روايات

رواية آصرة العزايزة الفصل الأول 1 بقلم نهال مصطفى

موقع كتابك في سطور

رواية آصرة العزايزة الفصل الأول 1 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة الجزء الأول

رواية آصرة العزايزة البارت الأول

آصرة العزايزة
آصرة العزايزة

رواية آصرة العزايزة الحلقة الأولى

♣️ الآصرة الأولى ♣️

أَحِنُّ إلى لَيْلَى وإنْ شَطَّتِ النَّوَى
بليلى كما حن اليراع المنشب
يقولون ليلى عذبتك بحبّها
ألا حبذا ذاك الحبيب المعذّب.

قد يُفاجئك لحن قديـم فيفتح شهيتك على مذاق الحُب الذي تعمدت أن تتجاهله آمدًا طويلًا ، جر ” هارون ” عباءته الصعيديـة وهو يقترب رويدًا رويدًا من أخيـه الجالس بالأرض تحت ظل شجرة البرتقـال ممسكًا عودهُ ويعزف عليـه قصائد ” قيس بن الملوح ” التي يحبها كثيرًا .. خطوات متمهلة على لحن الكلمـات ودقات العود المتناسقة وصلت أقدام أخيه لعنده وبدون إحداث صوت يقاطعه جلس منسجمًا متخذًا من جذع الشجرة مسندًا لظهره ..

كرر ” هيثم ” لحن الأبيات بطرق مختلفة بتركيز شديد حتى توصل للحن الذي هتف فيه هارون معلنًا إعجابه :

-الله !!!!

ترك العود أرضًا ودار نحـو أخيه متحمسًا وهو يعقد قدميه :
-عجبك ، صوح ؟! شايف في تطور زين !!

ثنى هارون قدمه اليسـرى وسند علي ركبته كفه الممسك بالسواك ؛ وقال ذائبًا بسحر الغنـاء :
-إلا عجبني !! ماهو الصباح ما يبقاش صباح من غير عزفك الحلو ديه ..

ضحكة طفيفة اندلعت من شدقه :
-طيب قول لي حابب اسمعك أيه ، بس يكون في معلومك خدمة قصاد خدمـة .

رفع هارون حاجبـه من جراءة أخيه وتجاوزه في الحديث معه :
-هي حصلت ؟! عـتساومني يا واد أنت ؟!

-أقلع عبايـة خليفة العزايزي دي ، وركز مع أخوك الصغير ، أنا بردك ماليش كبير غيرك بعد أبوي .

عقد حاجبيه الكثيفين ببعضهمـا :
-مطلع القصيدة كُفر !!مالها عاد عبايـة أبوك يا واد أنتَ ؟! هتخترف من أولها ؟!

-فوق رأسي ، ورأس النجع كله يا كبيرنا .. بس اسمعني اللول .

رد بجفاء مفتعل :
-هااه ، سمعني عايز تقول أيه .. ؟!

-عايز أخطب بت عمي وهدان يا هارون ، البت قالتها في وشي إكده لو مجبتش ناسي الجِمعة الجاية هتتخطب لوِلد غريب .

ثم اندفع نحو أخيـه :
-أنا عحبها قوي يا هارون ، أعمل حاجة عشان خاطر أخوك ، حتى نربطوا كلام مع ناسها والجواز على مهله ياسيدي .. أي قولك ؟!

ألتوى ثغره باستهزاء :
-ما تنشف وتصلب طولك ، مالك ؟!! هي الخسرانة مش أنت ، وبعدين ما عاش ولا كان الـ يلوي دراع وِلد خلفية العزايزي .

رد متيمًا :
-لاه هو عاش وكان وادهولت ، أخوك حب وطب يا أخوي .. والحب والكيف ذلتهم واعرة .. مايعرفوش لا كبير ولا طبيب يداويه …

-مش عاجبني حالك يا وِلد أمي وأبوي بس .
ثم رفع عينيه ولم تفارق البسمـة ثغره ولكنه أتبع قائلًا :
-خد رضـا صفيّة اللول وأنا اروح معاك من عشية .

انكمش وجهه بثنايا اليأس :
-ودي أعملها كيف ؟! دي حالفة ما في قرع طبل يرن بالدوار غير لما تفرح بولدها البكري ، الـ هو جنابك .. ما تتجوز وتفك نحسنا يا هارون وسيبك من مشاكل العزايزة الـ تقصف العُمر دي .

هز رأسـه بشموخ ثم أتبع بمزاح :
– أديك حافظها زين ، ومتنساش بعد مني هاشـم أخوك ، يعني لسه قدامك كتير .. عمومًا اتفق مع البت الـ عتحبها تحجزلك بتها لو ملكش نصيب فيها ؟!

-بتها يا هارون ؟!!

-يبقى طولت من الحب جانب يا مغفل، وهي أيه وبتها أيه ؟!

اكفهر وجه هيثم المغرم بـ رحاب وأخذ يلملم آلته الموسيقية :
-تصدق أنا غلطان إني عتكلم معاك ، ااه وأنت هتعرف الحب والمشاعر منين عشان تحس بي كفاية عليك غُلب ناسك .. مش عاوز منك حاجة يا هارون .. يا كبيرنـا … متشكر قوي .. خليك فاكرها .

أسبل عينيه ساخرًا :
-خُد أهنـه ، واخد في وشك ورايح على فين يا عم الحبيب أنتَ .

لوح بيده بدون اهتمام :
-قفل على الحديت دِلوق يا هارون .

على مساحة الثلاثون فدان بقلب الجبل يلف سور قصر خليفة العزايزي الفخم الذي يضم بداخله مساحة شاسعة من المباني المتعددة المتناسقة بجوار بعضها التي يسكنها أفراد العائلة المترابطة ، ومزرعة ضخمة للخيـول ، وحديقة واسعة تحتوي على مشاتل من الورود والبساتين المتنوعة ، يطوقها عدد هائل من الأشجار والنخيل التي تضلل عليـهم ..

طارت الفراشات من جواره فتبسـم ضاحكًا بسخرية :
-ماهو الـ بيغني لكم هج ، هـ تقعدوا معاي أنا ليه ؟!!

~المبنى الداخلي~

صوت رنين الجرس المزعج الذي لم يخلٌ منه القصـر ، ركضت ” فردوس ” لتفتح الباب مع علمها بهوية الطارق الذي استقبلته بنفس ثقيل :

-يسعد صباحك يا ست نغم .

طبعت نغم قُبلة سريعة على وجنتها وقالت بفرحة :
-وصباحك يا فردوس يا سكر أنتِ ..

ثم طافت أنظارها بساحة المبنى بسرعة بأعين متلصصة :
-خالتي صحيت ؟!

ردت فردوس على مضضٍ :
-طبعًا صحيت وهو في حد يصحى قبلهـا في البيت ديه ..

بخفة الفراشـة لملمت نغم طرف فستانها المشجر وهو تتمم على حجابها ، ولكنها توقفت متسائلة :
-وهارون .. ؟!

-ماله سي هارون يا ست نغم ؟!

تأملتها مليًا :
-جرالك أيه يا فردوس ؟! هتـردي عليّ السؤال بسؤال ؟! أقصد صحى هو كمان ؟!

-صاحي وقاعد في الجنينة الورانيـة .

قُبلة أخرى كانت من نصيب وجنتها الأخرى وقالت بشغف المراهقة المنسوجة من حبها الكبير لهارون ابن خالتها :

-هروح احضر له فطور ، أدعي لي يا فردوس ، هحليلك خشمك ده لو المراد بتاعي تم .

ضربت فردوس كف على الأخر :
-البنتة بقيت هي الـ تجري ورا الرجالة الزمن ده ؟! ألطف بينـا يا رب .

شرعت أن تقفل الباب ولكن باغتتها زينـة وهي تتدفعه بلهفة :
-استنى استنى يا فردوس ..

ثم وقفت أمامها معاتبة وهى تنزع وشاح رأسها :
-أنتِ مش شايفاني جاية رمح على نفس واحد .

امتقع وجهها وردت بحسرة :
-العتب على النظر يا ست زينة !

داعبت وجنتها بخفة كمن يمزاح طفل صغيـر وهي تمد أنظارها للداخل :
-بكرة أخدك ونشوفوا مقاسات النضارة .. الا قوليلي يا دوسه يا قمر أنتِ ، عمتي صفية فينها ؟!

-في المخزن بتشوف المحاصيل هتقضي ولا لا لغاية المحاصيل الجديدة ماتخش علينا .

أصدرت زينـة صوت إيماءة خفيفة بحذر وهي توشوش لها:
-طب وهارون .. فين أراضيه ؟!

-قاعد في الجنينة جار سي هيثم .

أخرجت زينـة من جيب فستانها ورقـة مطوية داخل قطعة قماش بيضاء ودسته في يدها :
-أقولك أيه يا فردوس ، عايزاكي تحطي ده تحت مخدة هارون .. أياكي حد يوعالك ..

-ده أيه ده يا ست زينة ؟!

رمقته بأعين محذرة :
-وطي صوتك يا فردوس هتفضحينا .

بصوت منخفض :
-أيوة معرفتش إيه ده بردك ؟!

ارتبكت زينة قليلًا :
-أممممم دهوت حجاب عشان يحفظ هارون من كل شـر .. هتطلعي تحطيه ولا أطلع أنا .

أجابت فردوس باستسلام :
-لا هحطه متتعبيش روحك..

-أحبك يا دوسه وأنتِ مطيعة ، هروح افطر وياه هارون قبل الوكل ما يلسلس .

ما كادت أن تخطو خطوتين ثم تراجعت لتؤكد عليها :
-فردوس ، أوعاكي تنسي .. هاه ؟!

-طوالي يا ست زينة .. متعتليش هم .

بخطوات أرنب مُقبل على الحياة تمايلت على طراطيف أصابعها نحو الحديقة التي يجلس بها هارون حاملة حقيبة الطعام بيدها وهي تدندن:
” طايـر يا هوا طايـر على المينـا .. رايح يا هوا تخبر أهالينـا .. قصة الهوى وتفتن علينـا !! أمرك يا هوىٰ و ”
حتى ارتطمت بكتف هيثم الذي يتشاجر مع طوب الأرض ، فهب صارخًا :
-مش تفتحي يا زينة ؟!!!قطر معدي ؟!

-أباي عليك يا هيثم !! وأنا كُنت ضربتك بطلقة ؟! مالك على الصبح !قول يسعد صباحك يا زينة !

لوح بيده متجاهلًا اسئلتها :
-مفيش .. وحلي عن راسي الساعة دي .

مطت شفتها بتعجب :
-ماله ديه ؟!

ثم نفضت غبار حيرتها وأتبعت سيرها :
-وأنا مالي ..
ثم أتبعت مدندنة:
-جينا يا هوا للبحر جينا .

وصلت زينة إلى الشجرة التي يجلس هارون تحتها فأقبلت عليـه بسعادة مترنمة :
-يا صباح الهنـا على كبيرنا وكبير نجع العزايزي كله من شرقه لغربه وضواحيه .. يسعد صباحك يا سيـد الناس .

-كيفك يا زينـة ؟!
أردف سؤاله بهدوء خالٍ من أي ضيق أو شغف في حوارها ، فـ جلست مقابله :
-أنا زينة وهفضل زينة طول ما حسك في الدنيـا ياسيد الناس ..

ثم أخذت تفتش وتفتح بالحقيبة البلاستيكية وتخرج منه عُلب الطعام :
-تعرف أن عيني مشافتش النوم طول الليل ..

-ده ليه ؟! عيانة أياك نشوف لك داكتور ؟!

داهمهـا الحُب وهي تبرر سبب يقظتها طوال الليل :
-بعد الشر عليـا ، عياي واحد وطبيبه واحد ما ينفعش بعيديه الطب كله .. بس هو يقول آه .

رصت الأطباق أمامه وهي جالسه على رُكبتيها وأكملت :
-سهرانة أعملك بيدي الفطير الـ عتحبـه ، مع هبابة العسـل هينسوك وكل صفيـة .

تربع هارون ليستقبـل إفطارها بفرحة عارمـة ويعبر عنها :
-وه وه .. جيتي في وقتك يا زينة ، ده الفطير لسه بناره .

-مطرح ما يسري يمري يا وِلد عمتي .

ما شرع أن يتذوق الطعام ويتلذذ من مذاق العسل الطبيعي أتت نغم على عجل وهي تحمل فوق رأسهـا المائدة المعدنيـة وتقول بضجرٍ :

-أنتِ أيه جابك الساعة دي يا زينة !!

شنت الحرب النسائية بينهن ، فردت عليها وهي تضع الخبز الساخن بيده :
-جرب دي كمان يا هارون من يدي ..

ثم عادت لنغم :
-عازمة ولد عمتي على الفطور ، فيها حاجة دي ؟!

وضعت نغم المائدة على الأرض ثم شدت الخبز من يد هارون بعنفٍ :
-والله ما هيفطر غير من وكلي يا زينة .

ثم ولت ناحيـة هارون وأخذت تبعد عنه الطعام الخاص بزينة :
-سيبك من الوكل الـ ينشف المعدة ده ، واشرب كوباية اللبن دي تِرُم عضمك .

تدخلت زينة بغضب :
-جرالك أيه يا نغم !! مش هتبطلي حركات العيال دي .. ما تسيبيه يختار على كيفه .

ردت الأخرى بتحدٍ :
-مش هياكل غير وكلي يا زينة ، ما تقول حاجة يا هارون .

مازال محافظًا على هدوئه يراقب تلك الحروب الدائرة حوله ، شدت زينة كوب الحليب من يد نغم بإصرار :
-متسديش نفسه على الـوكل وسيبيه يملى بطنه عيش اللول .

شدت نغم كوب الحليب منها :
-مالكيش فيه ، لازم يشق ريقه على كوباية اللبن الصبح ، مش فطير وعسل .

تأفف باختناق وهو يتمتم لنفسه :
-ياصبر الصبر على الصُبح !

تدخلت زينة وغمست اللقمة بالعسل وقربتها من فم هارون :
-سيبك منها ومن تقاليعها يا هارون وخد كُل من يدي والله ما أنت مرجعها .

انفجرت نغم بغضب يتطاير وهي تخطف اللقمة من يدها :
-قولتلك يشق ريقه باللبن اللول أنت ما عتفهميش .

طاحت يدي هارون بوجههن وهو يسب جنونهن :
-ولا وكلك ولا وكلها ، ومش طافح في أم اصطباحتكم المقندلة دي .

كادت زينة أن تدخل لتعارضه فقطعها بحزمٍ وهو يفارق مجلسهن :
-ولا كلمة قُلت …

لملم عباءته وترك لهن ساحة الحـرب الطاحنـة عليـه ، وصراع كل واحدة منهن أن تصل لقلب هارون العزايزي كبير عائلة العزايزي نيابة عن أبيه ، صاحب الرابعة والثلاثون عامًا تجمعت به هيبة وشجاعة الرجال لذا أصبح جديرًا بأن من يتولى حكم قبيلته بعد أبيه الذي أصابه الهرم ، فتنازل لابنه كي يطمئن على حكم العائلة في حياته .. زفرت زينة بامتعاض :
-استريحتي ؟! أهو مشي وهو على لحم بطنه ..

أردفت نغـم قائلة بحنق :
-ما بلاش كهن الحريم ده يا زينـة ، هارون مش هيجي بالحركات دي !

زينـة بسخرية :
-أومال هيجي بأيه يا ست العارفين يابتاعت المدارس ؟!!

ردت نغم متدللة وهي تفارقها :
-القلب وما يريد عاد ، مش بالحنجل والمنجل .. والسبع ورقات بتوعك .

تنهدت زينة ببغضاء :
-طيب يا نغم يا بت ونيسة أمـا وريتك !

~ أمام البوابة الخلفية ~

-خُد خُد إهنـه ، مالك طايح وواخد في وشك من غير حتى ما تصبح على صفيـة .

اكفهر وجهه واعتلاه الضيق :
-مفيش يا صفيـة ..

ربتت على صدر بحنو :
-على أمك بردك ؟! دول عينيك بيطق منيهم الشـرار .

انفجر بوجه أمه معبرًا عن غضبه :
-فهمي بنات أخواتك إني مش بتاع جواز دلوق خليهم يفكوا مني لوجه الله ، مش ناقص خوتة ووجع راس أنا يا أما .

ضحكت بملامح عجوز على أعتاب الستين :
-هدي روحك يا حبيبي ، وقول لي قلبك مايل لمين أكتر ، نغم ولا زينـة .. ولا أقول لك ؛ الاتنين غلابة ، أنا أجوزك الاتنين في ليلة واحدة ، أيه قولك ؟

استولى على صوته الأسى والهزء :
-ياصبـر الصبر ؟! أنا هارون العزايزي يا أما مش هارون الرشيدي .. فوقي الله يراضيكي مش ناقصين خوتة ..

انكمشت ملامحها بامتعاض :
-يعني أيه هتقضي العمر إكده بطولك من غير لا عيل ولا تيل ؟! ده أبوك وهو في سنك كان معاه أربع رجالة يسدوا عين الشمس .

جز على شفته السفلية :
-صفيـة ، حلي عن راسي الساعة دي ، مش أنتِ وبنات أخواتك عليّ .

وقفت أمامه كالجبل الذي لا تحركه ريح غضبه :
-أوعاك تكون باصص على واحدة من براة القبيلة ؟! أنت عارف زين عرف العزايزة ؛ مستحيل يدخلوا دم غريب بيناتهم .. أوعاك يا روهان ياولدي .

بكبرياء الطاووس هب بوجه أمه معارضًا :
-لا بره ولا جوه ولا يشغلني صنف الحرام ده واصل ، وسعي عاد خليني أروح أشوف مصالحي .

-ماشي يا هارون بس يكون في معلومك أنا صبرت بما فيه الكفاية ، وصبري له آخر ..

ربت على كتف أمه برفق :
-خشي عشان متستهويش يا أما ..

ثم انصرف وهو يسب بنات حواء جميعهن :
-والله العاقل يخوتوه ..

-روح ياولدي ربنا يفتح نفسك على صنف الحريم قادر يا كريـم .. دعوة وليـة في ساعة صُبحية .. أقبلها مني يارب ..

••••••••
” مرسى علـم “

صف هاشم سيارته المرسيدس أمام المنزل السكنى المكون من ثلاثة طوابق يسورها حديقة غاية في البساطة والجمال ، تناول ” كابه العسكري ” ووضعه تحت إبطه وهبط من سيارتـه متجهًا نحو بوابة منزله الأنبق .. ما أن اخترق مفتاح كالون الباب الخشبي الكبير سبقته ” رغد ” زوجته وهي تفتح الباب ويسطع اللؤلؤ من عينيها وهي تردد اسمه وترتمي بين ذراعيه :

-هاشم، أخيرًا جيت .

هاج قلبها ببلابل الشوق وهي معلقة بين يديه بأقدام محلقه في سماء الحُب :
-أسبوعين بحالهم يا هاشم .. ؟!

طوق زوجتـه السرية عن أهله بلهفـة مُحب وهو يطبع وسام اشتياقه على جدار عنقها :
-أنتِ عارفـة أن ما يبعدنيش عنك غير الشديد القوي .

فارقت حضنه بأعجوبـة وهي تسحبـه للداخل بحماس الطفولة :
-تعالى تعالى ، مامي جوه سلم عليها .

قال في شيء من التهكم هامسًا :
-هي مطولة !

لكزته بحرج تابعته نظرة تحذيرية :
-بس بقا لتسمعك وتزعل .

رمى ” الكاب ” على الطاولة ذات السطح الرُخامي واتبع بهمس يشعله الشوق :
-أنا أجازة ٤٨ ساعة مش عايز أضيع منهم دقيقة واحدة ..

ضغطت على كفه وهي تقترب من أمها وبثغـر ضاحك :
-مامي ، هاشم جيـه .. قوليلو بقا أنا كُنت لسه بعيط لك وأقولك واحشني أد أيـه .

وثبت سامية لتُصافحـه ثم تعانقـه بقلب أم :
-نورت بيتك يا حبيبي ، شيـل بقا شوية من نكد ست رغد ..

ألتف ذراعه حول خصرها وشدها إليـه :
-مش أنا قايل لك عندي مأموريـة المكان الـ رايحهُ مفيهوش شبكة .

نظرت إليه نظرة تملأها نار الحب التي تلتهم غابة وهي تمرر ظهر كفها على وجهه بهيام :
-أعمل أيه في قلبي طيب .. !!

تدخلت أمها بلطفٍ :
-أنا كده اطمنت عليها ، اسيبكم بقـا وأروح بيتي وأشوف زرعي اللي دبل بسبب الست رغد .

تدخلت رغد باعتراض :
-مامي استني اتغدي معانا ..

ضغط هاشم على كفها كي تصمت فلاحظت أمها فعلته فاستقبلتها برحب وابتسامة هادئة ، بادلتها ابنتها ابتسامة رقيقة لكسر ما سببه إليها من إحراج :
-سيبيني بقا أرجع بيتي وحشني .. هغيـر هدومي وامشي .

أخذ يترقب خطوات حماته المتهملة حتى لمست أقدامها أعتاب الدرج ، فأنقض هاشم على فريستـه التى تراجعت للوراء بفزعٍ ورفض قاطع لتصرفه الذي ينتويه في تلك الأثناء طاحت يدها بالفازة الزجاجيـة لترتطم بالأرض فيتهشم فتاتها هنا وهناك ، توقفت نادية بقلق بمنتصف السُلم متسائلة :

-في حاجة يا ولاد ؟!

رد هاشم على الفور وهو يحمل رغد ليحمي أقدامها الحافيـة من فتات الزجاج المنتشر وبلهجته القهراوية التي لا تتبدل إلا معهما :
-لا يا طنت ، دي رغد عندها فرط حركة بس زي ما أنتِ عارفه .

عاتبته رغد هامسـة :
-عاجبك كده ؟!

توغل في أحشاء عينيها :
-وحشتيني الله .. !!

ثم حملها برفق وأجلسها على الطاولة مبتعدًا عن دائرة انتشار الزجاج وقال بتنهيدة تشبه شهقة الغريق متغزلًا بجمال المرأة ذات الشعر الغجري التى وقع بشباك عينيها منذ عامين وقبلت أن تكون زوجته بدون علم أهله رغم علم أهلها وأصدقائها وإقامتهم لحفل زفاف عائلي بمرسى علم ، العشق كالضبابة السوداء إن حلت بقلب إمراة عمتها عن جميع حقوقها :
-وبعدين فيكي ؟

-الله ؟! وأنا عملت أيه ؟!

ارتدى ثوب الصعيدي المُتيم وهو يجيب :
-كفاياكي حلاوة عاد ..

رن صوت ضحكتها بأرجاء ” ڤيلاتهم ” الصغيرة وقالت :
-بخاف منك لما تقلب صعيدي فجأة كده .

رفع حاجبـه مستنكرًا فأنقذت نفسها موضحة :
-بس بعشقك في كل حالاتك …..

•••••••••

~ الاسكندرية ~

في غُرفـة المرأة الأكثر اختلافًا ، إمراة لا تشبه إلا نفسها غير عاديّة.. لا يقارن جمالها إلا بـ الأشياء الأكثر رقّة وصلابة .. يقويها الجرح لا يضعفها و يزهر فيها بدلًا من أن يذبلها وتحوّل أحزانها إلى درجات سُلم تدوس عليها كي تعلو أكثر وأكثر .

ضمت الإطار الذي يحمل صورة والدها ، سيادة اللواء “سامح الجوهري” الذي أصابته المنيّة قبل أربع سنوات ، اطالت النظر بالصورة بملامح يخالطها العجز والشوق :

-يعني مش لو كُنت موجود دلوقتي كنت وفرت علـيا التعب ده كله ، مفيش حاجة كسرتني أد غيابك يا حبيبي .. لو كان بس ينفع أديك من عُمري ، عمري كله بس تبقى موجود ، أو نفارق الحياة دي سوا .. محدش فينـا يسبق التاني .. وحشتني يا بابا .

قطعت لحظات شكواها صوت المساعدة الخاصة بمنزلهم وهي تقول :

-أنسة ” ليـلة ” .. شريف بيه على التليفون .

تناولت الهاتف من يدها وهزت ورأسها على مضض وقالت :
-أقفلي الباب وراكي يا دادة لو سَمحتِ ..

ثم قعدت بمللٍ على طرف السرير وهي ترد على الهاتف المنزلي :
-شريف .. أنتَ بتكلمني هنا ليه ؟!

أجابها الرائد شريف أبو العلا ، معاون مباحث المركز الذي ينتمي له قبيلة العزايزي .. ويكون خطيبًا لـ ليلة منذ عامين ماضيين .. زفر شريف بضيق:
-شوفي موبايلك وأنتِ هتعرفي ..

ألقت نظرة سريعة على شاشة هاتفها وهي تضغط على شفاهها بإحراج وبلهجة اسكندرانية عبرت عن خجلها متمتمة ” أحيـه** ؟! ” ، ثم قالت لتلطف الأجواء بينهم :

-سوري سوري ، بجد آخر مرة هنسى فيها الموبايل سايلنت ، بجد سوري .

تامر تحت ضغط الانزعاج :
-مش كل مرة يا لي لي .. أنا بجد تعبت معاكِ وزهقت .

-خلاص بقا يا سيادة الرائد قلت آخر مرة ..مش هتتكـرر تاني .

زفر بحنق :
-ماهي كل مرة بتبقى آخر مرة وبردو .

ابتسمت بلطف لتنهي الشِجار القائم بينهم :
-خلاص بقا قلت سوري .. متقفشش وتعكر اليوم .

جلس ” شريف ” على مقعد مكتبـه مغلوبًا على أمره :
-جهزتي حاجاتك ؟!

-اه يا حبيبي .. هسلم على مامي وهنزل على طول .

هز رأسه متعجبًا بجبين منكمش :
-هتنزلي فين مش الطيارة بالليل ؟! لسه بدري ..

شعرت بالتوتر إثر انكشاف كذبتها أمامه ، فبررت موضحة :
-أحيـــه !! قصدي هنزل أروح القنـاة اسلم التقاريـر الـ معايا وهروح اقعد مع جوري والبنات لحد ميعاد الطيارة.

تعجل في إنهاء المكالمة الهاتفية إثر دخول العسكري ، فقال بتسرع :
-تمام يا لي لي ، هكلمك كمان شوية ، باي باي دلوقتِ عندي شغل .

ألتوى ثغرها بمللٍ :
-باي باي .

ثم قفلت الهاتف لتتنفس الصعداء وتطرد غبار مخاوفها من كشف أمرها ، أخذت تسب نفسها علنًا :

-غبية غبية ، كام مرة أقول لك هتخبي حاجة كوني أدها .. لسانك الفالت ده وبعدين فيه !!

ثم نظرت في ساعة يدها بحماس وهي تلملم حقيبتها وشاحن هاتفها :
-كده يا دوب ألحق ..

” ليلة سامح الجوهري ” تلك جميلة الروح قبل الملامح صاحبـة الثامنة والعشرين عامًا من العمـر بقلب لم يبلغ الثماني سنوات وعقل بلغ الستون من النضج ببعض الأوقات .. ‏اتدرك المعاناة التي يجتمع فيها براءة القلب مع نضج العقل ؟! ..
شعور يجبرك أن تعيش في صراع دائم حائرًا بين طفل في صدرك وعجوز في راسك ،كِلاهما لا يتقبـل أفعال الآخر …
فتاة متعددة المواهب تعشق المغامر والغناء والعزف ، تفضل قيادة السيارات لم يفارقها سباق إلا وشاركت فيه ..

خريجة إعلام حلمها الـوحيد أن تبقى إعلاميـة مشهورة ولديها برنامجها الخاص الذي تتحدث فيه عن كل الحقائق الكامنة والمكتوب عليها بالخط العريض ممنوع الاقتراب دون قيود أو خوف ، مؤمنة بأن الأعلام هو المنارة الأولى لتنويـر العقـول ونصرة الحقوق .. جاءتها الفرصة العظيمـة لتحقق حلمهـا ولم تتردد للحظة في السير إليه بكل شغف وإصرار مهما كانت النتيجة؟!!

يقال أن للسُبل نتائج آخرى غير تلك التي نقطعها لأجلها ؛ فيا ترى ما تلك النتائج التي ستواجه ” ليلة ” أثناء بحثها عن ذاتها عن حلمهـا ؟! والأكثر إيلامًا هي ستصل أم سيكون مصيرها كمصيـر كل من سعى وكان الخذلان نهايته ؟!

انتهت من وداع أمها السيدة نادية أبو العلا من أمهر وأشهر طبيبات مصـر في معالجة الأمراض النفسية والعقلية.. هبطت ” ليلة ” من منزلها لتتوجه إلى سيارتها المركونة أمام البنية ذات الطراز الحديث ، وضعت النظارة الشمسية على عينيها وهي تحمل شالها الصوف خوفًا من انقلاب الطقس الخريفي فجأة ثم أخذت المفتاح من السائق وهو يؤكد عليها :
-يا استاذة ليلة متأكدة إنك هتنزلي نجع حمادي لوحدك بالعربية ؟!

ردت باستهزاء للموضوع :
-وفيها أيه يا عمو !!، أنا متعودة أسافر أماكن أبعد من كده كمان لوحدي بالعربية .

تابع خُطاها مقترحًا :
-طيب تحبي أجي معاكي عشان لو تعبتي لقدر الله .. بصراحة قلبي مش مطاوعني اسيبك لوحدك يا بنتي أنتِ أمانة سامح بيه الله يرحمه .

مازحته قائلة :
-أنت عارف إن ميتخفش عليـا بالذات من السواقة .. يلا بقا يا عم حسن كلها كام يوم وهتلاقيني رجعت أدوشك من تاني .. أدعيلي بس الموضوع يظبط …

-منصورة إن شاء الله يا بنتي .
قال جملته وهو يفتح لها باب سيارتها ” بيجـو 3008 ” حمراء اللون .. صعدت ليلة والحماس يتطاير من صوتها كما تتطاير خصلات شعرها البنية في الهواء :
-أشوفك على خير يا عم حسن ..

باستسلام :
-ربنا يسلم طريقك يا بنتي ويوقف لك ولاد الحلال …

••••••

~ عودة لقصـر العزازي ~

-يا خبـر !! ودي تيجي يا عمـتي ، تُقفي تطبخي وأنـا موجودة ، ده أنا عليـا شهقة ملوخية مفيش بعديها .

قالت زينـة جُملتها وهي تتناول المغرفـة من يد ” صفيـة ” وتتأهب لإعداد الوجبة بدلاً منها كي تنال رضاها .. سحبت صفيـة المقعد وجلست فوقـه بتعب وهي تتأوه :
-شالله تعيشي يا زينة يا بتي ..

ثم نادت على فردوس التي لبت النداء على الفور :
-استعجلي خضر يا فردوس عشان ياخد الغدا للعمال في المحجـر تلاقيهم وقعوا من الجوع ..

ما كادت أن تتحرك ولكنها أوقفتها قائلة :
-وروحي المطبخ الكبير قولي للبنات يشهلوا ويبطلوا مياعة وهيء وميء ، الضهر جيه وهما لسـه مخلصوش الوكل للناس .

فردوس بطاعة :
-حالًا يا ست صفيـة ..

جاءت نغـم في تلك اللحظة مهللة :
-أنا فضلت واقفة فوق راس البنات لحد ما خلصوا كل الوكل يا خالة ..

ثم طبعت قُبلة على كتف خالتها وهي تحملق النظر بزينة :
-شوفتي محدش حاسس بيكي غير نغم .

ربتت صفية على كفهـا بحب :
-ربنا يباركلي فيكي يابتي ..

ثم همست لها :
-أوعى تفكري الأم هي الـ ولدت ، لا دي اللي ربت يا عبيطة ، الله يرحمها أمك سابتك حتة لحمة حمرة وأنا اللي ربيتك وكبرتك ودخلتك كليـة التجارة زي ما أمك كانت عايزة بتها تحون متعلمة ومتنورة .

دب الغيظ بقلب زينة التي تركت الطعام وانضمت لحديثها قائلة :
-يعني أيه الحديت ده يا عمتي !! وأنا يعني مش بتك ولا نابني من الحُب جانب .

ألتوى ثغر نغم بضيق:
-واحدة وخالتها ، حاشرة نفسك ليـه بيناتهم يا زينة ؟! ياباي منك .

لكزتها زينة بغيرة نسائية وجلست تحت يدي عمتها :
-عاجبك حديتها الماسخ ده يا عمة ؟!

ضحكت صفيـة من جنانهن :
-أنتوا على طول ناقر ونقير إكده ؟! مولدين فوق روس بعض ؟!!

حملقت نغم باستنكار :
-أنا نقري من نقر دي ؟!! محصلش ، الا لو هي الـ عينها مني .. عشان أنا الأحلى .

زينة بامتعاض :
-ما تحاسبي على كلامك يا ست نغم ، أنتِ ناسية أنا مين وأبويا منين ؟! ولو على الحلاوة النجع كله بيتحاكي بجمال بت صالح العزايزي .

وضعت نغم يديها بخصرها وهي تزيح شعرها الأسود جهة كتها الأيمن :
-وقالولك أنا الـلي جاية من الشارع أياك يا زينة ؟!! .

رمقتها زينـة باستهزاء ثم سحبت المقعد الخشبي والتصقت بعمتها :
-يعني يا صفية لو قالولك اختاري واحدة بس تكون مراة هارون ولدك ، هتختاري مين ؟!

جرت نغم مقعدها والتصقت بخالتها من الجهة الأخرى بمزاح :
-آكيد أنا ، متعلمة كيف هارون وراسي توزن بلد وأنسب واحدة لِيه .

صرخت صفيـة بوجههن :
-انا عن نفسي قولتله اجوزك الاتنين عشان اخلص منكم ومنه ومن خوتتكم دي .. أنا كبرت ومعتش حِمل المناهدة دي !

هب الاثنتان بنفس واحد وبأعين متحمسة :
-هاه وايه قوله ؟!

تفوهت بملل بعد ما فاض صبرها من ابنها وبنات أخواتها :
-لعن الجواز على اللي عايز يتجوز ، وبصراحة عنده حق ، أنتوا الجوز تجيبوا الفقر .. قومي يا بت منك ليها شوفي لك مُصلحة … بدل ما سادين نفس الولد عن الجواز إكده .

امتنعت نغم بشدة :

-أنا ابقى ضرة دي ؟!

هزت زينة رأسها بكيد انثوي :
-ومالها دي يا عينيا !! ناقصة أيد ولا رجل ؟!!

دخلت ” هيـام ” أختهم الكبرى عليهن وهي تحمل جبال الهم فوق ملامحها ، فنظرت لها نغم بترحاب :

-أهي عروستنا وصلت أهي ؟!!

تدخلت زينـة عندما لاحظت وجهها الشاحب :
-وه وه!! مالك لاوية بوزك يا عروسـة ولا كأنك هتتجوزي أخر السبـوع .

تجاهلت حديثهن واسئلتهن الفضولية :
-فين هارون يا أما ؟!

-نزل شغله ياهيام يشوف مصالحه ..

جلست ” هيام ” تحت قدمي أمها بأعين باكية :
-يا أما أحب على يدك انا مش عايزة اتجوز ” ضيا ” ولا قادرة أبص في وشه .. حرام عليكم حسوا بي .

قالت زينة معترضة :
-ما أنتِ كنتِ رايده وموافقة عليه يا هيام !! جرالك أيه !!

جلست نغم بمستوى خالتها وضمت كفيها :
-يا حبيبتي !! هو الجواز بالعافية يا خالة ، البت مش رايداه ومعاها حق ، ضيا مين يطيقوه في النجع كله .

تعلقت ” هيام ” بحبال كلمات نغم :
-قوليلهم يا نغـم ، أنا تعبت .. مش عايزاه يا ناس مش عايزاه ..

تدخلت صفيـة بحدة المراة الصعيدية :
-اسمعك تقولي إكده تاني هكسر راسك ، أياكي تكوني شايفالك شوفة من الجامعـة بتاعتك ، والله اقطع خبرك عن النجع..

انفجرت هيام باكية :
-مش عحبه يا أما .. مش عايزاه .. ولا عايزة اتجوز من أصلو أيه قولك عاد ! .

هبت رياح صفية الحاسمة :
-وأحنا مش عنتجوزوا عشان الحب والكلام الفارغ دهوت يا بت بطني .. الجواز سُترة للبت وعشان نحفظوا نسـل العزايزة ، أما الحُب والتقاليع دي مش في عُرفنـا ياضنايا..الـ يتفقوا عليه الرجالة يصير وأنتِ وافقتي من اللول .

ربتت زينـة على كتف عمتهـا بيدها المكدسة بالغوايش الذهب :
-روقي يا صفيـة ، الزعل غلط عليكِ .. هدي روحك وأحنا هنتكلموا معاها ونفهموها .

تفوهت صفية بحزم :
-ولا كلمة زيادة في الحديت ديه ، سامعة يا بت بطني .. روح جهزي روحك وأفرحي .

ثم سبت الحب جهرًا :
-قال حُب وكلام مايع ملوش لون ولا ريحة !!

فرغت ” هيام ” كالملدوغـة وهي تفارق مجلسهن :
-إكده يا أما ؟! طيب أنا هروح اشتكي لأبوي ولو موقفش جاري وربنا وقبل ماالبس الفستان لضيا هتلبسوني الكفن .

أغرورقت العبرات من عيني صفية بحسرة :
-أبوكي عيان ومش حِمل هم يا بت .. خِدي إهنه !! يارب خدني أنا وريحني من عيالي ، لا عارفة احكم على واد ولا بت .. عملت أنا ايه في دنيتي بس يارب ، شيعي لهلال ولدي يرقيني ، دي عين مراة صديق ورشقت .

•••••••

~ مرسى علم ~

بأقدام حافيـة تتدلل رغـد أمام ” بـار ” مطبخها الذي اقترب منها هاشم بعد ما تحرر من قيود زيه العسكري مكتفيًا ببنطال رياضة تاركًا عضلات جسده للهواء الطلق .. تناول ثمرة من الفاكهة وجلس على أحد المقاعد وهو يسألها :

-هتأكليني أيه من أيدك …

ردت رغد وهي تعد قطع الدجاج :
-بيكاتا بالمشروم والوايت صوص وجمبهـا رز أبيض هتاكل صوابعك وراها ..

جذب كفها لعند ثغره وطبع بداخله قبلة دافئة ثم قال :
-أنا نفسي كدا تسيبك من الأكل الخواجاتي ده ، وتجربي الأكل الصعيدي الـ على أصله .. رقاق بالسمنه البلدي .. فتة باللحمة الضاني .. فطير مشلتت بالعسل والجبنة ..

تركت السكين من يدها متحمسـة :
-بجد يا هاشم ؟!! أنا نفسي أوي نروح هناك وتعرفني على أهلك .. حقيقي بحاول اتخيل هما ازاي وعاملين أيه .. أنا بجد نفسي أحس أن ليـا عيلة وعزوة ..

لُطخ وجهه بحمرة الامتعاض واكتفى بهز رأسه بدون اهتمام :
-قريب قريب ياحبيبتـي ..

شيعته بنظرة تكذيبه ولكنها غيرت مجرى الحديث قائلة :
-هتنزل الصعيد طبعًا ؟!

ابتسم بهدوء لدهائها :
-طبعا لازم أخد رضا صفية قبل كُل مأموريـة ..وكمان عشان فرح هيام أختي آخر الأسبوع ..

رغد بفضول :
-احكي لي عن الصعيد شوية .. وصفيـة وأخواتك ، كله كله ؟! أنا نفسي أجي معاك أحضر الفرح .

دار إليها باهتمام :
-الأول عايـزة تعرفي أيه ياستي عن الصعيـد ؟!

برقت عينيها بحماس وهي تدنو منه قليلًا :
-قول لي عندكم بنات حلوة في الصعيد .. ؟!

رفع حاجبه مشيدًا بجمال بنات موطنه :
-وهو فيه زي حلاوة بنات الصعيد ، عارفة الفرق بين الفرس العربي الأصيل والأمريكي ؟!! أنتِ طبعًا خيالة وعارفة الفرق كويس .

اكفهرت ملامح وجهها بضيق :
-والله ؟!! وسبتهم لي بقا وجيت لي.. ؟!

امتلأ محياه بالضحك وهو يفارق مقعده ويتحرك إليها :
-عشان لقيت فرس عربي أصيـل تايه في مرسى علم قلت مكنش ينفع أسيبه أبدًا .. لازم يكون ملكي .

ثم طوق خصرها بقوة وأكمل :
-وأنا خيـال وأعرف أقدر زين قيمة المهرة اللي قصادي .

حاولت التملص منه مفتعلة الزعل :
-مابقتش أكل من الكلام ده .. ووسع كده مخصماك ..

ثم قفلت عين الموقد وقالت بحدة :
-ومفيش أكل كمان .. روح بقا للبنات الحلوين في الصعيد وهما يأكلولك .

ذاب بين خصيلات شعرها الغجري وهو يقول متيمًا بتلك المراة التي جعلته يتمرد على أعراف بلدته بأكملها ويختارها :
-مش مهم الأكل ؛ تيجي أعزمك أنا ؟!!

دارت بين يديـه لتبقى يديهـا بعنقـه ويديه مطوقها خصرها النحيـل ، متعلقة بعينه المنكسرة في حضرة جمالها :
-هتعزمني على أيه ؟!!!

-على الباقي من عمري ليكي لوحدك .
كانت جملته بمذاق القُبلة التي بدأت بلهفـة ثم متمهلة تدريجيـًا بمقدار الأدرينالين المتدفق من جسده عند رؤيتها ، زاح خصلة عن وجهها وسألهـا :
-أي رأيك ؟!

كل نظرة منها كانت تحمل بيان صريح لاعترافها بعشقه الذي فاق الحدود لذلك الرجل الذي غمرها بماء الحب حتى باتت لا تستطيع التنفس إلا بوجوده ،‏بالرغم من وجوده الشحيح معها لدرجة أن بُعده يقتلها مثلما يحييها قربه بالرغم من إنه لا يقدم لقلبها إلا الحُب فقط الخالٍ من أي تضحيات ولكنه قادر على زرع الزهور بصدرها ، بالرغم من اللاشيء الذي لا يُقدمه إلا انها تعشقه :
-وأنا موافقة طبعًا .. هاشم أنا بحبك أكتر من أكتر حاجة في الدنيـا ….

ثم ……
قد يحدث ألا يكفي المرء إلا الصمت لا مزيد من
الكلام يمكن أن يصف ما يشعر به ، لا مزيد من الشعور والنظرات والعبرات توفى لسعة الحب بالصدر المدجج بناره ، ولكن ربمـا للروح تنجح في التعبير لأي درجة من الحب وصل لها القلب …

•••••••

غَرُبت الشمـس وطوت خيوط نهارها مع الهموم المُعلقة بالقلوب الحائرة .. اجتمع كبار آل العزايزي وعلى رأسهم خليفة العزايزي الجالس معهم يستفسر عن أمور بلدتهم وغيـرهم بالمندرة الكبيرة الخاصـة بالعائلة لحسـم بعض الأمور العائليـة .. غادر هيثم مجلس الرجال ليهاتف أخيـه :

-فينك يا هارون ، اشحال مأكد عليهم يجوا بعد العشية ..؟!أبوك على آخره .

على الطريق الصحراوي يقود سيارته بأقصى سُرعـة :
-مشوار في سوهاج كان لازمًا أروح له ، كلها نص ساعة وأكون عندكم .. عشي الرجالة لحد ما أوصل .. وخليك جار أبوك .

-طيب يا أخوى استعجل .. ألو .. هارون الشبكة عندك ساقطة لو سامعني عجل الله يرضى عنك مش ناقصين لت وعجن ..

كرر ندائه :
-هارون .. سامعني ؟!

شرعت حبات المطر تتقطر على زُجاج سيارته ربما تعلن باستقبال ضيف جديـد لضواحي المنطقة .. شغل مساحات سيارته وزود من السرعة كي يلحق بضيوفه متأففًا :
-مش بعادتها تنطر يعني !!

وعلى جانب الطريق تقف “ليلة” تلعن حظها الذي لم يسعفها لمواصلة طريقها بدون عوائق .. توقفت جانب الطريق تفحص ” عجلات ” السيارة التي انفجرت أحدهن بكشاف الهاتف .. وقفت بملامح عجزها ثم ركلت العجلة بقدمها وهي تعاتبها :
-لازم تعمليها يعني ..؟!!

ثم نظرت للسمـاء التي تُمطر قطرات خفيفة فوق رأسها :
-اااه ما كملت بقا ؟!! أيه الحظ ده ..؟!

حاولت الاتصال بشريف كي ينقذها من تلك الورطـة وهي تقول :
-مش لازم اقلق مامي .. أي نعم شريف مش هيعديها بس أعمل ايه مفيش حل تاني؟!!

أغرورقت عينيها بالدموع للعجز وقلة الحيلة التي تعاني منها :
-لااا وكمان السيجنال واقعة ؟!! كده كتير ؟!!!! والحل ؟!

أضاءت جميع فوانيس السيارة لتلفت نظر أي شخص على الطريق الصحراوي و يقوم بمساعدتها وقفت بعجز وقلة حيلة أمام سيارتها وقطرات المطر تزداد رويدًا رويدًا .. تحول حماسها لخوف وقلق ، قررت تطلب المسـاعدة من السيارات المارة بجوارها ، اشعلت كشاف هاتفها مرة آخرى وأخذت تلوح كالغريق أمام السيارات حتى رماها القدر أمام سيارة هارون القادم بأقصى سُرعة ممكنة ، لفت نظره الأنوار المتحركة عن بُعد ، هدأ من سرعة السيارة وكثف الضوء الصادر من مصابيح سيارته حتى صف بجوارها ..

نزل من سيـارته بجلبابه الصعيدي الذي يزيده هيبـة ووقار وعشرين عامًا فوق عمره متعجبًا عن سبب وقوف فتاة بمفردها بهذا المكان .. أقبلت ” ليلة ” نحوه كالعطشان المقبل على بحيرة من الماء :

-من فضلك ممكن تساعدني ؟!

قفل هارون خلفه باب سيارته مندهشًا ومعاتبًا :
-أنتِ كيف واقفة بروحك في مكان زي دِه !! اتهوستي ؟!

ردت بعنفوان يحمل وميض السخرية :
-أكيد مش واقفة ألعب تحت المطر !!

ثم أخذت زفيرًا قويا لتهدأ :
-مش معايا استبـن والكوتشي نام ومش عارفة أعمل أيه ؟!

تحرك خطوتين ليفحص السيارة فأتبعت خُطاه :
-أنت ممكن تساعدني مش كده ؟! بص أنا كنت سايقة على الطريق كده فجأة سمعت صوت غريب زي الفرقعة بصراحة اتخضيت أوي ، وو

فاض صبره من ثرثرتها الفوضوية :
-ينفع تبلعي ريقك هبابة لحد ما أشوف العربية ..

أجابته بتوتر يتقاذف من كلماتها :
-حاضر حاضر .. أنا بس كنت بحكي لحضرتك أيه الـ حصل بالظبط قبل ما تكشف على العربية …

تنهد بجزع وهو يتمتم لنفسه أثناء فحصه لعجلة السيارة:
-يا مثبت العقل والدين يا رب.

مالت نحوه بفضول :
-هااه عرفت فيها أيه ؟!!

نصب هارون قامتـه الصلبة :
-مسمار ولازم الكاوتش يتغيـر .. وطبعًا مش معاكِ استبن .

وضعت كفها على فمها من حول الصدمة وبنبرة طفولية :
-أحيـ**ـه ؟!!!!

تمددت ملامحه من شدة الدهشة لهول الكلمة التي تعد من الخطوط الحمراء في قاموسهم :
-أيه ؟!!!!

ردت بقلق :
-لالا .. قصدي وهعمل أيه في الورطة دي ؟!

تأفف بضيق :
-كُنتي رايحة فين الساعة دي ؟!

-كنت نازلة في فندق “___” بنجع حمادي .

قطع كلماتها بدون أن تُكمل :
-طب اركبي اخدك في طريقي ، هو يوم باين من أوله !!

هبت معبرة عن اعتراضها بطريقتها المميزة :
-أحيـ**ـه ؟!!

جحظت عينها بالغضب :
-تاني ؟!!!!

-لالا ، قصدي يعني والعربية ؟! دي ممكن تتسرق !!

وجهه الكشاف ناحية السيارة ليفحصها :
-متخافيش محدش هيسرقها عربيتك دي صيني يتعلموا عليها العيال كيف يسوقوا .

-هااه ؟!! أنتَ عارف دي بكام أصلًا ؟!!

نفذ صبره من حواره معها ، فهبت زعابيب غضبه :
-ياستي خلصينـا ، هتركبي أوصلك وابعت حد ياخد العربية ، ولا أمشي أشوف مصالحي ؟!

دمدمت شبه معتذرة:
-طيب حضرتك بتزعق ليه ؟! ما أحنا بنتكلم بالراحة يعني وبلاش تعلي صوتك عشان كده هتوتر أكتر وأنا أساسًا متوترة .

ثم استجمعت قوتها أمامها :
-وبعدين أنتَ أزاي تستجرى تعلي صـوت عليـا يا جدع أنتَ .. أنا محدش يقدر يكلمني كده ، المفروض يبقى في ذوقيات في الكلام ، أنا ضيفة عندكم .

رفع صوته فأجبرها على الإنصات إليه وقال بحسمٍ لا يقبل النقاش :
-هركب عربيتي ، ومعاكي من واحد لتلاتة ، يا ألقاكي ركبتي جاري ، ياما هسيبك في الصحرا وسط الديابة منك ليهم وهمشي ..

هتفت ممتعضة وهي تلوح بكفها :
-لسه بتزعق !! مش عايزة حاجة منك وفي ألف عربية هتعدي ممكن تساعدني ، اتفضل امشي عشان الدنيا طايرة عندك ..

ثم تمتمت مختنقة :
-إنسان قليل الذوق بصحيح !!

لم ينتظر السماع لـ ردها بل أسرع مستلقيًا سيارته وهو يجز على فكيه ويراقب ساعة يده ، قفز الرعب بقلبها عندما تركها بمفردها وجه لوجه تحارب كبريائها و رضوخها .. وقفت أمام سيارتها عاقدة ذراعيها بتحدٍ مرحجة الموت في قلب الصحراء على أن تخضع لرجـل متعجرف مثـله .. انتظر ” هارون” حتى مضى الوقت المحدد لها وبدون تفكيـر لف مقود سيارته نحو اليسـار ونفذ تهديده وهو ينسحب دون أن يلتفت لهذه القطة التي اختارت ظلام الصحراء عن الاستسلام والرضوخ لأوامره …

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى