رواية آصرة العزايزة الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهال مصطفى
رواية آصرة العزايزة الجزء الحادي عشر
رواية آصرة العزايزة البارت الحادي عشر
رواية آصرة العزايزة الحلقة الحادية عشر
🍁 الآصرة الحادية عشـر 🍁
“سيذوبُ ثلجُ العمر يا ليلى
وحزنكِ لن يذوبُ
وسيسقطُ التّفاحُ على سريركِ الباكي
ورمّانُ الجنوب
والأرضُ تُسبِلُ راحتيها حين تُهرِمُ
روحَكِ الثكلى
ويكتئِب الغروب”
#لقائلهـا ….
•••••••••••••
جُملة من الصناديق الورقية المرصوصة بجوار بعضها البعض .. والممتلئة بالخضروات والفواكه بكميات كافية أن تفتح سوقا .. ثم أتت فردوس خلف اثنتين من الفتيات الحاملين صناديق اللحوم المختلفة .. أعدت صفية زيارة تليق بابنها العمدة والتي تتناسب بمقامهم وتهشيلا لابنة أخيها التي ستصبح كنية لها .. جاءت صفية من ورائهم :
-ها يافردوس ناقص حاجة نشيعوا نجيبوها ؟!
شرعت فردوس بعدّ كراتين الزيارة :
-لا ياست صفية .. خير ربنا كاتير ..ناقص بس يجي واحد من الولد يقلهـا ويروحوا لبيت الحج صالح ..
دارت صفية لتتوسل لابنتها :
-يا هاجر شوفي لي أخوتك فين من الصُبح يا بتي مش واعية ولا واحد فيهم لا العريس رجع .. ولا التانيين جم ؟؟
جثت هاجر على ركبيتها تكشف عن تفاصيل الزيارة الضخمة وهي تفتش بفضول:
-اش اش ؟! ده كله عشان زينة يااما ؟! ليه دي واقعة من غير حاجة ..كلفتي روحك .
-وهو أخوكي شوية في البلد ؟! ده هارون العزايزي يجيب الدنيا كلها تحت رجلين مرته ..
ثم ربتت على ظهرها متوسلة :
-جدعة بتي رني لي عليهم .. الأربع رجالة الأرض انشقت وبلعتهم !!
ثم نظرت لفردوس :
-وانت يا فردوس .. نادي على الولد يقلوا الحاجات دي تروح لصحابها ..
ثم صاحت متذكرة شيئا مهما :
-رني يابت على هارون خليه يجيب حلاوة معاه من البندر .. عقلك غاب فين يا صفية ..
انضمت لهم هيام التي تتمسك بيد مازن ابن نجاة التي تركته وذهبت لعملها بالوحدة الصحية الخاصة بالنجع :
-خير ياما ؟! ايه كل الحاجات دي ؟؟
صاحت هاجر بضحكة ساخرة :
-ماهو فرح العمدة عاد ؟! يابت المحظوظة يا زينة !!
ثم مالت على أمها ناصحة :
-حظها في السما لايح زينة عشان عندها عمة زيك ياصفية .. ماهي وسايط وأنا مين بس يتوسطلي ويجيب لي عريس كيف هارون أخوي ؟!
لكزتها صفية بغل :
-ما تتحشمي يابت !! لساته نصيبك مدقش الباب .. مستعجلة علي ايه ركزي في تعليمك ..رني على اخوكي وخفي رط .
-يعني مفضفضش معاكِ ياما ؛ وبعدين أنا هتخطب ميتى ؟! هو مفيش حد قايل عليّ ياصفية دانا بتك آخر العنقود وعاوزة افرحك ..
-لما ينكتب في السما ،هينزل على الخطاب العمى يا ضنايا ويچولك .
تأرجحت عينيها بذهول لإهانة أمها :
-هو أنا بتك ولا لقياني قصاد چامع ياصفية ، طب والله لاشتكيكي لأحلام هي اللي عتاخدلي حقي منك .
تدخلت هيام بينهم وقالت :
-هارون وهاشم محدش فيهم تليفونه مچمع ياما .. دا انا جاية اسالكم عليهم .
تشبثت صفية برأسها وشرعت فقرة النواح :
-ااه ياني على بختك المايل في عيالك ياصفية …
*************
وصل كل من هلال وهيثم لمنزل المرحوم أبو الفضل إثر تمسك الأخير برأيه .. يخطو هلال في زيه الأزهري ولكن كانت خطوات هيثم سابقة له .. دفع الباب الحديدي الموارب وهو يصفق مناديا:
-يا خالة أم رقية .. يا دكتورة ..
أمسك به هلال :
-صوتك صوتك .. اخفضه للبيوت حُرمة ..
رد الأخير بحماقة
-لا مفيش حريم غير رقية وأمها !! عقولك ايه أنا مش طايقك من ساعة ما حشتني عن ولد المركوب ديه كُنت لخبطت له وشه أكتر ما هو ملخبط ..
-لا تتنمر على خلق الخالق .
لوح بكفه متجاهلًا نصيحته وقال :
-مش هتنمر يا شيخ ، لكن هلعن سلسافيل أهله الضلالي ولد الحرام دهوت ..
ضرب هلال كف على الأخر :
-قالها سعد زغلول من قبل ” مفيش فايدة ” ..
كانت صفاء تجلس مع أختها على الاريكة الخشبية الملاصقة لحائط البيت وما أن سمعت صوت نداء هيثم شدت غطاء رأسها وركضت مرحبة به :
-تعالى تعالى اتفضل يا هيثم .. نورتنا يا حبيبي …
هرول هيثم ليُقبل على كف تلك السيدة صاحبة الخمسين عام وهي تربت على كتفه :
-حبتك العافية يا غالي ..
ثم امتد بصرها لذلك الشخص الذي يقف خافضا أنظاره بالأرض بتأدب فقالت متسائلة :
-هلال أخوك مش إكده !!.. يا مرحب بيكم .
وضع هلال كفه على صدره وانحني بتأدب ليعلن عدم رغبته بسلام اليـد متبعا السُنة .. تفهمت الخالة صفاء الأمر وقالت :
-ما تيجي اتفضل يا شيخ هلال .. دا احنا زارنا النبي .. تعالوا تعالوا ..
حدج أخيه بعتب وهو يتمتم بالصلاة على النبي بسره ويتبع خطاهم للحديقة الصغيرة المحيطة بالبيت الريفي.. سلم هيثم على الخالة حنان الجالسة ثم صافح ابنها صاحب الخمسة عشر عام والذي وثب لاستقبالهما .. جلس الجميع حتى انفعل هيثم قائلا :
-رقية ملهاش حق في اللي عملته ديه يا خالة .. يعني ايه متقولش أن بكر قل أدبه عليها ..وده كلام !! الحديت الماسخ ديه يحصل وفي حكم خليفة العزايزي !! ليه هي سيماا!!
تحسرت صفاء على حال ابنتها وصاحت قائلة :
-هنعلموا ايه ياهيثم يا ولدي .. اتنين ولاية مكسورين الجناح ..وهو مفتري ومش مبطل مرازية ..
في تلك اللحظة التي جاءت فيها رقية تحمل مائدة الشاي التي اعتدته لخالتها .. تفوه هلال الذي لم يرفع عينيه من الأرض :
-نحن حذرناه بالحسنى وباذن الله تعالى لم يتعرض لها بسوء والا سيجدنا أمامه.. اطمئني يا أمي ..
فتحت صفاء كفيها وهي تدعو له :
-يسلم فومك يا ولدي والله ما عارفة أدوي جميلكم فين .. هم وانزاح ..
فتدخل هيثم مكملا :
-لولا هلال منعني عنه كان زماننا هنصلو عليه العصر ..
أسرعت رقية في خطاها ووضعت الكاسات على المنضدة الخشبية ورمقت هلال بنفور :
-ومين قالك اننا محتاجين مساعدتك يا فضيلة الشيخ .. أنا عارفة أخد حقي كيف ..
برقت عيني أمها معترضة على اسلوبها الغير لائق مما جعل هلال الذي يصارع هواه كي لا يرفع عينيه لعندها .. تدخل هيثم لاختلاطه الزائد بها ومعرفته الجيدة برقية :
-واحنا روحنا فين ؟ مالك سايقة العوج أكده مش انا ماكد عليكي لو اتعرض لك تقوليلي بس .
زفرت رقية بامتعاض وهي تلقي نظرة خاطفة صوب تلك الاعين التي تحصي حبات الرمل تحتها وقالت :
-تشكر يا هيثم بس أنا مكنتش حابة اتعب حد معاي ..
شرع هيثم أن يعنفها معترضا على قولها فأمسك هلال بمعصمه ووثب معتذرا ومازالت جفونه لم تلمح الا طرف نعالها وقال :
-الواجب لا يتطلب صوت استغاثة يا أخت رقية وهذا واجبنا .. بدء من هارون أخي لهيثم .. نحن لم نفعل الا الواجب والمفروض ..
ثم مالت راسه نحو صفاء المحرجة من جفاء ابنتها وقلة تأدبها :
-بالإذن يا أمي .. وأي خدمة نحن تحت الأمر والطلب ..
وقفت صفاء رافضة رحيلهم :
-على فين !! والشاي ؟ ده محدش في البلد كلها بيعمل شاي في حلاوة شاي رقية ..
اعتذر هلال بتادب :
-اعذريني يا أمي .. صلاة العصر أوشكت …
تدخل بدر ابن السيدة حنان الجالسة تراقب هلال بانبهار .. تتفقد نقاء ثوبه ورائحة الطيب والمسك الفواحة منه .. مسبحته التي تنخرط بيده .. وجهه الذي يشع نورا لحيته البنية التي تزيده وسامة .. فقطعه بدر قائلا :
-لازما تقعدو وتشربوا الشاي .. ده واجبكم .. وكمان عندي سؤال يا شيخ هلال محيرني ومش لاقي له جواب ..
ثم نظر لرقية وأكمل :
-سالت رقية قالت لي متعرفش وهتدورلي .. ومش ععرف اتحدت معاك بالدرس ..
حدجته رقية التي هزمها ذلك الولد أمامه وقل من شأنها :
-بدر قولت لك هتأكد من الجواب وأقول لك .. سيب فضيلة الشيخ يلحق صلاة العصر ..
تبسم هلال بهدوء وهو يشد المقعد البلاستيكي ويجلس فوقه ويده تناولت كوب الشاي الساخن وكأنه يُعاندها ، وقال :
-اجلس يا بدر .. ما سؤالك ؟
زفرت رقية بغضب إثر عناده وتجاهل كلامها فعقدت يديها أمام صدرها بحنق واخذت تهز ساقها بتوتر إثر هزيمتها الملحوظة امامه .. فهمس لها هيثم :
-أنتو مش طايقين بعضيكم ليه؟؟هو عمل لك أيه عقدك منه !! ده هلال ديه بركة بيتنا .
فتمتمت له :
-هو اللي حاطط راسه براسي !!
برقت صفاء لابنتها كي تصمت وتتأدب وتدخلت لتلطف الأجواء :
-اقعد ياهيثم واقف ليه ؟! وانت يا رقية روحي هاتي فاكهة للضيوف..
رفع هلال يده معترضا على رحيلها :
-دعيها تستمع لنا كي تستفيد …
همس هيثم لرقية ممازحا كي يضحك وجهها :
-استمعي له يا ستي ..
نظر هلال باهتمام للواد وقال :
-تفضل ..
-إمبارح كان عندينا حفظ سورة يوسف .. بس في آية أنا مش فاهمها ..
-آيه رقم كام ؟!
فتدخلت رقية لساعد الولد وكتدخل منها بحوارهم الذي يشعلها فضول وغيظا متعمدة احراجه :
-الآيه 93 ..
بسرعة بديهة استحضر الاية بذهنه متفهما نيتها في احراجه وقال بصوته الهاديء بعد ما استعاذ بالله من الشيطان:
– اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
ثم تبسم وهو يتسائل :
-ما سؤالك يا بدر ؟؟
دمدم لها هيثم محذرًا بمزاح :
-بلاش تضربيه في منطقته .. مش هتطلعي سليمة .. هيدشملني أنا وأنتِ .
أكمل بدر سؤاله الذي قطع رد رقية على هيثـم :
-هو ليه سيدنا يوسف مدعاش ربنا أنه يردله بصر أبيه .. لكنه قالهم خدو القميص وهو هيفتح .. اشمعنا القميص ديه !!
تسلطت أذان الجميع بفضول يريدون معرفة جواب هلال على سؤاله .. تحمحم هيثم الذي حك ذقنه متهامسا:
-الواد ده ما يحفظ وهو ساكت !! ليه الفزلكة دي …!!فكرك هيجاوب !!
غمغمت رقية بنبرتها الخافتة :
-مش عامل فيها شيخ !! المفروض يجاوب ..ويقنعنا .
هتف هلال احتراما لمجلسه مع الولد وهو يقصد بجملته صوت همهمة رقية :
-الصوت يا هيثم ..
ثم أكمل حواره مع بدر وسأله بهدوء يُدخل على القلب راحة لا توصف :
-أنت الأول عارف قصة القميص ده أيه ؟!
فتدخلت رقية من الخلف :
-مش ديه كان لابسه سيدنا يوسف يوم ما أخوته رموه بالبير!!
-أجل … لكنك تعلمين ما قصة القميص ولمن ينتمي ؟!
لكت الكلمات بثغر رقية التي انهت دراستها الازهرية عند المرحلة الإعدادية قبل ان تنتقل للمدارس الحكومية .. فلجات للصمت لتدع له الفرصة للحديث .. فسأله بدر :
-لمن القميص ؟
-صاحب القميص سيدنا إبراهيم عليه السلام .
اتسع بؤبؤ عيني الولد وهو يتساءل :
-وكيف وصل لسيدنا يوسف …
-قبل أن أخبرك بكيف وصل .. ساخبرك من أين جاء .. تتذكر وقت ما أمر النمرود بإلقاء سيدنا إبراهيم عاريا بالنار لانه تمرد على عبادتهم للأصنام ودمرها ..وأمروا بحرقه .
فأكمل بدر روي القصة :
-ووقتها خرج سيدنا ابراهيم من النار وبيده فاكهة ويقال أنها عنب ومرتدي ملابسه كاملة ..
أيده هِلال القول وهو يقول :
-الله يفتح عليك .. نزل عليه جبريل بهذا القميص وطنفسة ( حصير) من الجنة .. هذا هو القميص الذي توارثه كلٌ من سيدنا إسحاق ويعقوب الذي كان يخشى العين على يوسف .. وحوله لقصبة من فضة وعلقها بعنق ابنه كي تحفظه ..
ذهل الطفل مما سمع بملامح مشدوهة حتى ربت هلال على كتفه واكمل :
-وقتها جيه جبريل لسيدنا يوسف وأمره أن يرسل له القميص ديه ، والسبب لان به ريح من الجنة لا يقع على مريض إلا شفاه ..
كاد أن يقطعه الطفل ولكنه اوقفه بلطف واكمل :
-وفي قول آخر : ان القميص كان علامة ليعقوب لصدق اخوة سيدنا يوسف .. ودي كانت من معجزات يوسف ويعقوب التي لا يعلم اسرارها الا الله .. فهمت يا بدر !!
صاح هيثم فخورا باخيه :
-عليَ النعمة أنت مش هلال العزايزي .. ده أنت محمد الشعراوي بجلالة قدره .
ثم همس لرقية بمزاح :
-كسفتينا !!
-بس يا هيثم ..وبعدين هو قال أيه منا كُنت عارفة بس ناسية ..
رد مستهزءًا بها :
-أيوة منا خدت بالي !! رُقية اتلهي .
نهض هلال من مكانه متأهبا للذهاب وبعد ما تبادل التحية مع الموجودين قال:
-استئذن لصلاة العصر .. وأي أمر يتعلق بالمدعي بكر بلغيني يا أمي ..
ثم اخفض أنظاره بالأرض مغادرًا المكان على عجل تاركا الحيرة والغضب يحومان حول رأس رقية التي هُزمت في تلك المعركة الثقافية الدائرة بينهما كإنه يرد لها هزيمته عندما كشفت أمره واتهمته بالكذب من قبل …
•••••••••
~بالجبـــل .
بعد إلحـاح رهيب منهـا وإصرارها على الذهاب معـه حيثما يذهب بحجة أنها أتت لتكتشف تفاصيـل المكان ولست لتُسجن بين الجدران .. صف سيارته تحت سفح الجبـل وأكد عليهـا وهو يفصـل هاتفه من وصلـة الشاحن :
-هنزل أشوف الرچالة ، متتحركيش من مكانك مش عاوز حد يشـوفك ..
عارضتـه بتمرد :
-وفيها أيه لما يشوفوني !! هو أنا شَكلي وحش !
-وماله شكلك بس !!! ما تريحي راسك دي هبابة يا ستي !!
تأفف باعتراض ، فرفع كفه كي يجبرها على الإنصات إليه :
-مش عاوزهم يطلعوا سُمعة عليّ أن العمدة ماشي يتسرمح مع واحدة غريبة ..
-بس أحنا بنشتغل مش بنتسرمح !! وبعدين عيب الكلمة دي متقولهاش تاني!!
رفع حاجبه على ضفة اعتراضه متذكرًا كلمتها التي لا تخلو من حديثها :
-هي دي الـ عيب !! الصبـر ياصاحب الصبـر .. سمعتي !!
-يعني هقعد محبوسة كـده فالعربية !! آكيد هزهق .
رد بجمود وهو يجلب من الخلف سلة ” السندوتشات ” التي لم تُكملها بعد :
-لما تزهقي كُلي .. اتسلي في الوكَل ياستي .
-ولما اتخن ان شاء الله !!
انكسرت عينيه بنظرة فاحصـة بدون رغبة منـه وهو يتفقد تفاصيـل جسدها الذي لم يتجاوز وزن الستين وقال بسخطٍ :
-أنتِ محتاچة تتعلفـي .. مش تاكلي زينا.
قال جُملتـه ورجله اليسرى متدليـة من السيارة متأهبًا للمغادرة ، أصابت الكلمة ملامحهـا التي انكمشت فجأة وهي تردد بصدمة بدمدمة :
-تتعلفي !! أحيه !! هو أنا بقـرة !!
ثم تمسكت بكفه كي ينتظر ليُجيبها قبل أن يذهب :
-استنى ايه تتعلفي دي !! أنتَ شايفني أيه !! على فكرة أنا وزني مثالي جدًا وكُل صُحابي بيحسدوني عليـه .. وبعدين في أسلوب أرقى من كده تتكلم بيه معايا ولازم تفرق بين معاملتك معايـا ومعاملتك مع غِيم !!
زحزحت ثرثرتها شيء ما ساكن بجوفـه لا يدركـه ولكن بدَ طيفه في تلك الابتسامة المخفية التي شع ضوءها على وجهه وهو يقول بنبرته المزيفـة التي آتت معاكسة لدواخلـه :
-سمعتي قولت أيه ما شوفش طيفك برة العربيـة .. مفهوم !
تأرجحت مُقلتيها بعدم اقتناع إثر تجاهله لحديثها واسئلتها السابقة التي تفتح بينهما دروبًا من الحوار وتمتمت :
-اوكيه …
هبط سيارته ورزع بابها بقوة .. ذهب إلى العمالة بالمحجـر فأوقفه رنين هاتفه من أحد معارفه المهمين بالبلد .. رد مُرحبًا بالرجل كإنه كان منتظرًا هاتفه على أحر مش الجمر .. فأردف الرجل قائلًا :
-هارون بيـه ورق هيثم أخوك عدى وكله تمام ومن أول الشهر هيستلم شغله في فرع البنك التابع له النجع ..
شكره هارون بعرفان إثر وفاءه بوعده لاخيه بتعينه بأحد البنوك المصرفيـة المتعلقة بمجال دراسته ، الخبر سرب نسيم الارتياح لمداخل قلبـه وجهر مناديًا ليحمس العمالة :
-شِدوا حيـلكم يا ولد الشمس قربت تغيب ..
لم تطق ليلة الانتظار بالسيـارة أكثر من ذلك ، راق لها شكل الجبـل والأحجـار وحركة العمالة بالمكان ، حسمت أمرها وعلقت ” الكاميرا ” برقبتهـا ثم هبطت لتلتقط بعض الصور الفوتوغرافية بالمكان .. سرحت في الخُطى هنا وهناك حتى لفت انتباهها صوت صياح هارون الأجهر وهو ينحني ليُعلم الفتى كيف يحمل القفة بالطريقـة الصحيح .. لفحها على كتفه ونصحه قائلًا :
-تحمل على كف يدك وكتفك مع بعض .. لو حملت على كتفك بس ضهرك هيتقسم .. فهمت ، يلا وريني هتشيـل كيف ..
لم تجـد نفسها إلا مبتسمة وهي تلتقط له بعض الصور المسروقة متجاهلة وقوفها بمنتصف الجسر المخصص لسير العربات ، حذر الفتى قائلًا :
-شوف وراك يا عُمدة دي عتصـور ..
ابتدرت عيناه عند رؤيتها معاتبًا نفسه عن تلك الورطة التي تورط بها بكامل ارادته ، اندفع لعندها وهو يلوح بذراعه :
-أنتِ عتعملي أيه !!
ردت بعفوية:
-أنتَ شايف أيه !!
-شايفك عتصوريني !! و في مكاني من غير أذني يعني جريمة تانية ..
تركت الكاميرا معلقة برقبتها وقالت بامتعاض :
-واخد اذنك ليه أنا معايا كارنيه مزاولة المهنة !! تحب تشوفه ؟!
-يا صبر الصبـر !!
ثم عاد إليها آمرا :
-الصور دي تتمسح !
-ياسلام ؟! ليه بقى ؟!
-من غير ليه .. تتمسح ؛ عاوزة تصوري هاخدك المكان اللي تصوري فيـه لكن مش إهنه ..
استسلمت لرغبـته بدون اقتناع كما اعتادت وقالت بصوت خافت:
-هابقي اشوف !!
أصر على رأيه :
-قولت تتمسح ودلوق ..
فتحت الكاميرا مجبرة وشرعت في حذف الصـور أمام عينيه انشغال الاثنان بشاشة الكاميرا وإذن بعربة نصف نقل مُحملة بالرجال آتيـه لعندهم باقصى سرعة ممكنـة فانحرف مقود السيارة عمدا جهة هارون الواقف مع ضيفتـه ، قبل الحدث بجزء من الثانية رفرفت جناحي عباءته الصعيدية حولها ليقطفها من خصرها النحيل كالزهرة من بستانها ويديرها بعيدًا عن الطريق لحمايتها تحت صوت صرختها المستغيثة باتت في لحظة تحت سمائه مختبئة بسياج صدره ومظلل عليها بعباءته التي كانت حصنًا لها من الأتربة وتلك النفوس الخبيثة المتعمدة أن تطولها .. فصلًا متكاملًا من الأمان كسا بدنها ؛ كفين متعلقين برجل اجتمعت به سمات الرجولة .. خيمة صغيرة للغاية حدودها بين ذراعيـه ومظلته الآمنة لقلبي الذي اعتاد الخوف .. أقل من دقيقة عاشت فيهـا كيف تكون شكل الحياة الحقيقية …
لم يلتفت لتلك الجميلة التي امتزج عطرها بعطره بقدر اهتمامه بهويـة صاحب العربة .. ابعدها عن حضنه وهي ما زالت مخدرة بما حدث .. أين كانت وكيف جاءت لحضنه وما تلك المشاعر المضطربة التي ملأتها في ظرف دقيقة وأقل .. وقفت خلفه واضعة كفها على فمها من هول الصدمة وتراقبه وهو يصيح :
-أنتَ ادبيت !! مش تنتبه يا أعمى.
هبط خضر ولد سويلم من سيارته وخلفه مجموعة مع الخفر المُسلحين ، أدرك هارون ما حدث كان بقصد ونية عند رؤيته لهوية ذلك الشخص الناقم عليه دومًا .. شمر خضر أكمام جلبابه الفضفاضة وهو يقول بمكر :
-أحنا أسفين جنابك !! الوِلد لساته عيتعلم السواقة جديد .
وقف أمامه زائرًا بغضبه :
-وچاي تعلمه السواقة في مُطرحي !!
-لا چايلك أنتِ يا عُمدة .. التلاتين فدان اللي اشتريتهم قِبلي حلال عليـك وأنا مسامح ؛ لكن حق أخوي اللي ضربت عليه نار في فرحه دي ميتسكتش عليها واصل !!
ارتاح وجهها عندما تذكـر فعلته السابقة التي جاءت منه كرد إعتبار له وقال بمكر :
-وهو أنتوا اضرب عليكم نار !! لا ما تقولش ؟؟ طب مفيش عيار طايش إكده ولا إكده رشق في حد منيكم !!
تحداه خضر بملامح لا تدل على الخير أبدًا :
-العيار الطايش بكرة نوجهوه ونعرفوه طريقه زين .. عشان يبقى صايب مش طايش..
حدجه بنفور :
-لم المساليب بتوعك واتقلع من إهنه .. عشان على قولك الطايش بكلمة مني هخليه صايب ..
قهقهه خضـر بخبثه المحيط بعينيه وهو يرمق ليلة نظرة شرانية :
-وماله !! الأيام بينـا يا ولد العزايزي !!
اكتفى هارون بنظرته الحادة التي زحزحت خطى رجال خضـر وهو يدور ليفارق المكان هامسًا لابن عمه بخبثٍ :
-مين العصفورة الملونة اللي معاه !! هو العُمدة ناوي يلعب بديله ويلغي الأعراف بتاعتهم !!
حك الأخير ذقنه قائلًا :
-مخابرش ، بس هجيب لك قرارها ..
دار هارون لـ ليلة المحتمية بظهره ليطمن على حالتها فوجدها تتحسس درجة حرارة وجنتها المحمرة بأطراف أصابعها فسألها :
-فيكي حاچة !!
اكتفت أن تحرك رأسها يمينًا ويسارًا نافية أي عارض بها سوى جملة المشاعر المضطربة التي احتلتها فجاة عندما لامس قلبها نبض قلبه وكأن ” الواي فاي ” الرباني تشابك مع جهازه الذي خُلقه منه .. تمتمت بتوجس وهي تتشبث برأسها الصادحة :
-ممكن أروح للعربيـة ..
سار معها متبعًا خُطاها ثم فتح لها الباب قائلًا :
-اركبي ، أدي أخرة كلامي اللي ما عيتسمعش !!
ثم قفل الباب بغل محدثًا صوتًا عاليًا ارعبها .. دار ليجلس بمقعده بالجهة الأخرى فوجدها تفتش بحقيبتها على علبة الدواء وطلبت منه كي يحضر لها زجاجة الماء من الوراء :
-ممكن تديني ميه !!
نفذ رغبتها فوجدها تهذى مع نفسهـا سرًا فسألها :
– في حاچة وقعت منك !!
-علبة الدواء اللي بعد الغدا ، شكلي نسيتها في الأوضة !!
ثم قفلت جفونها المتعبـة من صدح التوتر الذي يضرب برأسها :
-انا ازاي نسيتها !
أشفقت عيناه على حالتها فسألها بنبرة حنونة إثر حال وجهه المرهق:
-دوا لأيه !! في أيه بيوچعك !
-ده دوا للتوتر العصبي اللي عندي ، ولو مأخدتهوش بحس بألم جامد في جسمي ، هو بيخفف من الآلام دي ..
أمسك بعُلبة الدواء الثانية التي بيدها وقرأ الاسم ولكنه لم يتوصل لأي شيء ، أمسك بهاتفه كي يبحث عن اسم الدواء الذي تأخذه ولكنـه تراجع إثر رنين هاتفه الذي قطع مجال بحثه؛ رد باختناق :
-أيوة يا هيام ، عارف وفاكر أن في زفت فاتحة هتتقري الليلة وچاي ، قولي لصفية تبطل خوتة وتكِن !!
ردت هيام بلهفة :
-لا يا هارون أنا مكلماك عشان حاچة تانيـة ، بس مش هتنفع في التلفيون ..
-ماشي يا هيام .. لما أچي هفوت عليكي ..
قفل مع أخته ثم عاد لتلك المسكينة التي تتألم بجانبـه فتراجع عن محتوى البحث وسألها :
-طيب قوليلي حاسة بأيه دِلوق يمكن أقدر اساعدك لسه الطريق للبيت عاوزله ساعة ..
ردت بتلك النبرة المتعبـة :
-الفكرة إني اتخضيت بس من الغبي اللي كان بيسوق وهيخبطني ، فـ جسمي بيتعامل مع الخضة كأنها حالة عدوانية بيعبر عنها بالارتباك والألم وكل مفاصلي تنبض وبتوجعني ..
فتح لها قارورة الماء وهو يسب خضر سرًر ومدها لها :
-طب خدي اشربي ميـة .. وطالما الموضوع نفسي مش حاجة عضوية يبقى أمره سهل ياستي .
تناولت زجاجة الماء من يده بكفها المرتعش وقالت :
-ازاي !!
عاد ليدير سيارتها ويغادر المكان :
-هوديكي أكتر مكان تريحي فيه أعصابك التعبانة دي وتصوري على راحتك ، مكان هينسيكي تعب اليوم كله مش الرجفة بس ..
•••••••••
“قد يَنسى المرءُ ليّاليه التي جَعلتْ مِنهُ رمادًا
لكن يُستحال أن يَنسى مَنْ أَوقدَ حرائقه بقلبـه ..
خرجت “نجـاة” من الوحدة الصحيـة بعد إنهائها لعمـلها بعد ساعات طويلة من التعـب ؛ تحركت صوب المكان الذي صفت به سيارة زوجها المتوفي والتي ورثتها من بعده أمتدت يدها لفتح الباب ولكن سُرعان ما جاءت يد رؤوف من خلفها لتقفله ، دارت لترى هوية الفاعل فتحول صوت تمردها لشهقـة عاليـة وهي تتمتم حروف اسمه وتتقلب مُقلتيها يمينًا ويسـارًا .. فوبخته معترضة وهي تبتعد عنه خطوة :
-رؤوف أنت اتچننت !! چاي لحدت إهنه مش خايف حد يشوفنـا .
-ليّ ساعة واقف مستنيكِ تطلعي ، فكرك هتهربي مني لميتى ؟!
ثم قطع تلك الخطوة التي ابتعدتها عنه وقال :
-چيـه علينـا الزمن اللي تخبي عيونك مني يا نوجه .
تأرجحت مُقلتيها المحملتين بالدموع وهي تتحاشي النظر له :
-عشان خاطر النبي بَعد يا رؤوف .. لو شافونا هتحصل مُشكِلة گبيرة .. لو ليـا خاطر عندك ..
استند بيده على نافذة سيارتها وهو يقر مُعلنـا :
-ليكِ حُب وشوق وخاطر يغرقـوا قلوب العذرا ويفيضوا .. لساتك عـ تسألي !!
قشعر بدنها من لذة كلماته التي لم تذوق شهد الحب إلا بسماعها منه .. ارتفع صدرها ثم هبط مرة آخرى وهي تتوسله بحزن :
-رؤوف ، متعلقش نفسك بيّ ، روح اتچوز وعيش حياتك ، بنات العزايزة على قفا من يشيل .. سيبني أنا وولدي لحالنا ، أنا رضيت بنصيبي .
-وأنا عُمري ما هرضى أن يدي تتحط فـ حلال ربنا على واحدة غيرك ..
ثم رفع كفه بوجهها وأكمل بعجـزٍ:
-اسمعي يا نچاة، من الأول وأنا غِلطت في حقك وقلت لك إني مش عايز اتچوز دلوق ، كُنت مغفل وفرطت فيكي بيدي ، أنا هعيش عمري كُله مستنيكي لغاية ما تبقي لي على سنة ربك ورسوله .
خرت دموعها وهي تتذكر لياليها الماضية التي تلوت في لهب الحُب الذي عاشته مع شخص لم تتمناه أبـدًا .. وقالت بضعف :
-في حاچات لو فات وقتها المناسب ما ينفعش تتعاد تاني حتى ولو فوتت العُمر كله وأنت مستنيهـا !! شطة كبريت ماينفعش تولعه مرتين .. انساني يا رؤوف .
ثم دارت ضهرها لتفتـح باب السيارة الذي قفله عنوة والدماء تفور بعروقـه مُردفًا بقـوة :
-هي محاولة أخيرة ولو منفعتش ؛ ومن غير يمين يا نچاة لاخدك أنتِ وولدك من خشـم السبع .. فاهمة ..
ثم أخفض نبرتـه اللاهثة وأكمل :
-جهزي روحك هنتجوزوا قُريب …
تركها بعد ما رمى قذيفـته بمنتصف قَلبهـا وغادر ، أعلن عليها الحُب والحرب وترك لها نار و شرار الأمل التي لا يحرق غيرها .. قلوب مكوية بجمر الحُب الذي لم يكتمل ، حُب دق البـاب وما أن كنت تتأهب لتفتح له والشغف يملأك فجاة رحل ولم تجد وراء الباب إلا سراب !!
ولو سألتني عن الحب سأخبرك عن عدد القلوب المتحولة لرماد بعد رحيله .. عن معنى الخيبـة الحقيقية التي تجرعتها الروح عن هزيمتها منه !!
سأرتشف رشفة خفيفة من قهوتي وأخبرك بعدها عن عدد المرات التي ظننت فيها أنني نسيتك ولكن ما زال صوتك, وصورتك, ورسائلك, هزمتني العُظمى كلّ الأغاني التي تحكي عنا , القصائد التي كتبها أناس قبل أن يولد حبنا بمئات السنوات والطرقات الأماكن التي مررنا بها معًا ..
كل هذا مازال يهزمني ولكني نسيتك حقًا ..
لو سألتني عن الحب لأجبتك بأعين يفيض منها الدمع وشفاه مرتعشـة ، أنه مجموعة من الأوهام التي لا يمكننا أن نحيا بدونها..
•••••••••
إن أسوأ شعور قد يمـر على الانسـان ؛ هو عجزه .. عند الوقوف أمام وجعه وجهًا لوجه ولا يستطيع وصفـه .. لا يمكنه الصُراخ من شدة تمزق روحه المتعبة والمشتتـة .
أنت تعلم أن الحياة رائعة وترى عيناك روعتها ولكنهـا قاسيـة جدًا عليـك .. لا تستطيع إخبار أحد كيف مضت أيامك وكيف أهدرت أجمل سنوات العُمر عبثًا وألمًا !! حتى أنني فقدت أملي بالحُلم الذي تغذيت عليه حتى تحولت حياتي لأكبر كذبـة وددت التخلص منها بأسرع وقت ، حياة أساسها الحُلم لا واقع له إلا بمخيلتي ، كل شيء بها وهمي حتى أنا .. أشك في حقيقة وجودي لهذه اللحظة ..
رغم إني حاولت كثيرًا كي أجد نورًا خافتًا يُنير دربي المُعتم ولو كان مؤقتًا او مزيفًا .. وفي نهاية المطاف تصالحت تمامًا مع حياتي القاسية و أيضًا تأكدت بـ إنني خُلقت بلا حظ بلا نصيب يمكن أن يُسعدني بعد ، ولدت تعيسة ، أمر غاية القسوة ولكنني تقبلته و تجاوزته كما تجاوزت رغبة الحُلم الذي لم يكن يفارقني أبدًا .
تجلس فوق قمـة الجبل ؛ في ذلك المكان المميز الذي صلحـه هارون وجعله كمكان ترفيهي يزوره القليل من الناس .. استصلحه وجعله منارة مميزة بقلب الصحراء وكأنه قطعة من الجنـة ، خضرة وورود تحاصر المكان وخيم صغيرة .. نافورة من الماء تتوسط المكان تحاوطه الأنوار من كل صوب وحدب .. مكان مُعد بجميع المتطلبات الآدميـة .. كانت تقف تُراقب الحياة من أعلى كطير حُر حلق بالسـماء كي يستمتع بجمال الحياة من بعيد .. تقف على الحافة بجفون مُغلقة وذراعين يطايرهما الهواء تتحدث مع رب الكون وتشكو له همها بصمـت لا يقطعه الا التنهيدات ..
كان يجلس على الطاولة خلفها يختلس لها النظرات من حين لآخر ، أمامه ثلاثة أكواب من بقايا الشاي الذي شربه وفنجانين من القهوة وعدد كبير من بقايا لفافات التبغ .. تركها مع نفسها كما اعتاد ان يفعل عندما يضيق به الحـال، دعها حرة مع الطبيعة بدون ضجيج بشري .. مرت ساعتين وهي بنفس الوضعية لا تتزحزح حتى أردفت جملتها الأخيرة بضعف وقلة حيلة :
-يا رب حِل كُل حاجة بقى عشان أنا تعبت أوي ..يارب أيامي الجاية تكون حلوة .
ثم دارت نحوه بخطوات هادئة وشدت المقعد لتجلس مقابله وقالت بامتنان:
-المكان تحفة .. متتصورش أنا هديت ازاي ، في راحة متتوصفش هنا .. بجد شكرًا ليك لإنك ساعدتني ..
ثم سقطت عينيها على بقايا عيدان السجائر :
-على فكرة أنتَ بتدخن كتير أوي وده غلط على صحتك ..
-عارف !! بس مش چادر أبطلها ، حِملنا تقيـل وهي اللي عتنفس عن الواحد ..
عارضته الرأي :
-أنت بتشتري راحـة قريبـة وتعب بعيد ، صحتك أهم حاجة ..
اعتدل في جلسته وهو يسألها :
-على سيرة الصِحة لسه تعبانة!
تفقدت المكان حولها :
-لا خالص ، بالعكس عمري ما كُنت كويسـة زي النهاردة .. المكان هنا علاج حقيقي .
ثم نظرت في الساعة وجدتها السابعـة مساء ، فقالت بثقل متكئ على قلبها الذي يتنبأ بحبه :
-المفروض نتحـرك ، أنت مش عندك خطوبة السـاعة ٨ !! أنتَ نسيت ولا أيه ؟
شعر أن تذكره للامر يحتاج لسيجارة جديدة ولكنها تراجع عن إخراج من علبة السجائر إثر نظرتها البريئة التي لا ترغب في دخانها ، رمى العلبة من يده وقال :
-عادي ، لو خلصتي قومي يلا عشان أوصلك ..
لملمت حقيبتها بهدوء ثم تراجعت متسائلة :
-أنتَ مش مبسوط عشان هتخطب البنت اللي بتحبها ولا أيه !! سوري على تدخلي بس أنا حاسـة إنك مش متحمس خالص ..
ثم غمغمت بفضول يتقاذف من أنظارها :
-أنتَ بتحبها !!
لملم أشياءه عنوة دون النظر لعينيها قائلًا بنبرته الجافة التي لا تعلم مصدرها الحقيقي :
-حب الحريم عـ يذل ، وأنا ما عاش ولا كان الـ يذلني..
سقط الهاتف من يدها مندهشـة من جُملتـه الأخيرة :
-أحيـة!! أومال هتخطبها ازاي وتتجوزوا ؟
رفع حاجبه متسائلًا بسخرية لتناقض حديثها :
-مـا أنتِ كُنتي هتتجوزي وِلد أبو العلا من غير ما تحبيه ..
خيمت الحسرة على ملامحها وهي تقول:
-أنا عمري ما كان قُدامي فرصة للاختيار كنت قدرت اختار ، بس أنت ليه تعمل في نفسك في كده ، ده ظُلم ليك وللبنت اللي هتتجوزها .
وثب قائمًا وهو يُجيبها بإيجاز كي لا تعبث بثوابت قلبه أكثر من ذلك :
-أحنا بنتجوزوا عشان نخلفوا ونسلنـا يعمر في الدنيـا .. لكن لو كُل واحد مشي ورا حديت قلبه محدش هيتجوز يا بت الناس !!
حملت حقيبتها ذات الماركة العالمية على كتفها وقالت بدهشة :
-أنت غريب بجـد !! هتقدر تخلف أولاد من واحدة مش بتحبها ؟!
لفح كتفيه بالعباءة وقال بنبرة مخالفة لهوى قلبه الذي يتعمد اغتياله كي لا يفتح له طاقة نور تنقلب عليه فيما بعد :
-ااه عادي ..
•••••••••
-بتعملي أيه !!
وصل سؤاله المكتوب إليها أثناء تصفحها بملل في مواقـع التواصل الاجتماعي ، ففتحت رسالته على الفور وكتبت له :
-ولا حاجة ؛ زهقانـة موت .. هتعرف تكلمني ؟
كتب لها على الفور :
-أمك صاحيـة ؟!
تفاعلت على رسالته بالوجه الغاضب وكتبت معاتبة :
-اسمها مامتك يا هاشم!!
استقبل غضبها ضاحكًا وهو يصلح جريمته الفادحة التي يقترفهـا ككل مرة :
-حماتي صاحيـة ؟!
تأففت بضيق :
-اسمها طنت يا هاشم .. أنت لحقت تنسى من يومين قعدتهم في الصعيد !!
زفر باختناق وكتب لها :
-رغد !! سامية فين ؟!
-عندها صداع ونامت .. وأنا قاعدة لوحدي مش بعمـل حاجة !!
ارسلت له جملتـها الأخيرة فـ رد على الفور :
-بركة يا جامع .. أنت عاملة ايه !
ردت مغلوبة على أمرها :
-زي الزفت يا هاشم ، كل صحابي متجوزين وقاعدين مع بعض في الجو ده وأنا قاعدة لوحدي..بيني وبينك بلاد ..
شقت الضحكة ثغره فلاحظها سائق الأجرة الذي أتى به من المطار ، وكتب له كاذبًا ومواصلًا مسرحيته :
-معرفتش أجي لك أنا اسف ..فرح هيام يعدي وكله هيبقى تمام ..
-كنت عارفـة أصلًا ، وبعدين لما تقول كلام تبقى أده .. ممكن تروح مكان بعيـد وتكلمني !! نتكلم لحد ما أنام .
تحمحم بخفوت مُلقيًا نظرة سريعة على صاحبة العربة واكمل كتابة رسائله لها :
-هكلمك بس جاوبيني الأول؛ أخبار الأوردر أيه !!
ثنت رُكبتيها واتكأت على الوسادة خلفها وقالت بضيق:
-اتقفلت منه ونفسي اتسدت وهقوم اقطعه كُله ياهاشم عشان تستريح .
تجمدت ملامحه المبتسمة عكس دواخله المتراقصة وهو يكتب لها:
-ولما أنتِ تقطعيه أنا دوري فين ؟!!
صدح برد الشوق بصدرها الفارغ من وجود حبيبها وقالت بحزن :
-بجد أنا مضايقة ومتهزرش .. ومش عايزة أكلمك خلاص ؛ سلام هروح أنام …
صف السائق أمام منزلهم الراقي المتكون من طابقين .. دفع الأجرة ثم عاود الاتصال بها ، فـ أجابت على الفور :
-قولت لك هنام !! وبطل رخامة مفيش أعذار مقبولة .
فتح الباب الحديدي بالمفتاح الخاص به بحرص ، ثم قال :
-حتى لو قُلت لك انزلي افتحي البـاب .. باعت لك أوردر غير اللي كُنت هتقطعيه !
قفزت من فراشها غير مصدقة وهي ترتدي نعالها بسرعة:
-اوردر أيه ؟! أنت بتتكلم بجد !!
وقف أمام باب بيتهم الخشبي الضخم وقال بهمس :
-افتحي يلا ..
ارتدت روبها الشتوي سريعًا وفتحت باب غرفتها بحذر وهبطت لترى مندوب الشحن كما أخبرها .. قطعت درجات السُلم بحذرٍ ثم هرولت لتفتح الباب فوجدته أمامها بهيئته الجذابة حاملًا عُبلة من الحلوى التي تفضلها بيده ، لم تصدق عينيها وهي تتفقده صارخة باسمه بعد ما ارتمت بين يديه :
-هاشم !! أنت بجد .. لا أنا مش مصدقة ، بتشتغلني !!
تركت رأسها تسقط على كتفه مغمضضة العينين .. ضمة زوجته التي قطع مسافات طويلة ليكون عندها ليوفي وعده الذي قطعه على نفسه ، لينعم بالسلام بين يديها .. تعلقت به ولا تود مُفارقته حتى تمتم لها :
-إحنا على البـاب ..
انفصلت عنه ولمعـة الفرحة تطاهي لمعة القمر فوقهم وهي تتنهد قائلة :
-هاشم أنا مش مصدقة !! كنت بتشتغلني!! طيب تعرف والله قلبي كان حاسس ومستنيك بجد ، بس أنتَ خيبت أملي !!
لم تمهله فرصه للرد بل ارتمت مرة آخرى بحضنه :
-انا مش مصدقة بجد !! الليلة هنام في حضنك آخيرًا ، متتصورش وحشتني أد أيــه .
قبل رأسها ثم وجنتها ثم انتقلت أنفاسـه لتدس القُبل دهاليزها القصير الفاصل بين ملكته ومملكته .. عندما لدغ دفء أنفاسه عنقها ابتعدت عنه محذرة:
-مامي نايمة !! اطلع بشويش وما تعملش صـوت ..
أخذت الحلوى من يده وباليـد الأخرى سحبته من كفه بعد ما قفلت الباب بحذر .. كانت تسير على طراطيف أصابعها وتهمس له ألا يصدر صوتًا بحرص حتى باغتها وانحني ليحملها بين يديه قبل أن تلمس أقدامه درجات السُلم ، وشوشت له بعتب :
-بتعمل ايه ، مامي ممكن تصحى وتشوفنا !!
أجابها بنفس النبرة الحذرة وعيناه تتقلص بالحذر:
-اشش عشان متعمليش صوت أنا عارفك .. بتمشي تخبطي في كل حاجة .
لفت ذراعها حول عنقـه بدلالٍ:
-هاشم !!
-عقله !!
ساومت ملامحه على القُبل وهي تقول بهمس :
-وحشتني !!
تمتم لها وهو يقطع درجات السلم بهدوء :
-ماتيجي نروح بيتنا وارجع لك الصبح !
-ده ليه بقا !!
همس لها معترفًا بأخطائه التي يمكن أن يقترفها :
-ما أنت عارفاني بحب أكسر وأمك حاجتها غالية عليها .. وأنا جاي اتبسط مش اداين .
قرصت اذنه بلوم ووشوشت له بنفس النبرة المبحوحة :
-لا انتبه وخليك مؤدب ..
وصل بها لباب غرفتها المفتـوح ثم انزلها برفق وقفل الباب خلفه بالمفتاح فسألته:
-ليه كده !!
رد ممازحًا بلطفٍ:
-وأنا هستنى أمك لما تفتح علينا الباب !!
دفعته برفق وهي تترنح أمامه بغنج :
-وبعدين فيك مش هتتغير أبدًا !!! غير هدومك وهنزل أجيب لك عشـا أكيد مكلتش من الصبح ..
هَمّ بفك حزامه الجلدي رافضًا اقتراحها وقال :
-هنتعشى ولسه ليلنا طويل .. أنا جيت أهو عشان اقطع / قصدي أعاين الاوردر بنفسي .
ضحكت وهي تختبي بذراعه بدلعْ :
-هشوم لازم تاكل الأكل .. وسع كده من قدام خليني اخرج .
امتدت يدها للمفتاح وهي تسأله بخفـة :
-مامي عاملة فراخ محمرة تحفـة ، تحب أجيب لك صدر ولا ورك ؟!
كانت يده فوق الباب يمنع خروجها وباليد الأخرى التفت على خصرها ليُعلن رغبته فيها قبل أي شيء قائلًا بنبرته المغلفـة بالشـوق :
-وأنا ليـه اختار وأنا أقدر أكل من كله …!!
ثم غمغم بنفحات لهفته التي تتساقط فوقها :
-وحشتيني يا رغود وهواكِ جابني مجرور من قنا لعنـدك ..
•••••••••
~بقصـر العزايـزي ..
الجميع يبحث عن هارون وهاشم الاثنان ذاب في صحن الأرض فجأة ولم يبقى لهمـا أثر هواتف مُغلقـة ، اختفاء تام .. جهز الكل منتظرًا الذهاب لبيـت صالح العزايزي ولكن لا العريسان اختفيا .. صاحـت صفية بحسـرة :
-هنروحوا قراية فاتحة من غير عريس !! دي أيه الفاتحة الشؤوم دي ؟!!!
فتدخلت هاجر بيأسف:
-يا صفصف ، هاشم وهارون ولا واحد فيهم عيرد حتى ليـلة تليفونها مقفول !! هما راحوا فين من أول الصـبح لدِلوق ..
تدخلت أحلام المرتدية عباءتها السوداء وقرص الشمس الذهبي يتوسط صدرها :
-طب فين هيثم وهلال !! الاتنين خفى اترهم !!
جاء الحج خليفة مرتديًا جلبـابه الفضفاض ويستند على عكازه :
-يلا عاد ، مش هنتأخروا على الناس !!
شكت له صفية :
-ولادك الاربعة يا حج خفي واردهم ، وكيف هنروحوا من غير ولا واحد فيـهم !!
-وصالح غريب !! ده عارفهم أكتر مني .. يلا ياصفية بلاش نعوقـوا على الناس ..
سبقهم الحج خلفية فـ الخُطى ثـم ولت صفية مغلولة لهاجر :
-چربي تاني يا مقصوفة الرقبة!!
تمتمت باعتراض :
-وأنا مالي !! أنتِ غُلبك من الرچالة چاية تطلعيـه على هاجر !! الحيطة المايلة بتاعت البيت ديه !!
ثم مالت على آذانها :
-مايكونش ديه فعلًا علامات من ربنا يامـا عشان الچوازة متمش !! أصلو فين التيسير بالأمر على رأي الشيخ هِلو !!
دفعتها أمها مغلولة وهي ترفع ذراعيها نائحة :
-عاچبك عمايلهم دي يا صفية !! مش عارفة أحكم على واحد فيهم .. عملت أيه بس في حياتي يا ربي !! لا خير في البت ولا في الوِلد !
ثم نظرت لهيام الجالسة بهدوء بجوار نجاة وقالت لها بمدح :
-يكملك بعقلك يا بتي اللي جابرة خاطري ، أنا مخلفتش غيرك في أخواتك كُلهم .. خمس عيال عوضي عليهم منك يا رب ..
تأرجحت عيني هيام بتوجس لتُردف بهدوء لتُفجر قُنبلتها الأخيرة :
-ياما .. أنا عاوزة اطلق .
صاحت صفية بقهرة وهي تنوح على بختها المائل والاساور الذهب تصدح بيدها تُشاركها النغم :
-يا مرك اللي يتعبى فـ شكاير يا صفية … ليه يا ولاد بطني تعملوا في قلبي إكده !! أنا عملت فيكم ايه !! تعالى ألحقني يا حج خليفة ولادك هيقصفوا عمري …..
~بالخارج ..
يقف الحج خليفة مع الخفيـر جابر الأقرب لأفراد العائلة ؛ فهتف مباركًا :
-على خيرة الله يا حج خليفة !! أخيرا هنفرحوا بعمدتنا ..
فأكمل خليفة علي سجيته :
-وهاشم كُمان !! هنطلب يد نغم من خالها ونفرحوا بالاتنين في ليلـة واحدة …..
هلل جابر:
-يألف بركة يا عمدة !!أهو هو ديه الحديت الصُوح ….
~بمنزل أبو الفضـل …
قضت رقية يومها ولم يشغلهـا إلا سيرة الشيخ هلال ، بات حديثها المتبادل هي وأمها التي عاتبتها كثيرًا عن أسلوبها الجاف معـه والتي لا تحمل له مبررًا واحدًا … حتى نفذ صبرها:
-ما خلاص ياما عاد!! فُضينا من سيرته، من ساعة ما شوفتيـه وأنتِ مالكيش سيرة غيره!!
تنهدت الحجة صفاء وهي تتناول كوب القرفة الدافيء وتقول:
-الرچل روحه حِلوة ومتربي ومتنور ويعرف ربنا ، أهو ديه اللي الواحدة تنام جاره وهي مطمنة ..
ثم تمتمت بتمنى أن يكون من نصيب ابنتها واتبعت بحسرة :
-يا بخت اللي هيكون من نصيبها ، أمها داعيـة لها!!
حدجتها رقية بمزاح :
-ومحدش بيدعي لبته قد ما عتدعي لي ياما ، متدعيش تاني عاد!! اخترتها اتجوز واحد يناديني يا أخت رقية !! أنا اخري واحد روحه حِلوة ومجلع كيف هيثم نقضوا حياتنا ضِحك !! لكن هِلال ديه ربنا يعينه على فكره..
عاتبتها أمها وصوت الباب يقرع بالخارة :
-عشانك فقرية ومعندكيش بُعد نظر … قومي شوفي مين !!
لفت حجاب رأسها ووثبت وهي تقول بضحك :
-يكش يكون أبو عربية مخبرة عاد تاني ..
-يابت اتلمي ، عيب عليكي .. شهلي يالا .
-چاية أهو ..
فتحت رُقية الباب ، ففوجئت ببكر وأمه وأخوته وزوجتـه مرصوصين أمام بابهم ، انفرجت عينيها تتساءل:
-خير اللهم اجعله خير !!
فتفوهت أمه فارحـة :
-وهو في خيـر أكتر من إكده !! چايين نطلبوا يدك لبكر ولدي زينة رچال النچع كله !!
صاحت رقية منادية على أمها :
-تعالي ألحقيني ياما !!!!
~~بالجبـل~~~
-حصـل أيـه طيب !!
أردفت ليـلة سؤالها إثر فشل كُل محاولاته في تحريك السيـارة ، أجابها وهو يعيد تشغيلها :
-العربية غرزت !! أنا أزاي مخدتش بالي!!
هتفت مذهولة :
-أحيـه !! مش أنا حذرتك !! حذرتك ولا لا !! قولت لك أنا عارفة الطرق دي العربيات ممكن تعرز فيها عملت فيها الولد الجامد وأنتِ مع هارون العزايزي وادينا لبسنا المقلب يا هارون بيه ؟! أحنا هنفضل لوحدنا أنا وأنت هنا في وسط الجبل والديابة والليل !!
ثم التفت للوراء :
-وكمان بعدنا أوي عن المكان اللي كنا فيه !!
جهر غاضبًا :
-ينفع تسكتي لحدت ما اتصرف !! مش عارف افكر من زنك …
-والله !! يعني أنت الغلطان وكمان بتزعق لي !! أهو هو ده اللي فالح فيه !!
تجاهل ثرثرتها وهو يتفحص هاتفه ثم زفر مختنقًا :
-والشبكة كمان ساقطة !!
نظرت له بتحيـر :
-وهنعمل أيه فـ الورطة دي يا هارون بيه !!!!!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)