روايات

رواية آصرة العزايزة الفصل الثاني عشر 12 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة الفصل الثاني عشر 12 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة الجزء الثاني عشر

رواية آصرة العزايزة البارت الثاني عشر

آصرة العزايزة
آصرة العزايزة

رواية آصرة العزايزة الحلقة الثانية عشر

🌼 الآصـرة الثانيـة عَشر 🌼
أَلَيسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى
كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنا تَداني*( تقارب)
تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ
وَيَعلوها النَّهارُ كَما عَلاني
-قيـس بن الملوح .
•••••••••
-استنى ياما .. مفيش حـد هيعتب دارنا، خصوصًا ولو چايين من غير معاد .
وقفت رُقية أمام الباب رافضـة دخول بكرة وعائلتـه داخل منزلهم إثر ارتباك السيدة صفاء التي اعتادت أن تُكرم ضيفهـا دومًا ، شهقت أمه لبكر بكفها المبروم حول ذقنـها :
-وه !! يا دي العيبة !! هي دي اللي عاوز تتچوزها وتدخلهـا وسطينا يا بكر .. دي لسانها متبري منيها.
لم تمنح رقية الفرصة لأحد كي يدافع عنها إلا نفسها ، وقفت أمامهم ببسالة جُندي لا يخشى الموت وقالت :
-عليكِ نور !! أنا مش كد المقـام چايين لي ليه !! ولا هو الطمع والورث عمى عينيكم !! خد ناسك وامشوا يا بكر ..
تدخل بكر بعاصفة غضبه العاتية :
-ما تتعدلي يا رقية مالك سايقة وطايحة في الكُل ومحدش هامك .. ولا هما ولاد خليفـة العزايزي مقويين قلبك ؛ لا فوقي .. لا هما ولا عشرة زيهم هيقدروا يمنعوني عنك ..
تدخلت صفاء المرتعدة من الخلف والتي تخر دموعها شفقة على ابنتها :
-وهو الچواز بالعافية يا ولدي ده حتى ما يرضيش ربنا ..
ضرب على الباب بكل قوته وجهر بصوته المُرعد :
-وأنا مش هتنازل عن حقي ، وأنتِ بتاعتي يا رقية ذوق عافية مفيش دكر خلقه ربنا هيلمسك غيري ..
كادت أن تعارضه ولكنـه قاطعها صارخًا كي لا يمهلها فرصة للرفض :
-أنا شيعت خبر لمجلس العزايزة وقولتلهم عندِكم كتب كتاب قريب والكُل مرحب مش هتيجي أنتِ وتسوقي العوچ ، وولاد خليفة لو شمو خبر هحسر قلب أمهم عليهم .. ولا تكونيش راسمـة على واحد منيهم !!
-أنتَ شكلك ادبيت وعقلك راح منك من البرشام اللي عـ طفحه .
نفذ صبر رقية من وقاحته وتجاوزه حدوده معها واهتهامها بالباطل ، فلم تجد أمامها إلا القُلة الفخارية التي تناولتها بلمح البصر كنت تتساقط قطع من فوق رأسه صارخًا بتوجع وهو يتمسك برأسـه ، صدح صوت صراخ النسوة خلفه كل منهن باهانتها المختلفة المسددة لرقية التي شفيت غليلها منه ، اشتعلت النيران بقلب أمه التي خلعت نعالها لتنتقم من تلك قليلة التربية التي تطاولت على ابنها البكري فتوقفت صفاء لتتلقى الضربة عن ابنتها وهي تنوح مستغيثة بالناس حتى صاح بكر بوجههن ورأسه يسل منها الدماء :
-اكتموا ، ولا كلمة ، مسمعش حس مرة فيكم !!
ثم نظر لرقية التي تحتمي بأمها وقال مهددًا والشر يتطاير منـه لانها اهانت رجولته أمام أهل بيته :
-وديني يا رقية ما هعتقك والدم عندي تمنه دم .
•••••••••
-أنتَ هتروح فيـن !
بتلقائيتها المعهودة تشبثت برسغه وهي تتفقد المكان المُعتم حولهـم بنوبة من الخوف ، بات كل شيء مخيف ولم يتبقى إلا وجوده لتأنس به ؛ لا تعمل من أين جاءت بثقتها العمياء لتأمن لرجل غريب عنهـا ، رجل لا يجمعها به إلا صعوبات .. تأرجحت عينيه على كفها القابض على معصمه ثم انتقلت لجفونها المرتجفة وقال بنبرة هادئة ولكنها جافة :
-هنزل أشوف حل للورطة دي !!
ثم نزع لاسته وألقاها بالخلف مستعدًا :
-استعنا على الشقى بالله ..
ثم نظر بعيونها آمرًا:
-متتحركيش من مطرحك ..
هبط من سيارته مستعينًا بكشاف هاتفه ليفحص الإطارات المغروزة بالرمـل وهو يتمتم بكلل ويلعن غباءه لأنه مر من ذلك الطريق .. كانت تدور يمينًا ويسارًا للخلف وللأمام .. مثلمـا يتحرك كانت تتحرك معه وكأنه أصبح بوصلة قلبها التي ترشدها في كل وقت ومكان ..
تحرك مبتعدًا عن السيارة وأخذ يلملم في أغصان الشجر المُلقيـة وجمعها ببؤرة واحدة بالقرب من سيارته ثم سكب فوقهم القليل من الغاز كي تُنير له الأرض وتخشى الذئاب ان تقترب منهم ..
لم يمهلها فضولها أن تتوقف عن مراقبته عند هذا الحـد بل فتحت الباب وهبطت من السيارة وهي تستفسر :
-ليه كده !!
لملم القش المتباعد ليقربه من موقد النيران وهو يقول بملل :
-الجو بارد .. والديابة ماعتقربش من مُطرح فيه نار ..
رفعت حاجبها باندهاش :
-ديابة !!!
-اومال أنتِ فاكرة أيه ؟!
قال جُملتـه وهو يتحرك صوب السيارة ليُخرج منها العِدة المختصة بالجبل ليستعين بها في تخلص اطارات السيارة من الرمل .. تجاهلت كل شيء وشردت بالسماء فوقها :
-الله !! القَمر مُكتمـل !!
قالت ليـلة جملتها الأخيرة بحماس وهي تتفقد البدر المُنير في ليلة تمامه فوق رؤوسهم ، كانت رأسها مرفوعة تراقب القمر ونجومه غير مكترثة للظلام والصحراء التي تقع بها ، ثم اخفضت رأسها ونظرت له :
-عارف ده معناه أيـه ؟!
تحولت نظرته الاستكشافية وهو يراقب براءتها وعفويتها لنظرة أخرى جامدة لا تهتم وقال بطبيعته الواقعية التي لا تعترف بشخصيتها الحالمة :
-انه وصلنا لنص الشهر !! هيكون أيه يعني؟!
أخذت نفسًا طويلًا وهي تعقد كفيها وراء ظهرها وقالت بأنفاس من الحرية :
-لا مش كده !!
ثم دنت منه خطوة أخرى لتشرح له وجهة نظرها :
-في أسطورة بتقول أن الإنسان لمـا بيتولد حياته زي الهلال بالظبـط بيكون لوحده تايـه في الكون بيـدور عـ نصـه التاني لحد ما يلاقيه فـ مكان ما ووقت معين .. فيـظهرلنـا قمر مُكتمـل زي ما بنشـوف …
ثم تراقصت عينيها ببحر عينيه المتدلية لعندها وأكملت بشغف شديد مع نبرة أكثر هدوءًا عن الأولى :
– وعـارف ده معنـاه أيه !!! أن مع اكتمال القـمر مرة كُل شهر في اتنين عُشاق بيتجمعـوا .. ومع رجوعه لهـلال مرة تانيــة فـ اتنين عشـاق بيتفرقوا ..
حتى صاحت متأملة :
-يعني النهاردة مع اكتمال القمر في عُشاق جُداد هيتجمعوا .
-حديت فارغ ..
قال جُملتـه وهو يشد الأدوات الحديدية ويرميها بالأرض مستهترًا بأساطيرها التي لم تتوقف عن الإيمان بها .. ثارت النيران ببدنها لتقليله من فلسفتها الحالمة :
-على فكرة ده كلام مهم جدًا ، الانسان مخلوق من الطبيعية يعني مصيره مرتبط بمصيرها ..
ثم رفعت سبابتها محذرة بانفعال :
-ولما أقول حاجة بعد كده من فضلك متقللش منها ، انت حر تصدق أو لا ، لكن ده مش يدي لك الحق تستهتر بكلامي .
تأفف مستغيثًا بضيف الصبر أن يملأه كي يتجاوز تلك الورطة بدون أدنى جرائم ، اكتفى بنظرة من مُقلتيـه وشرع ببدء عمله ، وعادت هي الأخرى لتحاور صديقها بالسماء متجاهلة وجود قمر أرضها الحقيقي ، وضعت كفها على قلبها مستردة حالتها الخيالية :
-يابخت أي قلب لقى حبيبه النهاردة والقمر شاهد على قصتهم دلوقتِ..-ثم رمقته بسخرية وأكملت – ده كلام عاطفي وصعب على اللي زيك يفهموه ، أنت أخرك تكسر في الحجارة وترفع زلط .
بلع زلط إهانتها بضحكة طفيفـة وقال بنبرته الصارمة :
-خشي أقعدي چوة العربية وعدي ليلتك ..
سارت بخطوات طفولية وهي تضرب الأرض بقدميهـا ، فتحت باب السيارة وجلست بداخلها وأقدامها المتدلية تعبث بالرمل تحتها ، ظلت تراقبه بأعين متحدثة لم تعهـد الصمت الطويل.. شرع هارون بحمل الرمل بواسطة المجرفـة والعرق يتصبب من جبهته ، كانت تراقبـه بأعين متراقصة على ضفـة رجولتـه الطاغيـة المختلفة عن شباب المدنية التي تنتمى لها .. ظلت تقطم بأظافرها ثم قالت لتقطع الملل الذي يملأها :
-تعرف إني بحب الحكايات الخيالية أوي خاصة الحكايات اللي بيكون القلب هو الليدر اللي فيها .. أنا لما اشتغلت في الراديو ابتديت ببرنامج صغير كان مدته ربع ساعة ، كنت بحكي فيه عن قصص حُب شبه مستحيلة ، بس القلب انتصر في النهاية .
رمقها بطرف عينيـه مستخفًا بحديثها عن الحُب الذي يشغلها دومًا وتلك المشاعر العبثية التي لا يؤمن بها ؛ فقال وهو يواصل عمله :
-شايف أن فيه مواضع أهم وأفيد من الحُب والحديت الماسخ ديه تتكلمي عنه ، كله حديت فاضي يا ليلي بيشغل الفكر عن حاچات أهم !!
قفزت من مكانها مندهشة من جفاء وقسوة كلماته التي تنكر الاعتراف بالحب ، رغم أنها لن تتذوق حلاوته لتلك اللحظة إلا انها عاشته بين سطور الروايات والأساطير والأفلام القديمة التي تغرم بها ، جميعها مشاعر يحييا بها القلب وهو يتجرد منها بتلك البساطة !! رمت على مسامعه بأحد الجمل الشهيرة لبرنامجها السابق وهي تقترب منه لتعترف :
-” الحُب للقلب بمثابة وريــد جديـد يغذيه بالحيـاة ، فالمرء لا يحيا إلا عندما يُحب ”
بقلبٍ جليدي لا تؤثر فيه تلك النيران المنعكسة بعينيه المشتعلة للتدفئة تلقى تلك الجُملة بسخرية و جحـود ، أمسك بالمجرفة الخشبيـة الصغيـرة .. قائلًا باستهزاء :
-و هي دي الحكايات اللي عـ تاكلي عقول الناس بيها في الراديـو بتاعك !! وعايزة تطلعي بيها على التلفزيون.
تحول شغفهـا في حواره لكومة من الرماد ولكنها لم تيأس بعد بل فتح شهيتها أكثر على الحديث :
-ومالهـا الحكايات ؟! أظن أن ده الوقت المناسب عشان تعرف قيمتها .
ثم تجولت بعينيها في عتمـة المكان حولها :
-تايهين في وسط الجبل ، مفيش عربية و مفيش انترنت مفيش أي وسيلة لرفاهيـة العقل غير أنه يفتكر حكايات تبسطـه وتهون عليه الوقت !
ثم ترنحت من مكانها سريعًا لتقف خلف مؤخرة السيارة لتنتقل لمجلس أقرب إليه وأكملت بإصرار يجبره على سماعها :
-يعني لو رجعنـا لزمان .. زمن الملوك والحياة البدائيـة هتعرف أد أيه الحواديت والحكايات مهمة .. عندك مثلًا شهريار ، لأجل حدوتـة انهزمت القواعد والقوانين .. تصور ده مكنش بينام إلا على حواديت شهر زاد !!
ثم شدت العصا التي تشغله عن النظر إليها من يده بحيوية وقالت :
-شفت بقا أنها شيء مسلي ومهم ومش زي ما أنت شايفها حاجة تافهه ، الفرق بس أنها عايزة رجل عنده قلب زي شهريار عشان يحسها !!
رغم عدم النظر إليها إلا أنه كان مستمع جيد لكل حيلها ومبرراتها التي فشلت في إقناع عقله الحجري كالصخرة التي تقع خلفهم .. دار إليهـا ليبقى على موعد مع تلك الأعين التي تنافس جمال نجوم الليل ، وبنبرة مبطنة بالسخرية قال ملاطفًا للأجواء :
-كلنـا كرجالة عارفين أن الحكايات دي كانت مهرب لشهر زاد كل ليلة من شقاوة الملك !
تأرجحت تلك الأعين اللامعة بأعينه الثابتة التي أعلنت الاستهزاء من حديثها وأردفت بكيد أنثوي كي تنتصر للنهايـة في تلك الحرب التي أعلنها وقالت بعفويتها المعهودة التي لا تدرك وقع كلماتها إلا بعد النطق بها :
-وليـه ماتقولش أنها كانت مهرب للملك عشان يداري بيها خيبته لغرض ما كلنـا كستات عارفينـه !!
تصلبت تعابير وجهه وهو يوجه العتب والغزل لعينيها المذعورتين التي أدركت للتو سُم قولها !! فكيف هرب منها اللفظ بدون رقابة حتى تناست نفسها، كيف تجرؤ على قول جملة فاضحـة كهذه ، شهقة مكتومة تابعت تأرجح مُقلتيها التي تغرق بنهر عينيه الثابتة والفاحصة عندما رفع حاجبه الأيسر على ضفة التساؤل غير مصدقًا بما سمعه من تلك الفتاة المرتدية ثوب البراءة وقال بتلك النبرة الخافتـة المبطنة بالاندهاش والتعجب :
-لغرضٍ مـا ؛ اللي هو !!!!!!!
شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت له بحماقة كتلميذ بليد يهز رأسه في حصة الحساب وهي تُبلل حلقها الذي جف من لهب عينيه الذي يكسوها لتفر من حصار نظراته المخيفة التي تسدد الاتهامات والتساؤلات لعندها وقالت بتلك النبرة المتقطعة وهي تُشبر بسبابتها :
-أنـ اا .. أنا هستناك في العربية ….
أوقفها ندائه بفضول :
-خدي تعالي !! أنت فاهمة قُولتي أيه !
ردت بثقة :
-طبعًا فاهمة !! هقول كلام مش فاهماه يعني؟! أنتَ شايفني غبية .
-ايه معناته يعني؟!
ردت بتلك النبرة الممتلئة بالثقة كي تطوى دفتر جملتها التي تعني قصدها جيدًا وقالت بمكر طفولي :
-ان الملك هو كمان كان يهرب منها بدل ما يحكي ليها !! أصلو مكنش بيعرف يحكي حواديت زيك كده بالظبط !!
ذاب دهاء المحاميين في صحن حماقتها تلك المرة وقف أمامها ولا يمتلك ردًا كافيًا ليصف ما وصل له بسببها !! اكتفى بهز رأسه غير مقتنعًا مصدرًا صوت إيماءة مهزوزة ليعود لمباشرة عمله من جديد بعد ما صححت له مقصدها بدلًا من نواياه التي تأرجحت على حد الفتنة تمتم لنفسه متأكدًا :
-اه حواديت !! أنا بردو قُلت إكده ..
•••••••
-“النهاردة هكلم أبوكي قالها وروحي راحت ياني ”
دخلت ” زينة ” غرفة نغم التي تربتها فيها بمنزل خالها بعد وفاة أمها وأبيها وقد تكفل كل من صفية والحج صالح بتربيتها وتعليمها حتى وصلت لعمر الزواج .. كانت زينة تتمايل وهي تمسك بحمرتها التي تُلطخ بها فاهها وتتراقص أمام نغم الجالسة والشاردة بعالم آخر ، انفردت بحزنها لوحدها بين الجدران ، الأول أمها التي ماتت وهي تلدها والمرة الثانية عندما فقدت أبيها وهي في المرحلة الابتدائية وحتى نالت تلك الضربة القاضية التي جاءت بعمر تدرك فيـه ما معنى الوجع وكيف يكون ..
ظلت صامته لا تُبادل زينة التي تعمدت كيدها لانها نالت مرادها الذي كانت تحُلم به وتراهن عليه ، جاءت أم زينة فنظرت لنغم التي لم يلحظ أحد حزنها وقالت بعتب:
-يا نغم يا حبيبتي ، لساتك مجهزتيش دول قربوا يوصلوا ..
ثم التفت لحزنها وهي تقترب منها وتربت على ظهرها بحنو :
-مالك يا حبيبتي !! وشك بهتان لي؟
تدخلت زينة لتجيب بدلًا عنها والفرحة تتقاذف من ثغرها كأن التي تجلس أمامها تمتلك قلبك من حجر صخري ولست قلبًا من لحم ودم وقالت باستهزاء :
-أصلو ياما نغم كانت رايدة هارون ؛ ولما عرفت انه رايدني اكيد زعلت .. قوليلها ان ده نصيب يابت عمتي والقلب وما يريد .
صفعتها أمها بتلك النظرة الخارسة وهي تربت على ظهر تلك اليتيمة التي لا حول لها ولا قوة بتلك الحياة الظالمة وقالت مواسية :
-متزعليش يا حبيبتي .. ده ربك عيجوز في السما قبل الأرض وأنتِ نصيبك لساته قاعد محدش هياخدو منك .. قومي استهدي بالله والبسي وانزلي استقبلي الضيوف معانا عشان محدش يحس بغيبتك ..
ركضت زينة نحو الشُرفـة مهلله كفرحة العبيط بملابس العيد :
-جم جم ياما ، الحقيني قلبي هيتخلع من مُطرحـه .. شكلي حيلو !! ناقصني حاچة ؟!!
هرولت الحجة زبيدة لاستقبال ضيوفها بعد ما جبرت بخاطر ابنتها وقبلت رأس نغم تربية يدها التي مهما قالت لا تشعر بذرة من وجع تلك المسكينة ، فهما تربوا على أن الحُب والمشاعر كحمى الجسد التي تأخذ وقتها المؤقت وتذهب كإنها لم تمر من هنا ..
استقبلت زبيدة ضيوفها ، كل من عائلة خليفة العزايزي عدا أولاده بالإضافة إلى نجاة التي اصرت أن تأتي معهم وأول طلب لها كان هو رؤيتها لنغم التي أحست بمصيبتها وأرادت أن تشاركها همها .. صعدت نجاة لمواساة نغم ولتشاطر معها الحـزن الذي يقسم الروح قبل الظهر ..
جاءت زينة حاملة الشربات بشعرها المفرود والذي يغطي ظهرها وحمرتها الزائدة عن الحد ، فتفقد الجالسين متسائلة :
-هو هارون معاه تلفون برة!!
تفوهت هاجر بعفوية وثغر يملأه الضحك :
-لا العريس مچاش من أصلو ولا عارفين له طريق ..
-كيف الحديت ديه يا عمتي !!
لكزتها أمها بقوة ببطنها كي تصمت لتتدخل مبررة غياب أولادها المفاجئ :
-هارون جالو مشوار في سوهاچ ومعرفش يأخره وقالنا نيچوا إحنا بدل ما نأجلوا ، متقلقيش بكرة هيكون داخل طالع على بيتكم بس اللي ما يزهقش ..
تدخلت أحلام لتحسم الأمر :
-الحج خليفة بنفسـه چاي لك !! عاوزة أيه تاني !! ما تتكلم يا حچ !
استند العجوز على عكازه وهو يدور لأبيهـا طالبًا يدها بتأنٍ وهو يمد بالكلمات :
-يا حچ صالح ، أنا متأسف على الظروف اللي حصلت ، وغياب ولادي لظروف قهرية ، لكن اللي قاعد قِدامك ديه خليفة العزايزي اللي محدش يقدر يكسر كلمتـه ..
ثم أشار خليفة لزينة التي تقف غاضبة والغيظ يأكل قلبها وكأن الحياة ردت لها نفس الصفعة التي بادرت بها على قلب تلك المسكينة ؛ فقال:
-أقعدي يا بتي واقفة ليـه !!
ثم عاد لأبيها:
-أحنا كبرنا يا صالح وآن الأوان نلمو شمل الوِلد والبنته ، أنا چاي أطلب يد زينة بتك لهارون ولدي الكبير .. ونغم وأنت في مقام أبوها لهاشم ولدي .. قلت أيه ..
-وهو في قول بعد قولك يا كبيرنا وهو في نسب يشرف أكتر من إكده .. نقروا الفاتحة ..
انفرجت عيني زينة التي لم تتوقع طلب نغم لهاشم والذي أخمد نار الشماتة في قلبها لتتحول لنيران حقد ، نظرا الأختان لبعضهما بذهول وتصلبت ملامح وجههم حتى غمغمت هيام مدافعة عن أخيها :
-هاشم !!
ثم مالت على مسامع أختها وسألتها :
-هاشم عِنديه عِلم !!!
-ماعارفاش يا هيام …
دمدمت هيام بحسرة وعتب:
-هاشم ممكن يطربق الدنيـا فوق راسهم .. أمك عتعمل ايه ؟! هي ماعارفاش هاشم ونشفان راسه !!
أخرجت هاجر هاتفها لتراسل أخيهـا والجميع منشغل بقراءة الفاتحة لتكتب له تحت مظلة المزاح :
-مبروك ياعريس!!
ثم نظرت لأختها :
-تليفونه لسه مقفول …
هنا جاءت رسالة رقية لتستغيث بها :
-الحقيني يا هاچر ، بكر اتهجم على بيتنا ..
تمتمت هاجر بخيبة :
-ماهي كِملت !!
ثم انحنت على مسامع صفية التي تقرا الفاتحة معهم :
-أما ، ما ليكي عليّ حلفان الچوازة دي شؤم …
•••••••
تعلم أنك تخصني ، بشكلٍ من الأشكال أنت كُلك لي .. ضحكتك الجميلة التـي تُزينها بالقُبل المثيرة ، رفـة جفـونك ، عينيك بما تحويه من لهفة .. خطوط يديك التي تنفض غبار الحُزن عني ، حضنك الدافئ ، كلمات الحُب والهمسات السرية بيننا . . كل هذا ملكًا لي ، كلّك مِلكاً لي يا رجل !!
تعلمت على ضفة حُبك كيف تكون الأنانيـة ، نعم أنانيّة بك وبحبك …

ختمت كلماتها الساحرة وهي تمرر أناملها على معالم وجهه النائمة الذي يبتدر كالقمر بسماءه فوق ساقيها المثنيين .. انحنت كظمآن يريد أن يرتوي من بُحيرته العذبة ، احتوت وجنتيه بكفوفها الرقيقة ورضت فاهه على القُبل التي تخلصها من لوعة الشوق شيئًا بشيء .. كانت قبلتها ذات أجنحة مُحلقة نحو وجهتها الصائبة ، مسددة الخُطى بأنها تُسكب بالمكان الصحيـح ، ومع الشخص المناسب والمستحق لها ، شخصٌ لا يهون عليه حُزني ولا يتركني يومًا فريسـة لانياب الندم لأنني اخترت ..

تلاقت ملامحهم المعكوسه وهي تُتمتم له بتلك النبرة الحنونة:

-تعرف ؛ أنا عمري ما كُنت رافضة الجواز .. دي حجة كُنت بقولها قدام الكُل لما يستغربوا إني عديت السبعة وعشرين وأنا لسـه متجوزتش .. أنا بس مكنتش شايفة قدامي حد مناسب ؛ لحد ما لقيتك قلبي اتنطط وقال لي هو ده يا رغد ..

ثم ختمت جملتها بقُبلة رقيقة تحت جفونه المنغلقة:
-وفعلًا قلبـي عُمره ما كذب عليـا ، وطلعت أنت الشخص اللي شقلب موازين حياتي ..

ثم تحشرجت الخيبة بنبرتها وأكملت :
-الشخص الصح والمناسب لقلبي ياهاشم ؛ بس للأسف كُل حاجة حولينـا هي الـ غلط ..

لمست كلماتها وعاء قلبه المتيم بهـا وهو ينهض من نومته وليدور بجسده موليًا نحوها ، احتوى كفه وجنتهـا التي يترقرق فوقها الدمع وقال محافظًا على لهجته المصراوية :

-وأنا أوعدك أن كُل حاجة هتتصلح في أسرع وقت .. عارف إني مقصر في حقك وأنتِ متساهليش كُل ده .. بس لازم تعرفي إني مش عاوز حاجة من الدنيـا غير إني أكون معاكِ -ثم أمسك بكفوفها المثلجـة وأكمل-وأفضل ماسك الإيدين الحلوة دي لآخر عمري ..

لاحظ برودة أطرفها فانحنى لمستواهم وأخذ ينفث بداخلهم تارة ويقبلهم طورًا كي يدفئا ، كي يخبرهم بأنه هنا بجواره فلا داعي من برودة الغياب .. زين الحب ملامحها ورقص قلب من فرط حنانه ؛ فقالت بهمس :

-دي أهم حاجة ، إنك معايا وبس .. وكل حاجة هتتعوض .

ثم ختمت جملتها بنطق حروف اسمه بتوتر :
-هـاشم !!

قفل كفيه على كفيها المنطبقين كصدفة بحرية تخشى فقد لؤلؤتها ونظر بعيونها إثر نداءها ، فأكملت حديث بعد ما اعتذرت عما ستقول رغم مخالفة أوانه :
-مامي بدأت تضايق من الوضع ده .. وشايفة أن حياتنا دي مش طبيعية وهي قلقانة عليـا .. وكمان لمحت بموضوع الحَمل وأنا مبقتش عارفـة أرد أقولها ايه ..

ثم طالت النظر بعيونها كإنها تترجاه ألا يغضب:
-لو فتحت الموضوع معاك متضايقش ممكن !!

أومئ متفهمًا ثم قال :
-لو فتحته معاكي تاني قوليلها هاشم نفسه يخلف النهاردة قبل بكرة .. بس الظروف تتعدل ..

ثم رفع كفه ليمسح على شعرها ويضم رأسها لصدره وأكمل :
-تقدري تنزلي شُغلك من بكرة لو حبيتي .. أنا مش هكون معاكي أناني أكتر من كده يا رغد ، طالما هتعملي حاجة حابها كده كده مصاريفك كلها مسئوليتي .. بس أنا عايز أشوفك مبسوطة وبس .

الفرحة جعلتها تقفز من مكانها كحبة الفشـار غير مصدقة ما قاله :
-هاشم أنتَ بتتكلم بجد !! أنا سمعت صح .. أنت وافقت انزل شغلي يعني خلاص..

لا يمكنها إنكار دوره المهم بحياتها ، منذ أن اخبرته بأن دروب قلبها مُظلمة وهو لا يتوقف عن دور الشمس في إنارتها ، عندما روت له أن شبح الوحدة يرعبها ومن حينها اعتاد أن يؤنس قلبها الخائف بألحان الحُب القادرة أن تحوله من بقعة سوداء لبقعة تحاصرها الفراشات لكثرة زهورها .. ارتمت بحضنه وهي تشكره بحب :

-أنت أجمد حظابط أنا شوفته ، بحبك ..

لم تمهله الفرصة كي يملأ رئته من رائحتها فركضت لتفتح الخزانة وتخرج منها شيء لم يراه من قبل وتقول بفرحة :
-انت ما شوفتش ده ، هلبسه وأجيلك حالًا ..

ركضت للحمام وهي تتراقص على مسرح السعادة استغل وقت غيابها عنه في تناول المقرمشات الموجودة على الطاولة حتى التفت إثر صوت فتح الباب وعيناه تفحصها تلك المُهرة المزينة بثوب مسروقًا من جلد النمـر ، ترك الطبق الذي بيده واقترب منها بأنظاره المشدوهة وهو يديرها تحت يده كالفراشة :

-ده تبع الأوردر !! ده أهم من الأودر كله ..

-أيه رأيك في ذوقي !! عجبك ؟!

ترنحت عيناه المدججة بالحب وقال :
-فاجـر ..

ثم ضاقت عينيه مُتسائلًا بخبث :
-ده بكام كدا !!

أخذت فترة على الرد للتذكر سعره وهي تعانقه بغنج :
-بـ١٤٠٠ ج بس ..

رفع حاجبـه مشدوهًا :
-بس !! لا جيتي على نفسك ..!! طيب وده أيه مميزاته بقا ؟!

ثم امتدت كفوفه المتخابثة لاسفل ظهرها الذي يكشفه الفستان وهو يلهيها بالحديث المعسول وفجأه وهو يشده بكل قوته لينشق لنصفين :
-يعني لو عملت له كله مش هيتقطع !!

شهقت معاتبة إثر تمزقه للفستان الذي ترتديه وتحرر ظهرها من آسره بأقل مجهود :
-هاشم أنتَ بتعمل ايه !!الفستان!!
بنفس نبرته الهائمة همس لها :
-سبيني أشوف شُغلي يا هانم …
•••••••
~عودة لـ ضيوف الجـبل والقمر .
انعقدت سحابـة الملل فوق رأس تلك العصفورة التي تختبئ بالسيارة بعد جريمتها الفادحة التي اقترفتها قبل دقائق .. عبثت في هاتفها الذي لا يلتقط أي شبكـة فلجأت لقائمة أغانيها المُفضلة المحفوظة على جهازها ، ربطت هاتفها بسيارته وأخذت تتفقد القائمة بحيرة حتى حسم مصيرها هارون عندما ظهر أمام السيارة ويعقد بمقدمتها حبلًا كي يحاول أن يجرها ، ظهر من خلف الزجاج بملابسه القطنية الداخلية ، سترة بيضاء بحملات عريضة تبرز روعـة تقاسيم ذراعيه المتضخمة بالعضلات المكدسة وبنطال بنفس اللون فضفاضًا وقطرات العرق تتصبب منه كما تتصبب منها النظرات عليه .. عادت لوعيهـا مدركة جريمتها الفادحـة لتنشغل عنه بشاشة هاتفها بدلًا من سماته الرجوليـة ذات الطباع القوية الصعيدية التي تُغري قلب أي إمراة .. حانت منها نظرة مسروقـة تبعها سهمـًا صائبًا من المشاعر ضرب جزءًا بقلبها لم تدركـه ولا تعي معناه ، الجميع فلاسفة في التحدث عن وصف الحب وعندما يلدغ قلبًا يحوله لطائر الحباري الذي يُضرب به المثل في الحماقة والغباء ..
بدون رغبة منها وقع الاختيار على اغنية ” كامل الأوصاف” عبد الحليم حافظ وكأن وسامته والجبل والغناء تآمر على قلبها تلك الليلة ، صدحت كلمات الأغنية التي أدخلت الحماس على قلبها لتفتح معه أحاديث جديدة ؛ صدح صوت حليم الذي لفت انتباهه ولكن سرعان ما تجاهله وباشر عمله ، فاقتربت منها عارضة عليه المساعدة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-تحب أساعدك في حاجة .. ؟!
رد بفتور وتعب يكسـو صوته :
-تُشكري يا ليـلى ..
حكت جدار عنقها بيأس فأحمر مكانه :
-بردو ليلى !!
ثم أكمل دون الالتفات لها بإعجاب يُخفيه عنها :
-چدعة أنتِ يا ليلي ، عچبتني چدعنتك ووقفتك معاي في القسـم ..
-طبعا مش ذوق اسيبك وأخلع وانت طول الليل سهران بتذاكر وبتساعدني ، كده هبقي مش كويسة ، وأنا مش كده !! بابي علمني احفظ الجميل واللي يقدم لي خدمة اقدمله عشرة ..
رد واعظًا ومعارضًا على منطقها :
-مش صُح !! أوعاكي تعملي إكده ، الزمن ديه كله محسوب ، متديش حد أزيد من حقه ، الخدمة تترد بخدمة !! خلي في عقل عندِك متديش بعبط .. لانه محدش يستاهل يأخد أكتر من حقه..
أصابها الحماس في مقتل وهي تتلهف للتتعلم منه المزيد من النصائح التي تحتاجها كي تواصل حياتها وسط الذئاب البشرية ثم دنت منه وسألته بفضولها الذي لم يتوقف عنده أبدًا حتى ولو ستهد الدنيا إثر كلماتها لست مهم ؛ المهم إنها تكسر زجاجة الصمت بينهم بأعين مستمدة لمعتها من ضوء القمر فوقها :
-لمـا كنت جاية مع هيثم من الأوتيل ، اتكلمنا عنك كتير .. بين الكلام قال لي ، هارون ده حكايته حكاية ، ومن وقتها عندي فضول رهيـب أعرف أيه هي حكايتك ..
ايه هي حكاية عُمدة في السن ده ؟!
ثم وضعت مؤشر الحيرة المختصر في سبابتها فوق فمها وقالت :
-يعني كُل اللي اعرفه عنك إنك حضرة العُمدة وهتخطب زينـة اللي مش بتحبها عشان تخلف ولاد وبس ، بس حاسة أن حياتك فيها سر كبير لا أسرار .. ممكن تحكي لي على فكرة وأوعدك محدش هيعرف خالص ويبقى سر ، أحنا مش خلاص بقينا صُحاب !!
لقد سكبت ماء كاوية على جرحه ، فكيف يمكن أن يحكي لها بأنه بقايا حلم لم يتبقى منه أي شيء ألا الجسـد والنظرات التي تراه يحلق بالسماء دائمًا ولن تمسكه يداه ، توقف على شفا اهتمامها لمعرفته واهتمامها بحكايته التي لا يُشاركها إلا مع أحلام ولست كلها ، خزانة الحزن مكدسة بالأسرار ، تحمحـم وهو يسير نحو موقد السيارة ليبحث عن شيء ما فلحقت به الخطى متبعة فضولها .. استندت على البـاب المفتوح منتظرة جوابه :
-أنا مستنياك ، جاوب يلا .. ولا أنتَ مش واثق فيا !!
تناول ما يبحث عنه من صندوق السيارة والذي أخذ معه سلاحه الذي رماه على مقعد القيادة بعبث ثم التفت لسؤالها كي يودعه بنظرة من مُقلتيه هاربًا من آسره وهو يخرج من السيارة ليقف أمامها :
-ما تسيبك مني وتقوليلي أيه قصة شريف أبو العلا وأيه وقعك الوقعة المنيلة دي!!
على سيرة شـريف امتد بصرها بعيدًا لتلاحظ شبح ما يركض نحوهم على ضوء القمر ، قبل أن تنطق ببنت شفة صرخت مُشيرة نحو الشيء المُقبـل عليهما في الظلام وهي تتحامي بحضنه وسور ذراعه المتين يلتف حولها عندما أدرك من تلك الاعين الهاجمة عليهم بأنه ذئبًا ، بمهارة قتالية خطف سلاحه وصوب بعض الرصاصات بالهواء حتى أصاب هدفه ووقع فريسة لباقي الحيوانات والطيور ، ثم تدلى نظره لتلـك المرتميـة بحضـنه وبجانبه الأيسر وتحت جناحه وكأنها جزء متكامل من صدره خُلق منه أو جاء مُفصلًا على مقاسـه ، تأمل شعرها الذي يغطي وجهها وصدره يعلو ويهبض بأنفاس مسموعة كأنه يُرحب بصاحبة المكان قائلًا :
-خلاص مات .. متخافيش ..
افترقت عن حضنه ببطء ولا تُصدق ما حـدث لم تلتفت لخوفها ونوبة الذعر التي انعدمت كإنها لم تكن يبدو أن قلبها تصالح مع تلك الخضات التي تأتي به لعنده -لعند قلبه شريك رحلته بالحياة- ، تنظر لكفها الممسك بذراعه العاري وبأنظاره التي تُظلل عليها كالنجـوم وصوت ضربات قلبـه الذي اخترق مسامعها ، لأول مرة تحضن رجل غير أبيها ويُسرب لقلبها الخائف أمان بحجم الرعب الذي يحاصرهم في موقفهم كهذا .. فارقت حضنه معتذرة عما صدر منها والخجل يكسو ملامحها فكرر جُملتـه المؤنسة لقلبها :
-متخافيش ..
تطالعت له ولا تعلم لِمَ تتعمد إطا النظر بملامحه وقالت بتوجس :
-مش خايفة ..
صدقًا كيف تخاف وهي في صُحبة رجل مثله .. رد عليها ليُلاطف ملامح وجهها الخائفة كي تهدأ:
-هو ده الكلام ،ده أنتِ معاكِ هارون العزايزي ..
أطلقت ضحكة خفيفة وقالت بصوت خافت:
-مغرور أوي ..
-لازم .. مش اسمي مسمع بحري وقِبلي !!
رفع حاجبـه وقال جملته وهو يسحبها من كفـها ليدور للجهة الأخرى من السيـارة ويركبها بنفسـه ويقفل الباب خلفها ليطمئن عليها .. ثم انتقل للحبل المربوط بالسيارة وشدها بكُل قوته حتى تحركت من مكانها وتفارق مكان الورطة .. فك الحبل وأطفأ النار المشتعلة ولملم أشيـاءه بهمة ثم عاد ليجلس بجوارها وعاد تشغيل سيارته تحت أنظارها المعجبة بسماته الجديدة عليها اول مرة تتيح لها الفرصة ان تكون مع رجل غير أبيها وشريف الذي يتخذها إطارًا تجميليًا لحياته ،ولانه نجح في إخراج العجلات إلى الطريق الأساسي هتفت لتشجعـه :
-لا براڤو عليك .. عرفت تحلها .
رفع حاجبه متفاخرًا ليُجيبهـا :
-حقي اتغر ولا لا ؟!
أجابته برقة وهي تملأ أعينها من النظر إليه :
-حقك طبعًا .. -ثم جاءت مقترحة كي يخفي جسده المحدث بقلبها فتنة -ممكن تلبس هدومك كده هتاخد برد ..
صف سيارته على جانب الطريـق وهو يقول :
-ياستي متعودين .
ثم مد يده ليتناول جلبابـه من الخلف وهو يقول :
-حلو عبدالحليم !!
عبرت عن مدى إعجابها بهارون في ثوب ذكرى عبدالحليم وهي تُعلي الصوت :
-هو يستاهل يتحب الصراحة ..
أشاحت منه نظرة استكشافية لتلك النظرات التي آثارت فضول رأسه وقال :
-طريقنا طويل لسه .. قوليلي أيه حكاية اللي ما يسمى شريف ..
قفلت نافذتها إثر خوفها الغامض عليه أن تطوله براثن الهواء البارد وقالت مشتهية الحديث معه :
-ايـه رأيك احكي لك عني الأول .!
رفع ذراعه المُحمل بالعضلات وتأهب لقيادة السيارة على لحن حليم ولحن شكواها ، عقدت ذراعيها أمام صدرها واتكأت لتستريح على المقعد وهي تتذكر شريط حياتها المُؤلمـة :
-مامي كانت دكتورة في بداية مسيرتها المهنية ومحتاجـة تثبت نفسها أكتر ، سفر ومؤتمرات ومذاكرة .. وبابي كان ظابط في المُخابرات .. بحكم طبيعة شغله هو على طول مش معانا .. كُنت مع الدادة طول الوقت هي اللي بتراعيني ، وجدو بياخد باله مني وبيخرجني .. كل حاجة كُنا نعملها سوا .
ثم نظرت له بتلك الأعين الدامعة والتي تحمل فيض من الحزن :
-جدو اتوفى وأنا عندي ١٢ سنـة ، كُنت راجعة من المدرسة وجايبه له الشوكليت الـ بيحبهـا لقيت كُل الناس لابسه أسود ، دورت على جدو زي المجنونة ، بس مش موجود في البيت كله ، وقتها الدادة أخدتني لأوضتها ونيمتني عشان متخضش ..
كفكفت تلك العِبرات المتساقطـة من مُقلتيها ؛ وزفر أوجاعها وعلى ثغرها طيف ابتسامة حزينة :
-كُنت بحبه أوي ، الوحيـد اللي كان يناديني غُفران ، لحد دلوقتِ مش عندي تفسيـر اشمعنا الاسم ده !!
نظرت له لانها أحست بأنه سيمل من أسلوبها المحزن ، ولكنه باغتها بسؤاله الفضولي وهو يطالع الطريق أمامه
-كملي !! أنا سامعك .
ارتعشت شفاهها بابتسامة مُخزية :
-أول مرة حد يسمعني بعد بابي وجدو …!
كفكفت عبراتها وأكملت متجاهلة صدى وقع الكلمة عليه :
-خناقات كتير وصوت عالي بين بابي ومامي ، لسه فاكراها لحد النهاردة ، كانت المشاكل كُلها بسببي ، محدش فيهم عايز يضحي .. معرفش أيه حصل ؛ فجاة لقيت نفسي في مدرسة ” داخلي ” .. مفيش صُحابي ، مفيش بابي ولا مامي ولا دادة!! طيب بيتنا !! جدو !! الأيام كانت مرعبة ، كُنت لوحدي مش بكلم حد وكل اللي يقرب مني أعيط لحد ما بقيت البنت الوحشة …
صمت لبرهة تحاول إدراك كيف مرت عليها ستة سنوات بهذه المدرسة رغم ثراءها وأنها تحظى فئة مرموقة من العائلات إلا أنها كانت أشبه بقبرٍ دفن بداخلها كل شيء منها إلا جسدها ، أخذت نفسًا بهدوء وأكلمت :
-قعدت فيها لحد ما خلصت ثانوي ، مكنش عندي صُحاب ، كنت دايما ساكتة ، مش بتعامل مع بشـر لحد ما بدأت الحياة الجامعية بابي استقال من الشُغل وقرر أنه لازم يعوضني عن كُل اللي فات .. يصلح أكبر غلطة ارتكبها في حقي هو ومامي !! حاول كتير بس كان فات الآوان .. ومحدش بيدفع التمن غيري !!
ثم أخفضت صوت حليم الذي يقول ” آه يا ليل وآه عين ” ، وهنـا جاء صوت القدر الذي يزف حزنها الذي اجتمعا عليه ،ليل يشكو وعين تمطر .. شعور أشبه برغيف من الحزن تقاسم بين قلبين كل منهما حاملًا نصف بقلبه وقافل عليه بألف مفتاح وعندما تلاقت الأنصاف فُتحت الأقفال من فرط انتظارها .. ختمت حديثها وهي تقول :
-زعلانـة لأن مش دي حياتي اللي كنت اتمنى أعيشها ..
رد ليشاطرها الحزن الذي يدفنه بقلبه ؛ قائلًا :
-محدش فينـا عاش حياته اللي اتمناها يا ليـلىٰ .
••••••
~بمنزل أبو الفضل ..
لقد أبلغت هاجر أخيرًا هيثم أخيها الذي كان يرافق هلال جبرًا كي يحضر معه الدرس الديني اليوم بعد ما فاض به الأمر حول التساؤل عن تفاصيل ” الأخت رُقية ” و بما حدث لها وعن بدء معرفتـه بها .. وما وصل الخـبر لهما جن جنون هلال فجعله يُعجل في ختم الدرس الديني ويعود لمنزلها بصحبة أخيه …
يجلس الجميع بحديقـة البيت الصغيرة حيث هتف هيثم غاضبًا :
-وولد المركوب ده اتهوس چاي برجله لإهنه !! ورب الكعبة ما هحله المرة دي يا هلال .. ده ماعاملش حساب لحد واصل ؟
تدخل هلال الذي يتحكم بغضبه على قدر المستطاع :
-اهدأ ونحل الأمر .. كله سيُحل بأذن الله .
ثم نظر هيثم لرقيـة :
-رقيـة أنتِ كيف سبتيـه يمشي إكده ، يعني جيه اتخانق ومشي طوالي عشان أنا هكلم هارون قبل ما يعرف من المچلس .
شرعت رقية الجالسة بروي القصة على مسامعهم :
-انا فتحت الباب لقيتهم في وشي كيف القضا المستعجـل ..اترجفت ومعرفتش أعمل أيـه ؟
ثم نظرت لهلال الذي يتحاشي النظر إليها ولكنه يستمع لها بكل آذانه الصاغيـة فأكملت بنبرة متأدبة :
-وعشان قولتلهم معندناش بنات للجواز هاتك يا صياح ونواح كيف الحريم ..وامه هتبلغ عني مجلس القبيلة .
قرأ هيثم معالم وجهها التي ترتدي ثوب البراءة المزيفة والتي لا تليق بها وقال بخبث :
-رقيـة يعني أنتِ معملتيش حاچة واصل ؟!وايه خلاه يصيح وهاتك يا نواح زي الحريم!! اعترفي يا رقية..
-واصل يا هيثم وأنا في يدي أيه أعمله !! دانا غلبانة ..
تراقص شيء متحرك بقلب هلال يميل نحوها دومًا ترجمها عقلها شفقة على تلك المسكينة ولكن كانت عزيمته أقوى من أن تتبع هواه ويناظرها ، ارتسمت الضحكة على ثغر هيثم لانه قرأ انتقامها من المدعي بكر على وجهها واقترب وهو يناظر السيدة صفاء المغلوبة على أمرها وأكمل حواره مع رقية وهو يرفع قدمه فوق المقعد القصير مستندًا عليها بمرفقه :
-رقية معملتيش حاجة واصل واصل !!
رمقت هلال الذي يقبض على جمر غضبه وقالت بتهذب كأنها لم تقترف شيء :
-دشدشت القُلة فوق نفوخه وراسه اتفتحت .
هتف هيثم شافيًا غليله :
-ينصر دينك ما تبردي قلبي من الصبح ، ده يستاهل زير مش قُلة .
هلال بفخر خارجًا عن صمته وكأنها أراحت قلبه المشتعل بغضب الانتقام وزاحت غُمته :
-الله يحسن ما بين يديكِ يا أخت رقية ..
ردت عليه فارحة بتشجيعه بعفوية :
-وأيديك يا شيخ هلال ..
ثم وجه هلال حديثه للسيدة صفاء متقبلًا جملة رقية ببسمة واسعة وأردف :
-يا أم رُقية سأحل أي شكوى قدمها أمام المجلس ..
فهتف هيثم منفعلًا :
-وانا هستناه يطلع عليه نهار عشان يروح يشتكي !! دانا هجيب خبره الليلة… ده صغرنا يا هلال قدام الكُل !!
••••••••••
وصلت عجلات سيارة هارون لقُرب النجع وما كان أن يأخذ يساره فقطعت سيارة ما الطريق عليـه وعاقت سيره .. صرخت ليلة محذرة :
-خلي بالك !!
فرمل السيارة فجأة وهو ينتظر هويـة من قطع عليه الطريق بضيق ، لحظات وتدلى شريف من سيارته وهو يقترب من سيارة هارون ويفتح باب السيارة جهة “ليلة” قائلًا بهدوء خلفه شيء كارثي مُدبر :
-لي لي ، انزلي عايزك ..
وعلى الجهـة الأخرى يدق الفرح بمنزل صالح العزايزي وتُرقع اصوات الرقص والغناء و الزغاريد من أفواه النساء .. تقف نغم بمنتصف السُلم ممسكة بيد نجاة وهي في حالتها الهستيرية تترجاها :
-ألحقيني يا نچاة ، أعملي حاچة .. أنا مستحيـل اتچوز هاشم !! اتچوزو كيف وأنا عاشقة هارون أخوه …
*****

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى