رواية آصرة العزايزة الفصل الخامس عشر 15 بقلم نهال مصطفى
رواية آصرة العزايزة الجزء الخامس عشر
رواية آصرة العزايزة البارت الخامس عشر
رواية آصرة العزايزة الحلقة الخامسة عشر
لقد كتب غسان كنفاني إلى غادة السمان عندما تمردت على حبه :
-“ولكن قولي لي :
ماذا يستحق أن نخسره في هذه الحياة العابرة؟
تدركين ما أعني!!
“إنّنا في نهاية المطاف سنموت”
وكتب قلبي المكوي بداء التمرد ليُجادلـه بعد عشرات السنوات :
أخطأت هذه المرة يا غسان ، حتمًا الموت هو المصير المنتظر لكُل مولود ولكني أرى دومًا أن المرء لا يموت فقط عندما ينتهى عمره وينقضي أجله ، بل هناك موت من نوع آخر وهو ذلك الحب الذي يلامس القلب ليدثره ويخبره كيف يكون الدفء ثم يرحل ليتركه وحيدًا لصقيع الحياة منتظرًا كفن الموت الحتمي بجسد قُتل بخنجر العشق المسموم .. لا يموت المرء إلا عندما يقتل الحب كُل دواخله ….
فجاء غسان ليُجيب ويُلخص فوضى أقوالي ويؤيدها :
-يبدو أن هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل ..
مازالت الأجواء بالداخل يعُمها الفرح وترنيم الغناء الصعيدي وبعض الهتافات المعتادة ، تتراقص الفرحة على وجوه الجميع ما عدا العروس ، الشاردة في عالم آخر غير عالمهم ، غِصة قلبها تعوق شعورها بالفرحة ؛ نوبة من الهلع لمصيرها المنتظر الذي لا تعلم عواقبة ، ابتسامات مزيفة ترسلها لمن يوجه لها المباركات .. انسحبت من أجواء الرقص والفرحة لتجلس على مقعدها تُراقب الناس عن بُعد ، سيدات النجع والقبيلة اللاتي لا يجتمعن إلا في الأفراح والمناسبات العائليـة ، الأعين متلصصة نحوها ونحو هاجر أختها التي يتهامس عليها السيدات ، كل منهما تريد أن تظفر بها لابنها …
وعلى الجهة الأخرى كانت زينة تتفقد المعازيـم وتعرفهم بنفسها وبكنيتها الجديدة وزواجها القريب من كبير العائلة هارون العزايزي ، كانت تتمايل بغنج بين السيدات بشعرها الأسود الذي يغطى ظهرها بأكمله حتى أوقفتها سيدة فضولية لا يشع من عينيها إلا الحقد :
-وعلى إكده لبسك ولا بعد فرحة أخته ..
ترنحت بدلال أنثوي وهي تتفاخر بينهن :
-لسه هنچيبوا الشبكة قِريب ، أصل سي هارون موصي الجواهرچي على شبكة عِليوي شيع يجيبها من بحري ..
ثم تمايل عودها كمن يراقصه هواء الكبرياء ؛ وأكملت :
-أصلو قال لي مراة العُمدة لازمًا تلبس غير الكُل ، طبعًا ماهي هتبقى الكبيرة وكلمتها مسموعة..
ألتوى ثغر السيدة العجوز بسخط وهي تتمايل على الأخرى لتهمس في أذانها بعد ما انشغلت زينة في الحديث مع سيدة غيرهن :
-حظ الملايح في صفايح، وحظ القبايح في السما لايح .. شوفتي يا بهيجة البخت !!
فتهامست الأخرى وهي تفحص زينة من رأسها للكاحل وقالت :
-بس البت ملفوفة وحِلوة وطول بعرض ..
-بس نبتها غبرة وقلبها أسود ، دي بت بتاعت مشاكل مش طالعة لأمها ، أمها دي آية ، أنا عارفة صفية ملقيتش غيرها !!
لكزتها الثانية لتصمت :
-طب وطي حِسك ، وبصي على العروسة شكلها مچبورة على الچوازة ، بوزها ممدود شبرين ..
حانت نظرة من عين السيدة صوب هيام الشاردة :
-ومين يقدر يغصبها هما أخواتها شوية !! تلاقيها مكسوفة زي البنات …
ظل الحديث يدور في ساقية همسـه حتى ظهرت “ليلة” من غُرفة أحلام التي كانت تساعدها في السير إثر رُكبتها الموجوعة ، بعد ما ذهبت لها بدلًا من هاجر التي انشغلت مع المعازيم .. حِدق من الأعين المتسعة انفرجت نحو تلك الفتاة التي يشع البياض من وجهها كأنها جاءت من بلاد لا تشرق فيها الشمس ، ملامحها البريئة التي يزينها القليل من مستحضرات التجميل ، شعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها ، شالها الصوف المتناسق مع لون عباءتها والملفوف حول عنقها .. مع ذلك الجلباب الأشبه بالقفطان المغربي بعدساتها اللاصقة الرمادية التي تتجول هنا وهناك بإحراج … حتى مالت نحو أحلام متهامسة بخجل :
-طنت أحلام هما بيبصوا عليا كده ليه ؟! أنا شكلي فيه حاجة !
وشوشت لها أحلام :
-ده عشان أحلى منهم يا عبيطة ، أبقى خُشي لفردوس چوة تبخرك أحسن عنيهم تندب فيها رصاصة ..
ساعدتها ” ليلة ” في الجلوس وهي تستقبل نصيحتها بابتسامة واسعة وهي تومئ بالإيجاب ، هنا سُحب بساط الأضواء من تحت أقدام زينة وباتت النظرات كلها تتصوب نحو تلك الغزالة المجهولة التي تقطن في بيت خليفة ، الجميع يتهامس ويتساءل عمن تكون هذه الفتاة التي أبدع الخالق في تصورها ..
~بالمطبخ ..
جمر الغضب يتوقد من بين ثنايا وجهه ولكنه أجبر أن يتعامـل بهدوء كأن مازال لمخططه بقيـة بعد ، أخذ هارون يفتش في رفوف المطبخ وهو يتساءل :
-فردوس ؛ البن بتاعي في منه إهنه ، چايين ناس مهمـين وعاوز القهوجي يعمل منيها ..
تحركت فردوس المشغولة بصُنع الحنـاء لتنزع قفازات يدها البلاستيكية وتبحث معه على علبة البن مُؤكده إنها ما زالت هنا .. في تلك اللحظة جاءت ” ليلة ” على سجيتهـا دون علمها بأنه موجودًا بالمكان ولكن ربما خلقت للقلوب أعين تبصر بها ما لا تبصره العين وهي تتفوه بعفوية لتلك السيدة التي تعرفت عليها في صباح اليوم ، دخلت وهي تحرر حلقها العالق مع شالها الصوفي :
-داده فردوس ، طنت أحلام بتقولك بخريني عشان الناس اللي برة تندب في عينهم رصاصة !!
هتف فردوس على الفور :
-اسم الله عليكِ ؛ حصوة مِلح في عينيهم ، تعالى تعالي !! ما أنتِ الصلاة على النبي عليكي مفكيش غلطة .. يحرسك ويصونك يا أميرة يابت الأمراء.
دار هارون بتلقائية عند سماعه لصوتها لتسقط عيناه على حوريـة جاءت من الجنة لمرمى أنظاره على الفور ، لتقع عيناه على أجمل إمراة يراها بعمره ، ربما خُلقن الكثير من الجميلات ولكن مقاييس الجمال عند القلب فريدة للغاية ، قط يصور لصحابها أنها أجمل جميلات الأرض ويهنئ الفؤاد نفسه إنه نال حظه الوفير بها ، تحمحم بخفوت وهو لا يستطيع مقاومة سحرها في زيها الصعيدي وقال ليشتت انتباه عقله الذي استقر عندها :
-أحلام بس بتحب تچامل اللي حبايبها ..
حالها لم يختلف عن حالة السُكر التي أصابته عند رؤيتها ، بل تفاقم الأمر وتراقص القلب عند رؤيته وكإنما خُلق له جناحين من نسل أهدابه الشائكة ، تزحزحت الأنظار عنه وهي تشكو لفردوس :
-صحيح الكلام ده يا دادة !! يعني أنا مش حلوة وطنت أحلام بتجاملني !!
عاتبته فردوس :
-مالكش حق يا سي هارون ، بقا فرخ الحمام النمساوي دهوت فيه بعده حديت !
حدجته ليلة بانتصار :
-عندك حق يا دادة ، واضح أن جناب العمدة محتاج يروح لدكتور عيون .. يظبط له الرؤية .
ختمت جملتهـا بشهقة كبيرة عند رؤيتها للحنـة فأقبلت نحوها بلهفة :
-الله حِنة !! أنا بعشقها وبعشق ريحتها .
مسحت فردوس على ظهرها بإعجاب :
-عكس سي هارون ، ده مش عيطيق ريحتها .. والود وده يقلبها دِلوق .. مش شايفاه مزرزر كيف!
ما ذكر اسمه فأصابها داء الثرثرة من جديد ، نصبت قامتها واقتربت منه وهو يقاتل نفسه بألا يناظرها وقالت بدلال وهي تقعد ذراعيها أمام صدرها وترفع جفونها لأعلى لتسائله :
-أنت على طول كده كاره كُل حاجة !! وبعدين فيك ؟! أومال بتحب أيه على كده ؟!
رد بجمود :
-أنا حُر …
-لا مش حُر في دي بالذات ، عمرك سألت نفسك ليه العروسة لازم تحط حنـة قبل فرحها ، والعريس كذلك .
تأرجحت عيني فردوس وهي تراقبهم بنظرات متلألئة وكأنها تشاهد فيلم كرتوني أمامها ، هذا لست هارون الرجل اليافع الصلد الذي تربى تحت عينيها ، يقف أمام تلك التي لم يتجاوز طولها المائة وستون سنتيمتر وهي تلقنه درسًا في الحكايات ، عاد ليبحث عن قهوته كي يهرب من سطو عينيه المنجذبة لها دومًا :
-لا ، ومش عاوز أعرف ..
تحركت لتقف أمامه لتُجبره على سماعها:
-مش بمزاجك بس أنا لازم أعرفك ، وأعرف دادة فردوس ؛ آكيد هي كمان متعرفش .. وحتى تعرف خطيبتك عشان تحس إنك مهتم بتفاصيلهم الصغيرة دي .
هرولت فردوس لعندهم بحماس :
-ما تسيبها تقول يا سي هارون ، قولي قولي ..
رمقته بنظرة انتصار وهي تُعلن التحدي أمامه وقالت وهي لم تحرك عينيها من عليه :
-أصل يا دادة الأسطورة بتقول …..
رفع حاجبه والضحكة مرسومة على ثغره متعجبًا :
-أساطير تاني!! أنت ما عتزهقيش ؟!
-وأنت زعلان ليـه !! ولا عشان حضرة العمدة مش بيحب حد ينافسه في معلوماته ! وأنت مش عندك معلومة .. فبتحس بالجهل قُصادي ؟
رد هارون نافيًا :
-لا عشان مش ناقصة خوتة ، عاوز اسمع كلام يتعقل .. ويدخل النفوخ .
استند كفها على رُخامة المطبخ وهي تناطحه مع اقترابها منها أكثر :
-اسمع وبعدين احكم ..
جاء صوت فردوس من الخلف متحمسًا :
-كملي يا ست البنات ، طول عمري عاوزة أعرف السبب بتاع الحِنة ..
تناظره بتحـدٍ وهي تقول بنبرة تجبره على سماعها :
-زمان .. أيام الفراعنة ” إيزيس ” لما جوزها ” أوزوريس ” مات .. وهي بتجمع كل أشلاءه صُبغت يدها كلها باللون الأحمر ، فالفراعنة اعتبروه كنوع من أنواع الوفاء والحب والإخلاص ..
ثم اقترب منه إنشًا وهي تُكمل بنفس النظر الثاقبة التي تخترق قلبه :
-ومن وقتها طلعت العادة أن العريس والعروسة لازم يحطوا حنة كرمز للوفاء ما بينهم وإنها هتفضل تحبه طول العمر ..
-حديت فارغ ، يعني أنا لو محطتش حِنة هطلع عين الست اللي هتچوزها !!
رغم إعجابه بما قالته إلا أنا كبريائه لم يسمح له بالاعتراف والهزيمة ، قال جملته الأخيرة متعمدًا اثارة غضبها بهدوءه المعتاد مما جعلها تعانده وتقول :
-سبق وقولتلك دي اسطورة يعني عايز تصدقها صدقها مش عايز براحتك ، لكن ده مش يديك الحق تنفي وجودها ..
صاحت فردوس من الخلف :
-كلامك كله دهب يا ست ليلة ، عتقول كلام حلو قوي يا سي هارون ..
ما زالت حبال نظرات التحدي متواصلة بينهم حتى هتف قائلًا :
-القهوة يا فردوس ، ريحة الحِنة كتمت على صدري ..
ثم صاحت بنفس النبرة وكأنها تنافسـه :
-تعالى بخريني يا فردوس ، عشان اللي عنده معلومات قيمة الزمن ده زيي بيتحسد ..
تمتم بسخط !!
-هيتحسد على ايه يعني !! دي تخاريف .. دانا شفقان عليكِ .
هتفت متوعدة بدون نيـة منها لذلك :
-تخاريف بحبها ، وهفضل وراك لحد ما تحبها أنت كمان …
هارون بنصح :
-طلعيني من راسك !
سبقت عفويتها منطوق لسانها :
-لا أنت مش جوة أصلًا عشان أخرجك منها !!
غرق في ضباب عينيها الرمادية وغمغم متعمدًا إثارة غضبها كعادته :
-ربنا يشفيكي !!
تدخلت فردوس كي توقف فصل العناد بينهمـا ؛ ولكنها زادت من الطين بلل :
-چرالك أيه يا هارون بيه !! من ميتى عتعمل عقلك بعقل الحريم !!
سكبت فردوس فوق رأسه دلو من الماء المثلج عندما طرحت على مسامعه سؤالها الذي تجول بعقله للحظات يتساءل:-لِم يناطحها الحديث هكذا على غير العادة !!!!
في تلك اللحظة جاءت زينـة لتجعل من فردوس :
-ماتشهلي يا فردوس ..
فابتلعت كلماتها عندما سقطت أنظارها على الثنائي المتقارب من بعضه البعض وبينهما نظرات واضحة للأعمى ، فتبدلت نبرة صوتها وحركاتها هي تعبث بشعرها لتُلملمه كله على كتفها الأيمن وتقول بخجل مزيف :
-سي هارون ، أنت إهنه .. ما دتنيش ليه حس أجيلك ..
ثم دنت منهم لتتوسط موقفهم بدلال وهي تغازل شعرها :
-تؤمر بحاچة يا سيد الناس ، ولا انا وحشتك چيت تشوفني !!
تدخلت ليلة بدون وجه حق :
-لا جيه ياخد القهوة بتاعته ..
للحظة راق له رد ليلة الذي بدله على الفور وهو يرمقها زينة بسخط ونفر قلبه من قربها وهو يقول بصوت متهدج :
-غطي راسك قِدامي يا زينـة ، لساتني غريب عنِكِ .
-يووه يادي العيبة يا سي هارون ، ما أنت راچلي وكلها كام شهر ونتچوزوا ..
-ااه لما نتچوزوا أبقى أعملي اللي عاوزاه لكن دلوق مش عاوز أشوف المسخرة دي !!
قال جملته الأخيرة وهو ينسحب من المكان عند قدومها إثر غُمة قلبه التي هجمت مرة واحدة، رغم بقائه لفترة طويلة مع ليلة التي يسمع لحديثها الذي لا يعتقد فيه ولكن بناءً على رغبة قلبه اختار مجاوراتها والإنصات لها ، انصرف هارون من المكان تحت نظرات ليلة المعجبة ونظرات زينة الفارحة بعبط المغرور وهي تروي لفردوس :
-شوفتي بعينك يا فردوس غيرته عليّ ، مش مستحمل حد غيره يشوف شعري .. يالهوي على الحُب وسنينه !!
-متأكدة أنها حُب وغيره !!
طالعتها ليلة بنظرات غريبة مزيج من الشفقة والتعجب ودمدمت متأهبة للذهاب :
-أنتِ كمان محتاجة تروحي لدكتور عيون يظبط لك الرادار زي اللي اسمه سي هارون بتاعك .
دبت زينة على صدرها بدهشة :
-يقطعني !! ماله هارون يا فردوس هو عيان !! ولا المقصوفة دي عتفول عليه !!
انكمشت ملامح فردوس التي كان ينبت منها زهر الضحك أمام ليلة وهارون ، تبدلت ملامحها على الفور وهي تحمل الحنة وتقول لها بملل:
-الحنة أهي يا ستِ زينة !!!
•••••••••••••••
~بالخارج ..
-هويش ، ركـز معاي عقولك سيبك من المحمول .
أقبل نحو وهو يتخذ أنفاسـه من شِدة الركض ليزف لأخيه الخبـر العاجل ، أغلق هاشم هاتفه أثناء مراسلتـه مع رغد وقال بتأفف :
-مادامت قولت هويش دي يبقى جايب خبر زي وشك ..
مسح هيثم على صدره وهو يقفز ليقعد جار أخيه وهو يمسح المكان بأعينه كي لا يسمعه أحد :
-أنا لمحت حتـة بت يا بوووي ، چمالها يدوخ يا وِلد أبوي ..
امتص سخريته الثائرة عليه وفعل أجواء الجدية :
-نط لـ صفية تخطبهالك ، يلا حلاوتها في حموتها يا جدع قبل ما تشوف الأنقح منها !! ألحق نفسك .
-بص أنا هرقدلها لحدت ما تطلع إكده ولا إكده وهعرف هي بت مين فـ النجع ونخطبوها ، الليلة يا هاشم .
تبعه وهو يقول بجدية مزيفة:
-الليـلة يا وِلد أبوي ..
وضع ساق على الأخرى وقال حالمًا :
-هبقى عريس !!
-روح أنتَ بس اقطر البت الأول عشان لو عجبتني أنا كمان هنتشاركوا عليها.
لهتفه لم تمهله الفرصة ليعقل الكلمة بل وثب متحمسًا وهو يقول :
-قُضيت … راچعلك .
تابعه صوت هاشم الساخر :
-منصور ان شاء الله ..
ثم تمتم في سره :
-أخوي ولازمًا استحمل جنانه ، الحريم هوسته .
ظل هيثم يحوم حول بيتهم وبالأخص الساحـة التي يجتمعن فيهـا السيدات يتلصص النظر هُنا وهناك عساه أن يلتقى بمراده .. انتبهت له ليلة المندسة في حِمى أحلام من سطو نظرات السيدات حولها وأسئلتهم الكثيرة عن هويتها حيث كانت أحلام متولي مهمة الجواب ، وثبت ” ليلة ” من مكانها لفضولها الذي جذبها نحو أعين هيثم المرتبكة بهدوء ، وفي أحد زوايا المنزل تمايلت إحدى السيدات على أذان زينة التي لم تتوقف عن الرقص والغناء وكأنها هي العروس :
-قوليلي هي مين البت اللي لابسه أحمر دي ؟!
لقد ملت زينة من كثرة السؤال عن شخص ليلة ، فغمغمت بإجابتها المعتادة :
-دي واحدة من بحري عمتى صفية جابتها عشان تساعد فردوس في شغل البيت ، خدامة يعني ..
خيمت نظرات الشك حول ملامح وجه السيدة وهي تقول بسخط :
-بقا الأميرة بت الأمراء دي خدامة !!
ردت بجزعٍ وبنبرة يقينة لصدق كذبها :
-وأنا هكدب عليكِ ليه ! روحي اساليها بنفسك وسيبني ارقص ..
كانت تتفقد المكان حولها كاللصـة وهي تُقبل نحو هيثم المتواري خلف احد الأعمدة ويلوح لها ، حتى وقفت أمامه تتساءل :
-أخدت بالي إنك بتدور على حاجة !!في حاجة وقعت منك ؟!
-قلبي وقع مني ومش لاقيه يا ليلة .
قال جملتـه وهو يضع كفه فوق قلبه مترنحًا بهيام ، فتراجعت خطوة للوراء متبعة نهجه وهي تتفقد المكان حولهم بمزاحٍ :
-وقع هنا يعني ممكن ندور عليه سوا !!
اتسعت ابتسامتـه وهو يشكو لها صبابته :
-هو اتخلع لما شافك ، ووقع وتاه لما شافها !
أسبلت عينيها بدهاء وهي تُشير لها بسبابتها :
-هيثم أنتَ بتتكلم عن بنت ؟! صح ، حبيبتك جوه هنا في الفرح وحابب تشـوفها ؟!
-نبيـه ، والله ما حد هيفهمني كدك ..أنا قولت .
-طيب هي اسمها ايه ادخل انادي عليها ، أنت ممنوع تدخل جوه صح ؟!
صاح هيثم مادحًا :
-عليّ النعمة أنتِ چدعة وبمية راچل وخدتي قلبي من ساعة ما شوفتك .
تمتمت بحماقة :
-هو أنت كمان شايفني راجل بشنب زي أخوك العمدة ده ؟!
-يخربيته !! هو قال لك راچل بشنب ؟!
-وات إيڤر مش بالظبط ، بس يعتبر قالها ؟!
دنى منها خطوة وهو يعازلها بعينيه المفضوحة :
-معذور أصلو عمرهُ ماشاف ستات على حق قبل إكده ! فالعداد عنده ضرب لما شافك .
خرجت الكلمات من بين شفتيها المنتفضة لتنبس وراء تلك الفتاة التي بات وجودها يزعجها كثيرًا :
-وهي خطيبته دي مش ستات !
-لا زينة دي نسوان !!لما تقابلها تكون عاوز تنسى اليوم اللي شوفتها فيه وتنسى الصنف كله ..
أطلقت تلك الضحكة المسموعة والمتوارية خلف أناملها وهي تصفه :
-هيثم أنت مشكلة بجد !!
-سيبك أنتِ ، الچلابية الصعيدي هتاكل منك حتة .. ومش حتت ، قولي ليه ؟!
ثم دنى منها خطوة ليسرد بعينيه المعجبة :
-لان باقي الحتت كلهم عشاني !!
من نظرات هيثم المغازلة التي اعتادت على الضحك معه تفهمت أن مقصد حديثـه يشير لمغزى أخر ، فهبت محتمية بذكر اسم الرجل الوحيد الذي وثقت به دون ان يمنحها وسام الثقة لذلك :
-أنا هشتكيك للعمده وأقوله أخوك هيثم بيعاكسني ؟!
-ليه ؟! وأنا سايبك معاه كُل ديه ومحاولش حتى يصف ابداع الخالق فما خلق ؟! يخربيت فقره !
-لا حضرة العُمدة متربي جدًا .
-ديه خايب چدًا ..
هنـا أطلق صدى صوت دهشته عندما سقطت عينيه على فتاته التي تعثر بلقائها قبل دقائق خارجة من ساحة البيت وهي تتحدث بالهاتف ، وعلى الجهة الأخرى هارون الذي لم يتحمل وقوفها مع أخيه أكثر من ذلك محتجًا بالصورة العامة وحرصًا على تشويه سمعة ليـلة وأهل بيته ، قطع الخطوات بغضب يسكن رأسه وقلبـه عندما طالت مدة وقوفهـم ، وهو تحيرت عيني هيثم بين الجنة والنار ، بين السماء والأرض وهو يشكو لليلة :
-أوبا القمر على شمالي ، والنيازك على يميني ، أروح على فين بسرعة ؟دي فرصتي الأخيرة ..
تأرجحت أعين ليلة في الجهتين لتقول مرتبكة :
-أحيه ،ده أخوك جاي علينا !! هو بيجي على السيرة ولا أيـه !!
-هيعلقني !!
قبل أن تطأ أقدام هارون لعندهم ، هب هيثم بالحـل :
-روحي اصطدمي بـ النيازك الله يعينك لحدت ما ما أجيب أنا القمر في حِچري .
-هتودينـا في داهية ! أنا بسمع كلامك ليـه ؟!
قالت جُملتها وهي تهرول لتصطدم بهارون قبل أن يفشل مخطط أخيه .. تفرق مجمع الاثنين في خطين منعكسيـن لكل منهما يرتطم بهدفه ، اقترب هيثم من الفتاة ذات الوجه المستدير كالقمر والأعين الخضراء الساطعة كالنجوم وهو يستغل دخلاته القديمة المستوحاه من الأفلام العربية:
-لقـد أعلنت هيئة الأرصاد الجوية عن اختفاء القـمر ، قولت أما أچي رمح ألحقك أحسن يمسكوكي !!
جاء هيثم من الخلف مردفًا جملته الأولى على آذان تلك الفتاة ذات الجسد الممتلئ وحجابها الذي يزين ملامحها و التي لا يعرف حتى اسمها ، دارت له الفتاة وهي تنهي مكالمتها وترمقه بعدم فهم :
-أنت عم هيثم صُوح !
-والله ما في حد عم الناس كُلهم غيرك ! اسمك أيه الأول وبت مين ؟!
-أنا خلود بت الحج عارف …
-ااااه ، عمي الحچ عارف !! ده حبيبي ، أنتِ مخطوبة يا خلود ، ولا في حد قايل عليكِ عشان أقطع خبره من على وش الأرض ؟
انكمشت معالم وجه الفتاة إثر اسئلته الكثيرة وقالت بسذاجة :
-أنا لساتني في الإعداديـة يا عم هيثم ، وناوية أخش الكُلية .
تفحصها من رأسها للكاحل وهو يندهش حول بنيتها الأنثوية حيت تفوه ساخطًا :
-وأما أنتِ لساتك في الإعدادية ، القالب قالب عشريني و جرجرني ليه !!
رمقته بحماقة :
-عتقول حاچة يا عم هيثم ؟!
تلقى صدمته وخيبته بضيق :
-عم أيه عاد !! قوليلي يا حچ هيثم !!!
وصلت لهارون في مسافة خطوات معدودة وهي تمسك بكفه بلهفة وتسحبه في الجهة المعاكسة كي تشتت انتباه عن أفعال هيثم الدنيئة ، هبت مهلوفة بدون ترتيب :
-هارون بيه ! كويس إنك جيت لسه كنت بسأل هيثم عليك !! تعالى تعالى عايزة أقول لك حاجة مهمة ومحدش هيعرف يحلها غيرك ..
لم تمنحه الفرصة حتى للمعارضة ، بل سحبـته ببراءتها كي تخدع مناطق عقله المتمردة دومًا ، فانساق القلب خلف عفويتها كما تتبع الفراشات مسار الرحيق ، وقف الاثنان بأحد الزوايـا المتوارية عن الأعين إلى حد ما ، وهنا كان الاختبار الحقيقي لأكذوبة “ليلة” التي كيف ستُكملهـا لمواجـهة دهاء الطوفان الذي يملكه ، كانت مرتكبة لا تعرف من أين ستبدأ ولكن قلبها سهل عليها الطريق وقطع درب المسافـة ؛ طافت في حدق عينيه المتسائلة وهي تقرأهم :
-شكلك مضايـق !!
ثم قفزت في رأسها جُملة ” غوين ” الشهيـرة من الفيلم الكارتوني ” الهجرة ” متقمصة تلك الشخصية التي تُشبه عفويتها كثيرًا وأكملت لتكسر فخارية ارتباكها واكاذيبها عليه بخفة دمها المعتادة وأكملت بروح تلك الطفلة التي تسكنها ممثلة دور “غوين” ببراعة :
-شكلك مضايق .. وأنت ؛ وأنت محتاج حضن .
غرقت في وادٍ ضحكها وتاه هو في سحر عفويتهـا ، لأول مرة يحظى بامراة في سجيتها وجمال روحهـا ، وقع جملة ” أنت محتاج حضن ” كانت كخيوط العنكبوت حول قلبه وكأنه جاء ليُعلن ملكيته للمكان ، فنسجت حوله جدارًا فاصلًا بينه وبين الجميـع ، أفاقت من غيبوبة ضحكتها فرسيت على معالم وجهه الجامدة المتصلبـة التي تغرق فيها بدون أدني تلميح منه ، فأدركت أنها وقعت بورطة أخرى بسبب عفويتهـا ، فبررت بارتباك :
1
-دي غوين قالت كده في فيلم migration .. أنت ما شوفتش الفيلم ولا ايه !! آكيد مش هحضنك بس ده إيفيه مشهور جدًا ..
ثم رجعت خصلات شعرها للوراء إثر توترها البالغ :
-أي الرخامة دي !! كمان هشرح لك الإيفيه !!!
رد بجمـود :
-كُنتِ عايزة أيه ؟!
تنسات كل شيء و أجابته :
-أنا ؟! مش عايزة أي حاجة خالص … هكون عايزة أيه يعني !!انا ايه جابني هنـا أصلا !!
-أنتِ نساية ليـه !!
ما ذاب أثر “ليلة” بالساحة أشعل نيران الغيرة برأس “زينة” التي تغير من نسمة الهواء المحيطة بهارون ، رمت الوشاح على رأسها وأخذت تتفقد المكان باحثـة عنهـا في كل صوب وحدب حتى لاحظتهم من بعيدًا ، فجاءت نحوهم ركضًا وهي تلوح بكفها الذي تُثقله الأساور الذهبية :
-جرالك ايه يا سُهنـة أنتِ !! وأنا كُل ما عيني تغفل عنِكِ أجي ألقاكي واقعة على ودان چوزي وشغاله لوكلوك !! هما اللي اختشـوا ماتوا ولا أيه !! لا عقولك أيه اظبط وإلا ورب الكعبة معنديش غير الشبشب !!
هلع قلب “ليلة” من اقتحام ” زينة” الثائر عليهما ففرت للتتحامى بكتفه على الفور وكإنه بات مكان مأمنها الدائم .. وقف هارون بوجهه وبنظراته الصارمة ليضع لها حدًا :
-ما تبطلي هلفطة إنتِ چرى لعقلك أيه !!
-أوعا ياهارون دي كهن نسوان وأنا قارياها زين !! تعاليلي .
رفع سبابته بوجهه :
-يمين عظيم يا زينة لو ما دخلتي چوة واحترمتي نفسك لأفض مشوارنا ده كله ، أنا مش ناقص خوته .
ندبت على صدرها بدهشة :
-يا ندامتي !! لا لا … اتكتمت أهو وربنا ما هحرك لساني – ثم تلفظت بحرقة – بس البت المسهوكة دي كانت عاوزة منك أيه ؟!!!
جاء هاشم مهرولًا من الخلف :
-ايه يا هارون سايبني مع الرجالة – ثم تفحصت عينيه حول زينة وليلة حيث قال مغازلًا في ليلة – وواقف هنا مع الغزالة ! ولا هما عيچوا زاحفين للكارفين !!
فلحق بهِ هلال الذي لاحظ موقفهم فجاء ليتساءل على هيثم :
-أين هيثـم ؟!
هبت زينة لتبث شكوى أخيه وهي ترمقها بسخط :
-احضرنا يا هاشم ويا شيخنا تعالى شوف أخوك عاوز يسيبني عشان دي ؟!
حانت من ها نظرة سريعة نحو ليلة :
-عيفهم ..
خاب رجاؤها من هاشم فتعلقت بتقوى هلال :
-يرضيك يا شيخنا !!
تحمحم بهدوء وهو يطالع هاشم أخيه ليمزاحه كعتادهم معًا :
-يالله !! لقد رُد له بصـره .
فعادت لتشكو همها لهارون الكاظم لضحكه :
-شايف أخواتك عيتمقلدو عليّ يا هارون !!
فانضم لهم صوت هيثم من الخلف حاملًا أسفار خيبته :
-مزعلين زيّنو ليه ؟!
-أنت اللي هتنصفني يا هيثم ، تعالى شوف حال أخوك مش عاجبه إني غيرانه عليه وعيحلف عليّ يسيبني عشان البت دي ..
هتفت من وراءه بلماضة :
-دي ليها اسم على فكرة ، اسمي ليلة ، اتعلمي الذوق شوية بقا ..
أيدها هيثم الواقع برقة ليلة :
-ما تسمعي الحديت وتتعلمي منيها .. عتتكلم صُح .
ونظر لهارون واعظًا وهو يرسل نحو زينة القليل من النظرات الماكرة :
-هِرن يا خوي اشتري مني ، اللي ما تعرفش تغيره بدله ..
فأيده الشيخ هلال الذي يسحب أخيه من بينهم :
-وتذكر قول الله تعالى ” يبدل الله سيئاتهم حسنات “
ربت هاشم على كتف أخيه بمزاح وهو يراقب ليلة التي تقف على يمينه وزينة التي تقيم على يساره :
-الله يفتح عليك يا مولانا .. اتوكل على الله يا هارون وكن من أهل اليميـن ….
نفذ صبر هارون من سخافات إخوته فجهر وهو يطالع هاتفه كالمنتظر لقدوم شيء مهم :
-هنفضلوا نتسايروا إكده وسايبين أبوكم ، أنتوا التلاتة قِدامي ولو لمحت فيكم واحد غايب ما هحله ..
جاءت نجاة تركض على نفس واحد وهي تقول بفزع :
-هارون ألحق ، هيام شغالة تبكي وسابت الحنة وعتقول مش عاوزة تتچوز .. وعمتي عاوز الشيخ هلال يرقيها شكلها خدت عين …
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)