رواية ترانيم في درب الهوا الفصل الثالث عشر 13 بقلم دودو محمد
رواية ترانيم في درب الهوا الجزء الثالث عشر
رواية ترانيم في درب الهوا البارت الثالث عشر

رواية ترانيم في درب الهوا الحلقة الثالثة عشر
مر عدة أيام وظلت ترنيم حبيسة داخل غرفتها، حيث انحصرت مشاعرها بين جدرانها الأربعة. حاول الجميع مساعدتها بقدر الإمكان، لكن قلبها كان مثقلاً، ولم تعد تشعر بلذة الحياة كما بالماضي. وفي حالة مشابهة، كان سلطان يعمل ليل نهار، محاولاً قمع مشاعره المضطربة، بينما يكتوي بلهب المعاناة التي سبّبها لحبيبته وابنة قلبه، كما كان يصفها. رغم أنه صعد الشقة مع فريدة وابنته، إلا أنه اضطر أن ينام بجوار ابنته، رافضاً الاقتراب من فريدة، على الرغم من محاولاتها المستمرة التي باءت بالفشل.
وكأن كل خطوة يخطوها نحوها تعني الانغماس في دوامة من الذكريات المؤلمة.
في صباح يوم جديد، كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النوافذ، لكن الحرارة لم تؤثر على مشاعر الغضب التي كانت تتصاعد داخل روح فريدة. ذهب سلطان إلى عمله، فيما نظرت فريدة أمامها بغضب مستعر، كان من الواضح أن الأمور لم تكن كما ينبغي. فتحت الباب وهبطت إلى الأسفل بخطوات ثابتة، حيث طرقت على باب شقة وفاء، التي فتحت لها ومعالم الضيق تتجلى على وجهها كإشارة على صراع داخلي. قالت بنبرة حادة:
“أنتي!! عايزة مننا إيه؟”
تحدثت فريدة بنبرة هادئة، محاولة كبح مشاعرها الغارقة في الألم:
“ممكن أقابل ترنيم.”
ولكن وفاء لم تخف مشاعرها، وردت بغضب:
“عايزة منها إيه، ما تسبيها في حالها، مش أخدي منها سلطان خلاص.”
التوتر كان واضحًا في كلامها، وكأن وفاء تحاول حماية ابنتها من المزيد من الألم.
ردت فريدة بصوت مختنق:
“على فكرة، أنا ما أخدتش منها حد، هي اللي أخدته مني أنا وبنته. ومع ذلك، تقبلت الوضع وقلت إن دي عيلة، ومصيرها تكبر وتنسى جوزي وتشوف حياتها بعيد عنه، بس هي اللي فضلت ماسكة فيه لحد ما شغلته واستغلت ضعفه وحبه ليها زي أخته وكان هيتجوزها. عموماً، خلاص، ده مش وقته الكلام ده، بس أنا محتاجة أقابل ترنيم ضروري.”
كان صوتها يحمل عبئًا ثقيلاً من الشجن، و شعورًا بالفقد الذي لا يمكن تجاهله.
سمعت وفاء صوت ابنتها الحزين والمنكسر وهي تقول لها بصوت محشرج من كثرة البكاء:
“سبيها تدخل يا ماما.”
نظرت وفاء إليها بغضب، وكأن شبح الزعل طاردها، لكن الأمومة غلبت عليها في نهاية المطاف، فوافقت وأفسحت لها الطريق، مفسحة المجال لتتحرك فريدة إلى الداخل. واجهت ترنيم والدتها بنظرة محمرة من شدة البكاء، وبدت ضعيفة كما لم تراها فريدة من قبل، وقالت:
“أتفضلي معايا في أوضتي.”
أومأت فريدة برأسها بالموافقة، غير مبالية بحالتها التي كانت تقطع القلب حزنًا عليها. أغلقت ترنيم باب الغرفة خلفها بحذر، ثم حركت رأسها لتحث فريدة على الكلام، وقالت:
“بسمعك، أتفضلي.”
كانت الأجواء مشحونة بالمشاعر المتناقضة، كل منهما يأمل أن ترتفع الجدران التي أحاطت بهما وأن تنشأ علاقة جديدة ترمم ما تم كسره.
تحدثت فريدة بصوت مختنق، يخنقها التعب الذي عاشته:
“من يوم اللي حصل، وسلطان مش راضي يكلمني، وبينام في أوضة رنيم لأنه شاكك إن أنا اللي قولتلك.”
عقدت ترنيم ذراعيها على صدرها، وكانت عيناها تلتمعان ببقايا دموع لم تسقط بعد. ثم أضافت بحيرة:
“أمم… والمطلوب مني أعمل إيه، أطلع أمسك إيده وأدخله أوضة النوم وأخليه ينام جنبك؟”
حركت فريدة رأسها بالرفض وكأنها تريد أن تبتعد عن الفكرة بقدر المستطاع، ثم قالت بصوت غاضب كشف عن استياء عميق:
“لا طبعاً، مش ده اللي أقصده، بس هو بيعزك وبيسمع كلامك وبيصدقك. يعني لو قلتي ليه إنك عرفتي الحقيقة بالصدفة من اسم بنته، هيصدقك، ويسامحني ويرجع تاني لحضني.”
وعندما تفوهت بآخر كلماتها، شعرت ترنيم بالحنين الذي راودها إلى ذاك الدفء الذي كانت تشعر به عندما كان سلطان بجانبها، لكنها سرعان ما تخلصت من هذه الأفكار الوردية وهي تدرك الواقع القاسي.
أغلقت عينيها بوجع وضغطت على أسنانها بغضب، وكأنها تحاول محاربة مشاعرها من خلال الألم الجسدي:
“أنا ماليش دخل باللي بيحصل ما بينكم. فوق، أنتي وجوزك حرين مع بعض، وأنا اللي عليا عملته وانسحبت من حياتكم. الباقي بقى ميخصنيش.”
وبصوتها الذي حمل شرارات الغضب، كانت تعرف أنها تعبر عن أعمق انفعالات قلبها الجريح.
أمسكت فريدة يدها بتوسل، كأنها تسعى لربط المواقف ولتسوية الأمور:
“علشان خاطري يا ترنيم، أنا استحملت كتير أوي علشانك.”
لكن ترنيم أغلقت قبضة يدها حتى تستحمل وجع قلبها، وكأنها في مواجهة غير متكافئة مع مشاعر الانكسار:
“قولتلك ماليش دعوة باللي بيحصل ما بينكم. فوق، افهمي بقى. سلطان بالنسبالي دلوقتي ولا حاجة. حلي مشاكلكم بعيد عني لو سمحتي.”
كان صوتها مختنقًا كأن كل كلمة تخرج من صدرها كانت تجرحها أكثر.
نظرت فريدة لها بغضب، غير قادرة على فهم هذا التحجر القاسي وكأنها تواجه جدارًا؛ ثم خرجت مسرعة وأغلقت الباب بقوة، مما جعل صوت صرير المفصلات يتردد في الغرفة كأنه يعبر عن القلق والارتباك. ارتمت ترنيم على السرير، وظلت تبكي بحرقه وألم شديد، وكأن كل نوبة من البكاء كانت تجدد إحساس الفقد الذي لم تستطع التخلص منه. استمعت وفاء لشهقات ابنتها، فدخلت سريعا وجلست بجوارها. ارتمت ترنيم داخل أحضان والدتها وتمسكت بها، وكلماتها تتفجر بألم شديد وكأنها تطلق صرخة روحها:
“آه يا ماما، مش قادرة استحمل. قلبي بينزف من جوه وكل يوم النزيف ده بيزيد أكتر ويوجعني أكتر وأكتر. نفسي أموت علشان أرتاح، من اللي حاسة بي ده.”
ربتت وفاء على ظهرها بحنو وتحدثت بنبرة حزينة:
“بعد الشر عليكي يا نور عيوني. مش هقدر أقولك انسي، لأني عارفة إن النسيان صعب عليكي. بس أقولك على حاجة، ارجعي شغلك من تاني. هناك يومك هيعدي في الشغل وهتنشغلي شوية عن وجع قلبك ده، وربك قادر يهونها عليكي يا ضنايا.”
كانت كلماتها تخرج وكأنها تهمس في قلب ترنيم، تأمل أن تكون لها مخرج من الآلام التي تعصف بها.
أومات ترنيم برأسها بالموافقة، وقالت من بين شهقاتها:
“أنا محتاجة أعمل كده فعلاً. قعدتي في الأوضة لوحدي بتخليني أفكر فيه، وأنا عايزة أنساه، مش أتعلق بي أكتر.”
كان عقلها مليئاً بالصراعات؛ كلما حاولت الابتعاد، كانت الذكريات تعود كأنها أشباح لا تستطيع الهرب منها، تلاحقها في كل زاوية.
قبلت وفاء رأس ابنتها بحب وقالت:
“ربنا يريح قلبك يا بنتي ويرزقك بأبن الحلال اللي يسعد أيامك.”
لكن ترنيم حركت رأسها بالرفض وتحدثت بغضب:
“أنا مستحيل أكون لراجل تاني يا ماما. أنا كنت ليه، وكل حته في جسمي عليها بصمته. مينفعش أكون مع أي راجل تاني. أنا هعيش حياتي لنفسي وبس.”
كانت كلماتها تعبيراً عن قهرها، عن العهد الذي قطعته على نفسها، والطريق الذي اختارته للعيش في عالمٍ خالٍ من الألم.
نظرت لها وفاء بوجع وحزن، وربتت على ظهرها، ثم استقامت بجسدها وخرجت مسرعة من عندها، انفصلت عنها كما لو كانت تترك جزءاً من قلبها خلفها. دخلت غرفتها وظلت تبكي بحرقه على ابنتها وألمها، تتمنى لو كان بإمكانها أن تأخذ معاناتها وتضعها في قلبها، لتحميها من هذه الحواجز النفسية التي تكبل ترنيم؛ كانت تعيش صراعاً داخلياً، وتحتاج إلى الدعم أكثر من أي وقت مضى لتتجاوز هذه المحنة التي جالت في روحها.
***************************
بالشركه…
جلست سميه على مكتبها، تأمل في حال ترنيم، مشاعر الحزن تتسلل إلى قلبها كظلال ثقيلة. كانت تلك اللحظة تعيد إليها ذكريات عديدة، ذكريات لم تتخيل أنها ستصبح جزءًا من واقعها، وهي تشعر بالعجز، فليس لديها ما يمكن أن يخفف الألم عنها. كانت تتمنى لو أن بإمكانها احتضان ترنيم وتخفيف معاناتها، لكن الظروف كانت تتلاعب بهم كأوراق الشجر في عاصفة. استمرت في هذا الوضع حتى قطع الصوت الغاضب لحسام صمت الغرفة، وهو يقول:
“والله انتي مش جايه تستجمي هنا، ورانا شغل عايزين نخلصه لو سمحتي.”
أغلقت عينيها، تشوبها الأفكار المتشعبة، ويشوبها الإحباط، فهي قد اعتادت على عصبيته المفرطة، لكن هذه اللحظة كانت مختلفة تمامًا. شعرت وكأن قلبها يعاني من وطأة الأيام الثقيلة، فقد مرت بفترة عصيبة ف اصطدمت بمشاعر لا تستطيع مقاومتها. نظرت إليه بنظرة ضيقة، وقالت:
“والله حضرتك مدتنيش شغل وانا ركنته على جنب، انا خلصت كل اللي ورايا وبرتاح شوية شبه البنى آدمين.”
طرق على سطح المكتب بيده بقوة، وعلت نبرته بعصبية مفرطة:
“مالك سايقه العوج عليا ليه؟”
كانت هذه الجملة مثل الشرارة التي أشعلت في داخلها نار الغضب، حيث كانت تود أن تخبره بأنهم جميعًا يعانون، ولكن كيف يمكنها أن تفتح قلبها لمثل هذا الإنسان الذي قد لا يفهم معاناتها؟ كانت أفكارها تشتت، وفوضى المشاعر تعصف بها.
ضغطت على أسنانها، وبدأت تتكلم بصوت مختنق من شدة الغضب:
“مافيش حاجه يا حسام، قلبي بس بيتقطع على كل اللي بيحصلنا في البيت. في يوم وليلة، حياتنا اتشقلبت، وكل حاجه اتغيرت. الحزن خيم على البيت بعد ما كان كله ضحك وهزار. كل واحد مننا شايف دموعه محبوسه في عينه، خايف يظهرها لتاني علشان ميبينش ضعفه. حتى ترنيم، السكر بتاعة البيت، اللي كانت مالية ضحك وهزار، بقت قافلة على نفسها أوضتها، والدموع أنسيتها رافضه تكلم حد. انكسرت، والحزن خلاها كأنها ست عجوزة، كل ده في قلبي يا حسام، وشايف أن كل ده حاجات بسيطة متستحقش الحزن والزعل عليها.”
كانت كلماتها تعبر عن جراحها، وكأنها تطلب منه أن يشعر بها، أن يتفهم الألم الذي صار جزءًا من حياتهم.
رد عليها بنبرة أكثر قسوة، وكأنما حجرات الغرفة قد امتلأت بتهديد:
“تمام، كله ده ربنا معاكم فيه ويعديها على خير، بس ده هناك في الحاره في بيتكم. إنما هنا، أكل عيش، محتاج نكون مركزين على كل كبيرة وصغيرة، وسبق وقولتلك انك تفصلي حياتك الشخصية عن الشغل.”
كانت كلماته تنزل كالصاعقة، تدق جرس إنذار في قلب سميه، حيث شعرت وكأنهما في عوالم متباينة، هو في عالم العمل وهي غارقة في محيط من الآلام الشخصية، ويبدو أن كل محاولة للتواصل بينهما تصطدم بجدار الصمت واللامبالاة.
نظرت له بحزن، عواطفها تتأرجح بين الألم والغضب، وحركت رأسها بعنف كأنما تحاول طرد الأفكار السوداء التي تتسلل إلى ذهنها. وهي تتكلم بنبرة مشحونة بالاستياء:
“أنت كل يوم بتأكدلي ساذجتي وهبلي وعدم معرفتي بالناس الصح. الصورة اللي كنت رسماها في خيالي ليك كانت شبه أبطال القصص، بس للأسف، صحيت على الحقيقة المرة إن أبطال الروايات دول خيال مستحيل يكون حقيقة مهما اتمنينا. عموماً، أنا خلاص ارتحت شويه وهبدأ اشوف شغلي.”
نظر إليها بعدم فهم، وكأن جدران الغرفة قد أحاطت به، تمنعه من التفاعل أو الفهم الصحيح لعمق مشاعرها:
“مش فاهم قصدك إيه!”
ابتسمت بحزن وألم، كأن قلبها ينفطر بين ضلوعها، وحاولت احتواء دموعها لتظهر قوتها:
“ولا هتفهم يا حسام، متحطش في بالك.”
استقام بجسده وتحرك نحو الخارج، دون أن ينظر إليها، وأغلق الباب خلفه، تاركًا أثرًا من الصمت والوجع في المكان؛ كأن مشاعره تحجّرت، وخلت الغرفة من حرارة وجوده، وتحولت إلى قفص من الذكريات الأليمة.
نظرت إلى أثره بحزن، ودعت دمعة تنزل من عينيها، لكنها أزالتها سريعًا، أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تعود لمتابعة عملها مرة أخرى.
***********************
بالمساء…
عاد سلطان من عمله، ووجع الحزن يكتنف قلبه كعاصفة. وقف أمام باب شقة خالته، يراقب بصمت وفاء التي كانت تنظر إليه بعينين مليئتين بالحزن، ويتذكر ذكرياته مع ترنيم. فيوميًا، كانت تلك الذكريات تعود لتطارده، تحمل معها رائحة الأوقات السعيدة التي تلاشت مثل الدخان. تنهد بألم عميق، وكأنه يحمل ثقل العالم على كاهله، ثم صعد الدرج إلى الأعلى، وفتح الباب ودلف إلى الداخل. بمجرد أن رآته، ركضت ابنته إليه، وارتطمت بأحضانه، مليئة بالفرح الطفولي، قائلة:
“أنا فرحانه أوي يا بابي انك بقيت عايش معانا على طول.”
قبل وجنتها بحب، وكأن تلك اللحظة هي كل ما يحتاج إليها لتمسح آثار الألم عن قلبه، بينما كانت الكلمات تتلعثم في حنجرته، وكأنها تضرع في خبايا مشاعره. قال بصوت مختنق:
“حقك عليا يا نور عيوني، عارف إني ظلمتك وظلمت ناس تانية، ودلوقتي بدفع التمن.”
حركت الطفلة رأسها ببراءة، وبعفوية الأطفال التي لا تعي عواقب الأمور، ردت:
“بابي أحسن أب في الدنيا، متقولش على نفسك كده.”
ابتسم لها بوجع، وكأنما قلبه يتقطع أمام براءة كلماتها، ثم أنزلها برفق من ذراعه، متجهًا نحو غرفته. فقد كان يشعر بوجود عالمين منفصلين؛ عالم البراءة الذي تمثله ابنته، وعالم الحزن المظلم الذي أصبح هو فيه أسيرًا. وقف أمام خزانة ملابسه، بدأ يتناول شيئًا يرتديه بعد حمام دافئ. ثم تحرك نحو المرحاض، نزع ملابسه وفتح المياه، بينما كان الماء يهطل فوقه، شعر بأنه يغسل عنه ليس فقط الأوساخ، بل أيضًا الهموم والأحزان التي تجمعت كحبات المطر. استند بذراعه على الحائط وأخذ يتذكر لحظاته مع ترنيم. أغلق عينيه، محاولًا مقاومة الدموع التي ترغب في الهروب من عينيه، لكنها كانت كالأمواج التي تندفع لتحطم كل السدود.
لكن فجأة، شعر بيد تلتف حول خصره. فتح عينيه بسرعة، واستدار بغضب، قائلاً:
“أنتي إيه دخلك الحمام وأنا بستحمى؟”
حركت يدها برفق على صدره، واعتذرت:
“أنا آسفة يا سلطان، صدقني ماليش يد في اللي حصل ده. بنتك تعبت، فجأة، و أخدتها على المستشفى. سألت على دكتور أطفال وقالوا إنه مش موجود، وبالصدفة جات ترنيم وكشفت عليها. ولما سألت بنتك عن اسمها، ردت عليها زي أي طفلة، ومن هنا ترنيم عرفت الحقيقة وهي اللي طلبت مني لازم أجي الفرح. مكنتش أعرف إنها ناوية تعمل كده.”
اغلق عينيه بغضب وضغط على أسنانه، دفع يدها بعيدًا عنه، وقال بنبرة حادة:
“غوري من وشي، مش عايز أشوفك.”
اقتربت منه بشجاعة، نظرت في عينيه وقالت بنبرة همس:
“سلطان، أنت وعدتني إنك مش هتقصر في حقوقي، وحرمتني منك قبل حتى ما يحصل كده، أنا محتاجاك دلوقتي، ست ومحتاحه جوزها.”
أنهت كلامها بتقبيل صدره العاري.
في تلك اللحظة، انتابته مشاعر مختلطة بين الغضب والحنان، وكأن الصراع في داخله قد بلغ ذروته. أغمض عينيه بضيق وغضب، لكن في أعماق قلبه، كان يعرف أنها لها حقوق، وقد وعدها بذلك في وقت سابق، وعليه الاحتفاظ بوعده. أمسكها من ذراعها بغضب، وأرغمها على التحرك معه، دفعها بقوة وغضب إلى السرير. اقترب منها كأنه يعاقبها على زواجه منها وعلى ابتعاد ترنيم عنه، ورغم الألم الذي كان يجتاحها، شعرت بانتصار كبير لتلك اللحظة، ربما لأن شيئًا آخر كان يدور في عقلها، شعور تستشعره في أعماقها كأنه إنذار بأن الأمور لم تنته بعد.
فجأة، انتشلهم من تلك اللحظة صوت طرقات على باب الغرفة. نهض سلطان بسرعة، وضع المنشفة حول خصره وفتح الباب، ليتفاجأ بترنيم تقف أمامه، والدموع حبيسة داخل عينيها. نظرت إلى الداخل ورأت فريدة في تلك الوضعية، لتؤكد لها ما حدث.
أغلق سلطان عينيه بخزي، حاول أن يتحدث، لكن ترنيم سبقته قائلة:
“بنتك اللي أنتوا سيبتوها في وقت زي ده فتحت الباب ونزلت الشارع. وللأسف، علشان خافت وعيطت كتير، صدرها قفل عليها ومحتاجة جلسة نفس ضروري.”
اقترب سلطان منها بسرعة، وحملها بقلق، متسائلاً:
“مالك يا حبيبة بابا، متخافيش، أنا جنبك أهو.”
صوته القلق، كسر قلب ترنيم، الذي استمع له الجميع، كأنها طفلة تغار على أبيها وهو يدلل طفلة أخرى. تأرجحت، وكادت أن تسقط، لكن ذراع سلطان كان الأقرب لها. حين أحاطها بالذراع الآخر، أخذها في أحضانه، لكن مشهد خروجه من غرفة نومه بهذه الحالة جعلها تنتفض وتدفعه بعيدًا عنها. محاولة إخراج صوتها:
“أنا طلوعي هنا علشان الطفلة دي بس، مش ذنبها حاجة. أنا اشتريت لها البخاخة وأديتها ليها، وده اللي فتح معها شوية، بس هي محتاجة تاخد جلسة نفس ضروري، عن إذنكم.”
لكن صوت فريدة أوقفها عندما قالت:
“أنا عندي الجهاز، بس مش بعرف أستخدمه. ممكن تعمليه إنتي؟”
استدارت ترنيم لتجدها تقف ممسكة بذراع سلطان. جاهدت حتى لا تنهمر دموعها أمامهم، وأومات برأسها بالموافقة، وتكلمت بصعوبة:
“م ماشي، هاتيه.”
ابتعدت عن الباب، قائلة:
“حطها يا سلطان على السرير لحد ما أجيب الجهاز.”
تكلمت ترنيم سريعًا:
“لا، لو سمحت، حطها في أوضتها هي.”
نظر سلطان لها بحزن، وأومأ برأسه بالطاعة، ثم تحرك نحو غرفة رنيم، وضعها على السرير. قبل أن يجلس بجوارها، تكلمت بصوت غاضب:
“لو سمحت، ألبس حاجة، مينفعش كده.”
انتبه سلطان لحالته، تنهد بحزن وأومأ برأسه، وكاد أن يرد عليها، نظرت للاتجاه الآخر قائلة:
“اطلع برة، لو سمحت.”
خرج سلطان خارج الغرفة، اتجه إلى غرفته، ونظر إلى فريدة بغضب، قائلًا:
“بسبب إهمالك، البنت كانت هتضيع مننا. قسماً عظماً يا فريدة، لو بنتي حصلها أي حاجة في يوم من الأيام بسبب إهمالك ده، هكون رميكي في الشارع، وملكيش عندي حاجة.”
اقتربت منه، وحركت يدها على صدره، وقالت بصوت هادئ:
“اهدا يا حبيبي، وأنا كنت أعرف منين إن البنت هتفتح الباب وتنزل.”
دفع يدها بعيدًا عنه، متحدثًا بنبرة غاضبة:
“روحي أديها الجهاز، وحسابنا بعدين.”
أنهى كلامه ودلف إلى المرحاض، متذكرًا نظرة ترنيم له ووجعها. كان يريد أن يأخذها داخل أحضانه، يطبطب على قلبها، و يشعرها بالأمان، لكن الأمر كان صعبًا. فهي الآن كالعصفور الجريح. نظر إلى انعكاسه في المرآة وتحدث بنبرة مختنقة:
“واخرت اللي أنت فيه ده إيه يا سلطان؟ نار حطيت نفسك فيها بكامل إرادتك، حتى الوجع مش مسموح تحس بيه.”
أخذ نفسًا عميقًا، وأخرجه بهدوء، وبدأ يأخذ حمامه محاولًا تهدئة حالته وقلبه المنكسر. بعد وقت، انتهى من ارتداء ملابسه وخرج، اتجه نحو غرفة ابنته ووقف خلف الباب يراقب ترنيم بصمت، بقلب مكسور وموجوع.
خرجت فريدة من الغرفة بعدما طلبت ترنيم ذلك منها، حتى تستطيع متابعة عملها. وضعت الجهاز للطفلة، وجلست بجوارها، والدموع تتسابق على خديها، تتذكر خروج سلطان من الغرفة بتلك الحالة. مسكت يد فريدة لذراعه ودلاله لطفلته، وتذكرت ماذا كان يفعل معها في صغرها وكيف كان يدللها مثلما يفعل مع ابنته. تعالت شهقاتها، وضعت يدها على فمها حتى لا يسمعها أحد، وفي ذلك الوقت شعرت بيد رنيم تزيل لها دموعها عن خدها بيدها الصغيرة. أمسكت يدها وقبلتها، وابتسمت لها بحزن، قائلة:
“عاملة إيه يا حبيبتي دلوقتي؟”
حركت رأسها بابتسامة جميلة حتى تطمئنها، وتحدثت ببراءة جعلت قلب ترنيم يهتز من شدة الوجع:
“هو أنتي كمان زعلانه يا أبلة ترنيم؟ أصل بابي زعلان على طول وحزين زيك.”
حركت رأسها بالرفض، وإجابةً وهي الدموع تتسابق من عينيها، قالت:
“لا أبلة ترنيم مش زعلانه، أبلة ترنيم مكسورة ومقهورة. أنا فقدت طعم كل حاجة حلوة، أنا بقيت عبارة عن كتلة من الوجع والحزن. أنا عارفة إنك مش فاهمة كلامي ده، بس للأسف بابا كان الجلاد لأبلة ترنيم.”
نظرت لها بضيق طفولي، قائلة:
“بس بابي طيب، ومستحيل يعمل كده، بابي مستحيل يضربك يا أبلة ترنيم.”
أغلقت عينيها بدموع، وأجابت بصوت هامس:
“ياريت الموضوع كان مجرد علقه، يضربها ليا ويرجع يخدني في حضنه ويصالحني. إنما للأسف، هو دبحني وبسكينة باردة.”
ثم أخذت نفسًا عميقًا حتى تهدأ، وأزالت دموعها بظهر يدها مثل الطفل الصغير، وتكلمت بابتسامة حزينة:
“تعرفي إنك أصلًا جميلة أوي.”
ردت رنيم عليها بطفولة قائلة:
“أصلاً!”
أومأت ترنيم رأسها لها، وقالت بابتسامة تزينها الدموع:
“أصلاً، أصلاً.”
وفي ذلك الوقت، تنحنح سلطان ودلف إلى الغرفة.
أزالت دموعها سريعًا واستقامت بجسدها، وتكلمت بصوت محشرج من البكاء:
“هي الحمد لله بقت كويسة، بس لو حسيتوا بأي حاجة مش طبيعية فيها، نزلوها ليا على طول، عن إذنك.”
تحركت بجواره، لكنه أمسك بذراعها، وتكلم بصوت مختنق:
“ترنيم.”
أغلقت عينيها، وتحدثت بصعوبة:
“لو سمحت، سيب دراعي.”
نظر لها بأسف، وتحدث بنبرة همس:
“سامحيني، مش قادر أعيش من غيرك.”
ابتسمت بوجع، وارتعشت شفتيها من شدة الألم التي تشعر به، وتكلمت بدموع:
“لا، أنت قادر تعيش حياتك، وطبيعي خالص يا سلطان، حتى في دي كداب.”
أنهت كلامها، ونزعت ذراعها بغضب من يده، وركضت بسرعة إلى الخارج. نظرت باتجاه غرفة النوم، وانطلقت مسرعة إلى الأسفل، دلفت غرفتها، وارتمت على سريرها، وظلت تبكي بوجع وألم. تمددّت على السرير، وأخذت وضعية الجنين، وانهارت بشدة.
**************************
في صباح يوم جديد، استيقظت ترنيم من نومها بعينين متورمتين من كثرة البكاء، تشعر بألم شديد يجتاح رأسها، وكأن كل هموم العالم قد اجتمعت في تلك اللحظة. حاولت أن تستجمع قواها، لكنها لم تستطع إخفاء أثر الليالي التي قضتها في التفكير والتحسر. اعتدلت على السرير، وحركت رأسها رافضة الاستسلام لتلك الحالة، كأنها تواجه تحدياً كبيراً يفرض عليها أن تكون أقوى. استقامت بجسدها واتجهت إلى المرحاض حيث نزعت ملابسها القديمة، تلك التي تحمل معها ذكريات مؤلمة، وأخذت حماماً دافئاً لتبدأ به يومها وكأنها تغسل أحزانها. كانت المياه تتدفق بانسيابية، وتلتف حول جسدها كأنها تعانقها لتخفف عنها آلام الروح.
وبعد فترة لست بطويلة، خرجت من الحمام وارتدت ملابس جديدة، اختارتها بعناية لتعيد بناء ثقتها بنفسها التي تآكلت بسبب علاقتها المتعثرة بسلطان. وقفت أمام المرآة وتأملّت في انعكاسها، تاركة العنان لشعرها المتدفق على ظهرها، كأنها تستعيد قوتها وجمالها. نظرت إلى نفسها برضا وكأنها تراجعت في الزمن إلى فترة كانت فيها سعيدة، ثم خرجت من غرفتها وهتفت بصوت مرتفع تعبر عن رغبتها في استعادة حياتها:
“فوفه انتي هنا ولا عند خالتو؟”
لكن لم تستجب لها، فعلمت على الفور أنها عند صباح، مما أشعرها بشيء من القلق. خرجت من باب الشقة ودخلت عند خالتها، لكنها فوجئت بوجود سلطان وزوجته وابنته. كان ذلك مشهداً غير متوقع أبداً، تملكها شعوران متضاربان، الخوف والجرأة؛ أغلقت عينيها كما لو كانت تحاول محو كل ما حولها، وحاولت أن تهدأ، أخذت نفساً عميقاً وأخرجته بهدوء، ثم تحركت برفق إلى الداخل. وبابتسامة جاهدت على ارتسامها على وجهها، رغم كل المشاعر المتضاربة التي كانت تعصف بها، قالت: “صباح الخير.”
رد عليها الجميع، لكنهم ظلوا يتابعونها بقلق، ونظراتهم المتفحصة تنقل مشاعر مختلطة من التعاطف والفضول. كانت الأعصاب مشدودة عندما نظرت إلى سلطان، الذي كان يراقبها بمشاعر مختلطة بين الحب والإعجاب والاشتياق والغضب مما ترتديه. نهضت رنيم واتجهت إلى ترنيم، محاطة بحبها البسيط، وقالت بطفولية:
“انتي جميلة أوي يا أبلة ترنيم.”
حملتها على رجلها وقبلتها بابتسامة حزينة تتحدث عن انكسار في القلب، وقالت:
“وانا قولتلك امبارح انتي جميلة أصلاً.” كانت تلك اللحظات تذكرها بأنه حتى في وسط العواصف، لا يزال هناك ضوء يضيء طريقها.
ابتسمت رنيم لها ببراءة، وردت بطفوليه: “أصلاً.”
ابتسمت ترنيم خلف الابتسامة مع فراقتها مشاعر جديدة، وردت بنفس نبرتها:
“أصلاً أصلاً.”
كان سلطان يتابع المشهد وكأنه يستشعر بصمة الأمومة في الموقف، لكنه تحدث بصوت مختنق وكأن الكلمات تخرج منه بصعوبة:
“إيه اللي انتي لابساه ده، وشعرك اللي مفرود على ضهرك ده لميه.”
لكن رنيم تجاهلت كلامه، تماماً كما تجاهلت آلامه، ونظرت إلى والدتها وقالت:
“فوفه، أنا نازلة الشغل ولما ارجع عايزة ممبار نفسي فيه.”
ابتسمت لها والدتها بحزن، فهي تشعر بألم ابنتها، وكأن قلبها ينفطر لمجرد التفكير في آلامها، وأومات برأسها قائلة:
“عيوني حاضر.”
نظرت فريدة إليها بضيق، وضعت يدها على يد سلطان في محاولة لتهدئته، وقالت: “مش هتنزل يا حبيبي، الشغل هتتأخر عليه؟”
لكن سلطان كان غارقاً في مشاعر الغضب والقلق تجاه ترنيم، وتجاهل كلماتها، وظل نظره معلقاً على ترنيم بضيق متزايد، وكأن العالم من حوله قد توقف بينما هو يشعر بضياعها من بين يديه. نظرت ترنيم إلى سميه وقالت بمزاح، محاولة إدخال بعض المرح إلى الأجواء حتى لا يشعر الآخرون بألمها العميق، حيث حاولت تخفيف حدة الموقف بقولها:
“افتحي شباك أوضك يا أختي خلي الطراوة تدخلها.”
وانهت كلامها بغمزة خفيفة، لكن تلك الغمزة كانت تكتنفها الكثير من المعاني غير المرئية، وكأنها تقول للجميع إنها لن تستسلم للهموم التي تثقل قلبها.
نظرت سميه إليها بحزن، فهي تعلم جيداً أنها تحاول تداري ألمها خلف حجاب من المزاح، وتفهم تماماً أن تلك الابتسامات ليست دائماً حقيقية، فقالت بقلق:
“أوضي مبقاش ليها روح علشان بطلتي تدخليها، يا توتة.”
إذ كانت تدرك أن ترنيم فقدت شغفها تجاه الأشياء التي كانت تحبها سابقاً، وبدأت الحياة في أخذ بعض الألوان من عالمها.
استقامت ترنيم بجسدها، وحاولت أن ترسم ابتسامة على وجهها، وقالت بابتسامة مصطنعة:
“ولا تزعلي نفسك، هجيب شوية مكسرات معايا النهاردة والسهرة تبقى صباحي.”
ثم اتجهت إلى صباح، قبلت رأسها بحب، وأزالت دمعه كانت تهبط على خدها بكل رفق، قائلة:
“وحشتيني يا صبوحه، دموعك غالية عليا.” برزت عاطفة جياشة في عينيها، فقد كانت ترى في صباح رمزاً للأمان والحنان الذي تفتقده في حياتها المُعقدة. ربتت صباح على يدها، وتكلمت بهمس حزين:
“حقك عليا يا بنتي.”
حركت ترنيم رأسها بالرفض، وقالت بجرأة لتظهر قوتها:
“لا يا خالتوا متقوليش كده، وبعدين متقلقيش عليا، أنا زي الفل اهو، فكيها بقى، وابقى تعالي بالليل هتديكي شوية مكسرات، يلا ابسطي يا ستي.”
كأنما كانت تستند إلى ذكرياتها الجميلة حيث كانت تمضي لياليها مع عائلتها، وكم كانت تلك السهرات تعني لها الكثير.
ابتسمت لها صباح بحب، وقالت:
“ربنا يسعد قلبك يا بنتي، ويهونها عليكي.”
استقام سلطان بجسده، وبدت على وجهه علامات التوتر، وقال بصوت مختنق وحازم:
“يلا علشان أوصلك.”
نظرت له وعقدت ذراعيها على صدرها بعناد، وقالت بلطف:
“توصلني فين؟”
رد عليها بتوضيح ساخر:
“الشغل يا ترنيم.”
نظرت في الاتجاه الآخر، وعينيها وقعتا على فريدة التي كانت تنظر إليها بحقد وكره شديد، متسائلة في سرها عن سبب كل هذه الكراهية، ثم قالت بإصرار:
“لا معلش، ده كان زمان وأنا لسه صغيرة، إنما أنا دلوقتي كبرت، وأقدر أعتمد على نفسي.”
ثم نظرت إلى والدتها بلهفة، قائلة:
“فوفه، مفاتيح عربية عم عبده موجودة؟”
أومات برأسها بالتأكيد، وقالت بحب:
“أيوه يا بنتي، موجودة في الأوضة.”
وكأنها بذلك تمنح ترنيم الأمل والثقة للانطلاق في رحلتها الجديدة، رغم كل الصعوبات التي تواجهها.
ردت عليها بابتسامة هادئة، تحاول السيطرة على مشاعرها المتأججة:
“طيب، هاتيها على ما أطلب منه يجيب ليا عربية.”
ولكن عند سماعه لهذه الكلمات، اختلطت المشاعر في قلب سلطان، فأحسّ أن عزة نفسه تُمس، ولم يتحمل عناد ترنيم إلى هذا الحد. فصرخ بغضب شديد اهتز له أركان المكان، مما أفزع ابنته الصغيرة التي هرعت نحو والدتها تبحث عن الأمان وتختبئ بها من عواصف المد والجزر التي تتلاعب بها الحياة. قال:
“ترررنيم كفايه بقى، بلاش تسوقي فيها! أنا عمال أتحمل وأعدي وأقول اهدا عليها يا سلطان، من حقها اللي بتعمله ده، بس خلاص، كفايه! أنا هفضل هنا المعلم سلطان، والكلمة كلمتي تمشي على رقبة الكبير والصغير، وأولهم أنتي، فاااهمه؟”
نظرت له بغضب، واحتدمت عواطفها، واقتربت منه حتى التصاق وجهها بوجهه، وأشعلت عينيها بالشرار الذي يتطاير من عينيها مثل ألعاب نارية في ليلة احتفالية، وقالت من بين أسنانها المتراصة:
“آخر مرة هسمحلك صوتك يعلى عليا، أنت ولا حاجه، وسبق وقولتلك هتقبلك في حياتي ابن خاله وبس، وقولتلك ده كرم مني أن هتقبلك أصلاً، واياك تدخل في حياتي، لأن ساعتها هزعلك، متنساش أن أنا تربيتك أنت يا سلطان، ولكل فعل رد فعل.”
كانت كل كلمة منها كالرصاصة، تطلق في الهواء بلا رحمة، تحاول أن تثبت جديتها.
انهت كلامها، وابتعدت عنه والدموع متجمعة داخل عينيها، وكان وجهها يجسد مزيجاً من القوة والضعف، ثم نظرت إلى والدتها وتكلمت بصوت غاضب:
“ماما، هاتي المفاتيح.”
وقف سلطان مكانه، عيونه متحجرة، وكأن كل شئ تلاشى من حوله، وأخذ يسترجع ذكرياته معها، متى كبرت ترنيم لهذا الحد؟ متى وأصبح لديها تلك الشخصية القوية التي تتحدى حتى معلمها؟ أيعقل أنها ستتملص من بين يديه بعد تلك السنين؟ انتبه أخيراً لحالته المُتردية عندما شعر بيد فريدة تربت على ظهره، وتقول:
“هتتأخر على شغلك يا سيد المعلمين.”
أنهت كلامها، وأخذت ابنتها وصعدت إلى شقتها بالأعلى، بينما كان سلطان لا يزال في مكانه ينظر إلى الفراغ.
بحث بعينه في المكان عن ترنيم، فوجدها قد غادرت المكان دون أن تترك أثراً، كأنها سحابة مرت بسرعة في سماء ملبدة بالغيوم، ضغط على أسنانه بغضب، وأغلق قبضة يده بنفاذ صبر. بعد لحظة من الصمت، تحرك سريعاً إلى الخارج، هبط الدرج بتعجل كأنه يركض وراء ذكرى محبوبة لن تعود، لكن عند وصوله إلى الأرض، وجدها قد تحركت مسرعة بالسيارة، مما زاد من حجم الإحباط والغضب داخله. لكم الجدار أمامه بيده متوعداً لها عندما تعود، وعزمه لم يكن في موضع سهل، داخله كان صوتٌ يهتاج، يصرخ: “لن أسمح لها بأن تذهب وتتركني!”
*****************************
وصلت ترنيم إلى المشفى بقلب حزين ومنكسر، حيث شعرت بثقل ألمها يرافقها في كل خطوة. بدلت ملابسها بسرعة، ثم بدأت تتابع عملها ومراقبة المرضى حتى شعرت بالتعب المفرط يجتاح جسدها. بحثت عن مكان هادئ ودخلت إحدى الغرف المغلقة، حيث جلست وحدها، وأخذت تتذكر علاقة سلطان وفريدة بينما كانت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة. وتنهدت بوجع وألم، حتى شعرت أن آهاتها تكاد تخترق جدران الغرفة.
في تلك اللحظة، كان قلبها يتأرجح بين ذكريات مؤلمة وآمال مفقودة، لكنها لم تكن تستطع الهروب من واقعها. قدمت بنظرها إلى الباب، حيث كانت تسعى دائمًا لتكون سببًا في شفاء الآخرين. لكن اليوم كان مختلفًا، وبدلاً من ذلك، كانت تعاني من أسئلتها الخاصة عن الحب والخسارة، فيما تفتقر إلى القدرة على التفكير في أي شيء آخر.
لكن في تلك اللحظة، قطع صوت صراخ شديد الأجواء الهادئة. انتفضت في مكانها ونهضت سريعًا، متوجهة نحو الخارج بقلق. اتسعت عيناها في صدمة عندما رأت هجومًا مسلحًا يقتحم المكان. تراجعت بخوف إلى الوراء محاولة للهروب، لكنها ارتطمت بصدر رجل صلب. استدارت بسرعة، رعب يتسلل إلى قلبها، لتجد شابًا ذو بنية ضخمة يرتدي كمامة تغطي نصف وجهه. لكن سرعان ما تعرفت عليه من نظرة عينيه المخيفتين، هذا الجسد الذي أعادت له الحياة مرة أخرى. ارتعشت شفتيها بتوتر وهي تتحدث قائلة:
“أ أنت!”
تعلقت نظراتهما كما لو كان الزمن قد توقف. كانت مشاعرها متناقضة بين الخوف والحنين، لكنها سرعان ما أدركت أن هناك شيئًا أكثر أهمية من مشاعرها. كادت رصاصة طائشة أن تُصيبها. انحنى بجسده نحوها لحمايتها، وحدثها بصوت هامس:
“متخافيش.”
تعالت أنفاسها بخوف، لكنه حملها بين ذراعيه وانطلق بها إلى الخارج، متفاديًا الرصاصات التي كانت تمر بجانبهما وكأنهما في رقصة خارجة عن السيطرة. شعرت وكأنها تائهة في خضم هذه الأحداث، وظلت صامتة، مستسلمة لهذا الموقف المربك، مع كل تحرك من جسده القوي كان يذكّرها بمدى ضعفها في تلك اللحظة.
خارج المشفى، وضعها على الأرض وتحدث بأمر حازم:
“أمشي من هنا حالا.”
نظرت إليه باستغراب وسألته:
“ليه بتعملوا كده، المستشفى فيها مرضى، حرام عليكم؟”
كان صوتها متأججًا بالشغف والقلق، كما لو كانت تنذر بمستقبل غامض. تركها وتحرك بسرعة تجاه المشفى، لكنها ركضت خلفه، ممسكةً بيده، وكررت:
“رد عليا انتوا بتعملوا كده ليه؟”
أغلق عينيه بنفاذ صبر، وحدثها من بين أسنانه:
“قولتلك امشي من هنا حالا بدل ما أفرغ سلاحي ده فيكي.”
حركت رأسها بالرفض، وغضبت قائلة:
“لا مش هسيبك تتحرك من هنا غير لما تقولي انتوا بتعملوا كده ليه، مش حرام عليكم المرضى اللي جوه.”
أمسكها من ذراعها بغضب، وتحدث بنفاذ صبر:
“انتي طلعتيلي منين، قولتلك غوري من هنا، خليني ارجعلهم.”
دفعها بعيدًا عنه بقوة، وركض سريعًا إلى الداخل، مبتدئًا بإطلاق نيرانه في المكان. لكن عندما رأى ترنيم تعود مرة أخرى إلى الداخل، اتسعت عيناه بالصدمة. أعطى إشاراته لجميع الموجودين بإيقاف إطلاق النار والانسحاب. وبالفعل، استجاب الجميع لأوامره وانسحبوا من المكان. نظر إلى ترنيم بغضب وغادر المكان سريعًا، مما تركها في دوامة من مشاعر الارتباك والتساؤل عن ما يجري حولها.
نظرت حولها إلى الدمار الذي حل بالمكان، وركضت بسرعة لتطمئن على الجميع، بينما بدأت تضمد جراح المصابين، مُتسائلة في داخلها كيف سيتعافون من هذا الكابوس المدمر. كانت ترنيم بتلك الشجاعة عازمة على تحقيق ما تستطيع فعله، رغم الظروف القاسية التي فرضت عليها وعلى زملائها. كل ما كان يشغل ذهنها الآن هو إنقاذ الأرواح، حاملةً في قلبها شعاعاً من الأمل وسط العتمة.
*************************
وصل غريب إلى القصر الخاص به مع رجاله، وألقى بسلاحه الثقيل على الطاولة بصوت مكتوم. زفر بضيق، ثم نزع قميصه وألقى على المقعد، حيث بدأ يتجول في المكان وكأنه عجل محاصر، يحدق في الجدران القاتمة المحيطة به التي بدت وكأنها تشعر بدواخله المتقلبة. في تلك اللحظة، دخل أحد الرجال بعنف، وجهه مشوشاً، وصرخ بنبرة غاضبة:
“أنت ازاي تأمر الرجاله ينسحبوا وتنسحب معاهم من غير ما تكمل المهمه دي؟ أول مره تعمل كده يا غريب، انت اتجننت؟”
فجأة، تحرك غريب بسرعة البرق، وأمسك بعنق الرجل بقبضة يده، وتحدث بصوت متقطع من بين أسنانه:
“مش عايز أسمع نفسك، فاهم؟”
أومأ الرجل برأسه بخوف شديد، وابتلع ريقه بصعوبة، الكلمة التي كانت على شفتيه تحجرت في حلقه رغم كل محاولاته للحديث. ثم قال بقلق:
“أنا خايف عليك يا ضرغام، المهمه كانت لازم تتم النهاردة. هنقول ليهم إيه؟”
دفعه غريب بقوة، مما أسقطه على الأرض، ووجه إليه نظرة ملتهبة كفوهة بركان يوشك على الانفجار قبل أن يتحدث بصوت غاضب، لم يكن هناك مجال للتهرب من عواقب الفشل:
“أنا عايزك تعرفلي كل حاجه عن الدكتورة اللي اسمها ترنيم، ساعة بالكتير، وكل حاجه عنها تكون عندي.”
نظر الرجل إليه باستغراب وتحدث بتردد، وكأنه يحاول فهم الرابط الخفي بين الدكتورة وترتيباتهم القاتلة:
“وأيه دخل الدكتورة في المهمه دي؟ هي مشتركه معاهم؟”
صرخ غريب بغضب، ونفاذ صبر، كالرعد الذي يهدد بالعواصف القادمة، مما جعل روح الرجل تتجمد في مكانها:
“نفذ اللي بقولك عليه من غير كلااام كتير!”
أومأ الرجل برأسه بخوف شديد، ثم خرج مسرعاً من الغرفة لتنفيذ ما طلبه منه، وهو يدرك تماماً عواقب تهاونه في هذه المهمة. كان الفشل يعني العواقب الوخيمة، والحياة لا تعطي فرصاً ثانية.
نظر غريب أمامه بغضب، محاطاً بالافكار التي تتزاحم في عقله، ثم بدأ يصب المشروب في الكأس، ورشفه دفعة واحدة كأنه يحاول شرب غضبه مع كل قطرة. كانت صورة ترنيم تسيطر على عقله ككابوس لا يزول، كما لو كانت هي المفتاح الذي يحل اللغز المعقد في حياته، مصيرها ومصيره مرتبطان بطريقة غامضة، وكان يشعر بأن الوقت يداهمه.
*************************
بالمساء…
عادت ترنيم من عملها بعد يوم شاق بالمشفى، الذي كان مليئًا بالضغوطات والمواقف الصعبة، لتجد نفسها في سكون المساء. سرعان ما ارتقت إلى السلم ببطء، وكأن كل خطوة تحمل معها ثقل الأيام التي مرت. لكنها تفاجأت عندما شعرت بيد قوية تمسك بذراعها، لتسحبها من أفكارها القاتمة، وتجذبها إلى المعركة التي كانت تدور في قلبها. دون أن تنظر له، أغلقت عينيها في محاولة للسيطرة على مشاعرها المتضاربة، وتكلمت بصوت مختنق:
“سيب دراعي يا سلطان.”
اقترب منها حتى استند ظهرها على الحائط، حيث كان يملك القوة في هذا الموقف، بينما كانت هي تشعر بأن كل شيء يتفكك داخلها. تحدث بنبرة همس غاضبة، كأن الكلمات تنبعث من بين أسنانه: كان من الواضح أنه يؤدي دور المحامي في قضيته؛ قضية الحب المفقود.
“انتي عارفه لو متعدليش يا ترنيم معايا هعمل فيكي ايه؟”
نظرت إلى الاتجاه الآخر، مخبئة مشاعرها تحت قناع من الجفاء، وتكلمت بصوت مختنق، كأن كل كلمة تخترق قلبها كخنجر حاد:
“مش عايزه اعرف هتعمل ايه لأن مافيش حاجه هتتعمل بعد جوازك يا سلطان. بيتهيألي كفيت ووافيت.”
اقترب منها أكثر، وحرك يده برقة فوق وجنتيها، يستنجد بها لعله يستطيع استعادة قلبها، لكنه كان يشعر أن تلك اللحظة كانت مثل خيط رفيع يربطهما. وتحدث بصوت هامس عاطفي، وكأنما يدعوها الى العودة إلى أحضان ذكرياتهم الجميلة:
“أنا اسف يا ترنيم. صدقيني والله جوازي منها كان مجرد تمرد على حبك. وانتي صغيرة، كنت عايز أهرب منه، وعلشان كده اتجوزتها. عارف أن ده مش مبرر كافي، بس دي الحقيقه. والله ترنيم، أنا بحبك انتي وبس، وعيوني فعلا مش شايفه غيرك.”
إلى هذا الحد، لم تتمكن من احتمال سذاجة كلماته، فالذكريات لا تزال تعصف بها. دفعتته بقوة، وصرخت بغضب، وكأن كل الألم الذي كبتته قد تفجر في تلك اللحظة، محولاً المكان إلى ساحة معركة قلبها:
“بس بقى كفايه كدب ارجوك. أنا شيفاك بعيوني وانت خارج من الأوضه، وواضح أوي اللي كان بيحصل ما بينكم جوه. سيبني في حالي يا سلطان. لو ليا غلاوة في قلبك بجد، كفايه لحد كده. ساعدني انساك، علشان اللي ما بينا مستحيل يرجع تاني. انت شوفت حياتك، واتجوزت، وخلفت. متبقاش أناني وتمنعني من أن أشوف حياتي أنا كمان.”
جلست على الدرج بألم، تنظر إليه بانكسار، وكأن الحزن يعتصر قلبها ويكبل روحها. كان الحائط خلفها بمثابة الحماية الوحيدة من العالم الخارجي، في حين أن عينيها تعكسان الحيرة والقلق بين الماضي الذي كان والمستقبل الذي تراه مظلمًا. أدركت أن لا شيء سيعود كما كان، وأن الوقت قد حان لتجميع شتات قلبها والدخول في معركة جديدة، معركة الانطلاق نحو حياة جديدة، بعيدة عن الأوجاع التي عانت منها في ماضٍ كان يثقل كاهلها.
“خليني اداوي جرح قلبي اللي انت كنت السبب فيه. بترجاك، أرحم قلبي شويه من اللي هو حاسس بي. ابوس ايدك، كفايه يا سلطان، أنا تعبت، تعبت.”
أنهت كلامها، ووضعت يدها على وجهها، وظلت تبكي بحرقة، وكأن كل دمعة تحمل معها سنوات من الألم.
جلس بجوارها، وأخذها داخل حضنه، حيث شعر بجسدها يرتجف. ظل يقبل رأسها بدموع الندم والأسف، وكأنه يحاول تعويض ما فات:
“حقك على قلبي يا بنت قلبي.”
تمسكت به بقوة، وتعالت شهقاتها بوجع ومرارة، وكأنها تطلب منه حمايتها من ذلك القلب المتحجر الذي جرح قلبها دون شفقة أو رحمة.
*************************
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ترانيم في درب الهوا)