالى تعالى .. أقول لك أيه ، أنت بايتـه معانا الليلة أنا مش هعتقك ..
ثم تنهدت بوجهها معبرة عن مدة اشتياقها لابنة عمها :
-وحشتيني قوي يا نجاة .
••••••••
وصلت ليـلة لغُرفتها بالفندق وهي تتحدث مع أصدقائها بواسطة ” الفيديو كول ” ، انتعلت حذاء قدمها بعشوائية على باب الغُرفة وهي تروي لهم تفاصيـل مصائبها الاعتيادية التي لا تفارق حياتها .. ثم زفرت وهي تلقي الحقيبة من يدها :
-بس هارون ده طلع ندل بصحيح ، مع إنه يبان عليه مرجلة وابن بلد .
ما كادت أن تخطو خطوة فتعرقلت بحذائها الأخر الذي رمته بفوضوية قبـل أن تغادر الغرفة ، صرخة أخرى اندلعت من جوفها مصحوبة بضحكة ساخرة :
-كل ما أجيب سيرة الجدع ده بتحصل لي مصيبة .. اسمه فاتح شهية للمصايب .
اندلع صـوت ضحك كل من جوري وفدوة فتدخلت الأخيرة بفضول :
-لي لي ، أنا عندي فضول أشوف صورته ، من كلامك عنه بحاول اتخيل شكله مش عارفة .
تحمست جوري للفكرة :
-وانا كمان ، لي لي اتصرفي و ابعتي صورته بجد ..شوفي له أكونت اخبار على جوجل ..
مال ثغرها ناحية اليسار بيأس :
-مش معايا صورته للاسف كنا حفلنا عليه بضمير ..
اتكأت فدوة على وسادتها وقالت بلهفة فتيات عندما يُذكر اسم رجل أمامهم تحاصره التساؤلات:
-طيب هو عامل ازاي ! أوصفي لنا شكله .
نزعت ليلة جاكتها القصير بعد ما رمت الهاتف على الفراش ، ثم قفزت بخفة بمكان نومها بتلك الغرفة التي قلبتها رأسًا على عقب ، شبح ابتسامة ساحرة رُسم على محياها وبرقت عينيها رغم غضبها الشديد منه وشرعت في وصف ذلك النمر البري على حسب وصفها ، كانت نبرة الدلال والغنج تحتل صوتها :
-هو طويل أظن فوق الـ١٨٠سم بشوية .. مش أبيض ومش أسمر ، حاجة في النص ما بينهم .. ملامحه حادة وتخض ، عنده شنب و دقن خفيفة خالص ، وفي غمازة في خده الشمال ، عنده جرح صغير تحت حاجبه اليمين .. المرتين الـ شوفته فيهم كان لابس جلابية صعيدي مش بتكرمش خالص على طول مكوية واستريت كده ، ريحة البرفيوم بتاعه لذيذ ، بس مش عارفة نوعه .. وبس.
-وبس !! كل ده من مرتين وكانوا بالليل !!
صاحت جوري متحمسة أكثر للتعرف على تلك الشخصية التي جنت عقل رفيقتها بيوم واحد :
-أوووه المهم !! handsome!! مش كده .
ألقت ليلة بسلة المهملات المجاورة لها بعض الأوراق ورمت معهما غضبها الثائر من ذلك الرجل الذي هدم الحاضر والمستقبل فوق رأسه وقالت بلمعـة النجوم بعينيها وهي تقضم شفتيها بخفة بوصفٍ عبثي يعكس تهورها :
-بصراحة هو جـان منكرش ، لون غريب ولذيذ عن اللي بنشوفه عندنا ، مش باد بوي بس هو قليـل الأدب .. لطيف بس عصبي ولسانه أطول منه وعايز قطعه .. مغرور بس باين عليه حنين .. عيونه تربك بس عايـزة تبصي فيهم كتير !!
قطعت ضحك وصياح رفيقاتها بإمتعاض واستنكار :
-بنات في أيه بجد !! أنتوا متخيلين لينا ساعة بنرغي على اللي اسمه العزايزي ده !! لا وكمان قاعدة أمدح فيه بعد ما بوظ لي كل حاجة في minute .
ذكرتها جوري لـ تُنيم ضميرها قائلة :
-ياستي بقا بقيتي سينجل زينا خدي راحتك ، اللي اسمه شريف ده كان كاتم على نفسنا الصراحة !!
دقت نسائم الحرية بـ قلبها إثر سماعها تلك الجملة، فتدخلت فدوة متسائلة :
-طيب ناوية تعملي أيه يا لي لي دلوقتِ !
بلمت مُفكرة في مصيرها وحلمها الذي تحول لسراب، فردت بيأس:
-ولا حاجة، بكرة هرجع اسكندرية وأحاول أقنع صاحب القنـاة بأي فكرة جديدة .. ويارب يقتنع .
فعادت متأثرة :
-يعني خلاص مش هتشوفي هارون ده تاني!!
هبت مندفعة متناسية مدحها فيه قبل لحظات :
-أحيه !! أنا لو شفته تاني هفتح دماغه الناشفة ، مستفز لأبعد الحدود ، فوق ما تتخيلوا ..
ثم ختمت جُملتها بدمدمة غير مقتنعة بما تقوله :
-ولا تاني ولا تالت ، ومش عايزة ألمحه أصلًا .. يوم مهبب يوم ما قابلته .
أشاحت ابتسامة تكهنيـة من فدوة :
-مش عارفة ، حاسة أن مش النهاية ، وحاسة إنكم هتتقابلوا تاني ، اللي بيحصل ده تحسي أنه بداية حكاية مش نهايتها خالص ، أو يوم وهيعدي ! ولا أيع رأيك يا جوري!!
أكملت جوري مقدمة اقتراحاتها :
-معقولة !! هتحب الـ اسمه هارون ده !! أدفع نص عمري وأشوف الميكس الغريب ده !! أحيـه بجد !!
-أنتوا مجانين مش كده !!
صوت الأقدار كان يصدح متنبئًا بداخلها مقدمة بعض الاقتراحات ؛ ربما غدًا أو بعد غد، ربما بعد سنينٍ لا تعد.. ربما ذات مساءٍ نلتقي، في طريقٍ عابرٍ دون قصد أنا وأنت أيها الصفيق !! .. تدخلت ليلة معترضة بجملتها الأخيرة وهي تنفي أحلامهم الحمقاء ، فأتبعت بشكٍ :
-احب مين بس !! ده حبه يودي عند عمو عبده التُربي ..دول عيلة مُتخلفة وأعرافهم متخلفة زيهم !! ولما أحب حد هحب الـ اسمه هارون ده !! ده لو آخر رجل في الدنيا ؛ مستحيـــل .
ختمت جملتها بشهقـة عاليـة :
-أحيـه !! مامي بتتكلم آكيد شريف اشتكى لها .. هروح اتهزأ وأرجع لكم .
أنهت المُكالمة بعجـلٍ مع رفيقاتها ، وردت على والدتها بصوت خافض سابقة بالشكوى :
-مامي شوفي الـ شريف عمله !!
استقلت نادية أبو العلا سيارتها متأففة من مواضيع ابنتها التي لا تنتهي منذ رحيل أبيها وقالت موبخة :
-عرفت يا لي لي ، وبصراحة شريف مش غلطان وحقه ، يعني لما يعرف إنك في عربية رجل من أشد أعدائه وبلطجي كمان ، له حق يعمل كل ده !
-على فكرة بقا ، الرجل ده مش بلطجي ولا حاجة ولو عرف يمسك عليه حاجة كان سجنه .. وهو مكذبش ده قال الحقيقة عشان يطلع من التهمة بتاعته لانه كان بيوصلني فعلًا .
فجأة وجدت نفسها بدون إرادة منها تدافع عن ذلك المجهول الذي حطم حياتها ودمر كل شيء ، للحظة ابتلعت بقية كلماتها كأنها أدركت جريمتها الفادحة وهي تضع أطراف أناملها على صغرها كي يصمت ، فاندفعت أمها قائلة بحدة :
-شوفي يا ليلة عايزة تسيبي شريف سيبيه ، بس مش و أنتِ غلطانـة ، مش تربية سامح ونادية حد يستجرى يغلطهـا في العيلة .. هما كلمتين و تنفذي من غير مقاوحة بكرة الصُبح قبل ما ترجعي تكونوا اتصالحتوا ، مفهوم ؟!
كادت أن تعترض ، فقاطعتها نادية بحزم :
-لي لي مش عايزة أخسر أهلي بسببك وبسبب غباوتك ، وبعدين أنتِ عارفة باباه بيخلص لي إجراءات المركز الجديد مش عايزة كمان شُغلي يتعطل بسببك، بكرة تكلموني أنتوا الاتنين سوا .. وبعدين نشوف حوار جوازكم ده كمان .
ثم ختمت حديثها الذي لا يقبل الجدال :
-خدي دواكي ونامي .. واتغطي كويس.
دمدمت باستسلام لانها غير مستعدة لأي جدال آخر مع أنها :
-حاضر يا مامي .
ظننت أنني تخلصت قليلاً من هذا العبء،الذي أحمله في داخلي دون أن أتمكن من التحدُثِ بِه أمام أحد حتى أمي ، شعرت أن هذا الرجل المدعي بهارون هدية القدر لقلبي لقد جاء ليخلصه من مشاعره المزيفة ومن محبسك الذي يخنق أصبعي و كل الأشياء المؤذية التي أحملها وحدي بعد ما رحل عني أحن رجل بالعالم ، لقد كانت أزمتها الحقيقية في إيجاد كتف تستند عليه ، كتف يرفع رأسها المنكسرة .. اتصال أمها زاد الحِمل فوقها وماذا ستفعل كي لا تؤذى أمي بسببها ككل مرة ، لم تجد حلًا سوى لتلك الأقراص التي تُدخلها في غيبوبة لساعات طويلة وبتصالح فعلي مع حقيقة اضطرابها النفسي تبتلع القُرص بابتسامة غريبة وكإنها تُخبر المرض ؛ ها أنا عُدت إليك يا عزيزي .. تستعين بتلك الحبوب كي تهرب من أفكارها ، من ضغوطات الحياة ، أحساس الفشل المُلازم لها !! لم تهتم حتى بتغير ملابسها بل ارتمت بحضن النوم وأخر ما تتذكره هو حديثها الأحمق عن ذلك الرجل .. فصرخت متمردة على أوامر أمها :
-وأخبط دماغك في الحيط يا شريف !!
•••••••••
-“بس مالكش حق يا هارون في اللي عملته ، البت باين عليها بت ناس قوي .”
دلف هيثـم من سيارتـه وهو يوبخ أخيه عما فعله مع تلك المسكينـة متبعًا خُطاه لأعتاب البيت ، فأردف هارون باختصار :
-البت باين عليهـا خبرتها قليل في الدنيـا ، كان لازم تتعلم الدرس عشان تنشف شوية .. مش كل حد تشوفه تدلدق في الكلام .
صفق هيثم ممجدًا أخيـه :
-عليا الطلاج استاذ ورئيس قسـم ..
ثم هام مجددًا بجمال تلك الفتاة وقال بصوت خفيض:
-أنا هلحن ألف قصيدة على حس جمالهـا .. جهز نفسك عشان اسمعهم لك الصُبح .
توقف هارون عن السيـر وهو يحدجه بمكر وعيون ضيقة :
-وحب عمرك ، ورحاب بت عمي وهدان راحت فين ياحنين !
رد هيثم باندفاع :
-قصدك تقصف العُمر ، دي بوزها يجيب الفقر .. خلينا في القشطة.
ربت على كف أخيه بقوة وقال متعمدًا استفزازه :
-لا القشطة دي من حق شريف أبو العلا .
-بركة أنهم فشكلوا !! هي كانت مستحملاه كيف برخامة أمه دي ؟! هارون استنى ..
رمى جملته الأخيرة ودار متجهًا للبيتهم الذي حمحم على أعتابه مستئذنًا ومرحبًا بنجاة ابنة خاله وصغيرها الذي تولى تربيتـه منذ لحظة وفاة ابيه وصاحب عُمره .. أصفر وجه ضيا وهو يقف ليرحب به :
-كيفك يا وِلد عمي ؟
تجاهل سؤاله ومال بشدقه كي يطبع قُبلة على رأس أخته الجالسـة متمتمًا :
-مختفية فين أومال ليكي كذا يوم !
اقترب ضيا منهم وقال متعمدًا إثارة غضبه :
-عروسة عاد مش فاضية لك يا هارون دلوك .. جيه الـ ياخدها منك .
رمقه بنظـرة نافرة :
-ما عاش ولا كان اللي ياخد أختي مني .. لولا بس هي الـ رايداك كنت هقعدها جاري العُمر كله ..
وثبت هيام بعد ما طبعت تلك القُبلة الخفيفة على كف أخيها وسألته بنبرتها الحنونة :
-طمني عليك يا حبيبي ، صحتك زينة !!
تدخل ضيا في حديثهم كي لا يمهلهم فرصة للحديث سويًا :
-تقعدها جارك كيف لامؤاخذة !! أنت مش عايز تشوف عيالها يتنططوا على كتافك إكده ويقولولك يا خال!!
بدّ غضبه يتصاعد مجدد متأففًا ، فنظر إليه وقال بحدة :
-اللي يهمني أشوف الفرحة تتنطط على وشها مش عيالها على كتفي !!
ثم دنى منه خطوة رافعًا سبابته :
-عشان ورب الكعبة لو حصل غير كده يا ضيا ، العزايزة برجالتها بقوانينها مش هيرحموك مني .
اهتزت شفته بابتسامة شاحبة يملأها القلق والتوعد عما ينتويـه لهم ذلك الناقم على مُلكهم للعزايزة والذي سم مخ هذه الفتاة بحديثه المعسول حتى اقنعت أبيها بالزواج منه رغم اعتراض أخواتها.. لاحظت هيام حِدة الحوار بينهم فتدخلت لتُلطف الأجواء كي لا تحدث مشكلة جديدة كعادتهم وهي تربت على كتفه :
-يديم حسك في الدنيا يا أخوي وأفرح بيك وأشوف عيالك مالين علينا البيت .
ثم رمقت ضيا بنظرة تحذيرية إذ لم يتوقف عن جنونه متفاخرة بحماية أخيها لها ؛ فقالت بسلبية كعادتها :
-ولا أيه يا ضيا !!
على الجهة الأخرى تهامست صفية لهيثم الذي تظنه مخبرها السري عن هارون :
-كُنتوا فين ياهيثم أنت وهارون .
مال على آذانها متهامسًا مغيرًا مجرى الحديث :
-انا شفت حتة بت النهاردة يا صفية جمالها يحل من على حبل المشنقة !!
عقدت صفية حاجبيها باكتراث:
-شوفتها فين وتطلع بت مين دي في العزايزة نخطبوها لهارون !!
-هارون مين بس !! لا هي اسكندرانية .. مش من إهنه ، أنتِ لو شوفتيها هتحبيها قوي .
عادت مستفسرة بكهن :
-وهي دي اللي روحتوا تشوفها أنتَ وهارون أخوك .
رفع حاجبه مندهشًا ثم عاد النظر إليها متخابثًا :
-مش سهلة أنتِ يا صفية .. أقول لك أيه ، البت دي ولدك عك في حقها جامد يرضيكي !!
ضربت على صدرها بلهفة :
-ياضنايا يابتي أيه وقعها في طريقه !!
-حظها المنيل ، ولدك البكري دايمًا كاسفنا ياما ومخرب سيرتنا ، أنا لو عزمتها على الغدا بكرة فيها حاجة وأهي نلم سيرتنا اللي تبعترت ياما !!
هتفت صفية متحمسة :
-وماله يا حبيبي ، دي ضيفة وتتشال على كفوف الراحة ، هاتها وأنا أحب على رأسها عشان الـ عملو هارون !!
ثم عقدت حاجبيها متسائلة :
-بس هو عمل أيه !!
حك برأسه وعلى محياه ابتسامة ظفر متأهبًا للرحيل بعد ما نال مُراده :
-مش فاكر ، لما افتكر هبقى أقول لك ….
في تلك الأثناء انصـرف ضيا وصعدت نجاة لغُرفة هيام لتقضي الليلة معها ، لوح هارون لأمه مُلقيًا عليها تحية ما قبل النوم .. اقتربت هيام من أمها بوجه راضي عن الأول ، فسألتها :
-خلاص عقلتي يا بت بطني !
ردت بتوجس وهي تجلس بجوارها :
-ادعي لي ياما ، ادعي عشان أحساسي بيقول حاجات كتيرة مطمنش .
ربتت على كتف صغيرتها :
-ده الشيطان يا عبيطة عايز يبوظ ليلتك ، اطرديه من راسك و افرحي وفرحي قلبي معاكي .. ٦ عيال مفيش حد فيهم فارحني ياهيام .
هزت رأسه متقبلة نصيبها مع ضيا الذي مضغ عنادها وتمردها بكلمتين زائفتين ؛ فتراجعت متسائلة :
-أحنا ليـه معندناش طلاق ياما !! ليه عاداتنا مخالفة لشرع ربنا !
اتسعت عيني صفية بدهشة :
-أعوذ بالله !! العُرف ملهوش دعوة بالدين يا بتي أنتِ هتكفرينا ليه ده مرجع وده مرجع !! الفكرة كلها في أنه ما ينفعش تنامي في فرشة واحد وبعدها تطلقي تنامي في فرشة وِلد عمه دي فيها جُرس وفضايح !! فهمتي .. يلا قومي أقعدي مع نجاة خليها تعقلك شوية وخفي جنان .
•••••••••
~بسيـارة هاشـم .
(قبل عامين)..
تقف رغد بـ المحل الذي ورثته عن أبيها في صناعة التُحف النحاسية والتي تُصنع كلها يدويًا حيث أحبت الزخرفة والأشغال اليدوية وغيرها .. لديها اسمها المميـز بالسوق للذي يتوافد لعنده السياح من كُل صوب وحدب ، حيث ذهبت بذاكرتها لهذا اليوم الذي اعترف فيه بإعجابه لها وتحولت كل شكوكها حول هوية ذلك الرجل المتردد يوميًا على محلها يتعمد خلق الكثير من المواضيع التي تُجبرها أن تقف معه دون غيره من الزبائن بالمكان ..
كانت يومها تقف مع سيدة أجنبيه تشرح لها فنيات القطعة النادرة فجاءت إليها مساعدتها بالمكان وهمست لها :
-بصي كده مين هناك !!
أشاحت بنظرها لعنده فكان واقفًا متكئًا على أحد أعمدة المحل عاقدًا ذراعيه أمام صدره بفظاظة مرتديًا زيه العسكري وعندما ألتقت أعينهم التي تحمل مشاعر مُختلفة فدمدمت :
-طيب خليكِ مع الزبونة وأنا هشوفه .
اقتربت منه بشعرها الغجري وفستانها البسيط فسألتـه بتلك النبرة المتأففة لكثرة تردده عـ مكان عملهـا الخاص ونظراته المتكررة :
-حابب تشتري إيه النهاردة !!
اتكئ مرفقه على ظهر أحد المقاعد النحاسيـة مردفًا بهيام يتوقد من مُقلتيـه :
-مش جاي اشتري المرة دي .. أنا لا غاوي تُحف ولا انتيكات ولا ليـا فيهم من أصلو !!
ثم أرسل لها غمزة خفيفة وأتبع :
-وده سر بيني وبينك !
تعجبت من صراحته وكأنه يعرفها قبل زمن ، رُفع حاجبها بإعتراض وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-كُنت حاسة ، يبقى حبيبتك بتحبهم عشان كده بتيجي تشتري من هنا كُل يوم !أصل مش معقولة ولا هو رمي فلوس على الأرض وخلاص !
يجلي حلقه وهو يقول بتلك الابتسامة الساحرة :
-ياستي لا عندي حبيبة ولا غاوى تُحف ولا تماثيـل ، بس هاوي عنيكي الحلوة دي .. ينفع !!
إنّ الهوى شريك العمى .. ومن يومها وهي وضعت تلك الشريطة السوداء على أعنيها وسلكت معه دروب الحُب بكُل ما تحملها من مشقة وعناء ، تعمق هواه بداخلها للحد الذي تظن فيه أنه يُشاركها ذات الجسد والنبضات ، كأن حبه أصبح روحًا ثانية وُضعت بوريدها ليسكنها دائمًا.
رفعت رأسها المائلة نحو نافذة السيارة عند عودته من المتجر حاملًا بيده الكثير والكثير من الحقائب البلاستيكية الممتلئة بالمقرمشات والعصائر والحلوى التي تفضلها .. ترك الحقائب بالخلف ثم عاد ليجلس بمقعد القيادة راسمًا على محياه ابتسامته التي لا تُفارقه أبدًا معها :
-شايفك سرحتي ، سرحتي في أيه !! بتحبي جديد !
داعبت أناملها خصلات شعرها بتلقائيـة ودارت إليه :
-هكون بفكر في مين غيرك !! وهحب مين بعدك ، أنت قبضت على قلبي يا حضرة الظابط .
-دي أهم وأعظم عملية أنا عملتها فـ حياتي !! أنا جيت لك وأنا شايل كفني على أيدي ، وياقاتل يا مقتول في حُبك !
انفرجت شفتيها بضحكة مسموعـة محاطة بالجهل التـام عما يقصده ويُشير إليها حول أعراف عائلته ، فأتبعت مردفة بحب وهي تغازل وجنته بإبهامها :
-مش للدرجة دي !! معايـا هتعيش وبس ، هتعيش الحُب بكُل أشكاله يا هاشم .. بوعدك .
تحمحم متأهبًا للقيادة :
-طيب عشان الكلام الحلو ده يستاهل مفاجأة اللي محضرها .. اربطي الحزام .
نفذت أوامره بدون إلحاح منها على معرفة المفاجأة التي بباله ، تركت نفسها مع ريح السعادة ليتركها أينما يشاء ، تنهدت بهدوء ثم قالت :
-كنت خايفة كلام فؤاد يقفل لنا اليوم وتكشر وتفضل تعاتب فيا و أنا السبب !
عقد حاجبيه متسائلًا بجدية :
-فؤاد مين !!
زام ثغرها بدهشة لانكاره :
-هاشم !!
أطلق ضحكة ساخرة وهو يُدير مقود سيارته وقال :
-ولا تشغلي بالك ، ده عيل فاضي فرحان بفلوس أبوه .. المرة الجاية فكريني أرنه علقة نسى أبوه يدهاله .
ضحك ملء فمها :
-أنتَ فظيع بجد !! بطل بقا .. ماشي تُجر شكل مع خلق الله !!
رمقها فى غفلة منها وهي تطالع الطريق فـ أجابها بشموخ :
-اللي مش متربي نربيه أحنا يا رغود .. أومال أحنا هنا ليـه !
-ياجامد !!
ثم مالت في جلستها جهته وهي تغرق في كينونة حبهـا الثائر ؛ وقالت بملل :
-هارون أخوك مش ناوي يفرجها علينا ويتجوز بقا .. عايز اتعرف عليهم يا هاشم ، هما أشقية كده زيك ! احكي لي عنهم .
ازداد وجهه بشاشـة عند ذكر اسماء أخواته ، فقال بطلاقة :
-هيثم ده الصايع بتاعنا ، كُل يوم جايب عروسـة لصفية وعايز يتجوزها .. وكل مرة يصمم ويحلف أنها حُب عمره .. الناس تصحى تقول صباح الخير ، هو يصحي يقول عايز اتجوز .
ثم نظر لها مُكملًا بنبرة مشحونة بحبها :
-فنان زيك ، يحب العزف والقصايد والغنى .. متأكد أنكم هتبقوا صُحاب .
كانت تستمع له بمتعة رهيبة ، فتبدلت نبرتـه مُكملًا حديثه عن أخوته :
-هلال بقا عكسه تمامًا ، الشيخ بتاعنا .. في حاله، مدرس لغة عربية في الأزهر وبالليل في الجامع بيحفظ قرآن.. مش بيضحك غير معانا وبس ، أول ما يشم ريحة بنت يتجنن ووشه يجيب ألوان .. هو وهيثم ناقر ونقير طول الوقت ..
أشاحت بنظرها بفضول وقالت مهتمة :
-طيب وهارون !!
-هارون ده حكايـة .. جدع وضهر متين تتسندي عليـه عمره ما يميل ، هو دخل كلية الحقوق وكان حلمه يبقى مستشار عسكري ، حلمنا كان نشتغلوا في مكان واحد في الجيش .. وعمل كده فعلًا ، أربع سنين الأول على دفعتـه .. وخلص جيشه وقدم وعدى كُل الاختبارات، كان عاملها مفاجأة لأبوي عشان يفرحه ويقوله ولدك بقا مستشار .. وقتها أبويا مسكه كُل شغل المحاجر والمصانع والأرض .. ولما النتيجة ظهرت والبلد كلها عرفت أن هارون اتقبل ، أبويا عاند معاه وكان فاكر أنه بيلوي دراعه لما قدم من وراه ولانه ولده الكبير لازم يمسك العُمدية بعده ده القانون .
تعالت ملامح الشفقة على ملامحها :
-يا حرام ، واستغنى عن حلمه بالسهولة دي !!
-من وقتها وهو زي التور اللي بيلف في ساقية ، اتقفل من الحياة واللي فيها ، بقى يخاف يحـب حاجة ويتعلق بيها تروح منه زي حلمه ، حس أنه مش من حقه يحلم !! بقيت كل حياته شُغل ومشاكل .
غمغمت بأسف :
-حقيقي زعلت عليه أوي .. عشان كده بيعاقب كل اللي حواليه ومش عايز يتجوز !!
-اللي عايز حاجه يا رغد يأخدها من حبابي عينين الدنيا ويستقتل عشانها حتى ولو هيموت بعدها ، كفاية يموت بشـرف ، هارون اشترى رضا أبويا على حساب نفسه !! ولو على الجواز مفيش مفر هيروح فين من صفية ، مش هتسيبه .
تبدلتها نبرتها متدللة :
-طيب وهاشـم !! احكي لي عنه !
دار مقود سيارته أقصى اليسار متجهًا لأحد الشواطئ وهو يصف عربيته بقرب البحر وقال بهدوء :
-هاشـم طماع ، ضحك على الدنيـا ومد أيده في قلبها وغرف منها كُل اللي يبسطه وبس .
-مش بحبك من فراغ والله ..
تفقدت المكان حولها :
-أحنا وقفنا هنا ليه ؟!
-مش نفسك في كامب !! هعملك أحلى كامب لوحدنا هنا ، سما وبحر وقمر _قال كلمته الأخيرة قاصدًا وجهها الجميل وهو يرسل لها تلك الغمزة المعتادة من طرف عينيه وأكمل _ أنا جبت كُل حاجة شوفي كده لو في حاجة ناقصة !
دار نحو الباب وفتحته بدون سابق إنذار وهي تركض للجهة الأخرى من السيارة قبل أن تفتح بابه ، سبقها وقبل أن تلمس قدمه الثانية الرمل تحتهم كانت بين يديه بسعادة بالغة كمن لفح بعطور الجنة .. انفرطت مشاعرها أمامه وهي تعانقه بنيران اللوعـة :
-أنتَ أحلى حاجة حصلت لي في حياتي يا هاشم ، أنا خدت نصيبى الحلو كُله من الدنيـا فيك .
••••••••
~في السادسـة صباحًا .
فرغ هيثم من ارتداء ملابسـه الإفرنجيـة ، بنطال باللون الأبيض ويعلوه جاكيت من الجينز الأزرق القاتم وتحته سترته بيضاء وحذاء رياضي باللون الأسود والأزرق معًا ، صفف جدال شعره ونثر عِطره المفضل ، مصفقًا بحماس :
-جيالك يا قشطة !
أخذ مفتاح سيارته وحافظة نقوده وغادر غُرفته ركضًا .. قطع درجات السُلم بعجل وهو يستمع لصوت صفية التي تتحدث مع فردوس مُفكرة في وليمة الغد وتجمع أولادها كُل شهر :
-١٠ أجواز حمام !! قليلين يا فردوس .. ده هارون مش بيقضيه جوزين لروحه .. خليهم ١٥ خلي الحبايب تاكل وتتهنى.. هاشم بيحب البط اتوصي بيه يا فردوس الواد شقيان وطالع عينه من وكل الجيش يا حبة عيني !! ومتنسيش الرقاق عشان بيحبه .. وبلاش أرانب عشان هلال مش بيحب يشوفها على السفرة .
تدخل هيثم معترضًا :
-مسمعتش اسم هيثم يعني !! ولا أنا لقيط في البيت ده !!
ردت بعدم اهتمام :
-ابقى كُل من الموجود ، خير ربنا كتير !!
-يعني أنا اكل الموجود وهما يتعملوهم الوكل مخصوص !! ده في شرع مين ده ؟!
دارت له صفية متناسية أمر الطعام وهي تتفقد ملابسه الجديدة :
-أنتَ رايح فين من النجمة بالحلاوة دي !
شد طرفي جاكته بتفاخر:
-نازل البندر .. تعوزي حاجة !!
-هتعمل أيه في البندر يا هيثم !!
رد بإيجاز وهو يتأهب للذهاب :
-لحقتي تنسي يا صفية !! هجيب لك القشطة زي ما اتفقنا إمبارح .
ثم لوح هاتفًا بعجلٍ :
-سلام ياما وابقى افتكرينى الله يرضى عنك مش واقع من قعر القُفة أنا !!
ضربت كف على الأخر واشتكت همها لفردوس :
-ولاد خليفة هيجننوني يا فردوس .. كل واحد فيهم ماشي بدماغـه ..
ثم تجولت عينيها بالمكان ودمدمت :
-اُسكتي مش هارون ريح قلبي ووافق اخطب له زينة !! يجي هاشم بس ونروح نخطبها من أبوها .. أوعى حد يعرف يا فردوس خليهـا في الستر لحد ما تتم !
هللت فردوس بحماقة :
-يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك ، الله أكبر ، ده طلع الحجاب سره باتع .
-حجاب أيه يا فردوس !!
وصل هيثم للفندق الذي عرف اسمه من هارون والذي تُقيم فيـه ليـلة ، ظل واقفًا أمام البوابة بعد ما تأكد من وجودها بالداخل .. مرت قرابـة الثلاث ساعات حتى دقت ساعة يده أعتاب العاشرة صباحًا .. دلفت ليلة من الفندق بعد ما عملت إخلاء تام منه .. تجر حقيبة فشل حلمها ورائها وهي ترتدي نظارتها السوداء كي تخفي آثار كدمات الخزى من أعينها ، خرجت من البوابة فساعدها موظف الأمن في حمل الحقيبة ، مجرد ما لمحها هيثم اندفع إليها هاتفًا بغزل :
-اللي ربى شكله كان بتاع مربى عشان يجيب الحلاوة دي كُلها .
دارت إليه مُدافعة عن أبيها :
-لا ياخفيف كان لواء ، ولو كان لسه عايش كان زمانه منيمك في الحجز .
ثم نزعت نظارتها الشمسية بدهشـة ساخرة :
-هو أنت !!!
تحرك أمامها بخفة وبتلك الضحكة التي لا تفارق ملامحه :
-اتحجز فـ حُبك أنا راضي ، حتى أرميني في بير غويط و احدفي ورايا ديناميت تطلعلك روحي تقول لك أنا هنا يا عفريت.
خفة روحها المرحة لم تتحمل أن تكتم الضحك بوجهه ، اكتفت بابتسامة عريضة وقالت بسخرية وهي تخطو خطوة للأمام :
-لا دا أنت روش بقا !!
تابع خُطاها مواصلًا أسطوانات غزله :
-لا أنا أعجبك أوي !!
توقفت عن السيـر وسألته مستفسرة :
-أنت هنا بتعمل أيه أصلًا ؟!
-شغلوني حارس اللوكاندة الجديد عشان اخلي بالي من القمر .
-لا ياشيخ ! أخوك الـ باعتك ؟
رد بنفس النبرة الهائمة :
-يكش ما أوعى أشوف جمالك تاني ، مايعرف إني هنا !
زفرت بإمتعاض :
-وأنتَ هنـا عشاني يعني !
-انا هنا عشانك من ٥ الصبح .. طول الليل ماشفتش عيني النوم !
-أبقى غفل شوية الضهر .
ردت بنبرة ساخرة وهي تحمل حقيبة يدها على كتفها مستعدة للرحيل ولكن لم تنكر ملامحها المبتسمة استمتاعها بفُكاهة هيثم ، فأكملت :
-وبعدين مش كفاية الـ عملوا أخوك جاي تكمل المسيرة بتاعته !!
شد النظارة التى تلوح بها من يدها وعلقها بداخل ياقتـه ، وقال بنبرة تحمل اعتذارًا :
-لا جاي أصلح الـ هببه أخوي .. بيني وبينك انا سرسبت هارون وعرفت المشكلة .. وطلع غلطان من ساسه لراسه واللي يقول غير كده ميفهمش ، وأنا جاي اقدم لك اعتذار بصفة رسمية مني وأقول لك تقبلي دعوتي على الغدا النهارده .
رفعت حاجبها مستهزئه وبصوتٍ ساخر :
-لا مش عايزة حاجة منك ولا من النصاب أخوك بتاع الكُفتة .
-قولت لك وحياة العيون الحلوة دي مايعرف .. وبعدين مش ظُلم ده تأخدي الطايع بذنب العاصي ليه !! دانا قاصد خير ..
-عندي سفر ولازم اتحرك دلوقتِ .
أصـر بإلحاح:
-مش هيحصل لحد ما نراضوكي .أنا جاي هنا بأمر من الست صفية بجلالة قدرها .
عضت على شفتها بنفاذ صبر وهي تسحب نظارها المُعلقة بياقة سترته :
-قلت لي اسمك ايه؟!
شد طرفي جاكيته بفظاظة :
-محسوبك هيثم .
-أنت وأخوك مش عايزة أشوف وشكم تاني يا هيثم.
رمت قذيفـة جُملتها وسارت بخطوات واسعة نحو سيارتها المصفوفة أمام الفنـدق ، تلقى الصدمة لبرهة من الزمن ولكنه لم ييأس ، لحق بها ركضًا وهو يقفل باب السيارة الذي فتحته :
-مش هتندمي ،دي صفية عليها شوية حمام محشي هيخلوا صحتك حديد .
دارت له متأففة وقبل أن تنطق كلمة أسرع قائلًا :
-هلففك قنـا شبر شبـر ، وأفرجك عليها وصوري براحتك .. متأكد إنك هتحبيها ، خُديني مرشدك السياحي هنا .
ثم وشوش لها بحذر :
-أنا عارف موضوع الصحافة والإعلان ، لو جيتي معاي هفضح لك العزايزة نفر نفر ..
راقت لها الفكرة ، فاتسعت ابتسامتها تدريجياً عاقدة حاجبيـها وبدون إداركها لسبب قبولها عرض هيثم ، ربما أحست أنها بحاجة لرؤية المدعي باسم هارون مرة ثانيـة ، ربما انساقت وراء فضولها وعروض هيثم المُغرية ، فسألته باهتمام :
-قولت لي صفية بتعمل حمام محشي جامد أوي يعني!!
على الجهـة الأخرى هناك أعين تتلصص النظر إليهما ، ما استقلت السيارة بجوار هيثم قابلة دعوته على الغداء ، أجرى العسكري التابع لشريف مكالمته معه وأخبره :
-شريف بيه ، ليلة هانم خرجت من الفندق ، بس ركبت العربية مع هيثم العزايزي !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)