رواية يناديها عائش الفصل الرابع والتسعون 94 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الرابع والتسعون
رواية يناديها عائش البارت الرابع والتسعون

رواية يناديها عائش الحلقة الرابعة والتسعون
اللهم اجعل نار المسلمين تحرق الأعداء اللهم احرس المسجد الأقصى من مكر الماكرين اللهم اقتل من قتل المسلمين.
______________________.
قال كعب رحمه الله: “جنة المأوى فيها طيرٌ خُضر، ترتقي فيها أرواح الشهداء في أجواف خضر”.
~~~~~~~~~~~~~~~~.
فور أن سمع ” إبراهيم” من شقيقه خبر استشهاد
” إياد الريحاني “، أحس بالدماء تتجمد في عروقه، و الحروف قَيَّدتها الصدمة، و كبَّلت حركتها تمنعها من الخروج و وصف حالته، فبدأت العبارات تختنق في حلقه كلما أراد التحدث، حتى
أَطْلَقَ لِنَفْسِهِ الْعِنَانَ أخيرًا، فأخذ جسده يهتز بشدة دلالة على بكائه الشديد، و ظل يبكي و شقيقه يَرْبِت على ظهره بقلة حيلة، قائلًا:
” إياد رحل بطلًا أخي، لا تحزن إبراهيم.. كفاك بُكاءً أخي ”
أجابه في آسى بلغ جوفه، و حُزن أصاب كبده:
” كان بمثابة أخي، لا أستطيع تصديق ذلك، أشعر.. أشعر و كأنني في كابوسٍ بشع، لا.. لا هو لم يَمُتْ”
” نعم لم يَمُتْ؛ لأنه شهيد إن شاء الله، و الشهيد حي يرزق عند الله، ” إياد” قُتل في سبيل الله، ربحَ الدنيا وثوابَ الآخرة، لطالما أراد الشهادة، و ها قد نالها، ادعو له ولا تحزن، أخوك في الجنة إن شاء الله ”
قالها ” أوزان ” في مواساةٍ لإبراهيم الذي اعتبر
” إياد ” أخًا له بل و صديقًا خفيفًا على القلب، كان خير المحارب القوي ضد أعداء الله قتلة الأنبياء، تمنى من صميم قلبه نيل الشهادة في سبيل الله، و قد استشهد ليلة أمسٍ بعدما قتل أربعة جنود إسرائيليين، و ضربوه بالرصاص الحي تاركين جثمانه بين فُكُوكٌ الكلاب الضالة، و قبل أن تقترب الكلاب منه، لحق به « صالح» شقيق إبراهيم و انتشله من بينهم في مشهد قاسٍ يصف مدى مستوى الوحشية وحجم السادية و الإجرام لدى إسرائيل، التي بالت على معظم أشراف الدول العربية و حكامها، فأصبحوا خاضعين لها تحركهم كما تُحرك العرائس الماريونيت؛ إلا من رحم ربي.
ذَرْفُ الدَّمع حزنًا و أَلمًا، وهو يستعيد ذكرياته معه في معسكر التدريب، ليقول بنبرة متقطعة من شدة الحُزن لفراق صديقه، و بما أن ” إبراهيم ” فتى أسيف؛ فلم يستطِع السيطرة على نفسه و خرج بكائه مسموع يثير الغمَّ في القلب:
” كان من المفترض أن يتزوج الأسبوع القادم، قتلوه قاتلهم الله.. هل علمت ” آلاء” بالأمر ؟ ”
تساءل بجملته الأخيرة، و بداخله يتمنى ألا تكون قد علمت بشيء، فأجاب «أُوزان» زافرًا بثقلٍ:
” نعم، ذهب اللواء عزمي إلى أسرتها صباح اليوم، و أخبرهم بأنه ارتقى شهيدًا باسم الفاه ”
مسح على وجهه، و عاد الدمع يسيل من القُنيات الدمعية أكثر فأكثر، وهو يتساءل بِكَمدٍ:
” و ما شأن اللواء عزمي بما حدث ؟! ”
تَنهَّدَ ” أُوزان ” عن كبدٍ حَرَّى، ثُم أردف:
“لسنا نحن وحدنا من نحارب ضد إسرائيل سرًا، يوجد أيضًا أُناس شُرفاء مستعدون للتضحية بكل ما يملكون؛ فداء الأقصى.. الأقصى شرف كل مسلم أخي، ولا يسعنا تركه في يد هؤلاء، إما نحن أو نحن، لا مجال آخر للاستسلام أمامهم، لم يَكُن ” إياد ” أول شخص ضحى بنفسه لأجل الحق، و لن يكون آخر شخص، طالما يوجد أحرار يقاتلون للدفاع عن شرفهم؛ فالنصر حتمًا لنا ولو بعد حين”
” هل علم رفيقي بالأمر ؟ ”
تفهم ” أوزان” مقصد شقيقه، فقال بعد تفكيرٍ و صمتٍ دام لدقائق:
” لا، لم يعلم قُصي بعد، و لن نخبره بشيء الآن.. هكذا هي التعليمات من القادة، لو علم قُصي بما حدث لصديقه؛ سيهدم المعبد فوق رؤوس أصحابه، و لن تصمت أمريكا إذا اقترف قُصي أي خطأ في حق صغارها من الصهاينة، أمريكا هي الأم المرضعة لإسرائيل، و لا يجب على قُصي معاداتها الآن؛ حتى لا يخسر الحصانة التي تُوج بها منها، فنحن بحاجة لثقة أمريكا في قُصي، هذا الفتى يَعد درع قوي للدول العربية، و ينبغي علينا المحافظة على هذا الدرع؛ ليكون واجهة قوية للوقوف ضد الدول المعادية للإسلام، الحرب ضدهم تخص كل مسلم حُر في كل البلاد و ليست البلاد العربية فقط، أنت مسلم إذًا عليك الوقوف ببسالة في وجه أمريكا و صغارها الرُضع ”
بدأ القلق يساوره، و تسرب الهلع لفؤاده عقب ما باح به شقيقه، فنهض ” إبراهيم ” مُنتفضًا و عيناه تبوح كل البوح بتآكل الخوف قلبه على ” قُصي “، ثُم هتف باعتراضٍ:
” إلا ” قُصي ” أُوزان، لن أسمح لكم باستعماله كما شئتم، اتركوا الفتى و شأنه، لقد أخذتم مني إياد، هل تودون سلب رفيق طفولتي أيضًا ؟! ”
نهض ” أُوزان ” يحاول تهدئته قائلًا بصدق:
” الأمر ليس كما تظن ” إبراهيم “، سنخبره بكل شيء، و لكن في الوقت المناسب، أما الآن فعلينا التكتم على خبر استشهاد بطلنا ” إياد”، إسرائيل لا تعرف من هو إياد الريحاني، لا تعرف وجهه الحقيقي، لقد قام بتلك العملية وهو ملثم الوجه، و إذا عرفوا أنه رفيقك أنت و قُصي؛ ستفسد جميع خططنا القادمة ”
رد في عصبيةٍ بالغةٍ على شقيقه:
” وهل قُصي يقف مثل الشوكة في حلق أمريكا ؟! ”
” قُصي يمتلك عقل داهية، لو وقع في أيد الغرب، سيكون كارثة حتمية بالنسبة لنا، إذا تم استخدامه كما حدث مع ” يهوشوع”؛ سنخسر كثيرًا أخي ”
هدأ قليلًا، و تساءل بخوفٍ حقيقي:
” و ما العمل الآن ؟ ”
” لا تخبر قُصي بمقتل و استشهاد إياد، لا نخاف إخبار أي حد بقدر خوفنا من إخباره، لقد تقبلت زوجته خبر استشهاده بصبرٍ و دموعٍ صامتة، و علينا أيضًا الفعل مثلها ”
تقبل ” إبراهيم ” الحقيقة المُرَّة في جوفه أخيرًا، و جلس في هدوءٍ ينظر للفراغ أمامه بشرودٍ، ثُم همس:
” آهٍ إياد، فلتنعم في الجنة حيًا صديقي ”
رحل الشهيد البطل ” إياد الريحاني ” عن عالمنا، و لم يرحل من قلوبنا، لقد علمنا معنى أن يكون الإنسان حُرًّا، أن يكون عزيزًا لا يذلّ الرقاب لغير الخالق سبحانه.
يقول الله تعالى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
عندما نستلهم و نرتشف قول الله تعالى
( عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) حينها ندرك مدى عظمة المنزلة، التي حظوا عليها بالجوار من رب العالمين،
أراقوا دِماءهم في سبيل الله؛ طاعةً لقوله تعالى
: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، فعقدوا البيعَ مع الله، فالسِّلعةُ هي أرواحُهم و دماؤهم، و الثمنُ الموعود عند الله هو الجنة، و مَن أوفى بعهده من الله ؟!، فما أعظمه من بيعٍ و ربح !
ولو لم يكن للقتل و الشَّهادة في سبيل الله من الأجر الكبير، لما تمنَّى النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يُقتَل في سبيل الله ثلاث مرَّات !
و روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك أن النبي صلّ الله عليه وسلم قال:
(مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ).
ولما علم الصحابة منزلة الشهادة وقدر الشهداء، سارعوا في طلب الشهادة والفوز بها.
فهذا عمير بن أبي وقاص، شاب صغير توجه إلى الله جل وعلا يوم بدر، فأخذ حمائل السيف، وكانت طويلة عليه فأخذها سعد وربطها، فأصبح يسحب في الأرض من قصر الرجل وطول السيف عليه! ويتجه إلى الله، ماذا يقدم ؟
إنه لم يرض للجنة ثمنًا إلا أن يقدِّم دمه لله عز وجل، فيأخذ السيف و يتوارى بين صفوف المسلمين؛ لأنه لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لردَّه، فرآه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال لـ عمير: (ارجع).. فماذا كان من عمير ؟ أفرح و السيوف تنتظره هناك ؟! بل دمعت عيناه ورجع هذا الصبي حسيرًا كسيرًا، فيقول أخوه سعد بعد أن تأثر من منظره:
«يا رسول الله ! والله ما خرج إلا ليُقتَلَ في سبيل الله، فلا تحرمه الشهادة في هذا اليوم»
فيسمح له النبي صل الله عليه وسلم ويدخل غزوة بدر، فينتصر المسلمون ليكون أَحَدَ شهدائها بإذن الله عميرُ بن أبي وقاص.
فالسلام عليكم أيها الشهداء، الذين وفقكم الله تعالى لأن تكونوا من المقربين إليه.
رغم أن فراق ” إياد “صعبًا علينا جميعًا، لكننا نتعزى بأنه حيٌ يُرزق في جنة الله.
___________________________.
«يا أيها الآباء بروا أبناءكم يبروكم، فإن عققتموهم فلا تستعجبوا عقوقهم، فكما تدين تدان». لقائلها..
~~~~~~~~~~~~~.
بعدما تأكد” كريم” أن الطارق لباب شقته، هو والده الفَظَّ معدوم الرحمة، تراجع للخلف في دهشةٍ طفقت ترسل الحيرة على أمارات وجهه، فجاءت ” رُميساء ” من خلفه تضع يدها برفقٍ على كتفه، و تساءلت:
” في إيه مالك ؟! مين اللي بره ؟”
” بابا.. رياض باشا ”
رد بها ساخرًا، و قد تَجَهَّمَ وجهه، ثُم عاد لطاولة العشاء يجلس على المقعد بهدوءٍ مريب أخاف
“رُميساء”، فعلمت أنه لن يستطيع الخلاص من طبعه الصارم بسهولة، بينما هو أخذ يقطع قطعة اللحم بحِدةٍ مصحوبة بالقسوة، جعلت زوجته تبتلع ريقها في خوفٍ من هيئته، فاستنشقت الهواء بهدوء لتهدئة ذاتها، و تداركت الأمر لتجلس بجانبه تُمَسِّد على شعره بحنوٍ، هامسة:
” أنا حاسة بيك، و عارفة قد إيه أنت زعلان منه، بس مينفعش تسيبه واقف على الباب بره، مهما حصل ده أبوك في النهاية، و لو هو مش كويس خليك أنت الكويس، مش عشان حد، عشان ربنا يا كريم، دي كبيرة أوي عند ربنا ”
لم يصدر منه صوت، سوى صوت أنفاسه الغاضبة المتلاحقة بغيظٍ و غضبٍ فشل في كبحه، فما كان منها إلا أن تسترسل حديثها اللين بنبرتها الناعمة، و أخذت تداعب خده بظهر يدها برِقةٍ استجاب لها أخيرًا:
” ما تخليش الغضب يسيطر عليك، أنت حقيقتك طيبة و قلبك أبيض، إنما الوش الناشف اللي أنت على طول مركبه ده، مش بتاعك.. أنت أحسن من كده يا كريم ”
رد أخيرًا بعدما ترك السكين من يده بصرامة:
” مش عارف افتكر له حاجة حلوة، هو أصلًا معمليش حاجة حلوة، كل اللي عمله ليا كان وِحش، مش قادر أنسى يا رُميساء، و مش هقدر أسامحه ”
لم تستسلم أمام عصبيته، و تابعت كلامها بتمرير أناملها على جسده تمسه تليينًا لعضلاته التي تشنّجتْ لغضبه، فأراح التَّمسيدُ بِدوره جسده:
” خليك أنت الأحسن، اعمل لربنا مش لحد.. افتح له و شوفه عاوز إيه، أنا حاسة إنه جاي يصالحك، أكيد حس بالندم ”
” مش عاوز زفت مصالحة، أنا مرتاح كده و أنا بعيد عنه ”
” ماشي براحتك، بس عيب تسيبه واقف بره، دي مش أخلاقك يا كريم، و بعدين يا حبيبي أنت واجب عليك تتعامل معاه كويس، حتى لو كان الأب ظالم، فربنا سبحانه و تعالى أمر ببرِّه، وهو حسابه عند ربنا، لكن أنت المطلوب منك تعامله كويس ”
تنهّد بضيقٍ، و أردف قبل النهوض:
” طيب ادخلي الأوضة متطلعيش منها غير إما يمشي ”
تبسمت بموافقةٍ، و قالت:
” حاضر، مع إنه يجوز أقعد معاه عادي و بشعري كمان؛ لأنه من المحارم، بس هسمع كلامك لحد ما نشوف عاوز إيه، و إن شاء الله كل خير ”
دلفت للغرفة، بينما هو تقدم ناحية الباب في تردد منه بمقابلته، و فتح له الباب ليجد والده يخفض رأسه بخجلٍ، و بصوتٍ ضعيف يقول:
” أنا آسف إني جيت من غير ميعاد، بس أنا لو كُنت قولت لك مكنتش هتوافق تقابلني ”
” خير ؟ ”
سأل بها ” كريم ” وهو يتصنّع البَلادة، مما ازداد احراج ” رياض”، و أردف بارتباكٍ:
” هنتكلم و إحنا قدام الباب ؟! ”
فتح ” كريم ” الباب أكثر، و أشار له بالدخول في حركةٍ جامدة المشاعر، واضعًا يده في جيب سرواله، و اليد الأخرى تشير له بالدخول بعدم اكتراث لملامحه الحزينة.. جلس ” رياض ” جلسة الندم على ما اقترفه في حق ” كريم ” منذ أن كان طفلًا، و كان يقسو عليه في جميع الأحوال، غير آبهٍ للجُرم الذي يقترفه في حق طفولته، من ضربٍ و سبٍّ له على أتفه الأسباب و الأشياء، لقد استخدم والده أسلوب العنف في التربية، و العنف في التربية قد يخمد مظاهر المشكلة لفترة تقصر أو تطول، و لكنه لا يقضي عليها، بل يجعلها تتحين الفترة المناسبة للانقضاض و الثأر و الانتقام ولو بعد حين.
فقد ذكرت سابقًا، و أذكرها الآن..
مثلما يوجد عقوق الأبناء لآبائهم، فيوجد أيضًا عقوق الآباء لأبنائهم.
جاء في تحفة المولود للإمام بن القيم – رحمه الله -قال:
” قال بعض أهل العلم إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فانه كما أن للأب على أبنه حقا فللابن على أبيه حق فكما قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} قال تعالى: {قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس والحجارة} [التحريم 6].
كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، و أضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا.
ويقول ابن القيم- رحمه الله-: “بهذا يبرز الأخطار الكثيرة التي يتردى فيها الولد حين يهمله والداه فيتسببان في الإضرار به إضرارا بليغا وهم لا يشعرون، ولاسيما إهمال تعليمه أمور دينه وأخلاقه وحقوق غيره “.
سحب ” رياض ” نفسًا ثقيلًا عليه من الموقف العصيب الذي وضع نفسه فيه بأفعاله، بينما
” كريم” تفحص وجهه بنظرة سريعة، فعلم أنه جاء قاصدًا الإعتذار منه عن جميع ما سبق..
تحدث رياض أخيرًا بصعوبة؛ مُحرجًا أشد الحرج من نظرات كريم الشبيهة بأعين الصقر نحوه:
” أنا عارف إني أب سيئ، و بعترف إني مكنتش الأب الصالح لك و لاخواتك، و بعد العُمر الطويل ده، عرفت غلطتي و ندمت، و جاية أصلح الغلطة.. أنا جاي لك النهاردة يا بني بصفتي أب مش عدو، أنت أثبت لي إنك صح في كل حاجة، و إنك طلعت أحسن مني، و أنا مش جاي لك طالب منك السماح، حقك يا كريم.. حقك يابني متسامحش، بس اديني فرصة أخيرة أصلح غلطتي ”
نظرات ” كريم ” لوالده الآن، نظرات استخفاف لكلامه، فقد رمقه بسخريةٍ و اِزدِراءٍ، دون التعقيب على حديثه، فأدرك “رياض” أن ابنه لن يغفر له بسهولة، فتابع بأسفٍ صادق:
” أنت معاك الحق في أي حاجة ها تقولها و تعملها، بس أنت برضو مهما بلغت قسوتك مش هتبقى زيي، أنت أحسن مني بكتير يا كريم، أنا أب وِحش عارف، بس برضو أبوك في النهاية.. اديني فرصة أعوضك عن اللي فات ”
” جاي بعد تلاتة و تلاتين سنة و تقولي أعوضك !
لا معلش، مش عاوز عوضك.. أنا مرتاح كده ”
رد بها ” كريم ” في قسوةٍ ورثها عن والده، مما أدمعت عين الأخير دموع الندم الحقيقية، دموع يشهدها ابنه لأول مرة.
بكى ” رياض ” باعْترَافٍ لذَنْبه بكاءً دون صوت، و عضَّ بَنان النَّدم بقوله:
” حقك على راسي يابني، و خد حقك مني بالطريقة اللي تريحك، بس والله أنا ندمان، أنا المرة دي ندمان بجد ”
” و رحيم ذنبه إيه في الليلة دي كلها ؟! ”
تساءل بها كريم بغلظة القول، فأجاب والده بعدما تنهّد بعمقٍ:
” أنا لسه جاي من عند أخوك على فكرة، روحت صالحته، و حمدت ربنا إنه اتربى بعيد عني، مفيش في قلبه ذرة قسوة ورثها مني، رحيم رغم إنه عاش من غير أب، بس أمه طلعته راجل بصحيح، راجل جدع أصيل يُعتمد عليه، و أنا فخور إني عندي ابن زيه، و فخور بيك أنت اكتر من أي حد، عشان رغم اللي شوفته و عيشته معايا؛ إلا إنك أثبت لي إن البني آدم يقدر ينقذ نفسه بقوة إيمانه و صبره لو اترمى في وسط مستنقع قذر، أنا معرفتش أربيك، بس أنت عرفت تربي نفسك ”
رمقه ” كريم ” بعدم تصديق للحظاتٍ، بعدما أخبره بذهابه للإعتذار من أخوه، و بعد تفحص تعابير وجهه، وجد أن والده صادق في كلامه، فهتف بلامبالاةٍ عكس ما في قلبه:
” رحيم مقاليش يعني ! ”
” أنا اللي طلبت منه ما يقولش حاجة؛ عشان عارف رد فعلك، و عاوز أقولك على حاجة كمان ”
صمت لدقيقة يتنفس فيها بانتظامٍ، بينما نظرات كريم المتلهفة تحثه على الحديث، فاستطرد كلامه بعدما ارتشف القليل من الماء، يذيب به أثر التوتر القابع في حلقه:
” لولا حماك الراجل المحترم، مكنتش توبت لربنا و اعترفت بذنوبي ”
” حمايا ! ”
هتف بها ” كريم ” في تعجبٍ، و خرجت
” رُميساء ” تقف بالقرب من باب الغرفة عندما سمعت ذِكر والدها، أما رياض أومأ برأسه يؤكد على حديثه، مُردفًا:
” من يوم فرحك لحد امبارح، و حماك بيكلمني على طول، في الأول كان كل إما يتصل عليا أصده و ازعق له، وهو ما استسلمش ولا مرة، يوم الفرح فضل واقف معايا يكلمني بأسلوب محترم، مرة عن الدين و مرة عن تعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام، و مرة عن عقوق الآباء لأبنائهم، و دي اللي مكنتش أعرفها.. حماك بقاله خمس شهور، يزورني باستمرار من غير ما حد من أهل بيته يعرف، عشان مراتك متعرفش و تيجي تقولك و أنت بطبعك ها تتعصب.. ”
صمت يُعيد ترتيب الكلام في رأسه من ارتباك و حدة الموقف، و تابع بدموع الأسف:
” لما لقيت طريقته في الكلام محترمة بالشكل ده، حسيت بالراحة معاه و أنا بسمعه، لقيت نفسي بسمعه و عاوز أسمعه اكتر، خدني من ايدي زي العيل الصغير للمسجد، و قالي هنا تقدر تبوح بكل اللي جواك لرب الكون بدون ما حد يقطع كلامك، هو الصمد اللي ها يسمعك و يغفر لك و يرحم ضعفك، قولت له بس أنا مش ضعيف، تبسم و قالي مهما بلغت قوتك على عباده ها تيجي قدامه و تبقى أضعف خلقه، هو القوي و أنت الضعيف، أنت اللي محتاج له مش العكس، و كانت أول مرة أبكي في سجودي، حسيت فعلًا إني ولا حاجة قدام عظمة و جلالة ربنا، و إني مش هاخد معايا غير عملي الصالح لقبري و آخرتي، بس لما فكرت كويس لقيتني معملتش حاجة كويسة تُذكر، حسيت بندم شديد من اللي عملته في حقك أنت و اخواتك، حماك كان عارف إني محتاج لحد ياخد بايدي للصح و يصحح مساري قبل ما ربنا ياخد أجلي، و لما قربنا من بعض في الخمس شهور دول و بقى أعز صديق ليا، أيقنت و تأكدت إنه رزق ربنا بعته ليا عشان يغيثني من أهوال الآخرة ”
تبادل ” كريم و رُميساء ” النظرات المندهشة فيما بينهما، و مسح رياض دموعه ليُتابع:
” أنا ندمت على الكلام اللي كنت بقوله عن حماك و عيلته، أنت يا ابني ربنا بيحبك عشان ناسبت نسب يشرف من الناس دول، مش كل واحد اتبع سنة و نهج سيدنا النبي يبقى ارهابي، و مش كل واحدة منتقبة تبقى هربانة من حاجة.. جماعة داعش اللي عملتها أمريكا عشان تشوه صورة الاسلام، هي اللي زرعت فينا الفِكر المتخلف ده، و زي ما مهنتنا فيها الحلو و فيها الوِحش، الناس دول فيهم الحلو و فيهم الوِحش مش كلهم وحشين زي ما كنت فاكر، بس اللي اتعلمته منهم، إنهم الصح عننا في كل حاجة، هما اتبعوا سنة رسول الله، و إحنا مشينا ورا دول الغرب في أكلهم و لبسهم حتى لغتهم، بحجة الرُقي و التقدم، و نسينا أصلنا و فصلنا و إننا مسلمين كلنا بلا استثناء بننتمي لنبي واحد و سنته هي اللي لازم تطبق.. ربنا يرحمنا برحمته الواسعة و يحفظ الشعب ده من تقليد دول الغرب ”
عقب كلام رياض الذي أثَّر في نفس كريم و جعله ينظر لوالده بعين الرضا لأول مرة، نهض الأخير و تقدم ناحية ابنه يحاول تقبيل رأسه كنوع من الاعتذار و التعبير عن الندم، فوجد كريم نفسه ينهض قبله و يسارع في ضمه إليه في محاولة منه لتفادي قُبلة والده، بينما الأخير انفجر في البكاء ما إن عانقه كريم، و ظل يهمس من بين شهقاته:
” أنا آسف يابني، أنا آسف.. حقك عليا ”
أغمض كريم عينيه بدموعٍ انسابت منه هو الآخر، و تنهّد بارتياحٍ أخيرًا، وهو يُشدد من ضم والده له، كأنه كان بحاجة لهذا العناق الدافئ الصادق في مضمونه، و ابتعد والده بعد مدة ليست بقليلة، ليقول بنبرة لهفة:
” قول إنك مسامحني يابني، مسامحني يا كريم صح ؟! ”
نمت ابتسامة خافتة جانب شفتيه، و أخفض رأسه باستسلامٍ ليومئ قائلًا:
” مسامحك يا رياض بـ… مسامحك يا بابا ”
” ايوه كده، ربنا يجبر بخاطرك زي ما جبرت خاطري يابني ”
قالها و عاد يحتضنه بقوةٍ، ثُم أردف باسمًا:
” نادي مراتك بعد إذنك أعتذر لها ”
تردد ” كريم” في البداية بغيرة شعر بها على رُميساء من والده، و لكن أخيرًا نفض ذلك الشعور عن رأسه، و أيقن أن والده قد تغير حقًا الآن، فاستدعى زوجته التي كانت واقفة أمامه على بُعدٍ ليس بكثير منه، فكادت أن تأتي بملابسها التي قابلته بها عندما جاء، و لكن نظرة كريم النارية لها، جعلتها تستدير و تدلف للغرفة ثانيةٍ؛ لارتداء ملابس واسعة، ثُم خرجت واضعة غطاء الرأس باهمال، و عيناها تَنْظُرَانِ لحماها بتوترٍ تارة و بأمانٍ تارة أخرى.
جاءت و وقفت بمحاذاة زوجها، فضمها لصدره قائلًا لوالده بنبرة لينة:
” نور عيني يا بابا، هي اللي عوضتني عن كل اللي عيشته و شوفته في السنين اللي فاتت و ضاعت من عمري ”
تأسَّف والده وتحسَّر على ما صدَر عنه في حقهما بقوله:
” لو تقدري تسامحيني يا بنتي، هتكوني عملتي معايا معروف عمري ما هَنسهولك ”
تبسمت برِقتها المعتادة، و قالت:
” مسامحة لوجه الله يا عمو، سامحتك من قلبي عشان شوفت الندم في عين حضرتك بجد، و بتمنى نفضل كويسين مع بعض على طول ”
” والله يابنتي ندمان فعلًا، و وعد مني مفيش أي مشاكل من ناحيتي ها تحصل لكم تاني بإذن الله، ها استأذن أنا بقى.. سلام عليكم ”
قالها بابتسامة هادئة، و قبل أن يستدير و يذهب، هتف كريم بعدما نظر لرُميساء خلسةً نظرة ذات معنى:
” مش ها تحتفل معانا طيب ! ”
استدار له والده، و تساءل باستغرابٍ:
” أحتفل بإيه ؟! ”
قالا في نفسٍ واحد بابتسامة واسعة:
” بحفيدك يا رياض بيه ”
اتسعت عيناه بدهشةٍ، و ظل لدقائق يحاول استيعاب الأمر، بينما هما أخذا يضحكان بخفةٍ، ليقول رياض باستيعابٍ أخيرًا:
” فرحتوا قلبي والله، ده أنا لسه عارف برضو النهاردة إن الدكتورة شمس مرات أخوك حامل و داخلة في التاني أهو ”
ردت رُميساء في مرحٍ وهي تنظر لكريم:
” و أنا لسه عارفة امبارح إني حامل ”
أخذ ” رياض ” يدعو لهم بسعادةٍ تجلت واضحة عليه، و لم يتركه كريم يذهب تلك الليلة، إلا بعد تناول الطعام معهما.
يقول د. مصطفى محمود..
لا تيأس مهما بلغت أوزارك، ولا تقنط مهما بلغت خطاياك.. فما جعل الله التوبة إلا للخطاة، وما أرسل الأنبياء إلا للضالين، وما جعل المغفرة إلا للمذنبين وما سمّى نفسه الغفار التواب العفو الكريم إلا من أجل أنك تخطئ فيغفر.
_____________________________.
« ليس حبيبي إنه وتين قلبي، لقد تبوَّأ موضعَهُ من نبضي؛ فأصبح الفؤاد و ما حَوَى » لنرمينا.
~~~~~~~~~~~~~~~.
بعدما أنهى ” بدر ” مكالمة الفيديو التليفونية مع “قُصي”، توجه إلى مقعده على الأرجوحة يتابع
” عائشة ” عن قرب بما تفعله بالرمال من قلاع غريبة المنظر، فتبسم بخفوتٍ و ظل يتابعها في صمتٍ، و ذهنه شارد في كلام ابن عمه الذي رجّ رأسه بصدماتٍ لن تجعله يفلت للنوم تلك الليلة، بينما ” عائشة” قد استمعت رغمًا عنها لنصف الحديث الذي دار بين زوجها و ابن عمها، و فضلت الصمت و تصنعت عدم الانتباه؛ حتى لا تضع بدر في موقف محرج معها، قاصدة من ذلك إحياء سنة عدم التجسس على الغير حتى لو بدون إرادتها، و أيضًا لئلا تضع زوجها موضع الخطأ، إذا وقع بلسانه أمامها و أخبرها بشيء، فقد انتبهت لتنبيه قُصي وهو يعيد عليه مرارًا أن يبقى هذا الأمر سرًا بينهما.
هتفت عندما وجدته شارد الذهن بحُزن:
” تيجي تلعب معايا ؟! ”
نهض باستسلامٍ لها و بمحض إرادته، يشاركها اللعب، و جلس أمامها يتأمل القلاع الرملية التي تشبه أبراج الحمام، فقال ضاحكًا:
” أنتِ شايفة دي قلعة ؟! ”
” لأ دي لابسة، دي اللي قلعة ”
ردت بالجملة الأخيرة، و هي تشير لقلعة صغير ارتطمت بها مياه الشاطئ، فهدمت نصفها، أما هو
مال عليها و غمز بمداعبةٍ لها:
” و أنتِ امتى ها تبقي قلعة ”
رمقته بدهشةٍ من طريقته التي أصبحت وقحة مؤخرًا، فتساءلت بتعجبٍ بدا مُضحكٍ له:
” ايش تقصد ؟! ”
صحح سريعًا:
” قصدي امتى ها تعملي قلعة بشكلها الصحيح، بدل العته اللي أنتِ بتعمليه ده ؟! ”
اختلست النظرات عليه في استخفافٍ، و تجاهلته لتتساءل:
” أهلنا كويسين ؟ ”
أومأ وهو يخفض عينيه ليخفي نظرات الارتباك بهما:
” آه الحمدلله ”
خيم الصمت عليهما لدقائق، ظلت هي تلعب في الرمال، وهو يتأملها بابتسامة عاشقة كعادته، فلاحظ أنها تتأمل المياه النقية باشتياقٍ للنزول فيها، و في نفس الوقت تخاف الإصابة بدوار البحر، فأعادت النظر فيما تفعله، بينما هو نهض فجأةً و في حركةٍ مباغتةٍ انتشلها من وسط العابها، ليحملها بين ذراعيه مُتجهًا بها ناحية الشاطئ، تحت الصرخات الصادرة منها و محاولتها للافلات منه بشتى الطرق، هاتفة بخوفٍ وهي تتمسك به بقوةٍ:
” لا يا بدر لا.. ابوس ايدك نزلني، أنا بخاف والله مبحبش المايه.. عشان خاطري يا بدر، طب نزلني و هرقص لك، والله لو ما نزلتني لأغني ”
تجاهل كل توسلاتها، و أخذ يضحك بمرحٍ عليها قائلًا وهو مستمر في الولوج عبر المياه بها:
” انسي الفوبيا و ثقي فيا ”
” بلا فوبيا بلا لوبيا.. نزلني يا عم أنت، هو أنا أعرفك أصلًا ”
قالتها بدموعٍ تترجاه، و يدها لا تكف عن ضربه، فتوقف و تأملها بابتسامة حنونة للحظاتٍ، نجحت في تهدئتها، ثُم قال:
” أنا بنتي ما بتخافش غير من اللي خالقها، سيبي لي نفسك و ثقي فيا.. اتفقنا ؟ ”
تنهّدت بخوفٍ ملحوظٍ، و أغمضت عيناها لتلف يدها حول رقبته و تضم نفسها له أكثر، هامسة بارتجافٍ:
” اتفقنا ”
بعد نصف ساعة مرت عليهما.. يحملها ” بدر ” على ظهره مثلما تحمل السلحفاة القوقعة الخاصة بها، و يسبح بها بمهارة في منطقة الأمان، تحت صيحات الضحك و اللهو منها، ثُم وقف بها فجأةً فتمسكت في كتفيه بشدةٍ، و هتفت بشهقة:
” أبيـه بدر، ها توقعني ”
تسمَّر مكانه للحظات يعيد ما هتفت به في أذنيه، فكانت في صغرها، عندما يحدث لها أمر مخيف أو يربكها، تهتف بـ ” أبيه بدر ” بدلًا من
” يا ماما ! “، فمن المعروف أن الصغار عند الفزع من أمرٍ ما يهتفون بالأم، أما هي لم تعرف ولم تعي معنى الأم، فكان هو الأم و الأب لها في آنٍ واحد.
أدركت ما قالته بعفوية منها، فخافت أن يكون ذلك قد ضايقه و أحزنه لفرق السن بينهما، مما اعتذرت سريعًا وهي تضع قُبلة صغيرة على خده:
” أنا آسفة، بس طلعت مني غصب عني ”
تنهّد بارتياحٍ، و مد ذراعه للخلف يُديرها له لتكون في مواجهته، فوضعت يديها بحذرٍ على كتفيه تسند نفسها إليه؛ مخافة الوقوع في المياه، ثُم تبادلا النظرات لدقائق، شعرت فيها بالأمان يكسو رحابة صدرها من نظراته المطمئنة لها، فتبسمتٍ بودٍ، بينما هو قال:
” بالعكس، فرحتني أوي.. حسيت بحجم المسؤولية الكبيرة المطلوبة مني تجاهك، وهي إني هفضل الأب و الأم لك دايمًا مش بس الزوج، أنتِ بنتي قبل ما تكوني حبيبتي و مراتي ”
ردت بدلالٍ هي وحدها تعرف تأثيره عليه، أو ربما قصدت ذلك، فهي مشاكسة و عقلها يعج بالكثير من أعمال الشغب:
” يعني مش زعلان ؟ ”
طريقة نطقها للجملة بهذا التغنُّج؛ جعله يدقق و يصوب نظراته تجاه وجهها و مفاتنه بثباتٍ، و قبل أن يقترب منها، ضحكت ضحكة مراوغة له مصحوبة بصياحها في عرض البحر:
” في البحر ! ”
رمقها باستفهامٍ، فتابعت صياحها:
” في البحر سمكة سمكة.. بتزُق سمكة سمكة، على الشط واقف واقف، صياد بشبكة ”
ضيق عينيه و أطال النظر لها، ليقول بنبرة يشوبها المكر و الخداع:
” طب حلو أوي، تيجي بقى نترجم الكلام ده ! ”
” يعني إيه ؟! ”
” يعني يا حلوة، بما إننا في البحر فاعتبري نفسك السمكة و أنا الصياد، و أهلًا بالسمكة في الشبكة ”
قالها بنفاذ صبرٍ منها، و أعاد حملها على ظهره خارجًا بها من المياه، مُردفًا بلهجة انتصار:
” إيه رأيك لو نروح رحلة صيد ؟ ”
هتفت بلهفة:
” بجد ! ”
أومأ ساخرًا:
” آه بجد ”
” فين ؟ ”
” في الجناح بتاعنا، ها احط لك سمك في البانيو الكبير و نصطاده سوا ”
” الله ! موافقة طبعًا هي دي فيها كلام ”
ضحك في صمتٍ، بينما هي بعد استيعاب دام لخمس دقائق و بعدما أنزلها على الشاطئ، أدركت مقصده، و انحنت تكور مجموعات من الرمال و تلقيها عليه، بينما هو يركض و يحاول الاختباء منها، فصرخت بتوبيخٍ له:
” يا قليل الأدب، الجناح ده طاهر و هيفضل طول عمره طاهر ”
ثُم توقفت تلهث بعد الركض لدقائق وراءه، لتقول بينها و بين نفسها:
” قليل الأدب بس عاجبني ”
و انقضت الأيام عليهما يوم يليه الآخر، في سعادة و حُبٍ ازداد في قلبيهما تجاه بعضهما، حتى حان موعد مغادرة جزر المالديف، تاركان وراءهما بصمة العشق اللامتناهي في كل مكانٍ خطت فيه روحيهما.
و في مكانٍ آخر بدولة أخرى، في إحدى محافظاتها تحديدًا محافظة المنصورة التي ضمت أحداث و أفراد عائلة الخياط و معارفهم.. تقف “مفيدة ” في الغرفة التي تربي بها الكتاكيت الصغيرة فوق سطح المنزل، و علامات الغيظ تنضج من وجهها وهي تصيح فيهم:
” أنتم مش ناويين تكبروا يعني ! أعمل فيكم إيه بعد كده ؟! عليقة و جبت، بادي و نامي و ناهي و شهيصت، كنت بشربكم عصير فريش بدل المايه، أعمل فيكم إيه تاني ؟! ”
أخذت الكتاكيت تصدر أصواتها و تنظر بعينيها يمينًا و يسارًا بحركات عشوائية، بينما مفيدة جلست بقلة حيلة تقول بندم:
” أنا غلطانة إني جيبتكم، بدر و عائشة زمانهم على وصول، يعني يبقى عندي فراخ و أروح اشتري من برا ؟! والله عيب في حق الأكل اللي كلتوه، ده أنتم ولا كأنكم بتاكلوا في سباق ! مهو لو كنتم فراخ بلدي كان طمر فيكم العيش و الملح، إنما أنتم فراخ بيضة فاكرين نفسكم أجانب.. ”
زفرت بضيقٍ، و تابعت الندب:
” عوضي على الله.. أقول إيه بس، طيب تحبوا أغني لكم و أنتم بتاكلوا يمكن تكبروا في الكام ساعة دول قبل ما العرسان يشرفوا ؟! ”
نظرت لها الكتاكيت بخوف، و بدأت تقفز على بعضها حينما صاحت مفيدة:
” كتاكيتي صوصو صاو، صوصو صـاو كوكو كوكو كوكو”
ثُم بدأت باصدار أصوات تشبه أصواتهم، مما أصاب الكتاكيت الفزع و الذعر، و ظلت تقفز في هستيرية على بعضها، حتى صدح صوت رنين هاتفها، و بدأت الكتاكيت بالعودة لهدوئها بعدما تركتهم مفيدة و خرجت ترد على ابنتها:
” معندكيش شوية عليقة يا هاجر ؟ ”
انطلقت الأخيرة تشكو صغارها في بكاءٍ حقيقي:
” الحقيني يا ماما، العيال ها يموتوني ”
انتفضت مفيدة بخوف عليها و تساءلت بقلق:
” في إيه يابت مالك ؟ ”
” مش راضيين يناموا و بيعيطوا كتير، و محدش في البيت معايا، ماما و بابا خرجوا، و زياد لسه مرجعش من الشغل، و أنا محتاسة بيهم، تعالي يا ماما بالله عليكِ سكتيهم، والله ما عارفة أنام ساعة واحدة بس، ولا عارفة أصلي منهم ولا عارفة أعمل أي حاجة، حتى معملتش غدا لزياد ”
هتفت بها هاجر، و عادت تبكي وهي تتأمل التوأم بعجزٍ و ضعفٍ غير قادرة على إسكاتهما، فهذا الصغير « كِنان» في قمة المشاكسة، لا يصمت دقيقة واحدة دون شد شعر شقيقته، أما « كيان» لا تفعل شيء سوى البكاء كلما جذبها أخوها من شعرها، و كلما حاولت أمهما ابعادهما عن بعضهما، يصرخ « كنان» و يحاول التدحرج من مكانه للوصول لشعر أخته بأي طريقة، و السبب في ذلك شعرها الأحمر الذي ينمو سريعًا بكثافة عن أخوها.
ردت مفيدة بحزن على حالة ابنتها:
” طيب يا حبيبتي اهدي أنا جاية ”
و قبل أن تترك الغرفة و تخرج، التفتت للكتاكيت تقول لهم بوعيد و تهديد:
” اوعوا تفكروا تلعبوا بديلكم، أي حركة كده ولا كده، همنع عنكم العصير لمدة شهر، و ابقوا وروني بقى هتكبروا ازاي، ده أنتم لو بتشدوا بودرة كان زمانكم ديوك رومي دلوقت، لكن أعمل إيه في حظي معاكم، و على رأي المثل برا و جوا فرشت لك، و أنت مايل إيه يعدلك ”
أغلقت عليهم الباب و خرجت تنقذ ابنتها من صراخ طفليها، و في تلك اللحظة عاد ” زياد ” من عمله، و دلف شقته بتعبٍ بدا عليه، فوجد
” هاجر” ترضع طفلتها و ابنها يشدها من شعرها هي، بعدما نجحت في ابعاد يده عن شعر كيان، خفق قلب زياد عليها عندما وجد الدموع متجمعة في عينيها، و انحنى سريعًا بخوفٍ عليها و أدرك مدى تعبها مع التوأم، فوضع قُبلة حنونة على جبينها و قال وهو يحمل كِنان و يجلس به بجانبها:
” أنتِ أم قوية يا هاجر، حملتي و خلفتي و بتربي و أنتِ لسه في الجامعة، مطلوب منك مشاريع و مذاكرة، ده غير اهتمامك بيا، أنا فخور بيكِ يا وردتي، و مقدر تعبك والله، و ياريتني أقدر أشيل عنك شوية، بس مهما عملت مش هتعب زي ما أنتِ بتتعبي معاهم، كل ده تأكدي إنه في ميزان حسناتك، عشان كده يا حبيبتي ربنا كرم الأم عن الأب و جعل منزلتها أعلى من منزلة الأب، أنا واخد بالي إنه برغم تعبك لكنك بتحاولي تربي عيالنا على سماع القرآن، ماما بتقولي إنك دايمًا تقرئي لهم قرآن، و أنتِ واقفة تطبخي و أنتِ بتغسلي و أنتِ بتعملي أي حاجة وهما جنبك ماسكين فيكِ، لسانك مش بيبطل قراءة قرآن، صدقيني يا حبيبتي لما يكبروا مش ها يبطلوا دعاء ليكِ، أنتِ أم و زوجة صالحة يا هاجر، و اوعي تفتكري إنك مقصرة في حقنا، أبدًا يا وردتي.. إحنا اللي مقصرين في حقك، و بتمنى تسامحينا يا حبيبتي ”
رمقته بدموع و همست:
” بس أنا معملتش غدا ”
” و أنا روحت فين ؟! الولاد مش مسؤوليتك لوحدك، كتر خيرك إنك متحملة كل ده لوحدك يا حبيبتي، أنا آسف إني سيبتك الأسبوع اللي فات ده كله من غير ما اساعدك، بس والله الشغل كان كتير، اوعدك يا حبيبتي افضي نفسي لكم بعد كده، و الغدا عليا النهاردة ”
قالها وهو يمسح لها دموعها برِقة، فتأملت وجهه المتعب، و قالت بنفيٍ:
” لأ، أنت باين عليك التعب خالص، قوم خد دش و غير هدومك و أنا هسيبهم مع ماما و اعملك تاكل ”
نهض قائلًا بنشاطٍ جاهد في إخراجه:
” أنا هقوم فعلًا أخد دش، بس عشان أفوق كده، و اوريكِ الشيف زياد الخياط هيعمل إيه ”
تبسمت في صمتٍ، بينما هو اتجه للحمَّام ثُم تنفيذ ما قاله.
فحينما دخل شقته و وجدها تبكي وسط أبنائهما و هيئتها تبدو مزرية غير مُرتبة، لم يسألها أين طعام الغداء، و لم يعلق على شكلها الغير مُهندم، بل جلس بجانبها و طوق كتفيها بحنانٍ، ليبث في أذنيها معاني و أساليب الدعم المعنوي لها، مما شعرت بالارتياح عقب كلماته و ظلت تدعو له من قلبها، و برغم تعبه قرر هو اعداد طعام الغداء لهما.
و لم يُنقل عن نبينا صلّ الله عليه وسلم في يوم من الأيام أنه ضرَب امرأة، أو حقرها، أو أهانها، لقد عاشت زوجاتُه معه عيشة كريمة ملؤها المحبَّة والوئام، فلا صخب بينهم ولا صياح ولا صراخ ولا عنف.
و هذه أم المؤمنين صفيَّة رضي الله عنها كانت معه صلّ الله عليه وسلم في سفر، فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صلّ الله عليه وسلم وهي تَبكي وتقول: “حمَلتَني على بعير بطيء، فجعل رسول الله صلّ الله عليه وسلم يَمسح بيديه عينيها و يسكتها.
فهذه اللمسات الحانية التي أضفاها صلّ الله عليه وسلم على زوجته من خلال مسحه لدموعها التي انسكبت على خدَّيها، وكلماته الدافئة التي أخذ يسكت بها شريكةَ حياته حتى يخفِّف عنها من بكائها، ويهدئ من حزنها؛ يشعرنا بمقدار المواساة التي كان صلّ الله عليه وسلم يواسي بها زوجاته رضي الله عنهن.
_______________________.
«الحُب الصادق هو سفينة النجاة في يمّ هموم الحياة» لنرمينا.
~~~~~~~~~~~~.
مرّ اسبوعين على تواجد ” الكابتن سيف ” في مركز التأهيل للاستشفاء في مدينة السادس من أكتوبر، و بدأ كاحله يستجيب للعلاج، و لكن
” روان” أحست و كأن قلبها هو الذي يحتاج للعلاج من ألم الاشتياق له، فقد بلغ الشوق الحناجر، و لم تقدر على البُعد أكثر.
شعرت أنها بحاجة لرؤيته و الارتواء من عناقه قبل تعافيه التام و عودته للعب، فعندما سيعود لخوض المباريات المتتالية، لن تستطيع رؤيته إلا بعد الانتهاء.
و ها هي الآن تقود سيارتها برفقة والدها بعد عدة محاولات فاشلة لأخذ موافقته للزيارة، وافق أخيرًا بشرط ألا تطول مدة زيارتها؛ لكي لا يقعان في فك المصورين اللذين يقفون على الأبواب في انتهاز أي فرصة لأخذ أي لقطة تخص اللاعب.
كان على علم بأنها قادمة لزيارته، فقد أخبرته في الهاتف أمس، لذلك وقف مستندًا على عكازه المعدني أمام عتبة باب غرفته عندما أتاه اتصال منها منذ لحظات تخبره أنها شارفت على الوصول، و ما هي إلا دقائق و كانت داخل المركز برفقة والدها.
لمحها قادمة نحوه في آخر الممر الذي يؤدي لغرفته، فاتسعت ابتسامته و لمعت عينان الزمرد خاصته بلمعة الاشتياق و الحُب لها، و ما إن اقتربت منه، تقدم هو نحوها بخطوات عرجة، ثُم سحبها من يدها برفقٍ داخل الغرفة، و انحنى انحناء بسيط عليها، ثُم استقام وهو يحملها بيدٍ واحدةٍ، و اليد الأخرى ترتكز على العكاز، و شدد من لف ذراعه على خصرها يعانقها بشدة كأنه لم يراها منذ زمن، بينما هي لفت يديها حول رقبته تبادله العناق بأقوى منه، غير مبالين تمامًا لنظرات الاستنكار من ” حافظ ” تجاههما.
استنشقت عطره الذي يغرق رقبته بعمقٍ، و همست بنبرة تتوق إليه:
” أنا كذابة، مش هقدر اساعدك تكمل حلمك، الكرة ها تاخدك مني يا سيف، سيبك من الكرة و ارجع لي يا سيفو، عشان خاطري ”
قَبَّلها من جبينها بقوةٍ، و أنزلها برفقٍ وهو يقول بابتسامة جذابة لطالما نجحت في إثارة قلبها:
” والله ما في أي حاجة في الدنيا تقدر تاخدك مني بإذن الله، و لو الكرة هتكون هي العائق بيني و بينك، تغور في داهية، أنتِ أهم و أولى أحلامي يا روان، أنتِ و بس يا رواني ”
قال جملته الأخيرة، و عاود حملها و عناقها، فتدخل “حافظ ” تلك المرة يقلب كفيه بضيقٍ:
” ما كفاية سهوكة بقى ! ”
تجاهله ” سيف ” أو لم يسمعه بالأساس؛ بسبب شروده في ملامح سمرائه التي فتنت حواسه، بينما هي شعرت أخيرًا بتواجد والدها معهما، فقد تناست أمر وجوده هي الأخرى، حاولت الابتعاد عنه وهي تشير بعينيها لوالدها بنظرة تحذير لما سيود فعله ككل مرة يفعل ما يدور في رأسها، ثُم يفر هاربًا من أمامها..
همست ترمقه بعين التحذير:
” اتلم بابا هنا ”
” و إيه يعني ! ”
” ها اديك على وشك ”
قالتها بتهديدٍ له من بين أسنانها، فقد أوقفها أمامه و ولى ظهره لوالدها، فأصبحت مخفية عن عينيه، و هَمَّ بفعل فعلته، مما صفق حافظ تلك المرة هاتفًا:
” بعد إذن بس روح يوجين الحرامي، أنا كيس جوافة واقف هنا و لا إيه ؟! و لا يكونش قرطاس و أنا مش واخد بالي ! ”
تقدم و سحب ابنته من بين ذراعي سيف قائلًا بصرامة بدت مضحكة:
” لما تيجي بيتك ابقى طلع الديك الشركسي اللي جواك، إنما دلوقتي لا يجوز ”
حدق سيف به في اعتراضٍ لما فعله، وهتف بغيظٍ منه:
” إيه اللي لا يجوز ! دي مراتي ”
” مراتك على الورق بس ”
” الجواز اشهار و الناس كلها عارفة إنها مراتي، بعد إذنك بقى يا حج ظاظا هات مراتي كده ”
قالها سيف وهو يأخذ “روان” منه رغمًا عنه، بينما هي ضحكت بخفة و نظرت لوالدها باستعطافٍ تقول:
” خلينا معاه شوية كمان يا بابا، بليــز ”
” ماشي، بس مفيش سهوكة ”
هتف بها بغيظٍ منهما، و جلس على المقعد خلفه يتابعهما في مشهد ساخر للغاية، أما ” سيف ” أحس بأنه جالس في سجن من نظرات حماه المراقبة لهما، فقرر المجاكرة معه، ليقول بنبرة استفزاز:
” ممكن يا رواني تغيري لي التيشيرت عشان رجلي وجعاني مش عارف أغيره ؟ ”
صاح حافظ بنفاذ صبر:
” ليـه، هو أنت بتغيره برجلك ؟! ”
” التكنولوجيا بقى اتطورت و كل حاجة بتطور يا حمايا نعمل إيه ”
رد بها بضحكة مكتومة، مما وكزته روان في كتفه هامسة:
” اتلم بدل ما ياخدني و نمشي ”
لم يكتفِ سيف بذلك، بل تصنع الألم المفاجئ و وضع يده على كتفه هاتفًا بألم:
” آه كتفي قفش عليا فجأة، شوفي كده يا رواني كتفي ماله ”
تحسست كتفه بخوف بالفعل و لم تدرك أنه يتصنع ذلك، إلا بعد ملاحظة نظرات والدها النارية لها، و ضحكات سيف الخفية، فضربته على كتفه بخفةٍ، و قالت:
” أنت مش ناوي تجيبها البر ! ”
في تلك اللحظة رن هاتف حافظ، فانتهز سيف الفرصة و قال:
” لو سمحت يا حمايا أنا مريض و ممنوع استخدام التليفون في غرفة المريض منعًا لازعاجه ”
نهض حافظ على مضضٍ ليرد على المتصل، و حينما أصبح خارج الغرفة، نهض سيف بنشاطٍ مفاجئ كأن كاحله قد شُفي تمامًا، و أغلق الباب ثُم التفت لروان غامزًا:
” كلام الحج سيف بس ما يمشيش على رقبة سيف ”
شدها نحوه و قبل أن يفعل ما برأسه، فتح والدها الباب ليهتف:
” إيه يا كابتن غدر الذئاب ده ! ”
صرّ ” سيف ” على أسنانه بغيظٍ صريح، و قرر المضي فيما يفعله رغم أنف حماه، فكانت يد حافظ أسرع منه و جذب ابنته خلفه هاتفًا بغضب:
” أنت ما تقدرش تعيش يومين محترم !
لا إله إلاّ الله ”
صاح سيف هو الآخر بضجرٍ منه:
” منا بقالي اسبوعين محترم يا عالم، سيبوني بقى.. الله ! ”
رمق حافظ ابنته باستفهامٍ ليتساءل:
” يقصد إيه بإنه بقاله اسبوعين محترم ؟ ”
خفضت روان رأسها بخجلٍ، لا تدرِ بما تجيب والدها، بينما سيف تقدم نحوها و جذبها لصدره يؤكد قوله لوالدها:
” أقصد إني بقالي اسبوعين معملتش كده ”
اتسعت عينان حافظ بعدم تصديق لما فعله سيف، في حين أن روان اختفت خلفه في ثوانٍ، بينما تابع ” سيف ” بابتسامة انتصار له:
” انتصر الأسد اللهم لا حسد ”
صاح حافظ بعدم استيعاب بعد:
” أنت قليل الأدب ”
” إحنا عيلة بتموت في قلة الأدب ”
” أنا هقول لبدر أخوك يعلمك الأدب ”
صدحت ضحكة ساخرة من سيف جعلت حافظ يضحك بخفة رغمًا عنه:
” بـدر ! هأأو ”
_______________________.
” لَستُ نَصًّا يُمكِن إزالته، أنا الفِكرة. ”
~~~~~~~~~~~~~~.
بعدما ترك ” قُصي ” تلك التعيسة في الغرفة بكامل صدمتها، و رفضها كزوجة شرعية له، جلست خلفها باهمالٍ على الفراش، تنظر لانعكاس صورتها الذابلة في المرآة، فقد أهان كرامتها برفضه لها، و أخذت تبكي في صمتٍ و عينيها لا زالت تتأمل انعكاسها بتقزز و اشمئزاز منها، نادمة أشد ندم على الانصياع وراء نصائح أختها.
همست بضعفٍ قبل أن تخفي وجهها بين كفيها و تجهش بالبكاء:
” أنا غبية.. غبية، يا ريتني ما سمعت كلامك يا شمس، أنا استاهل.. ”
نهضت بحدةٍ و احتداد، ثم نزعت ما ترتديه و بدلته بملابسها الرجولية المعتادة، و أخذت بتقطيع الرداء الشفاف، لتلقي به بصراخٍ و انهيارٍ في حركة عشوائية ارتطم بوجه قُصي تزامنًا مع فتحه للباب، فقد عاد لتعليمها درسٍ لربما تفهم مقصده من الابتعاد عنها و عدم الاقتراب و المساس بها.
تبادلا النظرات لدقيقة كاملة في مشهد حزين هو وحده المتسبب فيه.. اتجهت نحوه بثباتٍ و دفعت بصدره للخارج وهي تصرخ في وجهه:
” مش عاوزة أشوف وشك هنا، غـور من وشي ”
لم يتزحزح من مكانه و ظل واقفًا يتأملها في صمت بوجهٍ خالٍ من أي تعابير، بينما هي اغتاظت و استفزتها نظراته، فصاحت وهي تشير لباب الشقة بقسوة:
” غور قولت لك، مش طايقة اشوفك قدامي، أنت اكتر واحد بكرهُ في حياتي، اطلع بـرا بقى و غور من وشي ”
تقدم نحوها، و جذبها من يدها ببرودٍ تحت نظرات الدهشة منها، ثُم أجلسها أمام الطاولة و جلس قبالتها، بعد أن احضر لعبة الشطرنج، ليقول بجفاءٍ:
” بتعرفي تلعبي شطرنج ولا اعلمك ؟ ”
رمقته بعدم فهم، و أحست بأنها ستفقد صوابها من أفعاله، فنهضت و همَّت بصفعه، و لكنه قبض على معصمها و شدَّها منه نحوه، لتصبح شديدة القرب منه، و همس أمام وجهها بلا مبالاةٍ:
” أنا اللي مش عاوزك في حياتي، بس عشان ننهي المهزلة دي، اقعدي و خلينا نلعب ”
جلست ببطءٍ تنظر له في حيرةٍ من أمره، و هتفت بنبرة مرتعشة أثر البكاء:
” نلعب ! أنت جايب البرود ده كله منين ؟ فاكر نفسك مين عشان تتعامل معايا كده ! أنت ولا حاجة يا قُصي، سامع ! ولا حاجة، و غرورك اللي عامي قلبك ده هيكون سبب في هلاكك ”
تنهّد بثقلٍ، و أردف ينفي صحة كلامها:
” أنا فعلًا ولا حاجة، بس غروري مش عامي قلبي، أنا بجاهد في حاجات أنتِ نفسك متعرفيش ولا تفهمي عنها حاجة، فياريت تحطي لسانك جوا بوقك الحلو النونو ده، و تعملي اللي بقولك عليه من غير نقاش ”
أثارت جملته الأخيرة حاسة الغضب عندها، فضربت بيدها على الطاولة بتعصبٍ لم يرتد هو له جفن و ظل يتأملها ببرودٍ و نظرات بلادة أخافتها قليلًا، فتجاهلت خوفها و هتفت:
” تبقى بتحلم لو مفكر إنك تقدر تؤمرني بحاجة، أنا و أنت مفيش أي حاجة تربطنا ببعض تخليني اطيعك، و بالنسبة لورقة الجواز بلها و اشرب ميتها، أنا مش فارقة معايا حاجة، و ياريت تخلي عندك دم و تغور بقى عشان قرفانة منك ”
تبسم ساخرًا، و قام بغتةً بسحب مقعدها نحوه، فالتصقت ركبتيها بركبتيه، مما زاد ذلك من نظراته و ابتسامته الساخرة، و قال بثقة:
” تؤ، أنتِ مش قرفانة مني، أنتِ قرفانة من نفسك عشان اللي عملتيه أو حاولتي تعمليه، فشل ”
أحست بنظرات الاستحقار منه لها، فهتفت بمدافعةٍ عن نفسها و جسدها بدأ يرتعش من شدة ما عانته من مآسي في حياتها:
” أنا.. أنا كنت بتصرف كزوجة عادي، و مكنش قصدي حاجة، أنا كنت بس عاوزة أعرف إجابة سؤال منك، و خلاص عرفت الإجابة، لكن اللي حصل ده مكنش بارادتي، أنا عملت كده بدون وعي مني، و وعد مني مش ها يتكرر تاني أبدًا يا قُصي، أبدًا؛ لأني ها اختفي من حياتك و احقق لك أمنيتك ”
تأملها للحظات يحاول استنباط حقيقة قولها الأخير من ملامح وجهها، فأحس بخفقان قلبه و لأول مرة يشعر بالخوف، شعر بأن الوجع الذي استشعره للتو، جمرة تحرق بنارها كبده، فهدأت ملامحه، و همس بعد تفكير:
” أنتِ متقدريش تعملي كده ”
نمت ابتسامة ساخرة جانب شفتيها، تتوعده بداخلها بتنفيذ ما تفوهت به، فقالت بتأكيد:
” و أنت ما تقدرش تمنعني إني أعمل كده ”
وزع نظراته ما بين الشطرنج و عليها، ثُم قال بعدم اكتراث مصطنع لها:
” العبي ”
أرادت اظهار ذكائها في تلك اللعبة، رغم عدم فهمها لماذا يود اللعب معها، فقامت بتحريك البيدق الخاص بها، بينما هو قام بتحريك القطعة الخاصة به في اتجاه آخر، و بعد اظهار مهارات كل منهما في تحدٍ دام لعشر دقائق سيطر عليه الحماس من الطرفين، قام ” قُصي ” ببراعة بوضع ملك ” منة ” تحت التهديد، ثم حرك ملكه خطوتين تحت نظرات الصدمة منها، ليضرب الملك خاصتها ضربة خفيفة يوقعه و هو يقول بابتسامة استخفافٍ بها:
” كش.. ملك ”
ثُم نهض و انحنى عليها ينظر في عينيها نظرة ثاقبة جعلتها تتنفس بعدم انتظام، و همس بنبرة جمود:
” الراجل مينفعش يبقى هو اللي في خانة اليك ”
و تركها و غادر، ليمر اسبوعين على تلك الحادثة.. و قد عرف ” قُصي ” خبر استشهاد ” إياد ” عبر هاتف والده الذي قام باختراقه، و استطاع بسهولة سماع المكالمة التي دارت بينه و بين خاله عزمي، مما تركت الصدمة أثارها عليه لأيامٍ ظل فيهم لا يكلم أحد و لا يحادث أحد حتى بلغة الإشارة، ظل لأيام يحاول استيعاب أن صديقه و مدربه الشخصي رحل عن عالمنا، و لم يذرف في تلك الأيام دمعة واحدة، و عندما أدرك حقيقة الأمر؛ تعالى صوته في البكاء، و استطاع والده و شقيقه تهدئته بصعوبة، بينما ” منة ” لم تستطع إخفاء حزنها أمامهم و بكت هي الأخرى، فكانت أيام حزينة لم تشهدها قلوبهم من قبل، شعروا و كأنهم فقدوا عضوًا من جسدهم و ليس مجرد صديق !
في خلال تلك الأيام، كانت ” منة ” قد أعدت العدة لملاقاة والدها، الرجل الظالم الذي سلب منها طفولتها و براءتها و حياتها، و تجهزت بعدما انتهزت فرصة عدم تواجد ” قُصي” في البيت، و استقلت سيارتها تحديدًا لمحافظة ” بور سعيد ” المحافظة التي يتخفى والدها بها الآن، و بفضل العصابة التي كلفتهم بالبحث عنه، عثرت عليه أخيرًا.
تأكدت من ملء مسدسها بالذخيرة، و كتابة رسالة ورقية لذاك المغرور بنظرها، ثُم وضعتها في غرفته قبل الخروج من المنزل و مغادرته للأبد.
لقد أخذت القرار بقتل والدها و الثأر لنفسها، ثم التخفي عن الأعين للأبد حتى توافيها المنية.
جاء ” قُصي ” من الخارج، فقد أصابه مؤخرًا تشتيت كبير بالذهن حول علاقته بمنة و حول تحقيق حلمه.
دلف للشقة و جلس على الأريكة بتعبٍ لدقائق، و عندما أحس بهدوء الشقة و عدم تواجدها فيها، نهض يُنادي عليها، و الخوف يتسلل لقلبه رويدا متذكرًا قولها بأنها ستختفي من حياته للأبد.. لمحت عيناه تلك الورقة المكتوبة بالحبر على الكومود، فأخذها و جلس يقرأ ما فيها..
اتسعت عيناه بصدمة حتى شعر بالصدمة تتغلغل في أوردته، عندما عرف بما فعله والده و أصدقاءه بها، و كم المعاناة التي عاشتها من تحت رؤوسهم، بدأت الدموع تتجمع في عينيه مشكلة سحابة كبيرة آيلة للسقوط في أي لحظة من مقلتيه، فلم يتمالك نفسه و بكى في صمتٍ متخيل المشهد وهي تعاني بسببهم، فوضع يده على فمه و عضّ على أنامله بندمٍ شديدٍ على ما اقترفه بحقها..
الآن أصبح كُل شيء واضحًا، الآن بدأ عقله يترجم الأحداث و يستوعب، بل و يتفهم جيدًا أن ” منة” و ما طرأت عليها من تغيرات مثل تشبهها بالرجال دائمًا، أنها نتاج كومة عقبات وخيمة دمرت طفولتها و براءتها تدميرا، حالتها تلك بسبب ما حدث لها في الصِغر.
اقشعر بدنه وهو يتخيل كل ما حدث لها، فأحس بأن صيحة قوية ستنطلق منه و تمزق أحشاء السكون، و جملتها الأخيرة تتردد في ذهنه.. أخذ يتساءل مُحدثًا نفسه بتأنيب ضمير
” طيب فعلًا كده خلاص ! بعدت عني ! مفيش منة تاني ! سابتني خلاص ؟! لا لا مستحيل، مش هتبعد عني، لو هي سابتني فأنا مش هسيبها ”
أدرك الآن أنه يُحبها حقًا، و لن يقدر على الابتعاد عنها، أحس بخوف شديد يأكل قلبه؛ خشية أن يحدث لها مكروه، فنهض على عجلة من أمره و استقل سيارته يسير بها كالمجنون في الطرقات يبحث عنها هنا و هناك، حتى أتاه اتصال من أختها، فأجاب سريعًا لتهتف هي بذعر:
” منة يا قُصي، الحق منة ”
تساءل بقلقٍ شديد:
” راحت فين يا شمس ؟! ”
” لسه ماشية من عندي حالًا بعد ما ودعتني، هي مقالتش حاجة بس رحيم عمل اتصالاته و عرف إنها لقت باباها، هو موضوع طويل..
قاطعها يتساءل في صراخ:
” راحت من أنهي طـريـق ؟؟ ”
أخبرته عن مسارها، فأغلق الهاتف و أسرع بقيادة السيارة تجاه الطريق الذي قصدته ” منة “، و بعد دقائق لمح سيارتها أخيرًا، فضغط على دواسة السيارة بقوةٍ و بغضبٍ منه و من كل شيء حتى منها، لابتعادها عنه، مما انطلقت السيارة بسرعتها القصوى تتخطى السيارات الأخرى، فلاحظتها من مرآة السيارة و لم تصدق لوهلة مجيئه خلفها، فضغطت على دواسة سيارتها هي الأخرى تحاول الفرار منه، و لكن سيارته الثمينة ذات الماركة العالية، أحرزت هدفًا في مرماه و استطاع إعاقة الطريق أمامها.. هبطت من سيارتها بغضب و كذلك هوَ.. ترجل من السيارة و صفق الباب بقوة و بغضب نال منه، ثُم تقدم ناحيتها، و قبل أن تنطق بحرف.. هوى بكفه على خدها، يرمقها بنظرات غضب مختلطة بالخوف من فقدانها..
وضعت يدها مكان الصفعة و أخذت تنظر له بدهشة، لـِيُفاجئها بسحبها بين ذراعيه يحتضنها بقوة، هامسًا بحُب حقيقي:
” إياكِ تبعدي عني تاني ”
ظلت لدقائق تنظر بشرود و باستيعاب بطيء لوجودها بين ذراعيه، غير مصدقة تمامًا أن الذي يحتضنها بتلك القوة، هو الوسيم المغرور
” قُصي ” !
حينما ضمها لصدره بتلك القوة التي تضم بها أغلى أشياءك الثمينة و تخاف فقدانها، أحست بأن هذا الشخص هو ملاذها الآمن من بين العالم..
استشعرت دفء لمساته و صدق مشاعره تجاهها من ذراعيه اللذان يُثبتان جسدها الصغير في صدره المفتول، بعدما خابت كل آمالها في جعله يشعر ولو بقطرة صغيرة من مشاعر الحُب تجاهها، و لكن ما تحسه منهُ الآن، هو الخوف و القلق الشديدين عليها.
حاولت الابتعاد عنه، فأبى و زاد من ضمها له هامسًا بدموع حقيقية أدركتها ” منة ” أخيرًا:
” خليكِ، اياكِ تبعدي عني تاني، اياكِ يا منة ”
ابتعدت بهدوءٍ بعد دقائق ثمينة، لتتساءل باستغراب و عينيها ترفض الدموع تركها:
” جيت ليه ؟ ”
” أنا قولت لك أنتِ لو مشيتي من حياتي أنا ها ارتاح، بس أنتِ مشيتي و خدتِ قلبي معاكِ.. أنا بحبك يا منة ”
قالها بدموع صادقة هو الآخر، وهو يُخْرَجُ نَفَسٍ بعد مَدِّهِ بِتَأوُّهٍ مَشْحُونٍ بِالألم و الحزن حيالها و الندم و التأسّف منه لها، ثُم تابع الهمس:
” آسف ”
هوت بصفعة قوية لم ينل قُصي مثلها في حياته على خده، فمن قوتها صدح صوتها يرن كالناقوس في أحشاء سكون الليل، و تطاير لها شعره المنسدل على جبينه، فلف وجهه إثر الصفعة و رفع شعره الذي تطاير على وجهه، ثُم رمقها بصدمة من فعلتها، أما هي تفاجئت من قوة يدها على وجهه، و لم تكتف بذلك بل ناولته صفعة ثانية، و ثالثة و بدأت تضربه بقبضتيها في صدره وهي تصرخ صرخات متتالية مصحوبة ببكاءٍ تقطع له القلوب، و تشهق بين الحين و الآخر هاتفة بصوتٍ مبحوح من بين شهقاتها:
” آسـف ! هو أنت دوست على رجلي، ده قلبي يا غبي.. أنت كسرت قلبي و جاي تقولي آسف ! جاي تقولي آسف بعدما ما تعبت قلبي و كل يوم تسمعني إهانة شكل، هو أنا إيــه ! حـجر ! مبحسش ! ده لو كان قلبي حجر كان زمانه نطق من اللي بيحصل فيـه، بكرهك يا غبي.. كنت فاكرة إنك الأمان اللي هيجي يداوي جروحي، بس أنت جيت كملت عليا، جيت كملت عليا يا قُصــي، و جاي تقولي آســف ! بعد إيــه يا غبي ؟
بعد إيــه ؟! ”
تركها تكيل له اللكمات في صدره و الصفعات في وجهه كما تشاء، حتى خارت قواها و سقطت بين ذراعيه، فحملها و اتجه بها نحو سيارته، جالسًا بها يضمها لصدره برفقٍ هامسًا بأسفٍ و توسلٍ:
” خدي حقك مني بالطريقة اللي ترضيكِ، بس اوعي تفكري تبعدي عني، أنا عرفت غلطي، أنا كلي عيوب و جيت لك بعيوبي تصلحيها، أعمل إيه و تسامحيني ؟ ”
همست وهي تتمسك بقميصه بقوة عكس قولها:
” سيبني في حالي، مبقتش عاوزاك ”
قالتها وهي تشدد من قبضتها على القميص، فبادلها الهمس بطاعةٍ لأول مرة يظهر ضعفه أمام أحد:
” أنتِ حالي، من هنا و رايح أنا و أنتِ حالنا واحد، و ربي المعبود لاجيب لك حقك من كل حد تسبب في نزول دمعة منك، حتى أنا هجيب لك حقك مني، و أنا راضي بحكمك، بس كله إلا البُعد، أصل خلاص، مبقاش فيه مجال للهرب تاني، أنا و أنتِ مصيرنا مربوط ببعض، و أنا استحالة أكمل حياتي من غيرك تاني، قلبي انتصر على غروري و كسر جبروتي و اعترفت لنفسي إني مش هقدر أعيش من غيرك، الحياة بدونك بلاها أحسن ”
تملَّصت من بين ذراعيه، و ابتعدت عنه لتجلس على المقعد الآخر قائلة بجفاءً:
” اطلع بينا على العنوان اللي قدامك ده، في تار بايت مع اللي اسمه بابا رايحة اخلصه ”
تفاجئ من ردة فعلها الجامدة، فتيقن أنها ستعامله مثلما كان يعاملها، و لكن إن كانت ستفعل ذلك حقًا، فلا بأس.. يكفي أنها ستبقى معه، وهو لا يريد إلا ذلك.
تساءلت قبل أن ينطلق بالسيارة:
” حسيت بالشفقة تجاهي عشان كده جيت، مش كده ؟! ”
مسح على وجهه بهدوءٍ، و أردف بصدق:
” لأ مش كده، جيت عشان لقيت قلبي مقبوض من غيرك، جيت عشانك مش عشان أي حاجة تانية، و مش هبعد عنك يا منة، اعتبريني زي الضوفر ما بيطلعش من اللحم، هفضل كده لازق لك لحد إما ربنا ياخدني، و إذا كان عاجبك ”
همست لنفسها حينما دعا على نفسه:
” بعيد الشر ”
و انطلق هو بالسيارة في صمتٍ قطعته هي بقسوة:
” أنت ها توصلني و ترجع، ده حقي و حاجة تخصني أنا، و أنا مش عاوزة حد يدخل فيها بعد إذنك ”
رمقها بعدم اهتمام لكلامها، و هتف:
أنتِ مرات قُصي.. عارفة يعني إيه ! يعني إشارة واحدة مني بس، أبوكِ يتجلد في ميدان عام عريان ”
ضحكت من آخر جملة قالها و عيناها لا زالت تذرف الدموع، ثُم قالت بنبرة كراهية:
” بس متقولش أبويا، ده الراجل اللي دفن طفولتي و حطم لي قلبي ”
” و أنا جيت عشان أداوي قلبك.. سامحيني على قسوتي معاكِ ”
تبسمت بسخرية لتقول:
” اسامحك ! هو سهل كده الواحد يؤذي قلب إنسان و يجي يقوله سامحني فيسامحه ! لأ يا قُصي، متأسفة، مش هقدر اسامحك و مش هقدر أكمل معاك ”
” مش بمزاجك يا منة، قولت لك عاقبيني بالطريقة اللي تحبيها بس بُعد لأ، مش هقدر على فراقك، و مش هسمح لك تبعدي عني تاني ”
قالها، و زاد من ضغطه على الدواسة ليسرع من القيادة للوصول لوالدها قبل أن يستطيع الهرب ثانيةً، و في الطريق بعد مرور ساعتين، أتاه اتصال من اللواء عزمي و كريم بجانبه، فأجاب ليأتِه الرد يقول:
” قُصي، ارجع أنت و منة و إحنا هنتصرف مع الراجل ده و حقها هيجي بالقانون ”
نظرت له ” منة ” برفضٍ قاطع، بينما هو رد باعتراضٍ:
” لأ، مراتي هتاخد حقها بنفسها ”
أخذ ” كريم ” الهاتف من اللواء بخوف على قُصي، و هتف يترجاه ألا يقدم على فعل شيء غبي، فقد عرفت أجهزة الأمن من المراقبة التي تم وضعها على قُصي بعد استشهاد ” إياد ” خوفًا عليه من الاغتيال، بمكان والد منة و بقدرتهم على الوصول إليه:
” قُصي ارجع عن اللي في دماغك ده، بلاش تودي نفسك في داهية أنت و مراتك، مينفعش تستغل الحصانة اللي عليك لصالحك و تقتل بدون وجهة حق، الراجل ده هيتسلم لنا و هنقوم معاه بالواجب و أنا ها اقتله بنفسي معنديش مشاكل، بس أنت لأ ”
” أنا محدش يقولي اعمل إيه و أخلي إيه، أنا هعمل اللي شايفه صح أيًا كان هو إيه ”
” طيب اشبع غليلك فيه بس بلاش تقتله ”
” تمام مش هقتله ”
قالها بلا مبالاة لكلامه، و أغلق الهاتف، ثم نظر لمنة بابتسامة يطمئنها بها لأول مرة تحسها منه:
” اللي أنتِ شيفاه هو اللي يتعمل، جوزك قتال قتله متقلقيش، أنتِ بس شاوري و أنا أنفذ ”
تبسمت بخفوت دون الرد عليه، فهي ما زالت عند قرارها بأن تبتعد عنه، و بعد ساعات قليلة أخرى وصلا أخيرًا للمخزن الكبير القريب من البحر الذي تم امساك والدها فيه بواسطة العصابة..
ترجلت ” منة ” من السيارة و علامات الخوف بدأت تقبع على وجهها، فتوقفت مكانها تفرك يديها بخوفٍ متذكرة ما حدث لها على يده، بينما قُصي شعر بخوفها الشديد، فاقترب منها و ضمها بحنانٍ بين أضلاعه يحتويها بعمقٍ، قائلًا:
” متخافيش، أنا معاكِ ”
أخذها من يدها برفقٍ، و حاول هو إخفاء مشاعر الأسى عليها كلما صورت له مخيلته مشهد
« التعدي عليها» فأغمض عينيه، و عضّ على شفتيه يتوعد لوالدها بداخله.
دلف للمخزن و هي بيده ترتجف بفزعٍ حلّ عليها، في حين أن رجال العصابة استقبلوا قُصي بترحابٍ بالغ كأنهم على معرفة سابقة به، وهو لأول مرة يراهم، و لكن لشدة جاذبيته و خطواته الواثقة؛ جعلت رجال العصابة يكنون له الاحترام كأنه زعيمهم !
وقعت عيناه على رجل في منتصف الخامسة و الخمسون من عمره، يجلس على مقعد مقيد بالحبال الغليظة، و وجهه مغطي بالكامل، اقترب رجل منه و نزع عنه الغطاء، لتبدأ ” منة ” في الصراخ بهستيرية، و أخذت تردد وهي تدفن رأسها في منتصف صدر ” قُصي “:
” لأ لأ سيب فستاني يا عمو، الحقني يا بابا ”
نزلت الدموع من عينيه الزرقاء رغمًا عنه، و أخذ يمسد على شعرها هامسًا لها:
” اهدي.. أنا جنبك و معاكِ، متخافيش.. اهدي يا منة، اهدي و اتفرجي على حقك وهو بيرجع ”
” مش قادرة، مش قادرة يا قُصي ”
قالتها وهي لا زالت تدفن رأسها في صدره، بهلعٍ رفض تركها منذ رؤيتها وجه والدها معدوم الضمير و الانسانية، بينما هو أدرك أنها لن تقدر على المواجهة، فأخذها و عاد بها للسيارة ثُم أجلسها و ترك قُبلة مطمئنة على خدها متبوعة بقوله:
” وربي المعبود لاسمعك صوت صراخه من جوا ”
” ها تعمل إيه ؟ ”
” هشفي غليلك و غليلي ”
أغلق عليها باب السيارة، حتى لا تخرج و ترى المنظر المؤلم الذي سيفعله بوالدها.
اتجه يقف أمامه، ثُم ركله بقوةٍ في صدره فوقع بالمقعد خلفه، فأشار للرجل بجانبه بإعادة جلوسه، ثُم ركله ثانيةً بقوة أكبر فوقع مرة أخرى، و أعاد الكرَّة عدت مرات، حتى سعل الرجل الدماء الكثيرة من فمه، و تحدث بتوسلٍ أخيرًا:
” أنا.. أنا غلطان.. مكنتش في وعيي.. أنا ندمان.. اعتبرني زي أبوك ”
” بس أنا ابويا مش تلات حروف زيك ”
هتف بها في صرامةٍ و حدةٍ، ثُم أشار للرجل بفك وثاقه، و حينما حرره، وقع والدها من شدة التعب و أخذ بالتوسل ثانيةً:
” هي فين أبوس جذمتها، هي فين.. هاتها لي.. دي بنتي.. دي بنتي و أنا بحبها، هاتها اصالحها ”
انحنى ” قُصي ” بنظرات الذئاب المفترسة عليه يبصق في وجهه، و يصيح بضربه على رأسه بإهانةٍ كلما صورت له مخيلته المشهد:
” جذمتها أنضف منك، يا راجل يا * يا *، في أب يعمل في بنته كده ! ده أنت خسارة فيك كلمة راجل يا * يا * زي ما أنت مرحمتهاش، أنا مش هرحمك ”
رد والدها ببكاءٍ كالنساء يتساءل بحيرةٍ:
” أنت مين ؟ ”
” أنا جوز بنتك اللي هيجيب أجلك يا * ”
” حرمت والله، سامحوني ”
” الله ياخدك، أنا هبعتك عنده دلوقت يشويك في ناره ”
قالها قُصي بغضبٍ جامح سيطر عليه بالكامل، و التفت لرجل العصابة يقول له بصرامة:
” اشوي الخروف على نار هادية ”
ابتسم الرجل بخبث و فهم المغزى من تلميح قُصي، فأمر الرجال بجلب أغراض شواء الخراف الحقيقية، و قاموا بربطه مثل الخروف وهو يصرخ بشدة، ثُم اشعلوا النار من تحت جسده، و بدأوا بلفه على سيخ الشواء و الجلد يذوب منه، تحت نظرات ” قُصي ” المستمتعة بأصوات الصراخ الشديد الصادر منه، و بعد ساعات..
احترق الرجل في النهاية و ذاب جلده بالكامل، في حين أن ” منة ” وضعت يدها على أذنيها تتلاشى أصوات الصرخات المدوية في الارجاء، و حينما جاء بعض الناس للاستفسار عن مصدر الصوت، وقفوا لهم أفراد العصابة بالمرصاد، فخافوا و رجعوا ثانيةً من حيث جاءوا.
أخرج ” قُصي ” هاتفه، و قام بالاتصال على كريم، ليقول ببرودٍ:
” أيوه يا كريم بيه، حرقته حي.. سلام عشان هاخد مراتي افسحها “
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)