رواية يناديها عائش الفصل الثاني والتسعون 92 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الثاني والتسعون
رواية يناديها عائش البارت الثاني والتسعون

رواية يناديها عائش الحلقة الثانية والتسعون
“لكنه حنون، النظر إليه يشعرك بالدِفء، ومن لمسه يده تشعر أنك لمست الأمان في لُبّ القلق” لقائلها.
~~~~~~~~~~~~~~.
من المعهود لدى كُل مؤمن متمسك بحبال الايمان و اليقين بالله، أن كُل فترة سيئة يأتي بعدها فتراتٍ مشرقة، و كُل لحظة ألم مررت بها، يأتي خلفها لحظات من الفرح و المسرّة، و لِمَ لا و الله هو المُدبر للحياة !
صبيحة يومٍ جديد جدد الحُب في قلبيّ العروسين « بدر و عائشة»، و تهللت عليهما شمس الأمل تبعث بأشعتها البهجة في الارجاء، فاستيقظت هي أولًا قبله بنصف ساعة، و قبل أن تطأ قدميها الأرضية، استدارت خلفها تملأ عينيها الكحيلة بالتأمُل في ملامحهُ الرجولية الشرقية الجذابة، فتبسمت بخجلٍ ابتسامة مشرقة أنارت قسمات وجهها الحُلو؛ مُتذكرة أحداث أمس التي انتهت بِرضوخ جنونها الأخرق و استسلامهُ لهمساتهُ الشاعرية العاشقة.. أخذت يدها تُداعب شعرها الذي تدلى على كتفيها بانسجامٍ مع أنوثتها في شكل أمواجٍ تُعلن هَيجانهُ، ضاربةً بالخصلات المموجة أسفل ظهرها، و جاءت حُمرة الخجل المصحوب بالسعادة مهرولةً لوجهها، و كأنهما اتَّفقا في الزَّمن للمثول سويًا أمام أنوثتها الناضجة المختلطة بعناد الطفولة و تَدلُّل السنوات الأولى؛ فأزهرت و ازدهرت و بَرَزَتْ كالورد المُزهر الباعث جماله في موسمه الربيعيّ، و كأنما روحها بدت مشرقة اليوم عن ذي قبلٍ كشروق الشمس المليحة؛ تضفى الجمال على ابتسامتها الشبيهة بابتسامة كِمَامَةُ الزَّهرة الربانية المبهجة.
انتقلت مِن مُداعبة أناملها لِشَعرها لِمُداعبة تلك اللِّحْيَة المُهندَمة القصيرة، فاستجابت لإعجابها بمظهرها المُرتب، لتضع قُبلة رقيقة عليها، ثُم ربتت بحنوٍ على شعره المسترسل، و همست أمام وجهه قبل أن تتركه و تتجه للحمَّام:
” النهاردة أقدر أقول، إن اللي في يسار صدري مبقاش قلبي، بقى أنت يا بدري، ضي عمري و مُنير جوفي.. زوجي شرعي و رسمي، اسميتني عائشة، و ناديتُني عائش، فَعشقتُ مِنك اسمي ”
كادت أن تنهض من جانبه، فأسرعت يده بجذبها إليه كجذب المغناطيس للمعدن، و دثرها معه بالغطاء الخفيف، هامسًا في تساؤل بصوته المَأْخوذ بالنُّعاس:
” من امتى و أنتِ بتقولي شِعر ؟ ”
تفاجئت من فعلته، و ظلت للحظاتٍ ترمش بأهدابها في استيعابٍ بطيء، فعلى ما يبدو أنه شَعر بنهوضها من جانبه، فاستيقظ معها دون اظهار ذلك، و ظل مغمض الجفن تاركًا لأذنيه الاستمتاع بالبوح المُكمن في قلبها..
تعالت دقات قلبها حينما جذبها إليه، لتكون في مقابلة وجهه، الذي بدوره سلط مُقلتيه على حُمرة خديها اللذان فتنا بصره، فلم يدع بُؤْبُؤْ العَين يبرح مكانه من التركيز عليها، بينما هي شعرت بلهيب أنفاسه يلفح وجهها، فنهضت على مضضٍ، مما أتاح ترددها في النهوض من جانبه؛ إلى الادراك على سبيل اليقين، بأن خجلها منه هو المتسبب في ابتعادها عنه بتلك العَجَلة، لذلك أسرع بالنهوض و المضي قدمًا خلفها سريعًا، يُطيع رغبة القلب و جنون العشق في عدم التزحزح عنها إنشًا واحدًا، و بدون سابق إنذار؛ لفها باحتواءٍ لكتفيها لِتُصبح في مواجهته، ثُم بعد تبادل النظرات الحالمة بينهما لدقيقة كاملة، تساءل رافعًا حاجبيه في مُداعبةٍ لها
” رايحة فين ؟ جاوبيني على السؤال ”
مشاعر متضاربة ما بين الارتباك الخجول و السعادة الطاغية أصابت وجهها، فزادته احمرار جعلها تطبق على شفتيها وهي تخفض رأسها من نظراته، هامسةً بصعوبة لأول مرة تشعر بقشعريرة جسدها أمامه:
” اتعلمت منك ”
امتدت أنامله ترفع ذقنها قائلًا بابتسامة أسرت قلبها، فزاد من خفقانه:
” واضح إنك اتعلمتِ كويس ”
صمتت للحظاتٍ تحاول الهروب من نظراته الجائعة كسِربٍ مِن مَأُسَدَةٍ حرةٍ طليقةٍ، جاءت مؤكدة على قوله، مما تَأَسَّدَ عليها تَأسُّدًا جعله يَجَسُرَ بخطوةٍ أخرى يمحو بها أي أثرٍ باقٍ للمسافة بينهما، و أجهرَ بالقول في اِجْتِرَاءٍ:
” أنا كلي انبهار برقصك، فكريني لما نروح إن شاء الله، اعملك كباريه في الأوضة الفاضية اللي في شقتنا ”
ابتعدت خطوة للوراء، و اتسعت عيناها في دهشةٍ، هاتفة:
” كباريه ! كباريه يا شيخ بدر ! ”
ابتسم عن ثغر لؤلؤيّ، و بدا على مَبْسِمهِ المرح.. يقول:
” أنا بعترف إني شيخ و محترم مع الكُل، إنما معاكِ.. أنا و الأدب متقبلناش قبل كده ”
وكزته في كتفه بدلالٍ، تهتف:
” إحنا ازاي هنبقى عاملين رُكن للصلاة في الشقة، و في نفس الشقة نعمل كباريه ؟! هل يجتمع الفسق و العبادة في مكانٍ واحد ؟! ”
” أموت أنا في الفسق الحلال ”
” أنت حصل لك إيه ؟ ”
تساءلت بها ضاحكةً بعدم تصديق لوقاحته التي تجلت على وجهه، كَالفَنار الذي يرشد السُّفن في البحار ليلًا، فأرشد لسانه للتحدث بوقاحةٍ لم تعتاد هي عليها منه.. أردف وهو يُطلق العَنان لذراعيه لفرض سيطرته على خصرها:
” أنا في مُنتهى السعادة ”
” أنت في مُنتهى قلة الأدب ”
” الحمدلله ”
شهقت باستنكارٍ:
” أنت بتحمد ربنا على قلة الأدب ! ”
بايماءة رأسٍ يؤكد بها على كلامه:
” معاكِ، معاكِ أنتِ بس، و الحمدلله على كل شيء، و إن شاء الله أتطور أكتر و أبقى أُمِّيّ في الأدب ”
لم تستطِع منع نفسها من الضحك على تغيره المفاجئ في اليوم الثاني لزواجهما، فَطفق جسدها يهتز بفعل ضحكاتها الصاخبة، و هي تُرجع رأسها للوراء بخفةٍ؛ لشدة اندماجها في الضحك، بينما هو تلاشت ابتسامته و تجمدت تعابير وجهه في تأثُرٍ شديدٍ؛ لصوت الجرس الموسيقي الذي يصدح منها و جعل أذنيه في قمة التناغم للطرب الصادح من ضحكاتها، فانتبهت له عيناها و على الفور توقفت عن الضحك و عاد لها الارتباك المُخجل من نظراته الجائعة لجمالها تفترسها بدقةٍ و ثباتٍ، لينطق لسانه أخيرًا:
” أهلًا بِحرمي المصون في عُش الزوجية ”
تنهّدت بسعادةٍ مصحوبة بقولها بعد ثوانٍ:
” أهلًا بكَ سيد الرجال و سيد قلبي ”
جلس على طرف الفراش خلفه و اصطحبها معه يُجلسها على فخذيه كطفلته المُدللة.. قائلًا:
” ملوش داعي الخجل، أنا عاوز عائش المجنونة اللي أفعالها الهبلة بتشلني، مش عاجبني أنا الهدوء بتاعك ده، برتاح لما بتصدعيني.. صدعيني يا عائش ”
لقد تغيرت بالفعل في خلال ساعاتٍ قليلة، و سكن جنونها ليحل محله الخجل الدائم كلما تلاقت الأعين.. غمرها بحبه الدافئ الذي طفح بريقه على وجهها، و طفق عشقه يُرسل تَوهُجًا واضحًا عليها، و ذاب و ذَبُل حُبه لها الذي كان وحيدًا بائسًا لم يلقَ أي تبادل في المشاعر منها، لِيُسيطر الحُب المتبادل بينهما بعد ذلك، و يتجلى منهما اهتمامًا متبادلًا ببعضهما البعض، فَتلتف الأذرع في عناقٍ يُشبه عناق أفرع الشجر لبعضها، و تَقوَّى علاقة العشق المتبادل بينهما، و كأن القلوب تَحَصَّنَت بدفء مشاعرهما الصادقة، فأثمر ذلك في جعل علاقتهما تدخل في أقوى مرحلة، و هي مرحلة فيها يَتَوَطَّد العشقُ، فيزداد قُوَّة و ثبات.
اعطاها الأذن بالثرثرة، فاختفى خجلها و انتهزت الفرصة لتسحبهُ معها في موجة من الجنون المضحك، فقامت بضربه على صدره هاتفة بغمزةٍ نجحت في جعله يستغرق في الضحك لدقائق:
” أحلى مسا على عضلاتك يا سبع البراري ”
استطاع الكفْ عن الضحك بصعوبة، و أردف:
” ايوه كده، هي دي عائش بنتي أم لسان أطول مني، أما جو الكسوف اللي كُنتِ فيه ده، مكنش لايق عليكِ ”
برمت شفتيها في براءةٍ فتنت عينيه، قائلة:
” بس والله مكنتش بمثل، أنا فعلًا مكسوفة منك، أصل أنا حسيتك بدر تاني، مش بدر حبيبي المحترم ”
رد بغمزةٍ متبوعة بتراقص حاجبيه:
“ما خلاص يا جميل اللي فات مات، مبقاش ينفع نبقى اخوات ”
رمقته بخجل ثانيةً، لتقول بنبرةٍ مُعاتبةٍ:
” أنت راضي عن الشيخ بدر اللي جواك ؟ ”
” ده أنا في قمة الرضا والله.. يا مدام عائش، حرمي المصون ”
قالها وهو مُصرّ على جعلها تفقد أعصابها، فهو يعرف مداخل قلبها جيدًا، و يعرف ما يزعجها و ما يسعدها، مما نهضت تصيح بغضبٍ بدا فُكاهي له:
” أقسم بالله لو قولت مدام دي تاني لأزعل منك بجد، أنا لسه آنسة صغيرة يدوب عندي واحد و عشرين سنة، إيه مدام دي ! شايفني ست كبيرة يعني ؟! ”
” هي مدام بتتقال للستات الكبار ! ”
ضربت الأرض بقدمها و عقدت ذراعيها على صدرها في تعصُبٍ، هاتفةٍ:
” متقولش مدام دي مش بحبها، أنا آنسة رغم أنف الجميع ”
اتسعت عيناه بدهشةٍ، و حاول كتم ضحكاته وهو ينهض في تَوسلٍ لها:
” بالله عليكِ اوعي تقولي آنسة دي قدام حد، بالله عليكِ لو بتحبيني، و أنا اوعدك والله مش هنطق كلمة مدام دي تاني خالص”
صاحت في تساؤلٍ غبيٍّ:
” ليه ؟ مقولش آنسة ليه ! ده أنا شكلي أصغر من سني ”
” عشان عيب في حقي أنا يا غبية ”
قالها وهو يحتوي يديها في ترجي، فبدا مظهره مضحك وهو يتوسلها بعدم قولها ذلك أمام أي أحد، مما فهمت أخيرًا و تم الاستيعاب البطيء بنجاح، وهي تنسحب بهزيمةٍ من أمامه في اتجاه الحمَّام:
” اطلب لنا الفطار، أنا جعانة”
صاح قاصدًا المجاكرة قبل اختفائها من أمامه:
” نسيت أقولك، صباحية مُباركة يا ست العرايس ”
ردت قبل اغلاقها لباب الحمَّام:
” صلي لك ركعتين و توب لله يا بدر ”
رمقها في توعدٍ، و خطى خطواته تجاهها، فأغلقت الباب سريعًا في وجهه وهي تكتم الضحك بصعوبة، بينما هو هتف من خلف الباب:
” شدي الستارة عشان الباب ده ديكور ”
اتسعت عيناها في صدمةٍ غير متوقعة، و وضعت بشهقة يدها على فمها تهمس لنفسها بعدم تصديق:
” ديكور ! ديكور ازاي ؟! ”
استدارت لتتأمل الباب، فوجدت خيال ” بدر” من أمامه ملحوظ بدقة، مما أصابتها الدهشة الحقيقية، و شدّت الستارة في الحال تحجب خياله عنها، قائلةً له بنبرة تحذير:
” لو ما مشتش حالًا، هطلع أغني ”
اختفت ابتسامته الساخرة، و حلت محلها الرفض القاطع، هاتفًا بأسفٍ أضحكها بخفةٍ:
” خلاص و الله، أنا آسف ”
عاد يتسطح على الأريكة في الجناح الواسع، و مَدَّ ساقيه أمامه يضع قدم فوق الأخرى، و رجع برأسه يريحها على يديه اللتان تعانقتا في تشبيكٍ، ثُم تنهّد بأريحية شاكرًا أنعم الله عليه و على حياته التي تغيرت بالكامل من بعد صبره على الابتلاء و محاربة دُنياهُ بقوة الصبر و اليقين بالله.
أخذته الذاكرة للوراء يتذكر كل ما مَرّ عليه من صعوبات، مرةً كان يجزع فيها و مرةً كان يصبر و يجسر على المثابرة، مُتعلقًا بحبل الله المتين، حبل الثقة و حُسن الظن و التفاؤل بالخير..
فالله تعالى قد يعوض عبده الصابر على الابتلاء بالعطاء الوافر الجزيل في الدنيا قبل الآخرة،
تذكر ” بدر ” و قت ابتعد فيه عن الله، فأحس بالضنك و المريرة تُغلف حياته و قلبه، مُتناسيًا أن حِكمَةُ الله أكبَرُ مِنْ حُدُود ظَنِّه، و تذكر عندما صبر صبرًا جميلًا صبرًا دون ضعفٍ و استسلامٍ و شكوى، فأعطاه الله فوق ما لم يتوقعه و غمره بلُطفه و كرمه.
و هذا جزاء الصابرون يوم القيامة، يأمنوا من الفزع الأكبر، فلا يخافون و لا يفزعون كما يفزع سائر الناس.
همس بدر باسمًا بارتياحٍ يدعو في صدقٍ:
” ربي اجعلني لك شكارًا، لك ذكارًا، لك رهابًا، لك مطاوعًا، لك مخبتًا، إليك أواهًا منبيًا، الحمد لله رب العالمين حمدًا لشُكرهِ أداءً، ولحقهِ قضاءً، و لِحُبهِ رجاءً و لفضلهِ نماءً و لثوابهِ عطاءً ”
يقول الله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾
دائمًا يأتي عوض الله كجبر، يأتي بأجمل مما تمنيناه و أعظم مما تخيلناه، فالحمدلله الذي ينزع الفقد و يُنسي الأذى، ويمسح على القلب، ويفتح لعباده ألف باب عوضًا عن الباب الذي أغلق في وجهه؛ رحمةً من الله و رأفةً به..
أطلق تنهيدة أخرى بندمٍ كلما تذكر أنه كان يشكو من حاله، و لا يعلم بما يخبئه الله له ليعوضه به.
هذا هو حال الإنسان، قد يبكِي و يتفطَّر قلبُه على أُمورٍ يحسبُها خَيرًا، و هِي في الحقيقة عينُ الشَّر له..
فلا تتسخَّط علَى أقدارٍ لو عَلِمتَ ما فيها من رَحَمَات، لتصَدَّع فُؤَادُكَ على ما ظَنَنْتَ في الله.
الصبر نعمة كبيرة على من يمن الله تعالى بها عليه، وهو إما الصبر على الابتلاء، أو صبر على الطاعة، والمسلم مأجور في كل الأحوال ما دام صابرًا، وعلى الإنسان أن يسلم بما يقع له من ابتلاءات، وأن يستعين عليها بالذكر والقرآن الكريم.
يقول الشيخ القرضاوي للصبر في القرآن مجالات كثيرة يجمعها أحد أمرين: إما حبس النفس عما تحب، أو حبسها على ما تكره.
ولهذا الاجمال تفصيل في كتاب الله تعالى، فهناك الصبر على بلاء الدنيا و نكبات الأيام، و هذا ما لا يخلو منه بر ولا فاجر، ولا مؤمن ولا كافر، ولا سيد ولا مسود، لأنه راجع إلى طبيعة الحياة، وطبيعة الإنسان، وما رأينا أحدًا يسلم من آلام النفس، و أسقام البدن، وفقدان الأحبة، و خسران المال، و إيذاء الناس، و متاعب العيش، و مفاجآت الدهر.
وهذا ما أقسم الله على وقوعه حين قال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155 – 157)
الشيخ الشعراوي له مقولة جميلة جدًا:
“كُل الأوجاع هدايا ربانية.. إمَّا تكفير للذنوب، و إمَّا سعادة مؤجلة لدار البقاء، فدائمًا رَدِّد الحمد لله.”
في النهاية هو قدر الله يا عبد الله؛ فتأدَّب.
توجَّع بالحمد، و تصبَّر بحسبي الله ونعم الوكيل، فما فاتك لم يُخلق لك، وما خُلقَ لكَ لن يفوتكَ.
﴿ لا تَدري لَعَلَّ اللَّهَ يُحدِثُ بَعدَ ذلِكَ أَمرًا﴾”
نهض ليطلب طعام الافطار عبر الهاتف المُلحق بالجناح الخاص بهما؛ ثُم اتجه ليحضر المصحف الصغير الذي حرص على وضعه في حقيبة الملابس الكبيرة من الناحية الأمامية، فهو عادةً يُحب القراءة من المصحف وليس الهاتف، أخذ يتلو بعض الآيات الكريمة لحين انتهاء امرأته المُدللة من حمَّامها، في مقاومةٍ قويةٍ منه للنعاس الذي أبىٰ ترك عينيه، فقد ظلا في صحوةٍ و يقظةٍ نشطةٍ، حتى سمعا مؤذنٍ يؤذن لصلاة الفجر بخلاف التوقيت في مصر، فاتجه هو لتأدية الفريضة في المسجد المجاور للفندق، و أدت هي الفريضة بملابس الصلاة التي حرص ” بدر ” على وضعها في الحقيبة.
جاءه الطعام بعد دقائق على طاولة صغيرة لها عجلات تُجرّ بها بواسطة موظفي الفندق، تحتوي على أصناف مشابهة للطعام في مصر بخلاف الخبز الذي تم استبداله بالشوكة و السكين، بالاضافة لبعض العصائر الطازجة، و زادوا على ذلك، بتقديم باقة ورود صغيرة جميلة كمباركة للعروسين، فاستلم “بدر” الطاولة من الموظف و شكره على حُسن الاستقبال، و بعد دقائق معدودة انتبهت حواسه لخروجها من الحمَّام تمشي بحذرٍ و بتمهل في خطواتها، غير منتبهة تمامًا لتلك العينين اللتين تركزت عليها تتفحصها من رأسها لأخمص قدميها.
شهقت في انتفاضة فزعٍ حينما انتبهت له، هاتفةً بوجلٍ:
” بسم الله الرحمن الرحيم ! أنت واقف لي كده ليه ؟! ”
هزّ رأسه ضاحكًا بقلة حيلة من أفعالها الخرقاء، ثُم صمت للحظات يتفحص ما ترتديه، ليتساءل باعجابٍ:
” أنتِ إيه اللي ملبسك القميص بتاعي ؟!
بس حلو.. لايق عليكِ”
ردت في هروبٍ مصحوبٍ بالبراءة:
” نسيت أخد لبس و أنا بستحمى و ملقتش غير قميص البدلة بتاعك متعلق ورا الباب ”
صمتت لثوانٍ، ثم تساءلت بعفويةٍ منها وهي تسكب لنفسها كوبٍ من عصير الفراولة:
” هو أنت صحيح مش هترجع البدلة بتاعت الفرح ؟! أصل أنا عاجبني القميص و عاوزة أعمله شميز ”
تساءل بعدم فهم:
” أرجعها ليه مش فاهم ؟ ”
” أي عريس بيأجر البدلة في فرحه و تاني يوم بيرجعها ”
رد وهو يرص الطعام على المنضدة المتوسطة في الجناح:
” البدلة مش ايجار يا عائش ”
أنزلت الكوب من فمها، و تساءلت في دهشةٍ:
” شاحتها ؟! ”
رمقها لثوانٍ بملامح جامدةٍ غير قادرٍ على التعليق، ثُم أردف بغيظٍ مزيف منها:
” يعني ربنا أكرمني و وسع رزقي، و أروح أشحت ! اقعدي افطري يا عائش بدل ما أفطر بيكِ ”
جلست في الحال تُتمتم باستسلامٍ:
” قليل الأدب ”
نمت ابتسامة خافتة جانب شفتيه، و أخذ يعلمها كيف تمسك السكين و الشوكة و تقطع بهما الطعام الذي ما إن رآه أحد ظن أنه طعام الغداء؛ لاحتوائه على ثلاثة أنواعٍ من الأسماك اللذيذة، بينما هي بعد عدة محاولاتٍ فاشلةٍ، أخفقت في الأكل بهما، فألقت السكين من يدها و وضعت الشوكة بتعصب هاتفة:
” أنا هاكل بايدي ”
تبسم ضاحكًا من قولها، و بدأ يطعمها هو بيده قائلًا بنبرةٍ دافئةٍ:
” أنا ايدك.. يلا افتحي بوقك.. بسم الله ”
فتحت فمها باستجابةٍ له، متذكرة عندما كان يُطعمها وهي صغيرة، فأخذت يده بحركة غير متوقعة له، و طبعت عليها قُبلة حنونة عميقة، تليها قولها اللين:
” تسلم ايدك يا بدري، يا أجمل نعمة ربنا غمرني بيها، و أجمل رزق أنا رُزقت بيه ”
تأملها للحظاتٍ شعر فيهم بسعادة عارمة تكسو قلبه، فَسحب المقعد الذي تجلس عليه ناحيته بغتةً جعلتها تشهق ضاحكةً و تمسكت بذراعه لتقول:
” حاسب هتوقعني ”
” تقعي و أنتِ معايا برضو ! ”
تنهّدت أمامه برٌقةٍ، فلامست أنفاسها الساخنة وجهه، لقُربها الشديد منه، مما همس بلهفةٍ يترجاها:
” قومي ارقصي لي ”
ردت بنفيٍ وهي تضربه بخفةٍ على كتفه:
” يوه بقى، ما تفكك من شغل حريم السلطان ده و تعالى خرجني.. عشان خاطري يا بدر ”
قال باعتراضٍ لأول مرة يظهر لها بعدم استجابة لمطالبها:
” تؤ، Something for something ”
____________________.
” بعض الحالات المرضية لا تحتاج لمعالجة طبية، بل لمعالجة روحية قلبية داعمة.” نرمينا.
~~~~~~~~~~~~
رفضت ” رُميساء ” الابتعاد من أمام وجه ” كريم”
المُكْفَهِرّ الغاضب، و انصاعت لرغبات قلبها البريء في مواجهة غضبه للمرة الأولى، ظنًا منها أنها ستستطيع احتوائه و تغييره للتحكم في غضبه.
تابعت باضطرابٍ جاهدت في إخفائه؛ لئلا يظهر ضعفها أمامه:
” لأ يا كريم، مش همشي.. و أنت هتبطل عصبية و تسمعني ”
تأملها بتعجبٍ من جراءتها لمرتها الأولى أمام عصبيته، لكنه يعلم أنها الآن في قمة خوفها منه، فتقدم خطوةً للأمام تزامنت مع رجوعها هي خطوة للخلف، فتقدم بخطوةٍ ثابتةً أخرى سيطرت على شجاعتها المزيفة، و أحكمت وقوفها أمامه متصلبة تنظر له باستعطافٍ، و عيناها تخبره بألا يتهور و يقسى عليها..
أغمضت عينيها و ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، عندما باغَتَ هو بخطوة أخيرة ألصقت ظهرها في الحائط، و أظهرت خطوته التي ساهمت بمحو المسافة بينهما؛ وحشية عصبيته و غضبه كالنمر الكاسر، و كأنه جبل شاهق يحتضن من تحته الطبيعة و يثبت رسوخه و شموخه عليها، فهمس أمام وجهها بنبرةٍ جعلت الرعب يدبّ في سائر جسدها أكثر، و بدأت أنفاسها تتلاحق في تتابع عنيف، تدعو الله بداخلها ألا يقدم على فعل شيءٍ غبي يؤدي بهما للفراق الأبدي:
” لو فاكرة إنك عرفتيني كويس، فأنتِ لم تتجاوزي شط بحري، ولا تعرفي موجي امتى يعلى و امتى يمتزج ببحره، امشي من قدامي حالًا ”
فتحت عينيها، فسقطت دمعةٍ خائفةٍ منها، و برغم ذلك.. استرسلت و تابعت شجاعتها المزيفة في محاولة أخيرة منها، لفرض سيطرتها هي عليه برّقتها التي تخضع لها رجولته، متذكرة حديث والدتها قبل الزواج..
” لأ.. مش همشي و مش هدخل أوض و مش هتحرك من مكاني غير لما تهدى و نتكلم ”
كور قبضة يده بغضبٍ مُفرطٍ، و ضرب بقبضته الحائط الذي التصق ظهرها المرتجف فيه، ثُم هتف يصم أذنيها بكلماته:
” أنا مش في وعيي دلوقتي يا رُميســـاء، مش قادرة تستوعبِ ليـــه ؟؟ اختفي من قدامي قولت لك حالًا و إلا… ”
لزم الصمت و ابتلع الكلمة قبل التفوه بها، ثُم تنهّد بضيقٍ و أسند جبهته على جبهتها يهمس بترجي:
” امشي دلوقتي عشان خاطري، عشان خاطر كريم اسمع كلامي و اختفي من قدامي حالًا ”
أنهى قوله بقُبلةٍ عميقةٍ على جبهتها، فظنت أنه لان أمامها، مما انتهزت الفرصة و بعفوية وضعت يدها على قلبه تستشعر دقاته، لتبادله الهمس بابتسامة لا زالت متوترة:
” متخليش الشيطان يدخل بينا يا كريم، قول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أصل انسى إني أسيبك و أنت في الحالة دي ”
” ليه ؟ ”
قالها بضعفٍ منه وهو على شفا حفرة من الانهيار، فردت بتلقائية، و يدها ترتفع لتداعب وجهه المحتقن:
” عشان أنت كيمو حبيبي، و أنا بحبك، و اللي بيحب بجد مش بيسيب حبيبه زعلان ”
ازدادت توسلاته لها بضعفٍ أكثر:
” بس أنا اللي بطلب منك تبعدي عني دلوقت يا رُميسـاء.. عشان خاطري يا فراشتي ”
تأملته للحظات تحاول استكشاف سبب ضعفه فجأةً، و تمنى هو في نفسه أن تكون قد فهمت مبتغاه من ضعفه..
تساءلت بعدم فهم:
” ممكن أعرف السبب ؟ عاوز تبعدني عنك ليه يا كريم ؟ ”
ابتعد عنها، ثُم ولى لها ظهره و أخذ يمسح على وجهه و شعره زافرًا بضيقٍ، فيبدو أنها لم تتوصل لفهم نوع غضبه بعد، كادت أن تقترب منه من خلفه و تضع يدها على كتفه، لولا أن ابتعد سريعًا و عاد لنبرته الحادة يقول:
” لو ما بعدتيش دلوقت، ها تكرهيني طول حياتك يا رُميسـاء، أنا في لحظة غضبي بحميكِ مني..
افهمي بقى ”
صاحت بنفاذ صبرٍ هي الأخرى:
” يعني إيــه ؟ أنا مش قادرة أفهمك.. اتكلم ”
” اتكلم أقول إيــه ! أقولك إني مبعرفش أطلع غضبي غير بالأذية ! أقولك إني خايف مقدرش أسيطر على غضبي ولا نفسي قدامك و خايف عليكِ مني ! ولا أقولك إن وقت الغضب بيظهر الجانب الـ * من شخصيتي الحيوانية و مش برتاح غير لما أشبع رغبتي بطريقة تشبه الحيوانات ! ”
بعد بَوحه بما يؤرق قلبه، سكت ليسترد أنفاسه و تابع بغلظةٍ و حدة:
” ادخلي الأوضة.. يلا ما تنحيش ”
ظلت تنظر له في تأمل غير مستوعبه تمامًا ما يحدث أمامها، رغم علمها مُسبقًا بأن غضبه ليس له حدٍ و يجب تجنبه بالأخص عند انفعاله، و لكن لم تدرك هي أن استيعاب ذلك الأمر سيأخذ منها كل ذلك الوقت.
في تلك اللحظة عجزت تمامًا عن التفكير، و لم تدرِ مالذي يتوجب عليها فعله، فهمس لها قلبها بالمضي قدمًا في طريقها لجعله يستجيب لرقتها بطريقة آدمية، مما تقدمت بخطوات مثقلة بالخوف أمامه، و همست باصرارٍ مزيف:
” مش هبعد عنك برضو، أنت كيمو حبيبي و استحالة تؤذي فراشتك ”
رقتها المفرطة أمامه و طريقة حديثها العذب، أثَّر عليه بالسلب، و لم يجد مهرب من شخصيته الحيوانية، فهجم عليها يطوق كتفيها بغضبٍ ممزوجٍ بإطاعة رغبة الهو و الذات الأنانية، مما أغمضت عينيها و احتوت بطنها بخوفٍ ساحق سحق قلبه، فجعله يلين أمامها رغمًا عنه..
همست تترجاه بدموعٍ هبطت سريعًا:
” كريـم لأ.. بالله عليك اهدى ”
ظل لدقيقة يستوعب ببطء ما كان سيفعله، فانتقلت يديه التي تطوقا كتفيه، لتستند على الحائط خلفها، هامسًا بنبرة ندم يشوبها الغضب من نفسه:
” ابعدي عني ”
لم تجد مفر منه سوى البُعد عنه و الهروب لداخل الغرفة، لتجلس على الفراش بعدم تصديق لما كان سيحدث منذ لحظات، ثُم انفجرت في البُكاء و يديها تربت على بطنها بحذرٍ و قلقٍ، بينما هو في الخارج أخذ يضرب بقبضتيه الحائط في زَمْجَرَةٍ و غَذْمَرَةٍ كَزَّمْجَرَةُ الرَّعدُ بصوته الصَّاخب، و شعور الغيرة يسيطر عليه أكثر كلما تذكر أن زميله من الممكن أن يكون الآن يتحدث بينه و بين نفسه عن إعجابه بصوت فراشته الرقيق الدافئ في حباله، حاول بعد دقائق ثمينة كبح جماح غضبه و السيطرة عليه عدا مقدرته في السيطرة على غيرته الجنونية عليها، ظل يستغفر الله عدة مرات قبل الدخول لها، فعندما أتاه صوت بكائها العالي، شعر بأن سرب من الألم يغزو قلبه غزوة لا مفر منها..
طرق الباب وهو يغمض عينيه بألمٍ كلما سمع شهقة من شهقاتها المتتالية، فقد أغلقته بالمفتاح بعد لحظات من دخولها الغرفة؛ خشيةً على نفسها منه.. مسحت دموعها بصعوبة، و نهضت تقول من خلف الباب:
” أنا خايفة منك ”
” أنا هديت، متخافيش ”
” اثبت لي ”
تنهّد ليملي عليها قصيدة تثبت غيرته المفرطة و عشقه اللا متناهي لها، قصيدة من قصائده التي تعود لشعراءٍ استطاعوا وصف المشاعر البشرية خلالها:
” أغارُ عليكِ و أقسمُ لا أغارُ
و يدري الكون أجمع كم أغار
فإن همَستُ شفاهُك باسم غيري
شعرتُ بأنَ همستهَا انفِجارُ
وإن قرّت على عينيك عينٌ
وددتُ لو ارتمى فيها شرارُ
وإن فر الحوار إلى صديقٍ
وددتُ .. دعوتُ لو ماتَ الحوار ”
صمتا كلاهما لدقائق صمتٍ تام لا يخلو من صوت أنفاسهما المنتظمة سويًا، شعرت هي في تلك الدقائق المعدودة مدى غيرته عليها، و محاولته الفائقة للسيطرة على غضبه الجامح لأجلها هي فقط، و تلك مرته الأولى التي يسيطر فيها على غضبه لأجل أحد، بينما هو أسند جبهته على الباب باستسلامٍ، منتظرًا منها السماح له بالدخول.
فتحت الباب ببطءٍ، و تلاقت الأعين لثوانٍ، العينان الخائفتان منها و العينان النادمتان منه، استشعرت صدق ندمه و اعتذاره لها في نظراته، ففتحت الباب أكثر، و قبل أن تنطق بشيء، شدَّها برفقٍ ليحتوي جسدها المرتجف بين ذراعيه، ثُم خَيَّفَ عن الغضب، و أقرّ و سلَّم بأَنَّه مُذْنِب في حقها بقوله:
” أنا آسف، آسف إني سمعتك الكلام ده و خوفتك مني، حاولت أسيطر على نفسي عشانك، و لأول مرة أنجح.. نجحت في السيطرة على غضبي عشانك يا رُميسـاء، عشان كريم ضعيف قدامك، عشان بحبك يا فراشتي ”
ابتعدت عنه و مسحت دموعها المتعلقة بأهدابها بظهر يدها، في حركةٍ جاءت عفوية منها أصابت قلبه في مرماه، فأبدى ضعفًا كامنٍ لها هي فقط، مما جعله ذلك يرفع راية الاستسلام أمامها، و يهبط بركبتيه نادمًا أشدّ ندم على تلويث مسامعها الرقيقة بما صدر منه عند الغضب، و بلغت الزَّفرات التي جسدت شدة أسفه في عاصفة من التنهُدات كست صدره و صدرها، مصحوبة بقوله:
” أنتِ الانتصار الوحيد في حياتي اللي هفضل أتباهى بيه عمري كله يا رُميساء ”
تبع قوله بأخذ يدها ليضعها على قلبه وهو لا زال جالسًا عل ركبتيه، كأنه بفعلته تلك و بطريقة جلوسه، يعبر عن ضعفه الشديد الذي لا يتجلى إلا معها هي فقط:
” أنا المملوك و أنتِ المالك، شكليني زي ما أنتِ عاوزة، أنتِ كُل كُلي و أنا كُلي مِلكك ”
تفهمت أمره أخيرًا، و لاحت منها ابتسامة راضية وهي تلامس ذقنه بأناملها، ثُم قالت بنفيٍ:
” لأ، أنا حبيتك زي ما أنت، و عاوزاك كده.. حبيت تملكك ليا بس مش يزيد عن حده عشان بيخنقني، عاوزاك تفضل تعاملني كأني خاصة بيك لوحدك، بحب غيرتك عليا اللي مليانة كلها حنية، حبيت عصبيتك اللي بتقدر تتحكم فيها قدامي، حبيت رقتي عشانك، عشان بتخلي صلابة ضابط المخابرات اللي محدش يقدر يهزها، بتدوب من نظرة مني.. صفة المالك و المملوك مش هنتعامل بيها مع بعض، لأن ده نظام جواري و إحنا علاقتنا أسمى من كده بكتير، إحنا بنحب بعض يا كريم، و حُبنا رغم إنه زي الموج شوية يختلط بالعاصفة و شوية يهدى، لكن في النهاية الموج ميقدرش ينسلخ و يبعد عن البحر، لأنه ببساطة مستخلص منه و هيفضل ممزوج فيه للأبد، بالضبط علاقتنا.. مينفعش نسمح لأي حاجة تفرق بينا ولو لحظة، عشان إحنا هنفضل مع بعض لأبد الآبدين إن شاء الله ”
بعد آخر جملة قالتها، نهض بطوله الفارع و لثم قبلة حنونة في باطن كفيها قائلًا:
” بحبك، و هفضل أحبك لأبد الآبدين ”
كادت أن تخبره بأمر حملها، و قبل أن تفسد المفاجأة التي ستعدها له، تراجعت في اللحظة الأخيرة متسائلة بنبرة مرحة:
” لما ربنا يرزقنا بأطفال إن شاء الله، نفسك يكون أول طفل لنا ولد ولا بنت ؟ ”
” نفسي في عيل أو عيلة شبهك، مش فارق معايا ولد ولا البنت، الحمدلله على اللي ربنا هيرزقنا بيه، بس مش عاوزهم ياخدوا صفاتي، عاوزهم يبقوا طيبين و حنينين شكلك ”
قالها وهو ينحني و يحملها ليضعها برفقٍ في الفراش، مردفًا:
” يلا بقى ننام، عشان محضر لك مفاجأة حلوة بإذن الله تعجبك، بس هروح الوزارة الأول أخلص شوية حاجات كده و اجيلك ”
تساءلت في استفسارٍ:
” أنت بجد عاوز تستقيل ؟ ”
صمت لدقيقة يفكر في قراره، فقال بتردد:
” أيوة بس هما متمسكين بيا، على العموم بكرة أتكلم معاهم في الموضوع ده و أشوف الدنيا ها ترسي بينا على إيه ”
همست باستعدادٍ للنوم:
” كل خير إن شاء الله ”
و قبل أن تغلق جفونها و تستسلم للنوم، هتفت متذكرة شيء مهم للغاية:
” ياربي عليا.. أنا نسيت أصلي العشاء ”
” طيب يلا قومي صلي ”
قالها وهو يفسح لها المكان لتنهض، فتساءلت باهتمامٍ:
” أنت صليت ؟ ”
” أيوة، يلا قومي عشان ما تتأخريش أكتر من كده ”
نهضت و توضأت، لتصلي الفرض الذي فاتها..
يقول صل الله عليه وسلم:
مَن نَسِيَ صلاةً فلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها، لا كفارةً لها إلا ذلك.
_____
الراوي : أنس بن مالك | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح أبي داود | الصفحة أو الرقم : 442 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684) واللفظ له.
___
ففي هذا الحديثِ يقولُ النبيُّ صلَّ اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فلْيُصَلِّ إذا ذَكَرَها»، أي: مَن نَسِيَ أداءَ أيِّ صلاةٍ حتَّى خَرَج وقتُها، فلْيُبادِرْ ولْيُسرِعْ إلى قضائِها حالَ تَذكُّرِه لها، فلا مَحْوَ وستْرَ لذَنبِ تَركِها ولو نِسيانًا إلَّا أنْ يُصلِّيَها المسلِمُ عِندَ تذَكُّرِها، كما قال اللهُ في كِتابِه الكريمِ:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، أي:
أقِمْ الصَّلاةَ إذا ذَكرْتَ الصَّلاةَ المنسِيَّةَ ومتَى ذَكرتَ أنَّ عليكَ صَلاةً، سواءٌ كُنتَ في وقتِها أو لم تكُنْ؛ لأجْلِ أنْ تَذكُرَني في الصَّلاةِ بالتَّسبيحِ والتَّعظيمِ؛ لأنْ أذكُرَكَ بالثَّناءِ والمدحِ، و في الحديثِ: بيانُ أهمِّيَّةِ الصَّلاةِ، و عَدمِ التَهاوُنِ في أَدائِها.
أنهت صلاتها، و عادت تضع رأسها بنعاس على ذراعه الذي مدَّها و بسطها لها بحنانٍ، ليستسلم هو الآخر للنوم معها.
_________________
” لن أبرر لك أفعالي، و تستطيع أن تأخذ عني أسوأ فكرة، و تنصرف ”
~~~~~~~~~~
في منتصف الليل بعدما إِضْطَجَعَ ” قُصي ” و نام على الأريكة الموضوعة بالصالة، نهض يتألم في خفوتٍ بسبب نومته الخاطئة التي ألمت رقبته، فحمل نفسه و توجه لغرفته يستكمل نومه.
و في الصباح الباكر، نهضت ” منة ” و اتجهت تأخذ حمَّامًا باردًا؛ استعدادًا للذهاب لصالتها الرياضية، ثُم خرجت مرتدية ملابسها الرياضية، و قبل أن تأخذ حقيبتها و أغراضها، تذكرت أنها لم تقم بشحن الهاتف، فوضعت رأس الشاحن في مقبس الكهرباء، فلم يصل لها أي وميض يؤكد شحن الهاتف، في البداية ظنت أن الشاحن ربما به عُطل ما، و عندما ضغطت على زر الاضاءة في الغرفة، لم يعمل، و هنا علمت أن الكارت الخاص بشحن الكهرباء قد نفذ.
تأفَّفت بضجرٍ، و اتجهت توقظه ليذهب و يشحن الكارت، فهي على عجلة من أمرها للذهاب للتمارين الرياضية..
طرقت باب غرفته، فلم يأتها ردٍ بعد عدة طرقات، مما اضطرت لفتح الباب و إيقاظه بنفسها.. تسمرت مكانها لدقائق تتأمل وجهه البريء للغاية في نومه، عندما اقتربت لتهزّه، ظلت للحظاتٍ تتأملها بسخرية من ملامحه التي تناقض أفعاله القاسية تمامًا، حتى صوت « الشخير» المعهود عند معظم الرجال و النساء أيضًا، لا يصدر منه، أو بالأحرى لا يصدر منه أي صوت، كأنه طفل رضيع وديع ينام فاتحًا فمه فتحة صغيرة تسمح بمرور الهواء.
همست قبل أن تمد يدها لتوقظه:
” اللي تحسبه موسى، يطلع فرعون ”
ثُم تعالت بصوتها تُناديه:
” أنت.. أنت ! يا اسمك إيه.. قوم اشحن كارت الكهرباء ”
همس بصوتٍ ناعس و بدون وعيٍ منه:
” بس يا مفعوصة ”
صرّت على أسنانها بغيظٍ منه، و شدَّته من شعره المبعثر على جبهته، هاتفةً:
” قوم بدل ما اخبطك بكف ايدي على وشك ”
فتح عينيه بثقلٍ و خمولٍ، ثُم أغلقهما بلا مبالاةٍ لها، ليقول:
” ابقي قولي كلمة زيادة و أنا أقوم أنفضك زي السجادة ”
” يعني مش هتقوم ! طيـب ”
هتفت بكلمتها الأخيرة في تَوعّدٍ، و قامت بِعَضّهِ من كتفه، فنهض مُتألمًا على الفور يهتف بانزعاجٍ:
” آه.. يا عضاضة يا بنت العضاضة ”
” قوم اشحن الزفت، حد ينام للساعة تسعة ! ”
” زفت على دماغك، غوري من وشي ”
قالها بعصبية، و عندما وطئت قدميه الأرضية، ابتعدت عنه على الفور بحركة مباغتة في تلقائية؛ خيفةً من هيئته المنزعجة منها و من قوة جسده مقارنةً بجسدها الصغير أمامه، فتبسم ساخرًا عندما أدرك قوة سيطرته عليها، و قال:
” لما أنتِ جبانة كده، بتعملي حاجة مش قدها ليه ؟”
” أنا مش جبانة، أنا بس مبحبش أبقى قريبة منك ”
تثاءب وهو يرجع خصلات شعره المتناثرة على جبينه للوراء بعفوية، جعلته تتأمله باعجابٍ بنظراتٍ، استطاع التقاطها بخبثٍ منه، فنهض و تقدم نحوها يُثبت له أنه قادر على التأثير عليها في أي وقتٍ، مما فهمت المقصد من اتجاهه بثباتٍ نحوها، و أدركت المغزى من نظراته الماكرة، فَفرَّت هاربةً من أمامه تُنقذ نفسها من الضِعف أمام حُسْنُهُ و جَمَالُهُ، و بخطواته المسرعة، لحق بها قبل إغلاقها للباب، و سحبها من يدها ليحبسها بين ذراعيه، و قبل أن يقوم باستفزازها و إثارة غيظها، انتهزت فرصة قصر قامتها أمامه و انتبهت للمساحة الفارغة تحت ذراعيه حينما رفعهما و ثبتهما على الحائط خلفها، و انحنت تخرج من تحت ذراعه بسهولة و يُسرٍ، ثُم قبل أن يستدير هو لها، وجهت له ركلة قوية في ظهره، وهي تقفز لتتقلب في الهواء بخفةٍ و مهارةٍ، لتهبط على الأرض بابتسامة واثقة، هاتفة:
” لو مفكر إني بضعف قدامك، يبقى من هنا و رايح، استغطى كويس و أنت نايم ”
حاول التحكم في أعصابه، فهو يعلم جيدًا أنه لو فقد زمام أموره أمامها، سيكون بذلك يعلن هزيمته لها، تنفس بهدوءٍ و التفت لها يقول بعدم اكتراثٍ لركلتها:
” محتاجة تدربي شوية كمان، ركلتك ضعيفة ”
ثُم تركها، و اتجه للمطبخ ليحضر مِفك عازل للكهرباء، و عاد ليفتح باب العداد الصغير الملتصق بالحائط، ثُم أخذ يفعل عدة أشياء بأزرار العداد الكهربائي بواسطة المفك، تحت نظرات الاستغراب و الاستنكار منها، مما تقدمت نحوه بتلقائية تحاول تخمين ما يفعله هو باحترافية، بينما هو نصب كل تركيزه على عدة أسلاك مختلفة الألوان ظهرت من خلف زرين صغيرين قام بنزعهما، و بعد دقائق امتدت لربع ساعة، وضع الزرين ثانيةً و ثبتهما بواسطة الأدوات الخاصة بالكهرباء الأخرى، لتعود الكهرباء للشقة ثانيةً.
اتسعت عيناها تقول بدهشة:
” أنت عملت إيه ؟! ”
” رجعت الكهرباء ”
قالها ببرودٍ، و اتجه للمطبخ يعد لنفسه كوبًا من الشاي الأخضر الذي يترك أثره على تنشيط خلايا مخه، و أيضًا يعتبر المشروب الساخن الوحيد المفضل لديه.
استوعب ما فعله بمهارة منه أخيرًا، و دلفت وراءه تهتف بغضب:
” على فكرة اللي أنت عملته ده مينفعش، مش معنى إنك ذكي و بتقدر تحل أي حاجة، يبقى تسرق كهربا ! أنت كده تعتبر حرامي ”
رد وهو يضع تذكرة الشاي بلا مبالاة لها:
” أنا مسرقتش كهربا، أنا استخدمت دماغي صح و عملت اللي أنا عاوزه، أنا اللي رجعت الكهربا الشقة، يبقى ازاي سارقها ؟! ”
تأملته بغيظٍ من بروده، و صاحت بانفعالٍ:
” لا سرقتها، أنت ازاي تاخد حاجة مش بتاعتنا، كان ها يجرا إيه لو كُنت نزلت شحنت الكارت ! ”
” ولا حاجة، و بعدين أنتِ مالك ؟ أنتِ مش لكِ الكهربا تشتغل و خلاص !، واجعه دماغك ليه ؟
الكهربا مِلك الشعب، و أنا دماغي مِلكي، و بما إني واحد من الشعب، فالكهربا و دماغي الاتنين بتوعي و أنا حر أوجههم زي ما أنا عاوز.. خليكِ أنتِ في حالك بس ”
قالها و أخذ سخان الماء الكهربائي ليصب كوب الشاي، ثُم خرج يجلس بعدم اهتمام لأي شيء من حوله، أما هي زفرت بنفاذ صبرٍ منه، و لم تنتظر لحين يتم شحن هاتفها، فأخذت البطارية القابلة لإعادة الشحن الخاص به « باور بانك» قائلة بجفاء:
” أنا خدت الباور بانك، بصراحة مش قادرة أقعد معاك في مكان واحد أكتر من كده ”
لم يعلق بشيء، و قبل أن تطأ قدمها عتبة الباب، انتفضت بفزع لصوته الغاضب الذي هاج مرة واحدة، و هتف بملامح متعصبة:
” إيه اللي أنتِ طالعة بيه ده ؟! ”
تصلبت مكانها بصدمة من صوته الساخط، و ردت بتلقائية:
” ترينج رياضي، هو أنا أول مرة أخرج بيه ! ”
نهض بِتَعَصُبٍ و جذبها من ذراعها، ليدخل بها غرفتها، ثُم أوقفها أمام المرآة و أشار للبنطال في غيظٍ أثار أعصابَه و هيّجَه:
” بصي شوفي أم البنطلون عامل عليكِ ازاي !
عاوزة تطلعي كده و اللي رايح و اللي جاي يبص و يعاكس ! حد قالك يا بت إن أنا باخد على قفايا قبل كده ! أم البنطلون ده يتغير حالًا بدل ما و ربي المعبود يا منة، هحبسك في الشقة و ما تشوفي الشارع أبدًا ”
تأملت نفسها في المرآة، تحاول العثور على أي تجسيم للبنطال على ساقيها، فانتبهت لتجسيمهُ جسدها من الخلف، نظرت لهيئته الغاضبة المنعكسة في المرآة وهو يقف خلفها، فوجدته يرمقها بوجهٍ احتنق بدماء الغضب و الغيرة التي لامستها في نبرة صوته، فاستدارت له تتساءل بثباتٍ، و كلها أمل بأن يعترف لها بحقيقة مشاعره تجاهها:
” بتغير عليا ؟ ”
تأملها لثوانِ، ثُم شاح بوجهه عنها، كيلا يضعف و يقرّ بحقيقة إعجابه بها الذي لم يصل بعد للحُب، و لكنه معجب بها و بالجدال معها و المشاجرة طوال الوقت..
أعادت بث سؤالها بنبرةٍ متعطشة لإجابته:
” بتغير يا قُصي ”
أعاد النظر إليها بمشاعر مضطربة ما بين النفور منها و الرغبة بها، كاد أن يجيبها و يعترف لها بأنه اعتاد عليها في حياته، و أغلق صفحات بغضه لها و طوي رغبته في طلاقها طي الصحف، حتى أنه بينه و بين ذاته، لم يعد يود الابتعاد عنها، يريدها فقط أمامه هكذا، يستريح بالنظر لوجهها الطفولي الذي و رغم قسوة أفعالها أحيانًا، لكن بالنظر في وجهها يُدرك أن تلك القسوة النابعة منها، مصطنعة بجدارة، و هي في الحقيقة أرق من ذلك بكثير..
بدا على أعتاب الوقوع في حفرة الضعف و الاستسلام أمام عيناها التي تجمعت بهما الدموع سريعًا ككل مرةٍ يتبادلان فيها النظرات، فقاوم بشدة الانزلاق من حَافَّتِهَا، و عاد لجفاء معاملته لها، يُجيب:
” قولت لك قبل كده و بقولها لك تاني، اسمك بقى مقرون للأسف باسمي، فلازم أخد بالي من لبسك عشان الناس هتتكلم عليا أنا، و أنا موتي و سِمي حد يجيب في سيرتي بطريقة وحشة و يقول عليا قُرني، أما حتة إني أغير و الكلام الفاضي ده، انسيه و شيليه من دماغك، عشان أنا قدامي هدف واحد في الحياة اتخلقت عشانه، و معنديش أي استعداد أضحي بيه و انشغل عنه بمِسمى الحُب العقيم بتاعكم ده، و ضيفي على الكلام ده.. إني بعتبرك زي أختي، يعني إحنا مش هننفع مع بعض، و مش هقدر أقوم بدور تاني غير الأخ معاكِ ”
كادت أن تجهش بالبُكاء أمامه، فقد بترت كلماته قلبها من وتينه، و لم تستطِع الكلمات وصف ما تشعر به الآن، برغم فيض المشاعر المؤلمة التي تحملها في جوفها من الدنيا و غدر الأيام و الأقارب، حتى أن دموعها الكثيرة باتت دون جدوى و لم تعد تُعزّيها، و نَكَأَ الْجُرْحَ الذميم خبايا قسوة الطفولة التي أُجبرت على التعايش معها لأكثر من عشر سنوات، لم يداوي أحدا فيها قلبها الهشّ، و لَمْ يَبْرَأْ بعد الجرح رغم محاولاتها العديدة بنسيانه، و لكن جميع محاولاتها باءت بالفشل.
تحدثت بصوت ارتعش في نبراته أثر كتمان البُكاء:
” مش عاوزاك تحبني، بس على الأقل عاملني كويس، بلاش تقسى عليا أكتر من كده، مش هتبقى أنت و الدنيا عليا يا قُصي، كفاية.. كفاية بقى، حرام مبقتش قادرة أتحمل أكتر من كده.. كفاية عذاب و تجريح فيا بقى.. كفاية ”
قالت كلمتها الأخيرة، و انهارت أمامه تمامًا بقلة حيلة منها، تشهق بصعوبة و تحاول التقاط أنفاسها بين الحين و الآخر، بينما هو أطبق على شفتيه يستنشق الهواء بغضبٍ من قسوته عليها، و في نفس الوقت يظهر صوت آخر في قلبه يمحو به صوت الضمير، ليتجلى صوت وساوس شيطانية سيطرت عليه فيما بعد، فبدلًا من ضمها لصدره و التعبير عن مدى ندمه، ابتعد عنها سريعًا و تركها تتكوم على نفسها في بكاءٍ مريرٍ اخترق قلبه، فترك الشقة بأكملها و صعد لغرفته بالسطح، يفكر بشكل مختلف تلك المرة، يفكر في ذاته الجديدة، و صراع النفس الذي ظهر فجأةً عنده، فجعله ممزقًا بين اتجاهين متضادين، كل اتجاه يرنو لتحقيق هدفٍ معين، إما إطاعة رغبة القلب و اعلان ضعفه أمام الحُب، أو ينصاع لأوامر العقل التي تأمره بعدم الالتفات للقلب، و الاقدام على تحقيق أهدافه الذاتية قبل كل شيء..
الصراع بين الخير و الشر عادة يكون بين شخصين، أما الحالة التي يمر بها ” قُصي ” الآن، هي حالة الصراع بين الخير و الشر الكامن في نفسه، صراع مع الذات و ليس مع أحد آخر.
نهض يقف أمام مرآته بنظرات استنكار لنفسه، لأول مرة يتيه عن ملامحه الحقيقية، يشعر و كأن روحه تنفصل عن جسده بانسلاخٍ بطيءٍ، لا يتبين أمام من يقف، يتساءل بينه و بين ذاته، من هذا الشخص الذي أقف أمامه ؟ من أنا ؟
و مع دقائق طويلة خاضها في صراعه، انتصر جانبه الخفي أخيرًا، و ظهرت شخصيته المغرورة المصابة بجنون العظمة، أخذ يدقق النظر لانعكاس صورته في المرآة، فأيقن أخيرًا، أن هذا الشخص الذي يقف أمامه، ليس قُصي السابق، و إنما قُصي جديد، شخصية جديدة متكبرة تنضج بالغرور، لا تأبه لأحد من العالمين، و بما أن الصراع بين الخير و الشر، معركة دائمة يحاول المرء الخيّر فيها أن يكون دائمًا الرابح في معركته مع الشر، فإن الحال يختلف هنا لدى أزرق العينين الذي اتسع بؤبؤ عينه فجأة و ازداد ظلام دامس، لتظهر ابتسامة خافتة ماكرة جانب شفتيه، يُعلن بها انتصار الشر بداخله على الخير.
تحدث مع ذاته في المرآة بفخرٍ:
” أنا سيد سادة الكبرياء، أنا الأفضل و الأحسن، أنا فوق الكل، و الكل أقل مني، أنا الكبرياء بذاته ”
ودون أن يدري، هوى بكلماته لنفس الموضع الذي هوى إليه إبليس حين رأى أنّه خير من آدم.
في الأسفل، جلس ” مُجاهد ” يضع يده بحسرة على خده، و ” لين ” زوجته تقول بخوفٍ:
” هنعمل إيه يا مجاهد ؟ قُصي معندوش غلطة واحدة ! حتى المادة اللي معظم الطلبة بيسقطوا فيها و محدش قبل كده قفلها، هو جايب فيها الدرجة النهائية ! ”
تنهّد مُجاهد بأسى قائلًا بعدما أغلق معه المدير و المشرف الأساسي على امتحانات الطلاب بالسفارة، و أخبره بأن ” قُصي ” صنف ضمن أذكى طالب مر على السفارة الأمريكية و قسم العلوم الفلكية، و عليه الحضور لتكريمه و استلام جائزة من السيد وزير التربية و التعليم العالي..
” الناس بتفرح إن عيالها بيطلعوا الأوائل، و أنا قاعد بتحسر على نتيجة ابني اللي مفيهاش غلطة ! ”
تابع بهز رأسه ضاحكًا بسخرية:
” شر البلية ما يضحك فعلًا ”
أدرك ” مُجاهد” في الآونة الأخيرة، أن ” قُصي ” لم يعد ذاك المرح الحنون الذي تدمع عينيه لأتفه الأسباب، بل أصبح نسخة مصغرة من خاله اليهودي، الذي ساقه ذكاءه لارتكاب أبشع الجرائم العالمية، مُتباهيًا بأفعاله الشنيعة، و بطريقة تفكيره التي تتسم بدهاءٍ و ذكاءٍ، أودا به للتهلكة على يد ابن اخته الأكثر ذكاءً منه..
تابع مجاهد قوله المرير و كأنما يستهزئ من حالهم:
” مات في القرية ساحر، فاستراحوا من أذاه، خلّف الساحر جنّيًا، فاق في السحر أباه ”
أما زوجته بكت في صمتٍ؛ مخافة ضياع ابنها قبل فوات الأوان، مدركة تمامًا معنى تتويج قُصي بلقب أذكى طالب لم يأتِ قبله في تاريخ القسم، حتمًا سيزيد ذلك من غروره و حُبه لذاته، و بالتالي لن يجد النجاة من سيطرة ظلام الكِبر على النفس، و طريقة إجابته على الأسئلة الصعبة في الامتحانات كما قال مشرفي و أساتذة القسم، تشبه طريقة حل العلماء للغز معقد، بل طريقته فاقت العلماء بكثير، حتى أنهم أصابتهم الحيرة و الصدمة عدة مرات من الاجابات التي تعدت الاجابات المثالية، فاستعانوا بعباقرة في الفلك من الخارج، و أرسلوا لهم ورق إجاباته لاطلاعهم على حقيقة الرأس العبقري الذي كتب و حلّ ذلك، ليصابوا بالصدمة هم أيضًا، و يتفقوا جميعهم على تتويجه بلقب أذكى طالب، و إرساله في بعثه لوكالة ناسا الفضائية، دون أن يعلموا بعد، بالبحث الذي يحتوي على اختراع إذا تحقق على أرض الواقع؛ سيغير البشرية بأكملها.
“طيب و هنعمل إيه يا مجاهد، هنوقفه ازاي ؟ ”
تساءلت بها ” لين ” في ترقب للاجابة التي ستسمعها من زوجها و تحاول الهروب منها بينها وبين نفسها.
رد ” مُجاهد ” بعجزٍ تام وهو يزفر بقوة و بحريقٍ شعر بدخانه يغزو رئتيه:
” لو خرج عن السيطرة زي هيوشوع، يبقى مفيش قدامنا غير حل واحد.. اسلمه بنفسي للجيش المصري يعدموه ”
تعالى صوت بكائها، و هي تضغط على يد زوجها باحتواءٍ تتوسله بحُرقة:
” لأ يا مجاهد لأ.. ده ابننا، لأ مش هسمحلك تعمل كده، متاخدش ابني مني يا مجاهد، متحرقش قلبي عليه ”
تنهّد بصعوبة و بدموعً، ثُم أردف بغير حولٍ منه ولا قوة
” قُصي لو متقتلش يا لين، ها يفسد في الأرض ”
نهضت تهز رأسها برفضٍ و بكاءٍ مستمرٍ جاءت على أثره ” نورا ” وهي تهبط الدرج في طريقها للمكوث معهما قليلًا..
تساءلت بهلعٍ عليهما:
” في إيه ؟! مالكم بتعيطوا ليه ؟! ”
امتنعت حماتها عن اخبارها بالأمر، حتى لا يصل لزوجها، فيصاب بالجنون على أخيه و يعود التلعثم له ثانيةً، لذا قالت وهي تمسح دموعها:
” مفيش يا حبيبتي، أصل ماما تعبانة شوية ”
” ألف سلامة عليها، طيب روحي شوفيها ”
” آه آه هروح، هروح ازورها طبعًا ”
قالتها بمحاولة منها للهروب من نظرات نورا المستنكرة باستغراب لهما، فاكتفت الأخيرة بالصمت، و اتجهت لغرفة ” ملك ” التي لازمتها طوال الوقت، و تملك منها الصمت، فلم يعد أحد يستطع التحدث معها لدقيقتين كاملتين، غير
” منة ” التي تنجح في مواساتها كل مرة، و لكن منة الآن تحتاج لمن يواسيها.
أما ” شهد ” جرفتها الامتحانات المتممة للمرحلة الثانوية في جوٍ مربك و مقلق لا يسمح لها حتى بالنوم بشكل طبيعي دون كوابيس، حتى أنها لم تعد تفكر في ” زين ” بتاتًا لشدة خوفها من النتيجة، رغم اجتهادها طوال السنة في المذاكرة، بينما ” زين ” لم يكف عن الدعاء لها بتيسير الحال و النجاح في كل سجدة يسجدها لله.
نهضت ” منة ” بثبات مزيف بعد بكاءٍ دام لنصف ساعة، ثُم وضعت أكياس الثلج على عينيها للتخفيف من الورم الذي أصاب جفونها، و ارتدت
« كاب» تخفي به أثر التورم؛ استعدادًا للذهاب للتمارين، بعدما بدلت البنطال الرياضي، بآخر أوسع.
_________________.
في منزل ” مصطفى ” والد زياد، جلس يداعب أحفاده و يلاعبهم بمرحٍ و حُبٍ، لحين اعداد
” هاجر ” طعام الفطور مع حماتها ” سارة “، فمنذ ولادتها للطفلين، وهي تفضل الجلوس مع حماتها، لشعورها براحة أكبر عندما تحمل التوأمان عنها، و تتركها تنام قليلًا.
جاء ” زياد ” يرتدي بِذْلة رمادية اللون؛ استعدادًا للذهاب للمحكمة لمتابعة عمله، وضع قُبلة على رأس والدته و أخرى على جبين ” هاجر ” هاتفًا بمرح:
” فاكرة لما كُنا بنقول لو جالنا ولد هنسميه نياط، ولو بنت نسميها وتين ”
ضحكت بإيماءة رأسٍ تقول:
” أنت لسه فاكر ! هو وتين الصراحة حلو، لكن نياط حسيته تقيل شوية ”
” يعني إيه أصلًا نياط و وتين دول ؟! ”
تساءلت بها ” سارة ” باستفسار و تعجب من الاسمين، فأجابت ” هاجر ” باسمةً:
” وتين عرق بيتعلق به القلب لو انقطع مات صاحبه، ربنا سبحانه و تعالى بيقول في سورة الحاقة « ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ» أما نياط، فهو زي الوتين بالضبط، عِرق غليظ ممتد من الرئتين و متّصل بالقلب، لو انقطع برضو مات صاحبه، هما بصراحة جامدين بس للي يفهم ”
” بس أنا حابب كِنان و كيان أكتر ”
قالها ” زياد ” وهو يمد يده لطبق الخيار، يخطف القليل منه، فاستدارت له ” هاجر ” و أعطت له سندويتشًا من الجُبن، قائلة بحنان:
” كُل السندويتش ده قبل ما تمشي عشان خاطري، أنت بتطلع من غير فطار و تقولي هفطر في الشغل، و بتيجي ميت من الجوع، عشان عارفة إنك موسوس بالنضافة و بتقرف من أي حاجة ”
أخذه منه، و أخذ يدها يُقربها لفمه ليلثم قُبلة ممتنة عليها، وهو يقول:
” مش حكاية مبحبش آكل برا، بس مبقتش أحب آكل لوحدي، بحس بقيمة الأكل لما آكل معاكِ ”
غمزت لهما ” سارة ” مداعبة في مرح:
” يا سلام سلم ”
ثُم تركتهما و خرجت، تحمل ” كِنان ” الذي لا يكف عن البكاء، و عندما يتم حمله يسكت تلقائيًا، بخلاف شقيقته ” كيان ” التي تلزم الصمت في أي مكان يتم وضعها فيه، و كأنها كائن رقيق لطيف مسالم للغاية، و هي كذلك.
أنهى ” زياد ” تناول طعام الافطار الخفيف، و اختلست النظرات على والديه في الصالة، ثُم استدار لزوجته يعانقها بقوةٍ و بشوقٍ و اشتياقٍ لها، تبادله هي العناق بقوة أكبر، ثُم ابتعد بعد لحظات هامسًا بنفاذ صبرٍ:
” وحشتيني يا وردة حياتي، داخلين في أربع شهور مش عارف أقولك كلمة واحدة حلوة و لا أعبر لك عن مشاعري المدفونة اللي كمكمت من كتر الركنة، بسبب العيال الزنانة ولاد اللذين دول ”
ضحكت برِّقةٍ، و قالت:
” و أنت كمان وحشتني أوي يا أبو العيال، آه صحيح كنت هَنسى، ابقى هات علبة بامبرز و أنت راجع إن شاء الله، عشان اللي هنا خلصت ”
رد باستسلامٍ و رضا منه:
” البامبرز ده عاوز له مُرتب لوحده، الله المستعان ”
أضافت هي تؤكد عليه:
” ونعم بالله، و هات لي مصاصة بطعم البرتقال اللي طعمها زي دوا الكحة دي، بحبها أوي ”
رد ضاحكًا، وهو يخرج من المطبخ و يتجه نحو طفليه يودعهما بالقبلات الحنونة:
” حاسس إني قاعد في حضانة، بس عُلم و سيُنفذ إن شاء الله يا وردة زياد ”
ثُم غادر المنزل، و عند مدخل البوابة الحديدية، تقابل مع عمته ” مفيدة ” التي جاءت تتساءل بلهفة:
” واد يا زياد، عندكوا شوية عليقة ”
” عليقة ! ”
” ايوه للفراخ، أصل لسه مجابوش في الدكان ”
تبسم ضاحكًا:
” أنتِ يا عمتي من يوم ما جبتي لك شوية فراخ، و أنتِ ناسية الدنيا باللي فيها ”
” يا واد اتنيل أنت مش فاهم حاجة، أنا بربيهم من دلوقت، عشان عائشة إما تحمل أغذيها، ده بت مايلة عايشة على الاندومي ”
رمقها بدهشة هاتفًا:
” بتربي لها فراخ من دلوقت ! ”
أومأت بتأكيد و تابعت:
” أنا عندي حُسن ظن بالله إن ابني البكري هيرفع راسي، و بعدين أنت مالك أنت متغاظ ليه، يلا يا واد امشي، روح شوف لك عشة كاكي فيها ”
أخذ يقلب كفيه ضاحكًا بصدمة وهو يكلم نفسه:
” لا حول ولا قوة إلا بالله ”
أما في منزل آخر، تحديدًا منزل الاسطى
” حافظ ” والد روان، يجلس ” سيف الاسلام ” بجانبها على الدَرج المؤدي لبيتهم من الداخل، يتجاذب معها أطراف الحديث في جو يسوده المزاح و الحُب، فقد توجه إليها أولًا؛ لتوديعها قبل الانخراط في تصفيات كأس العالم، فموعد سفره هو اليوم.
أخذ يداعب أخاها الذي اعتاد على حمله من روان دونًا عن والدته و البقية، وهو يصدر أصوات مناغاة يحاول من خلالها التواصل بالتبسم و الضحك، كردة فعلٍ عن مداعبة “سيف” له..
قال وهو يرفع أنامله التي تداعب وجه الصغير، لمداعبة خد روان، الذي استجاب للمساته الناعمة عليه، فتبسمت بحُبٍ له:
” ها توحشيني يا رواني، أساسًا أنتِ وحشاني من دلوقت، فترة التدريبات اللي بكون فيها دي بتبقى أصعب فترة بمرّ بيها، عشان مش بعرف أكلمك كتير، و أشبع سمعي من سماع صوتك ”
تنهّدت باسمةً و قالت بعد دقائق من رؤيتها لرؤية أمامها ظهرت فجأة:
” بما إني حكيت لك بالرؤية اللي بشوفها و بأمر الله بتتحقق بالملي، و حكيت لك إني شوفتك و أنت بتجهز لي مفاجأة كتب الكتاب، بس عملت نفسي زي الاطرش في الزفة، عشان فرحتك بالمفاجأة و فرحة أهلنا تكمل، فأنا ببشرك بشرة خير إن شاء الله، و أقولك إنك ها تتأهل في تصفيات كاس العالم و هتحترف في نادي مشهور أنا مش قادرة أحدد هو إيه بالضبط، بس أنت صيتك و شهرتك في خلال خمس سنين إن شاء الله، هتعدي صلاح و تبقى في مستوى رونالدو و ميسي ”
ظل يرمقها لدقائق لا يصدق ما تقوله، أو يحاول استيعابه بالبطيء، رفع كفيه يدعو بصدقٍ و اخلاص؛ خشية الغرور إذا صدقت بالفعل رؤية روان، دعاء حفظه عن ظهر قلب للشيخ سعد الغامدي:
” اللهم إني أعوذ بك من العجب و الاغترار بالنفس، و أعوذ بك أن أرى نفسي خيرًا من عبد من عبادك، فلي من السيئات ما لا يعلمه أحد سواك، اللهم اكفني شر نفسي و حبب إليّ طاعتك، واجعل ذكرك أحب إلي من ملذات الدنيا .. اللهم اشغلني بشكر نعمتك و اكتبني من عبادك الأوابين الأطهار .. اللهم أصلح سريرتي و علانيتي وسائر أمري، واحفظ قلبي من الغرور و الكبر .. اللهم اكفني شر قسوة القلب و ألفة المنكر و اعمر قلبي باليقظة والورع ”
ظل يدعو و ” روان ” تردد وراءه « آمين»، حتى انتهى و عاد لفعلته الأولى عندما خطفها في كتب الكتاب، ليتلقى صفعة على خده جاءت أقوى من سابقتها، تبعتها بقولها له في توبيخ:
” سف.. إبراهيم يا بيه إبراهيم ”
ألقى نظرة سريعة على وجه ” إبراهيم ” البشوش، و لامس مكان الصفعة قائلًا بألم جاهد في جعله حقيقي غير مزيف:
” أنا آسف يا روان، بس خدي وجعني.. ضربتيني جامد أنتِ ”
في لحظات تحول غضبها للرقة و لان قلبها، وهي تتحسس خده بأسفٍ:
” أنا آسفة، مقصدتش ينزل جامد ”
كرر فعلته منتهزًا فرصة انشغالها بالتعبير عن أسفها، و نهض سريعًا يهرب من أمامها ضاحكًا بنظرة انتصار، بينما هي احتقن وجهها و ابعدت أخيها عنها، حتى لا تفزعه بصياحها على سيف:
” بتاخدني على خوانة ! ماشي، ها تروح مني فين يعني ”
أرسل لها قُبلة في الهواء، و هتف وهو يتجه للخارج:
” هحاول قدر الامكان أكلمك و افضل معاكِ على تواصل على طول بإذن الله، يلا همشي بقى عشان إتأخرت، سلام يا رواني ”
همست بابتسامة حالمة بينها و بين نفسها:
” مع السلامة يا سيفو، استودعتك الله يا حبيبي”
_______________.
بعد مرور ستة ساعات على أحداث اليوم، و في مكانٍ آخر بالقاهرة، تحديدًا في قاعة مؤتمرات و مناسبات ضخمة خاصة فقط بشؤون التعليم الجامعي للمصريين و الأجانب و الحاملين لجنسيات أخرى.. يجتمع في المقاعد الأولى، المعنيين بشؤون التعليم في مصر، و بعض الرُتب العليا في الدول، بالاضافة لقدوم اللواء ” عزمي” باصرار من ” قُصي ” على حضوره حفل تكريمه لغرضٍ ما في رأسه، و بحضور أيضًا ضابط المخابرات المصرية ” كريم الكردي ” الذي كان في وزارة الداخلية صباح اليوم لمناقشة تقديم استقالته، و التي جاءت بالرفض القاطع لحاجة الدولة الشديدة لرجل مثله، تاركًا في شقته
” رُميساء” تقوم بتزيين غرفة الأطفال مع شقيقتها و تجهيز الطعام المفضل لكريم، كل ذلك بدأ بعد خروجه من البُناية، و جاءت بعده شقيقتها التي تصغرها بعامٍ دون علمه، و حضر كذلك أخيه الضابط ” رحيم ” باصرار من ” قُصي ” أيضًا، كما حضر ” زين ” زوج أخته المستقبلي و ابن عمه
” زياد ” و والده، بالإضافة لأسرته التي حضرت بكامل أفرادها، فهذا والده ” مُجاهد ” يتأمله باشتياقٍ و بدموعٍ لم ينجح في كبحها، قبل التشجع و تنفيذ قراره، و هذه والدته لين الأم المكلومة ارتدت نظارة سوداء تخفي خلفها دموعها التي لم تتوقف ثانية واحدة، بينما
” أُبَيِّ ” يحاول الضغط على والده ليطلعه على سرائر و خبايا قلبه، و الأخير يرفض رفضًا قاطع التحدث.
بجانب ” لين ” تجلس ” رحمة ” زوجته تحاول التعرف عليه من جديد، فقد أجبرها على الحضور أيضًا، و كأنه يخطط لفعل شيءٍ سيدمرهم جميعًا، و أراد مثولهم أمامه مثل العبيد وهو سيدهم.
مال ” عزمي ” على ” مُجاهد ” يتساءل بحيرة:
” الواد ده كان كويس و متواضع، إيه اللي شقلب حاله كده ؟! ”
” الغرور، الغرور يا عزمي ”
رد بها مُجاهد بحسرة، ثُم أضاف:
” قُصي كان فيه حتة غرور زمان، بس كنت بكدب نفسي و أقول استحالة يتغير و يبقى زيه، قُصي في الوقت اللي كان بيهزر فيه و يقول أنا كلي مميزات معنديش عيوب، وحتى لو عندي فأنا عيوبي أحسن من مميزاتكم، و إحنا نضحك و مفكرين إنه بيهزر عادي و دمه خفيف و أكيد ميقصدش، كان هو في الوقت ده بيلمح لحاجة قدام، أنا دلوقت فهمت و عرفت قد إيه بعد الخبرة دي كلها، طلعت قدام ابني و لا حاجة ”
ربت ” عزمي “بمواساةٍ على فخذه قائلًا:
” متقولش كده، ده طيش شباب و ها يرجع لحاله، هي السكينة سرقاه بس ”
ارتدى ” قُصي ” في هذا اليوم بذلة سوداء بقميص أسود بخلاف باقي زملاؤه اللذين ارتدوا زِيّ التخرج، فقد جاءوا للتكريم أيضًا لتخرجهم من الجامعة، و كأنه باختلافه هذا يقوم بتوصيل رسالة لكل الحضور، بالأخص أفراد العائلة و المعارف الذي أصرّ هو على حضورهم جميعًا، و جعل ” زين ” يفتح البث المباشر لـ ” سيف ” و كذلك يفعل زياد لـ ” بدر “، أما ” إبراهيم ” لم يستطِع الوصول له.
تم استدعائه لاستلام شهادة التقدير المطبوع عليها ختم النسر و القاء كلمة يشكر بها من ساهموا في نجاحه، فصعد لمنصة تسليم الشهادات، و لم يصافح أحد، فأخذوا ينظرون فيما بينهم بدهشةٍ و استغرابٍ لذلك الفعل المهين، أخذ شهادة التقدير، و نظر فيها بسخرية، ثُم ألقاها على الطاولة بجانبه في إهمالٍ، و تقدم من الميكرفون، يوزع نظراته الجامدة عليهم من أكبرهم لأصغرهم، حتى قَطب الوزير حاجبيه في تعجبٍ، و همس بتساؤل للواءٍ مثل عزمي في مكانته:
” ده يبقى أذكى طالب ؟! ”
أومأ اللواء بتأكيد ليضيف:
” قُصي الخياط، أمريكا بنفسها حاطة حصانة عليه، غير الحصانة اللي واخدها مننا ”
رمقه غير مستوعب ما يقوله:
” و ده ليه ده كله ؟ يبقى مين هو ؟! ”
أشار اللواء برأسه لقُصي:
” هيتكلم أهو ”
هتف ” قُصي ” بنظرات يشوبها الغدر و الخُبث و مكر الذئاب:
” لو في حد هشكره في اليوم ده، فهو شخص واحد بس.. أنا، أنا اللي وصلت لهنا بدماغي، بنفسي و بمجهودي، محدش ساعدني و مش محتاج حد يساعدني، شهادة التقدير دي بياخدها الطالب الغلبان كَمكافئة صغيرة ليه معمولة من الورق سهل تتقطع و مكتوبة بخط بشوية ميه يذوب، و أنا في غنى عن شهاداتكم، أنا عارف قيمة نفسي كويس، و مش مستني منكم تقييم، أنا اللي أقيمكم مش العكس، أنتم متجوش ذرة في ذكائى، أنا اللي هرسم للعالم ده مستقبله، أنا اتخلقت عشان أوجه البشرية بدماغي و بكيفي،
أنا خارج عن السيطرة، طموحي ملوش سقف، أنا فوق الجميع، و الجميع في ايدي أشكلهم بدماغي و أحركهم بإرادتي زي العرايس اللعبة، ولو فكرتم بس تلعبوا معايا، هتخسروا نفسكم؛ لأن أنا اللي حطيت قوانين اللعبة ”
أنهى كلامه الذي بسببه عمَّت الضجة القاعة بالهمهمات و الهمسات الغير مصدقة ما تفوه به، أما ” زياد ” و ” أُبَيِّ ” تبادلا النظرات بخوفٍ عليه و قلقٍ من الطريق الذي اختاره بمحض إرادته، بينما ” لين ” والدته أجهشت بالبكاء، و ” منة ” ظلت تنظر للفراغ أمامها بشرودٍ تحاول استيعاب ما قاله، في حينٍ أن ” مُجاهد ” همس لعزمي بوهنٍ:
” خلاص كده يا عزمي، ده مش قُصي ابني، ده نسخة تانية من هيوشوع، إنا لله و إنا إليه راجعون ”
ترك ” قُصي ” المنصة، تاركًا خلفه مسجل صغير يحتوي على تسجيلٍ له، قام بتشغيله و توجيه للميكرفون، ليلزم الجميع الصمت و يبدأون في الانصات ثانيةً بصدمة أكبر لما يسمعونه..
« أنا قُصي، في شهادة الميلاد عمري هو ثلاثة و عشرون عامًا، أما في الحياة تجاوزت سِن العشرينات بمراحل.
أنا قُصي، قمت بدفن ابن أشهر عميل للمافيا السوداء ” سمير الضبع ” حيًا تحت التراب، و أنا في الثامنة عشر من عمري، أنا من قبضت على سمير الضبع و سلمته للعدالة، ولا يوجد ما يسمى العدالة في العالم.
أنا قُصي، أحمل في جسدي دم اليهود و غدرهم، و اسمي ينتمي للاسلام.
أنا قُصي، قتلت واحد من أكبر زعماء الماسونية في العالم.
أنا قُصي، مكلل بالحصانة الامريكية و المصرية معًا، و يظن العميل السري السابق للانتربول الدولي ” مجاهد الخياط ” أنني أجهل ذلك، و كذلك يعتقد اللواء الماثل أمامكم ” عزمي باشا” و ضابط المخابرات ” كريم الكردي “، ثلاثتهم يعرفون بأمر الحصانة و خافوا اخباري، حتى لا أقم باستغلال ذلك لصالحي.. يا لهم من أغبياء !
أنا قُصي، أملك في رأسي بحث علمي خاص بطبقة الاوزون، لم يستطِع عالم الوصول له من قبل.
أنا قُصي، مدمر القنبلة التي قامت إسرائيل بدفنها في سيناء، و لم يستطِع أحد تدميرها طوال خمسون عامًا مضوا.
أنا قُصي، قمت باختراع قلادة تعمل بواسطة الدماء، لم يتجرأ أحد و يصنعها من قبل.
أنا قُصي، العظمة لي و أنا العظمة بذاتها.
أنا قُصي، أعظم مخلوقات الله.
أنا قُصي، اللعنة التي حلت على كوكب الأرض.
بينما هم في صمتٍ تام من شدة الصدمة لجم ألسنتهم فعجزوا عن التفوه بحرفٍ واحد، و سيطرت النظرات المندهشة منهم بينهم، اتجه هو قبل الخروج من القاعة، و سحب ” منة ” من يدها رغمًا عنها، ليخرجا من ممر القاعة، هو يسبقها في الخطوات المغرورة الثابتة، و هي خلفه لا تستوعب ما يحدث، في مشهد بالتصوير البطيء يمشي بكل تريث و تمهل بخطواتٍ فرضت سيطرة على أعينهم، فجعلتها مرتكزة عليه، و تلك المسكينة التي تأرجح شعرها القصير بخوفٍ من هيئته الشيطانية لأول مرة، للوراء و للخلف يتزامن مع شعره الذي ارتفع و انخفض يواكبه السير بانسيابية و اندماجٍ تام، كأنه يحثه على التعامل بشموخ و كِبر أكثر.
لا تعلم لمَ أصرّ على أخذها معه، مُتناسيًا هذا الجمع من الناس برّمته خلف ظهره، حاولت سحب يدها من كفه الذي يطبق عليه في إحكامٍ، ففشلت ولم تجد مفر من اظهار ضعفها و خوفها منه؛ فبكت في صمتٍ، مستسلمة للمجهول الذي ينتظرها معه.
أما بداخل القاعة، ارتعش جسد مجاهد و خرج صوته أخيرًا يقول لعزمي بنبرة على وشك البكاء و الانهيار أمامهم:
” اقتلوه يا عزمي “
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)