رواية يناديها عائش الفصل الثامن والتسعون 98 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الثامن والتسعون
رواية يناديها عائش البارت الثامن والتسعون

رواية يناديها عائش الحلقة الثامنة والتسعون
” كمال المحبَّة يتحقق بالأمان، حتى في أكثر اللحظات جلبةً وخوفًا، لا تعرف كيف تطمئن، لكن معه – تطمئِن. – ” لقائلها.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~.
قبل يومين من الأحداث، و قبل أن تصل الرسائل للرجال الثلاثة.
جلس ” قُصي ” مع زوجته لخوض حديثٍ حول الخطة التي سَيَتبعانها للخلاص من تخطيط امريكا لاغتياله، فقال وهو يمسك كفيها يَبُثُ فيهما الاطمئنان:
” اللي بفكر فيه و اللي ناوي اعمله و هعمله إن شاء الله.. صعب، صعب جدًا و يكاد يكون خطر كمان عليا، بس للأسف مفيش حل تاني غيره.. الحل ده اللي هيجيب من الآخر و ينفع مع ولاد المهروشه دول ”
ردت في لهفةٍ تتساءل عما يدور في عقله العميق:
” قلقتني.. حل إيه ؟! ”
تنهّد بضيقٍ شعر به يتغلغل في نفسه كلما تذكر الشخص الذي سيتحالف معه لردع أمريكا و مخطط إسرائيل في اغتيال كل عالم عربي يحاول نقل علمه للشرق الأوسط، و تردد للحظاتٍ قبل اخبارها بالأمر، و بما أنها كانت تعمل عميلة سرية لدى الجيش المصري؛ فهو يدرك جيدًا أنها تعرف من هو الشخص الذي يقصده هو، و يدرك أيضًا أنها لو علمت بتحالفه معه، قطعًا سترفض و ستفعل أي شيء لفضّ هذا التحالف، و لكن قُصي يرى الأمور من زاوية مختلفة عنها.
تساءلت ثانيةً بقلقٍ كبير و هي تحرر كفيها من كفيه، و تحتوي بهما وجهه الحائر:
” قُصي ! سرحت في إيه ؟ بتقلقني كده اكتر على فكرة، احكيلي إيه اللي بيدور في راسك.. بتفكر في إيه ؟ ”
زفر الهواء بثقلٍ تربَّع في قلبه، و قرر اخفاء الأمر عنها، فقال وهو يُقبِّل كفيها بقبلاتٍ تلاها انزالهما وهو يضغط عليهما ضغطةً رقيقةً متبوعة بابتسامة خافتة شاحبة:
” متقلقيش، أنا بس كُنت بفكر العبها صح ازاي.. خلينا في المهم، بما إننا قررنا نتغدى بيهم قبل ما يتعشوا بينا، فلازم تكون كل خطوة مدروسة كويس أوي.. ”
تنهّد بهدوءٍ ليتابع:
” تعرفي أنتِ العالِم ويليام كيرلس، مش كده ؟ ”
أومأت تحثه على المتابعة، فنهض يولي لها ظهره و يتابع حديثه حتى لا تفضحه عيناه بأنه يكذب عليها:
” هو المسؤول عن المختبر العلمي الخاص بالوكالة و قاعات الاجتماعات اللي بتتم فيها المؤامرات على العلماء العرب، لو قدرت آكل بعقله حلاوة و اسحبه في الكلام لحد ما أخد منه المفاتيح، و ادخل على اللاب الخاص باجتماعات العلماء الامريكان مع رؤساء بلدهم و إسرائيل، و انسخ كل الاجتماعات على شريحة؛ هبقى كده حطيت رجلي على أول طريق لنهايتهم، لأني متأكد ميه في الميه إن اسمي موجود في قايمة الاغتيالات بتاعت العلماء، هما بعد اللي حصل ده مش هيسكتوا، زمانهم متأكدين دلوقت إني لعبت في الاختراع بدون علمهم، و بعد ما أخد كل أسرارهم في الشريحة، هبعتها للمخابرات المصرية، و هما مستنيين دليل واحد عليهم إنهم ورا اغتيال العلماء العرب، عشان يتحركوا لعقد مؤتمر قمة فوري لإدانة اللي ما يتسموا بالأدلة اللي هسربها ليهم، و يبقوا كده انكشفوا و انفضحوا قدام العَاَلم”
أنهى كلامه و ظل ينظر أمامه بتفكيرٍ في القادم، أما هي نهضت و جاءت من خلفه تتساءل:
” بس يا قُصي أنت أصلًا امريكي الأصل ! يعني ازاي ها تتحط في قايمة اغتيال العلماء العرب و أنت امريكي ؟! مش يمكن يكونوا بيخططوا لحاجة تانية من غير ما يسيبوا دليل وراهم ؟! أصل الناس دي مش هُبل برضو ! ”
رد وهو يستدير لها و يرمقها بثباتٍ:
” بس امريكي مسلم و بساعد العرب، ابقى إيه ؟ ابقى بالنسبة لهم خاين، و الخاين عندهم يُقتل ”
” طيب ليه.. ليه حطوا عليك حصانة طالما ناوين يغدروا ؟! ”
” حبيبتي.. دول الغدر في دمهم من سنين السنين، و الحصانة دي اتحطت عشان ابقى الراجل بتاعهم، من الآخر كده عشان يوضحوا لمصر إني مهما عيشت عندهم في النهاية راجع لهم، و إن أنا بنتمي لامريكا و إسرائيل و عِلمي هيبقى بتاعهم، لهم هما بس.. فهمتي ؟ ”
هزت رأسها بتفهمٍ و بدأ الخوف يأخذ حيز هائل من وجهها، و كساه هلعًا و قلقًا عليه، فاقتربت منه و احتضنته بدموعٍ هامسة:
” ياريتني ما شجعتك على السفر.. أنا السبب ”
رد بحنانٍ وهو يربت على ظهرها:
” كلمة ياريت مش بترجع اللي فات، و أنتِ مش السبب يا رحمة، ده قدر و نصيب و قدر الله و ما شاء فعل، أنا آه كُنت متبت في الفكرة أوي و اتخانقت مع أبويا كتير عشانها، بس تراجعت عنها وقررت أعيش حياة مستقرة طبيعية زي أي حد معاكِ، و لما شجعتيني أعرض البحث بتاعي في الوزارة.. حسيت إني فعلًا لازم أخد الخطوة دي، و إن ربنا وهبني العقل و الذكاء ده عشان استخدمه لشيء كويس و منفعة هيستفاد منها أهلنا في كل مكان، و عشان أشكر ربنا على النعمة دي كان لازم اطبق اختراعي و أسعى إنه ينجح و يقصم ضهر شوية الكفرة دول، لكن مقعدش كاتمه جوايا و احط ايدي على خدي زي الولايا عشان خايف ! أنا عمري ما خفت ولا أعرف شعور الخوف ده عامل ازاي، غير إما حبيتك.. ساعة إما قلبي دق ليكِ؛ عرفت يعني إيه خوف ”
” بس الحُب بيطمن مش بيخوف ! ”
قالتها وهي ترفع عينيها لعينيه، فقال:
” و أنا خوفي كله إني معرفش أطمنك ”
تابع وهو يضغط على ذقنها برفقٍ:
” أنا بشكرك إنك شجعتيني و أحييتِ الرغبة فيا إني أدخل وكالة ناسا، عشان كده بحب أنادي لك رحمة؛ لأن وجودك في حياتي رحمني من حجات كتير أوي، أولهم نفسي السيئة و شيطاني المغرور، عرفت قيمة نفسي الحقيقية و الرسالة اللي اتخلقت عشانها و هدفي في الحياة، أنتِ جيتي رحمة من ربنا ليا يا رحمة ”
” و أنا لحد دلوقتي بحاول استوعب، إني بعيش قصة حُب بطلها هو أنت، المغرور اللي مكنش شايف غير نفسه، بقيت أنا أعز عليه من نفسه ”
قالتها بابتسامة عاشقة صادقة جعلته يبادلها نفس ابتسامتها وهو يمازحها بقوله:
” نفسي أجيب بنت منك و اسميها نور ”
” اشمعنا ؟ ”
” عشان أوزع قُرص رحمة و نور على الأوباش ولاد الـ * دول ”
صدرت منها ضحكة صاخبة إثر جملته، جعلته يقول باندهاشٍ:
” إيه ضحكة الرقاصين دي ! أول مرة من ساعة ما عرفتك اسمعها منك ! ”
غمزت هي وهي تضربه بخفةٍ على كتفه:
” إيه مش عاجبك ؟! ”
” بصراحة أنا حاسس إني بتجرجر للرذيلة في وضع غير آمن بالمرة، و لكني سأسمح لتلك المهزلة بأن تحدث من داخل داخل أعماق قلبي، عشان أنا و الرذيلة أخوات، توأم متماسك ”
هتف بها، و قد أجلس شخصية العالم الناضج على جانب و ربت عليه، ثُم أخرج شخصية قصي عديم التربية و الحياء، و في الحقيقة تلك شخصيته الحقيقية.. صفق بيديه و أخذ يتراقص بكتفيه، بينما هي أطلقت ضحكة راقصة من راقصات الساحل الشمالي، و هتفت:
” متماسك ! طب امسكني لحسن هقع.. هيهي ”
” العـب.. لأ ده أنا بتجرجر رسمي، و بصراحة أنا بموت في الجرجرة ”
فجأة و بدون مقدمات ظلت تضحك بهستيرية و لم تستطع تماسك نفسها، لا تدري ما الذي حدث لها فجأةً جعلها تضحك هكذا، و تطلق كل ضحكة من ضحكة الراقصات و أختها، وهي تقول بصعوبة:
” الحقني يا قُصي، مش قادرة ابطل ضحك هيهي.. يلهوي مش قادرة بجد.. ”
توقف هو عما يفعله، و لحق بها سريعًا قبل أن تقع قائلًا:
” في إيه يا بت مالك ! رحمة إيه اللي حصلك ؟ ”
ظلت تضحك لدقيقة أخرى، ثم أردفت وهي تضع يدها على بطنها و رأسها بألمٍ:
” مش عارفة والله مقدرتش أسيطر على نفسي ”
رد وهو يضحك رغمًا عنه:
” لا مهو مش معقول الهرمونات هتشتغل من أولها كده ! العيل شكله كده هيطلع مفوت شبهك ”
” شبه مين ؟! ”
تساءلت بها بنظرة مندهشة غاضبة، فصحح سريعًا وهو ينحني و يحملها ليضعها على الفراش:
” شبهي.. مفوت شبهي أنا.. أنتِ زي الفل ”
تسطح بجانبها و أردف:
” نسينا إحنا كنا بنخطط لإيه، منها لله الرذيلة.. بس بحبها ”
لم تمر إلا دقائق و كانت مستسلمة للنوم تمامًا، أما هو بعدما تأكد من استقرارها في النوم؛ دثرها بالغطاء الثقيل جيدًا و ظل لدقائق يتأملها بابتسامة خافتة وهو يُمسِّد على شعرها بهمسٍ:
” متخافيش، إن شاء الله كل حاجة تتحل.. أوعدك إني أحافظ عليكِ لآخر نفس فيا، حتى لو كان آخر نفس ده قُريب ”
ثُم رفع تلك الغُرَّة التي تخفي الندبة المفتعلة على يد والدها، و لثم قُبلة عميقة عليها تبعها قوله:
” عارف إن اللي هعمله ده خطر، بس أحيانًا بيكون ورا كل خطر أمان، هو هيبقى خطر عليا أنا، بس مش مشكلة طالما ده هينقذ كل العلماء العرب اللي هيجوا من بعدي و أنتِ هتكوني في أمان و هتعرفي تربي الحتة بتاعتنا و أنتِ مطمنة، ده لو خطتي نجحت، أما لو فشلت فهيبقى التمن رقبتي و رقبة أي حد غالي عليا، بس غالبًا إن شاء الله الخطة هتنجح، أيوه هيبقى موتي قصاد نجاحها، في الحالتين سواء نجحت أو فشلت أنا هبقى الضحية، بس على الأقل هكون ميت و مطمن عليكِ ”
و لثم قُبلة أخرى على الندبة ثانيةً، ليتابع:
” أنا جيت حياتك عشان أخفف آلامك مش عشان أزودها، و همشي و أنا سايبك في أمان بإذن الله، والله العظيم ما عرفت الحُب غير على ايديكِ، أنتِ أغلى حاجة في حياتي ولازم أضحي عشانك، مفيش حل تاني ”
أنهى حديثه معها و اتخذ مكانه بجانبها، فضمها إليه و وضع ذراعه خلف رأسه يستند عليه، ثُم ظل يفكر فيما هو مقدم عليه.
لقد قرر الالتجاء للتحالف مع أكثر شخص يبغض إسرائيل و كل ما يساندونهم، و سبب كرهه لهم؛ أنهم قاموا باغتيال شقيقه الأكبر على حين غِرَّة منه، فبعدما أفنى عمره في خدمتهم و انضم إلى وكالة ناسا لبث اختراعه، ثُم بعد الاعجاز العلمي الذي صادفه في القرآن الكريم حينما بدأ دراسته و أعلن اسلامه قبل حتى اكتمال الدراسة؛ قاموا بقتله خشيةً أن يغدر بهم و كل الغدر يجري في دمائهم هُم، كان شقيقه مُربيه الوحيد و أقرب شخص له، حينها كان في الحادية عشر من عمره و شقيقه في الخامسة و العشرون، لا يعرفان حتى من هو والدهما، أما سبب كرهه لأمريكا؛ أنها قامت بتسليم شقيقه لإسرائيل كخراف الأضحية لقتله، و تردد قُصي الكبير حول اخبار ” منة” بالأمر، أن هذا الشخص الذي يقصده ” قُصي “، هو العاصفة الهوجاء القادمة لإزالة البشرية بالنووي، يقرف و يشعر بالاشمئزاز من العرب بالأخص، و يرى أنهم قومٌ حثالة و على العالم التخلص منهم فورًا، بمعنى أدق.. هو يريد تكوين عالم من جديد يكون هو الملك و الامبراطور عليهم، يكنُّون له الولاء و الطاعة في كل شيء، بعد تركه للمسيحية وهو في الخامسة عشر من عمره، فكر في دخول الاسلام و لكنه تراجع في آخر لحظة و قرر عدم اتباع أي ديانة و هناك فرق بين الدين و الديانة، وهو أنكر وجود الاثنين، و في نفس الوقت يُحب الله.
إذًا هو لا ديني و يُحب الله ! ذاك الشخص ليس مجنونًا أو مضطرب نفسيًا، بل أن ذكائه الحاد و الفوق الطبيعي جعله يسأل أسئلة لذاته أكبر من حدود العقل البشري أودت به للهلاك؛ فأصبح يرى نفسه نستغفر الله أعظم من الأنبياء، و أنه أحق بأن يكون نبي و رسول الله على الأرض.
إذا كنا نرى قُصي جاحد و متكبر سابقًا، فالحق و الحق أقول أن قُصي أفضل من ذلك الشخص بكثير، على الأقل ابننا يذنب و يتوب، أما ذاك.. يقول عن نفسه أنه مجرَّد من الخطأ و الخطيئة، جنون العظمة الذي كان يخاف منه قُصي، ذلك الشخص يرتديه بالكامل.
إذا علمت “منة ” بالطبع سترفض تحالف قُصي معه؛ لأنها تعلم أن لا أحدا يسلم من يده، يقتل بدمٍ بارد و لا يأبه لقريب أو غريب، لدغته و القبر.
رمشت ” منة” بأهدابها دلالة على تزييف النوم، لقد استمعت تلك اللئيمة لحديثه بالكامل، أحست أنه يخبئ عنها أمرًا ما حينما نهض و ولى لها ظهره، فتصنعت النوم بمهارة لتكتشف كذبته بعد أن يتأكد من نومها العميق و يترك الغرفة و يخرج، لكنه ظل جالسًا و أبدى بما يدور في رأسه لها دون انتباهٍ مِنهُ.
ظل شاردًا في ذلك الشخص الذي استطاع في سنواتٍ قليلة تكوين إمبراطورية هائلة قوية من اللذين ينكرون وجود الأنبياء و الرسل، حتى النصارى لم يسلموا من شرِّه.. إبليس نفسه بريء منه رغم فخره به.
أراد قُصي استغلال نفوذه و قوته و كرهه لأمريكا للقضاء عليها قبل أن تقضي هي عليه، فوجد أن التحالف معه في تلك الظروف سيكون في صالحه، رغم أنه قلق من أن يغدر به، و هذا هو سبب اخفاء الحقيقة عن منة.
مسح على شعره بتعبٍ من كثرة التفكير و نظر بجانبه لتلك التي تتصنع النوم بمهارة، ثُم طبع قُبلة عميقة على ندبتها و قال بهمسٍ:
” سامحيني، بحبك ”
و خرج من الغرفة قاصدًا المرحاض للوضوء، ثُم صلى ركعتين لله بنية أن يحفظه من غدر ذاك الشخص، و توفيقه في نجاح مخططه و بقية اختراعه.
أما “منة ” فتحت عيناها و همست لنفسها بخوفٍ:
” يا ترى مخبي عني إيه يا قُصي، يارب خير ”
في اليوم الثاني و قبل الحدث الجلل بيوم..
تواجد ” قُصي ” في الوكالة لاستكمال اختراعه، و لكن تلك المرة بدا تشتيته واضحًا لمن يدقق النظر فيه.
تساءل أحد العلماء ممن تستحوذ عليهم السلطات الامريكية.. بنبرة خبيثة:
” دكتور قُصي، هل حقًا لا تعلم شيئًا عن تفكيك عناصر الاختراع ؟! ”
تأفف قُصي باستياءٍ و قال:
” قلت لك مرارًا أنني لم أفعل شيئًا إضافي في العناصر، و لم أضع أي عنصر إضافي.. التجربة تم تطبيقها في المختبر أمام أعينكم، أم أنك كُنت في حالة خمول دكتور مايكل ؟! ”
قال جملته الأخيرة بنظرة ساخرة، ثُم تركه و اتجه لمكان آخر يتابع عمله، أما العالِم مايكل تبادل النظرات مع رئيس المختبر العلمي بشكٍ، ليردف الأخير:
” لا أثق به ”
” و أنا أيضًا، نظرات عينيه توحي بشرٍ قادم لنا ”
” علينا التهيؤ إذًا ”
قالها بنظرة ذات مغزى يقصد من خلالها، أنهم عليهم ايقاف استكمال الاختراع و القضاء على قُصي، أو تخييره بين نفسه و زوجته أو تصحيح مسار الاختراع، أما أن يفعلوا ما يريدون أو يقتلون زوجته أمام عينيه، ثُم يتخلصون منه.
قبل انقضاء اليوم، استطاع قُصي أن يختلي بالبروفيسور وليام كيرلس ليعرض عليه اختراع جديد، و أثناء حديثه معه، تصنَّع أنه شعر بالدوار المفاجئ، فسكب كوب القهوة الذي كان بيده على بالطو البروفيسور، مما انزعج الأخير و هتف:
” ماذا دهاك يا رجل ؟! ”
و عندما وجد قُصي يترنح بتعبٍ، أسنده في تساؤل:
” هل أنت بخير ؟ بماذا تشعر ؟ ”
” نعم نعم أنا بخير، شعرت فقط بدوار مفاجئ”
ثُم هتف بدهشة مزيفة من فعلته:
” لقد سكبت القهوة على البالطو خاصتك ! أنا أنا أعتذر، لم أشعر بنفسي و الكوب ينزلق من يدي، أنا حقًا أعتذر بروفيسور.. انزعه و سأحضر لك آخر بنفسي حالًا ”
رد هو بلا مبالاة:
” لا تهتم، لا عليك.. سأذهب لتبديله ”
” على جثتي ده يحصل.. قصدي، أنا من سيحضره لك، هيا أعطني إياه ”
نزعه ويليام بعدم اكتراث و نسي أن المفاتيح و بعض متعلقاته الشخصية يضعها بجيب البالطو لاستعمالها الكثير بدلا من وضعها بجيب بنطاله، فأخذه قُصي سريعًا و توارى عن عينيه، ثُم قام بتبديل المفاتيح بأخرى لها نفس الشكل مزيفة، و أحضر له بالطو آخر قائلا بابتسامة واسعة:
” أعتذر مرة أخرى بروفيسور ”
” لا عليك، يبدو أنك لم تنم جيدًا، أنصحك بأخذ قسط وفير من النوم ”
” مبقسطش النوم والله، باخده كاش ”
” ماذا تقول ؟ ”
” معك حق بروفيسور، أنا بالفعل لم أنم جيدًا ”
أومأ له مبتسمًا ببرود، ثُم تركه و ذهب، بينما قُصي اتجه لعاِلم مصري آخر يعمل بالوكالة منذ سنوات و يكبره بعشرين عامًا، و لكنه على علم بأمر اغتيال امريكا للعلماء العرب؛ لذلك لم يضع نفسه موضع شك و أظهر إخلاصًا في عمله لهم؛ خوفًا على نفسه و أسرته من غدرهم.
حدثه قُصي في لؤمٍ:
” دكتور حسام، كنت عاوز حضرتك في خدمة ”
” خير يا قُصي ؟ ”
” كل خير إن شاء الله، أنا عارف إن حضرتك و البروفيسور ويليام صحاب من زمان، هو اداني المفاتيح و قالي على ملفات أنسخها من اللاب على شريحة، بس أنا مش عارف أنهي لاب، أكيد غرفة الاجتماعات مليانة، و بما إن حضرتك عضو أساسي في الاجتماعات اللي بتتم بين السلطات الامريكية و بين علماء ناسا، فأكيد عارف هو يقصد أنهي لاب ”
رمقه للحظات باستغراب، فعادةً ويليام لا يدع أي شخص يدخل للغرفة حتى لو يثق به ثقة عمياء، و قُصي ما زال جديدًا معهم، و أيضًا يعلم دكتور حسام أن معظم العلماء من بينهم ويليام، يعتقدون أن قُصي وراء ما حدث على غلاف فلسطين؛ لذا تساءل العالِم بشكٍ:
” مقولتليش أنهي ملفات بالضبط ؟! ”
حافظ قُصي على هدوئه و ثباته و أجاب:
” تخص بحث كل عالم موجود في الوكالة ”
اتسعت عينيّ العالِم بصدمة و هتف:
” ازاي ! ويليام مطلبهاش قبل كده، و أصلًا لو طلبها مش هيطلبها منك أنت يا دكتور ! أصلك عارف كويس هما بيقولوا عنك إيه هنا، أنت بقى مشكوك في أمرك، متزعلش مني يعني، و يليام مش بيثق فيك أصلًا ”
تأمله قُصي بجمودٍ و ببسمة خافتة تجلت على محياه، ليقرر اخباره بالحقيقة واضعًا في عين الاعتبار أنه لن يشي به، لأنه أيضًا يود من قلبه التخلص منهم ووقف اغتيالات العلماء، فقال بنظرة ثاقبة:
” أنا آه أمريكي بس الأصل مصري و العصب بيمتد للأب.. أنا أبويا صعيدي مصري يعني دمه حامي، و أنا ورثت منه طبع الصعايدة.. التار مبيتهزرش فيه، و العرب ليهم تار عند الامريكان و الصهاينة.. المصريين في ضهر بعض في الغربة يا دكتور، و اعتبرنا في غربة، فايدي في ايدك كده نجيب أجلهم، قولت إيه ؟! ”
توتر العالِم للحظات و أخذ يتلفت و ينظر حوله هنا و هناك بخوف بعد تصريحات قُصي الجريئة، فتلك هي أول مرة يعلن فيه عالِم الحرب على أمريكا، و ليس أي عالِم، بل شخص يحمل نفس جنسيتهم و تضع أمريكا بذاتها حصانتها عليه.
رد في همسٍ خائف:
” أنت بتقول إيه ! أنت واعي لكلامك يا قُصي ؟ ”
” أنا في قمة وعيي يا دكتور حسام، أنا كل اللي محتاجه منك، تأمن ليا المكان لحد ما انسخ المستندات الخاصة بقائمة اغتيالات العالم و التخطيط لاغتيالهم بطرق مختلفة، و سيب الباقي عليا، مش عاوز من حضرتك غير كده بس.. ها !
هتساعدني ؟!.. تذكر أنك بتساعد الجيل اللي جاي و بتاخد حق كل العلماء اللي دمهم راح هدر ”
أحسن العالِم في تلك الدقائق المعدودة، أنه بالفعل يريد تأمين حياة العلماء العرب من مكر الموساد الاسرائيلي، فتساءل بعد تفكير:
” إيه اللي في دماغك ؟! ”
” اللي في دماغي خليه في دماغي، أنا بس مش طالب من حضرتك غير تأمن لي الطريق لغرفة الاجتماعات و توريني اللاب الخاص بالمستندات ”
أومأ بموافقة، و أردف وهو يتجه معه للغرفة:
” بس حط في دماغك إنك ممكن متسلمش منهم و اللي بتعمله يفشل ”
رد قُصي بلا مبالاةٍ:
” على الله يا دكتور، و أنا مش خايف منهم ”
و قبل الدخول للغرفة توقف ليقول:
” أمنلي كاميرات المراقبة ”
” هعطل السيستم على ما تخلص بس انجز على السريع ”
” تمام “.. قالها بعدما أشار له العالِم نحو جهاز اللاب توب المطلوب، و دلف قُصي بحذرٍ ليتصفح اللاب بعد أخذ الرقم السري الخاص به من الدكتور حسام، ليصدق حدسه و يرى نفسه ضمن قائمة الاغتيالات !
ضحك ساخرًا وهو ينقل الأدلة التي سيرسلها للمخابرات المصرية على الشريحة:
” يا ولاد البيتش ! ربنا يحرقوا، ده بابا كان عنده حق بقى ! أنا آسف يا ميجو والله، و راسك أبوسها إن شاء الله لما أرجع مصر، ده لو رجعت يعني ”
قام بنقل جميع الأدلة و المستندات، ثُم خرج بحذرٍ و وضع المفاتيح في جيب الدكتور قائلًا:
” شكرًا يا دكتور، ياريت ترجع المفاتيح للبروفيسور ويليام قبل ما ياخد باله ”
” متقلقش أنا هعرف أتصرف، المهم أنت خلي بالك على نفسك و ربنا يوفقك في اللي هتعمله رغم إني مش عارف هو إيه بالضبط ”
” كل خير يا دكتور متخافش، المعاملة هتبقى بالمثل.. مش هما مقضينها اغتيالات و بلطجة و محدش قادر عليهم ! أنا بقى هجيب لهم أسوأ ما أنجبت البشرية، هجيب لهم اللي بيرعبهم، و كل قرد يلزم شجرته بقى ”
عقد الدكتور حاجبه بعدم فهمٍ و تساءل:
” ده مين ده ! قصدك مين ؟! ”
” قريب أوي هتعرف إن شاء الله ”
قالها باسمًا بأملٍ كبير، ثم تركه و غادر.
اليوم الثالث و قبل إرسال الرسائل للرجال بساعات..
اكتشفت منة مخططه عبر مكالمة الهاتف التي أجراها مع ذلك الشخص، فقد أحضر رقمه من متصفح جوجل، ذاك المجهول لا ينفك يدعي النبوة و ينشر صوره في كل مكان مع أرقام هاتفه، يجد في ذلك متعة رهيبة يقضي بها وقت فراغه، لا أحد يعلم هل هو حقًا يقصد إثارة الجدل، أما أنه بالفعل يدعي النبوة !، و لكن من جهة أخرى يحارب إسرائيل و كل من والاهم..
أمره محير ذاك الرجل، لا تدري هل هو معنا أم معهم ؟!
صاحت منة بانفعالٍ وهي تدفعه في صدره من شدة غضبها:
” إيه اللي بتعمله ده يا قُصي ! أنت ازاي تفكر تستنجد بواحد زي ده ! ازاي ! ده مختل.. ممكن يقتلك، ممكن إيه ده أكيد هيقتلك لو هوبت بس من مملكته ! مش عشان رد عليك و قالك إنه في انتظارك يبقى تأمن ليه ! قُصي ده عدو للإسلام و أنت مسلم، و ده معروف عنه المذابح اللي بيعملها للمسلمين، ولو واحد بس وقع تحت ايده سواء مسلم أو مسيحي أو حتى يهودي و معترفش بيه إنه نبي؛ بيقتله بدم بارد، ده معندوش قلب.. ازاي عاوز تروح له برجلك، فهمني ازاي ؟! ”
أخذ يهدئها بمحاولة احتضانها، فابتعدت عنه وهي تستكمل نوبة غضبها:
” ده عامل مملكة تخطت المافيا.. جرا لعقلك إيه عاوزه أعرف ! ازاي رايح تستنجد بواحد و عايزه يحمي العلماء المسلمين وهو مش معترف بالاسلام أصلًا ! ده معاه نووي لو حد فكر بس يعترض طريقه؛ ها ينسف بيه العالم و مش فارق معاه نفسه المهم إنه يفضل مسيطر ويموت وهو مسيطر، و أنت بمنتهى قلة العقل رايح تقوله محتاجك تساعدني ؟! أنت عاوز تجلطني يا قُصي ! عاوز تشلني يعني ولا إيه ؟! ”
شدها نحوه و احتضنها رغمًا عنه، ليقول بهدوءٍ:
” اهدي، أنتِ حامل.. وضعك اتغير، العصبية ها تتعبك و تعبك هيأثر عليا و ها يخليني مش عارف أفكر كويس، اهدي عشان خاطري.. استهدي بالله، أنا عاوزك قوية.. أنا بستقوى بيكِ يا رحمة، و اطمني أنا راسمها صح و اللي عاوزه هيحصل بإذن الله ”
لم تستطع الصمود و بكت بين ذراعيه في همسٍ بتساؤل مُحيِّر:
” إيه اللي خلاك تعمل كده بس ؟ أنت كنت هتبعت الشريحة للمخابرات، إيه اللي حصل ؟ ليه رجعت في كلامك ؟! ”
” عشان دول مش هينفع معاهم غير واحد *، مش هينفع معاهم غير البلطجة و لوي الدراع، و ده الضرب القاضية اللي هيجيبهم تحت رجليه، الناس كلها بتخاف من مكره وشره بس أنا الوحيد اللي شايف فيه حتة كويسة، هو مش هيفضل كده دايمًا، هيجيله يوم و يفوق و يرجع عن اللي في دماغه ”
رفعت وجهها تقول بدموعٍ:
” اللي زي ده يا قُصي مش بيفوق، اللي زي ده لازم يتقتل، و محدش هيقدر عليه غير ربنا، بالله عليك عشان خاطر رحمتك اللي بتحبها بلاش تروحله، عشان خاطري بلاش أنا قلبي مش مطمن ”
” أنتِ بتتعاملي بالعاطفة و أنا بتعامل بالعقل، مقدر خوفك عليا بس سيبيني أتعامل بمعرفتي ”
ابتعدت عنه وهي تقول بغضبٍ منه:
” لو حصلك حاجة، تأكد إني مش هسامحك يا قُصي، عشان أنت اللي اخترت تبعد عني ”
قبل أن تذهب من أمامه، جذبها من ذراعها برفقٍ و جلس ليجلسها بجانبه مُردفًا بأسى:
” هو كان صاحبي.. إحنا عارفين بعض كويس و أنا الوحيد اللي أقدر اتعامل معاه، كان بيعتبرني أخوه، بس المسافات بعدتنا عن بعض وهو الشيطان ضحك عليه و خده لطريق آخره هلاك أنا عارف، ربنا يهديه و يرده إليه ”
كادت أن تلطم على وجهها وهي تهتف بعصبية:
” أنت هتجنني ! الكلام ده و أنتم عيال صغيرين بتلعبوا في الشارع مع بعض، مش عشان قعدتوا كام سنة صحاب لما كنتم عايشين في ألمانيا يبقى هتقدر تسيطر عليه ! ده مبقاش صاحبك اللي كان بيلعب معاك و أنت صغير يا قُصي، ده واحد الشيطان راكبه أو هو اللي راكب الشيطان، مينفعش تثق فيه بعد ما بقى بالشخصية القذرة دي، لو روحت له يبقى بتحكم على نفسك بالموت ”
كانا بالفعل صديقين في الطفولة، و كان ذاك المجهول لايقل ذكاءً عن قُصي، و لكن ذكائه هذا أصبح نقمة عليه لعدم استخدامه بالطريقة الصحيحة، لقد كون مملكة تضاهي المافيا السوداء بأفعالها، حتى أن المافيا لا تُقَدِّر بشيء أمام مملكته، في تلك المملكة يتم ممارسة كل الأعمال المنافية للطبيعة الانسانية، سفك الدماء هو شعارهم الحي هناك، القتال الدائم أمر اعتيادي عندهم.. يُحب ما يفعله و يفعل ما يُحب، لا يخلو يومه من تلويث يديه بالدماء، أي دماءٍ كانت.. هل هي عائدة لانسان أو حيوان أو طير لا يهم، عدا دماء حيوان الذئب، فهو يقدس الذئاب للغاية و يرى أنها رمز للقوة و للسيطرة على العالم.
و لم ينشئ تلك الامبراطورية وحده، بالطبع شخص في الثامنة و العشرون من عمره لن يستطيع إنشاء مملكة بهذا الحجم وحده !، لقد ورثها عن والدته.. والدته التي لا زالت تديرها معه للآن.
شدد قُصي من ضمها له ليعزز عندها حاسة الأمان، و قال بثقة بدت مزيفة:
” قولتلك اطمني و متخافيش.. أنا مش بستنجد بيه، مش على آخر الزمن هستنجد بواحد بينكر الاسلام ! أنا هعقد معاه صفقة رابحة، بس كل اللي بطلبه منك تسمعي كلامي و متقلقنيش عليكِ لحد إما أخلص الحوار ده على خير إن شاء الله ”
بعد جدال دام لدقائق لم تجد مفر من الاستسلام له، فقالت وهي تبكي:
” عايزني أعمل إيه يعني يا قُصي ؟ ”
أخذها من يدها دون إجابة، و نزل بها لحجرة سفلية أسفل المنزل مجهزة من كل شيء، و قبل أن يفتح بابها.. التفت لها و هتف:
” متخافيش، دي اوضه سرية عملتها مخصوص لظروف طارئة زي دي ”
” عملتها امتى ؟! ”
تساءلت بعدم استيعاب، فأجاب وهو يفتحها:
” خليت المصممين يعملوها و إحنا لسه في مصر، كنت بتابع كل حاجة من هنا، ده مش بيت اشتريته زي ما قولتلك، ده مبني بطريقة تخص دماغي أنا، و محبتش أقولك عشان عارفك هتسألي كتير و القلق هيسيطر عليكِ.. المهم، ها تفضلي في الاوضه دي لحد ما أرجعلك، أنا جهزتها لك من كل حاجة و فيه فتحة تهوية عشان الاكسجين لو قل، و هتلاقي الشبكة شغالة في التليفون عادي.. أنتِ هتبقي في أمان هنا عشان لو البيت متراقب، أما أنا هطلع من ممر سري في البيت عشان برضو لو كانوا بيراقبوا تحركاتي، و اعتبريني في مشوار خفيف و جاي و متخافيش من أي حاجة، حتى و أنا بعيد عنك أنا جنبك.. الساعة اللي عملتها لك تشهد بكده ”
أعطت له الأمان التام قبل أن تقدم على فعلتها، فرسمت ابتسامة مصطنعة لتقول:
” مش هبطل أدعي لك ”
اقترب منها و احتضنها بعمقٍ كأنه العناق الأخير، ثم ابتعد قليلا فوجدها تذرف الدموع حرها، مما أدمعت عيناه هو الآخر، و أخذ يمسح دموعها وهو يقول:
” اطمني، هرجع لك سليم بإذن الله.. مش عاوزك تخافي من أي حاجة، أنا بطمنك أهو.. الليلة هتخلص على خير و ارجع للقمر بتاعي تاني ”
” اوعدني ”
” إن شاء الله ”
لثم جبينها برِقِّةٍ، و أردف:
” بحبك يا أغلى من حياتي ”
ثم ابتعد عنها و قرر المغادرة، و قبل أن يخرج من الغرفة، أوقفه صوتها.. تقول بجدية:
” قُصي ”
” نعم ؟ ”
” هاتلي جاتوه بالشوكولاتة و أنت جاي ”
تسمر مكانه لثوانٍ يحاول استيعاب ما قالته، فتساءل ضاحكًا:
” بتتكلمي بجد ؟! ”
أومأت بصدق:
” والله نفسي فيه، و هاتلي كمان حضن ”
ضحك بخفة وهو يعود لها و يحتضنها قائلًا:
” حاضر، هروح أجيب لك و اجي ”
” لأ لما ترجع عشان ناكله سوا ”
قالتها وهي تضم نفسها إليه أكثر، و تابعت:
” و هات اتنين كيلو بصل كيلو أبيض و كيلو أحمر، و كيلو طماطم ”
” هو أنا رايح سوق العبور ! ده أنا رايح لواحد القتل بيجري في دمه، و إيه كيلو أبيض و كيلو أحمر ده ! أنتِ هتنزلي البصل يلعب ماتش كرة ! مش معقول تكون دي هرمونات حمل، ده خلل هرموني ! ”
نظرت له ببراءة وهي تجذبه بتوعد من قميصه:
” بتقول حاجة يا حبيبي ؟! ”
” بقول بحبك ”
” عارفة، هات حضن كمان ”
هتف ضاحكًا بقلة حيلة:
” ده دكتور أحمد خالد توفيق كان عنده حق لما قال في سلسلة ما وراء الطبيعة، إن للنساء قدرة غير عادية علي العثور على الرومانسية في مواقف لا تعني للرجال سوى مصيبة ”
أردفت مؤكدة على قوله وهي تغوص بنظراتها في ملامحه:
” شفايفك الجوز شيفاهم زي اللوز ”
” ده الرجال من غزة والنساء من الزهرة فعلًا ! ”
رد بها ضاحكًا على قدرتها في صنع المرح في موقفٍ مثل هذا، و لكنها تفعل ذلك للتخفيف عليهما، هي حبيبته يعرفها أكثر من نفسها.
ودعها للمرة الأخيرة، و تركها ثم غادر لمصيره المنتظر.
.. أما في بلد آخر حيث يسكن اللاعب المشهور
« سيف الاسلام»، لقد غادر منزل العائلة منذ يومين، و ها هو في حمام السباحة الخاص بالفيلا، يسبح بمشاركة ابنته فيروزه التي وضعها في عوامة السباحة الدائرية الجميلة و التي امتلأت بالرسوم الكرتونية، و ظل يلعب معها في جو من المرح تحت أصوات الضحك الصادرة منها، فشدها نحوه و قبَّل خدها قائلًا بنبرة مداعبة لها:
” يا عيون بابا، اعملي زي بابا يلا ”
أخذ يجدف بيديه في الماء كأنه يعلمها السباحة، وهي تفعل مثله و تضحك بكثرة على حركات والدها المضحكة لها، ثم هتفت بصوتها الذي يجعلك تود ابتلاعها من جمال ضحكاتها السكرية:
” بابا يوني تمان.. يوني ايعب في ميه ”
داعب سيف وجنتيها ضاحكًا:
” و روني كمان هتلعب معانا في الميه.. نادي عليها يلا ”
صاحت فيروزه وهي تضرب الماء بيديها الصغيرتين:
” يوني ايعب في ميه مع بابا و يوزا.. ماما ديب عصيل و دات ”
أقبلت روان عليهما بابتسامة حنونة تحمل بيديها صينية عصير، ثم وضعتها و نظرت لابنتها بخوفٍ عليها، و نظرت لسيف بعتابٍ قائلة:
” في حد ينزل الميه في السقعة دي يا سيف ! روزا هتاخد برد.. حرام عليك ”
” هي فين السقعة دي يا حبيبتي، الجو شمس النهاردة خالص و الميه دافية على فكرة.. تجربي؟ ”
رمى بسؤاله في حركة وقحة لا تليق إلا به، و أردف وهو يقترب من سور الحمام ليستند عليه و يرفع شعره المبتل:
” خدي بالك، مفيش في الفيلا غيرنا إحنا التلاتة.. أنا مشيت كل الموظفين، بس سيبت عمي حامد”
” و اشمعنا بقى سيبت عمي حامد ؟! ”
” عشان تاخدي الإذن منه تهزيلي جامد ”
هتف بها ضاحكًا بصخب، مما ظلت ابنته تضحك معه ولا تدري المسكينة عَلَامَ تضحك !، أما روان ضربته على كتفه بلُطف هاتفة بتوبيخ له:
” يا قليل الأدب ”
تراجع و لا زال يضحك:
” بهزر أكيد يعني، مشيتهم كلهم والله، عشان يبقى اليوم بتاعنا يا جميل، و تهزيلي من غير ما تاخدي الإذن من حد ”
” اتغيرت أنت أوي يا سيف بعد الجواز.. لأ اتغيرت إيه ! أنا من يوم ما عرفتك و أنت قليل الأدب أصلًا، بس زادت اكتر بعد كتب الكتاب ”
صمتت تتذكر موقف ما بعد كتب كتابهما، فقالت ضاحكة:
” لأ هو يوم كتب الكتاب قلة الأدب كانت واضحة زي الشمس، فاكر أول اما شوفتني و فضلت متنح قدام بابا ؟ ”
اقترب منها يحيط خصرها بعدما جلست على سور الحمام، و قال يؤكد على كلامها:
” العسل النحل نازل نازل على تحت ”
زادت ضحكاتها هاتفة:
” يومها بابا فكرك شارب حاجة و كان هيرجع في كلامه ”
” يرجع في كلامه ! بالله كنت خطفتك و روحنا ضربنا ورقتين عرفي ”
” ينهارك أبيض يا سيف ! أنت إيه اللي بتقوله ده قدام البنت ! الحاجات دي مفيهاش هزار يا سيف ”
” يعني هي عارفة حاجة، دي هبلة زي أمها.. مفكرة حمام السباحة فرع من فروع نهر النيل ”
تساءلت روان في دهشة و كادت أن تصدق تخاريفه:
” وهي فيروزه يعني تعرف نهر النيل ؟! و إيه العبط اللي أنت بتقوله ده ؟! ”
رد هو يحاول إقناعها:
” كانت مفكرة حمام السباحة زي فرع رشيد و دمياط، فرع رشيد و فرع دمياط و فرع حمام السباحة بتاع أبوها سيف.. اللي هو أنا ”
هتف بها سريعًا و ابتعد ضاحكًا قبل أن تسدد له لكمة في وجهه، بينما هي قالت بنفاذ صبر:
” والله لولا إنك جوزي و عارفاك كويس لكنت فكرت إنك بتتعاطى حاجة فعلًا ”
عاود السباحة ليقترب منها غامزًا:
” أنا مش محتاج اتعاطى و أنتِ شفايفك لوحدهم حتة بمتين ”
صرخت في وجهه وهي تقلب كفيها:
” ياربي عليا ياني، مصمم يطلع البت قليلة الأدب، يا سيف قولت مليون مرة بلاش تتكلم كده قدام فيروزه.. الله ! ”
نظر خلسة لابنته، فوجدها شاردة في اللعب بلعبة البطة الصغيرة في الماء، مما شجعه ذلك على الاقتراب من روان ثانيةً، و بنبرته المداعبة التي تتنوع ما بين الوقاحة و المزاح قال:
” طلعي البت من دماغك عشان إحنا أصلًا مش في دماغها، و ركزي مع أبو البت شوية ”
” الله يسامحك خلتني أقول كلام ميصحش و اتعصب قدامها ”
” والله البنت مش معانا أصلًا، بطلي بقى حججك الفارغة دي، و قومي ورينا رقصة الأدغال ”
رمقته بنفاذ صبر و كادت أن تصيح بعصبية ثانيةً، و لكن لحقت نفسها احترامًا لوجود ابنتها، و ردت بهمسٍ:
” إيه رقصة الأدغال دي ! أنت متجوز قرد ؟! ”
” مهو بصراحة يا روان أنتِ بعد كورس الرقص اللي روحتي خدتيه ده، معرفتيش برضو تعمليها صح ”
” هي إيه دي ؟! ”
” الرعشة ”
” بقولك إيه.. أنا زهقت اتجوز عليا ”
قالتها بغضبٍ و حزنٍ حقيقي منه، لقد تعلمت الرقص من أجله و في النهاية يكون هذا رأيه فيها ! أنها ترقص مثل القرود ! لا تحزني يا روان، حتى القرود ترقص أفضل منكِ، قلبي معك يا سيف.
تركته و اتجهت لداخل الفيلا، فخرج من حمام السباحة و أسرع في خطواته خلفها، ثُم جذبها من يدها بلُطفٍ بعد أن لحق بها، ليقول باستعطاف:
” آسف والله، بهزر معاكِ.. ده أنا ميملاش عيني غيرك يا بت، و بعدين ده أنا سيفو قليل الأدب حبيبك، هتزعلي من واحد قليل الأدب زيي برضو ! ده أنتِ حفظاني اكتر من نفسي حتى ”
دفعته في صدره لتبتعد عنه هاتفة:
” هزارك بايخ و تقيل ”
” خلاص أنا آسف.. وبعدين إحنا كلها كام يوم و مسافرين تاني، و أنتِ عارفة إني هنطحن تدريبات و ماتشات هناك و مش هيبقى فيه وقت حتى نقضيه مع بعض زي دلوقت، أنا ما صدقت الاجازة دي تيجي و أنتِ طول الوقت يا مشغولة بفيروزه يا بصاحبتك يا بأهلك و الوقت اللي بتقضيه معايا قليل يا روان.. أنا فين من كل ده ! ”
قال كلامه بحزن تجلى في عينيه، فأحست بأنها أهدرت حقه عليها، و اقتربت منه بنظرة تأسُّفٍ قائلة:
” خلاص متزعلش.. إيه اللي يرضيك و أنا اعمله؟ ”
” مبعرفش أزعل منك، بس الوسادة الخالية تعبت مني يا غالية ”
ضحكت رغمًا عنها لنظرات عينيه قليلة الحياء التي لن يستطيع الخلاص منها حتى وهو في موقفٍ مؤثر، و أردفت من بين ضحكاتها:
” طب اعلمك الأدب ازاي ! ”
” أدب إيه اللي عايزاني اتعلمه ؟ هو أنا قاعد في الجامع ! ده بيتي و أنتِ مراتي و إحنا أصلًا عيلة محترمة مع الناس و مع مراتتنا آخر معلوماتنا عن الأدب.. إنه فرع من فروع اللغة العربية بيا بيا بيا”
” أنت كمان هتقلد روزا ! ”
” هي اللي بتقلدني ”
هتف بها بضحكته الرجولية الصاخبة وهو ينحني ليحملها متوجهًا بها نحو حمام السباحة، ثُم ألقاها فيه، أما هي تمسكت بالسلم المعدني في الحمام سريعًا و هتفت في خوف:
” الحقني بعوامة بسرعة.. مبعرفش أعوم ”
بينما هو تجاهل استغاثتها و قفز خلفها ليجعلها تتمسك به بدلًا من السلم، و أخذ يصيح في اطمئنان منه، أنها تتمسك به و لن تستطيع ردعه طالما تستند عليه الآن:
” اسمعي كلامى أنا مش مسئول يا اقتل فيها يا أنا مقتول.. أصلي يا أصلي يا أصلي ارقص و رقصني ”
صاحت تندب حظها بتعابير مضحكة:
” ضاعت أخلاقنا، حتى الأخلاق مبقاش عندها أخلاق ”
” بقى عندها أم علاء.. سيبك أنتِ، المهم طابخة لنا إيه النهاردة ؟ ”
رد بها في محاولة منه لتشتيت انتباهها لفعل فعلته، و باءت بالفشل بسبب اقتراب عوامة فيروزه منهما و الصغيرة تضحك ببراءة بداخلها و تقول:
” يوزا اشيب عصيل ماما ”
” من عينيا يا قلب ماما، أحلى عصير لأحلى فيروزه ”
قالتها روان وهي تحاول التمسك بالسلم المعدني للخروج من الحمام، فساعدها سيف و رفعها على السور لتحضر العصير و يعطيه هو لابنته، ليقول لها بغيظٍ يصحبه اللطف في النظرات:
” وربنا ما هحل أمك النهاردة و وريني هتعملي إيه يا بنت اللذين أنتِ ”
ضحكت فيروزه على طريقة والدها الهزلية دون فهم لكلامه، و قالت وهي تمد له بكوب العصير الصغير:
” بابا اشيب عصيل ”
” لا يا قلب أبوكِ، بالهنا و الشفا يا حبيبتي.. اشربي اشربي.. اشربي يا قادرة يا بنت القادرة ”
هتف بها سيف و التفت لروان التي جلست تشرب كوبها و تتابعهما بنظرات ضاحكة، ليقول وهو يخرج و يجلس بجانبها:
” أنتِ حرة، الشرع حلل أربعة ”
نظرت روان له نظرة جعلته يتراجع سريعًا:
” و أنتِ بالأربعة والله ”
.. أما في شقة ” بدر “.
أوقفت عائشة ابنها سُليمان على الفراش أمامها، لتغير له ملابسه و عندما ظهرت منطقة عورته.. قالت له بنبرة تحذير يشوبها اللطف:
” ليمو حبيب ماما، شاور لي كده على السُرَّة ”
أشار لها على سُرَّته مبتسمًا ببراءة، فقالت:
” شطور، فين بقى من سُرَّتك لركبتك ؟ ”
أشار سُليمان من السُرَّة للركبة هاتفًا:
” هنا و هنا يا ماما ”
أثنت عليه بابتسامة لطيفة، و لكنها لا زالت محافظة على نظرة التحذير:
” من هنا لهنا اسمها منطقة العورة..المنطقة دي يا ليمو مش بنكشفها قدام حد خالص حتى ماما أو بابا، بس ممكن لو بعيد الشر عليك يا روحي تعبان الدكتور يشوفها، لكن حد تاني لأ يا ليمو.. عشان عيب نوريها لأي حد تاني، لو عملت كده يا روح ماما هتبقى مش مؤدب و ماما و بابا يزعلوا منك ”
أومأ بطاعة لوالدته و ابتسامته الجميلة لا تفارق وجهه البشوش، فتابعت عائشة بعد أن ألبسته البنطال دون النظر لعورته قاصدة من ذلك تنبيهه أنها مع الوقت لن تقوم بتغيير ملابسه وهو من سيفعل ذلك تلقاء نفسه في غرفة منغلقة:
” دي منطقة بتاعتك أنت يا ليمو، خاصة بيك و لازم يا حبيبي تحافظ عليها محدش يشوفها، و اوعى تخلع بنطلونك قدام حد، عشان حبيب ماما مؤدب و عارف إن ده عيب و غلط و مش هيعمل كده.. صح يا روحي ؟ ”
” صح يا ماما ”
قالها و عانقها برقة منه، فوضعت قُبلة على خده و مسدت على شعره الطويل قائلة:
” ماما مبسوطة منك أوي يا ليمو عشان بتسمع الكلام ”
رد وهو يرفع اصبع السبابة و يشير به يمينًا و يسارًا في حركة النفي:
” سُليمان شطور و مش يعمل عيب خالص خالص”
” عشان سليمان مؤدب و بيسمع الكلام ”
أرادت عائشة زرع الحياء في ابنها منذ الصغر ليعرف أين تنتهي حدوده في كشف منطقة العورة، و يدرك أنها منطقة خاصة به لا يجب عليه اظهارها أمام أحد، و تظل تعيد و تملي عليه أن تلك المنطقة خاصة به فقط ولا يجب التعري و تغيير ملابسه أمام أي شخص حتى لو كانا والديه.
فمن أجل بدء ترسيخ التربية الجنسية الصادقة، يجب تعليم الأطفال عن مناطقهم الخاصة، إذا كان الطفل في سن المدرسة يتجول عاريًا في المنزل، فلا يمكن تعليمه ما هو خاص.. فمنذ سن مبكرة، يجب الانتباه إلى الملابس التي يرتديها الطفل، ويجب غرس الشعور بالخصوصية وتعليم الحدود.
تبدأ التربية الجنسية من أول يوم وليس عندما يصل الطفل إلى سن البلوغ، فعندما يبدأ الأهل بتعليم الطفل حول أعضاء جسده يبدأون بتسمية أعضائه الجنسية بأسمائها، في عمر التسعة أشهر أو السنة عندما يبدأون بتعليم الطفل حول مكان أعضائه يجب تسمية أعضائه الجنسية بالاسماء الجنسية الخاصة بها، ويمكن أن يبدأوا في سن السنة والنصف أو السنتين.
دلف بدر عليهما بعد أن طرق الباب لتعليم ابنه آداب الاستئذان، لقد عاد باكرًا من عمله لينتظر أخو زوجته ” زين ” الذي دعاه بدر هو وزوجته لتناول الغداء معهم.. قال باسمًا قبل أن تسمح عائشة له بالدخول:
” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. ممكن أدخل؟ ”
ردت عائشة تشهق بابتسامة مرحة عندما وقعت عينيها عليه:
” أبتاه جه يا ليمو، و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. اتفضل يا حبيبي ”
اتجه بدر نحوها و ضمها إليه بحنانٍ، ثُم حمل ابنه ليُقبِّله الذي أخذ يهتف:
” أبتاه جه.. جبت فريوزه معاك ؟ ”
رد بدر ضاحكًا وهو يضمه له:
” فيروزه خلاص روحت مع عمو سيف، مش أنت لعبت معاها كتير امبارح ؟ ”
أدمعت عينيّ سليمان سريعًا و مطّ شفتيه الصغيرتين ليقول:
” عاوز فريوزه.. تِنان.. تِنان يا أبتاه خد فريوزه تلعب معاه و ليمو لأ ”
هتفت عائشة بتأثر لحركة ابنها وهي تأخذه من والده و تضمه لها:
” يا روحي أنا على البوز الجميل ده.. كنان أخوك و بيحبك و بيهزر معاك، هو بس كان عاوز فيروزه تشوف القطر بتاعه.. ”
” أنا كمان عندي قطر دميل ”
” و أنت القطر بتاعك جميل خالص مالص.. عارف مين هيجي يلعب معاك بيه ؟ ”
هتف سليمان بمرحٍ مفاجئ:
” بودي ”
” صح.. عبيدة ابن خالو زين زمانه جاي إن شاء الله.. يلا روح جهز الألعاب بتاعتك ”
أنزلته عائشة، فاستدار لها و قال باسمًا:
” بودي.. بودي ياكل معايا مم ؟ ”
” بودي و خالو زين و طنط شهد و تيته فوفه كلهم هياكلوا معانا مم.. بس الرجالة لوحدهم و الستات لوحدهم ”
” بودي ياكل فين ؟ ”
تساءل بعفوية، فردت عائشة بعفوية مماثلة:
” بودي هياكل مع مامته ”
” بودي ست ؟ ”
ولى بدر ظهره له و كتم ضحكته بصعوبة، بينما عائشة لم تستطع، و ردت ضاحكة بخفة:
” لا يا روحي، هو لسه بيبي صغير و مامته بتساعده ياكل ”
رد بلُطفٍ منه:
” زي ماما بتساعد ليمو ؟ ”
ربتت على شعره و أردفت:
” أيوه يا حبيبي، و لما تكبر إن شاء الله زي كنان هتاكل لوحدك و أنا أقولك شطور يا ليمـو ”
ألقى لوالدته قُبلة في الهواء و بادلته القُبلة بمرح، ثُم التفتت لوالده و ألقى له قُبلة و كذلك بادله بدر، ليتركهما خارجًا من الغرفة قائلًا:
” أنا ماشي بقى.. سلام عليتم بقى ”
” وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته يا روح ماما بقى ”
قالتها عائشة وهي تضحك عليه، بينما بدر انتهز فرصة تواجدهما وحدهما، و جلس ليجذبها من يدها برفقٍ يُجلسها على فخذيه كعادته، قائلًا:
” وحشتي أبو سليمان أوي ”
وضعت قدم فوق الأخرى، و لفت ذراعها حول رقبته، لتقول بطريقتها الفكاهية:
” أنا أصلًا بوحشك على طول، شيء طبيعي يعني”
” يا واثق أنتَ ”
رمقته باستنكارٍ و بحاجب مرفوع قالت:
” و واثقة مليون في الميه كمان، إيه.. مش بوحشك طول الوقت فعلًا و لا أنا بقول أي كلام لسمح الله ؟! ”
تنهّد بنظراتٍ حالمة و أنامله تتسلل لتعبث في شعرها الغجري:
” أنتِ تقولي اللي أنتِ عايزاه و تثقي و أنتِ مطمنة ”
وضعت يدها على بطنها و مالت برأسها على كتفه هامسة:
” نفسك في ولد ولا بنت إن شاء الله ؟ ”
” كل اللي يجيبه ربنا حلو، بس بصراحة أنا نفسي في بنوتة لسُليمان، هيبقى حنين عليها أوي.. حتى لو جه ولد هيبقى حنين عليه برضو، سليمان مليان حنية ربنا يحفظه و يباركلنا فيه يارب ”
” يارب و يباركلي فيك يا أبيه.. قصدي يا بدري”
همست بها في مزحٍ، فأبعد وجهها عن كتفه و داعب وجنتيها بابتسامة عاشقة وهو يتأملها للحظاتٍ تبعها بقوله:
” أقنع عيالي ازاي إنك بنتي قبلهم ! ”
ضحكت برِقَّةٍ و عادت لتريح رأسها على كتفه منطقة الأمان الخاصة بها، ثُم تنهدت بارتياحٍ و وضعت يدها على قلبه قائلة:
” سلامًا على قلبك يا من منحت لقلبي السلام ”
هتف وهو يرمقها بعدم تصديق:
” اشجيني يا عائش.. قولي كمان ”
” الملوخية ! ”
صاحت بها كأنها تناست أمرها على النار، و قفزت من على فخذيه، فصاح بخوفٍ عليها:
” على مهلك يا حبيبتي، مش مشكلة هي.. أنتِ حامل ! ”
” مش عارفة والله ساعات بنسى إني حامل ”
تزامن قولها مع مجيء أخيها و زوجته على الباب بعد رن زين للجرس، فتح له بدر يستقبله بابتسامة صافية، فجاء سُليمان في تلك اللحظة و مر من جانب والده ليسحب عبيدة معه للداخل قائلًا له بسعادة:
” بودي نورت بيت.. ”
أخذ يحتضنه و يُقبِّله من خده مُتابعًا:
” أنا عندي قطر تبيــر.. يلا نلعب بيه ”
” و أنا.. أنا عندي تيايه اعمل ڤوو ”
قالها عبيدة في حماسٍ وهو يقلد الطائرة، مما تحمس سليمان هو الآخر وأخذ يقلده، فتوقف عبيدة فجأةً و هتف:
” أوبيدة سسه مان ”
لم يفهمه سُليمان و مع ذلك رد عليه:
” ماما اعمل مم مخوليه ”
ضحك خاله زين و انحنى ليحمله و يُقبِّله هاتفًا:
” العيال شوهوا اللغة خالص ”
جاءت عائشة لترحب بأخيها، فضمها إليه ليتساءل بحنان:
” عاملة إيه يا حبيبة أخوكِ ؟ ”
” الحمدلله يا حبيبي في فضل و نعمة الحمدلله ”
ثم التفتت لشهد لتقابلها هي بابتسامة مُرحبة:
” عاملة إيه يا شوشو، مبارك على البيبي ربنا يتمم حملك على خير يارب.. حظك بقى إني لسه في الكلية، لو كنت متخرجة كنت أنا اللي هولدك بإذن الله ”
ردت عائشة ضاحكة:
” الله يبارك فيكِ يا شهد، عقبالك يارب ”
هتفت باعتراضٍ و هي تحمل سليمان و تعانقه:
” لا إن شاء الله مش دلوقت.. أنتِ و نورا و هاجر ما شاء الله حوامل، كفاية على العيلة كده لحد ما العيال تكبر و نبقى نفكر تاني إن شاء الله ”
تدخل زين يرمقها باستياءٍ مضحك:
” أنا مالي و مال شلة الحوامل دول ! أنا عاوز عيل كمان مليش دعوة، عاوزين نخاوي الواد ”
بادلته النظرات بتحذيرٍ تقول:
” في البيت نبقى نتكلم في الموضوع ده ”
” لا في البيت مش هنتكلم هـ..
” زيــن ! ”
قاطعه بدر يستدعيه قبل قول كلمة غير لائقة أمام الأطفال، فقد تركهم بدر و دلف لغرفته يبدل ملابسه، و عندما أتاه صوت جدال زين مع زوجته، همس لنفسه ضاحكًا بقلة حيلة:
” هلاقيها منك ولا من سيف !.. الله يهديكم ”
” أيوه يا بدر ! ”
رد بها زين، فتابع بدر استدعائه:
” اسبقني على أوضة الضيوف ”
قبل أن يتجه زين لغرفة الضيوف، التفت لشهد و غمز لها في الخفاء دون ملاحظة أحد لهما:
” الواد لازم نخاويه و هنخاويه ”
” و بعدين بقى ! ”
تدخلت عائشة وهي تشير لأخيها بالدخول للغرفة:
” اتكل على الله أنت بقى يا زين دلوقت ”
بينما عبيدة و سُليمان ظلا يلعبان بمرحٍ و سعادة طفولية منهما، و أثناء اللعب قال سُليمان له:
” أنا بصلي أكبر مع أبتاه.. أنت صلي أكبر مع خالو زين ؟ ”
رمقه عبيدة للحظات بعدم فهم وهو يبتسم ببراءة، سُليمان صفق بيديه هاتفًا:
” أوبيدة سسه مان.. أوبيدة بيطمان ”
سكت سُليمان لثوانٍ و رد بعفوية:
” ماما عائش عندها بيطمان فيه.. فيه زتون تبيـر”
ضحك عبيدة و تجاهله ليكمل اللعب، أما سليمان نهض ليستعرض صلاته بالحركات التي يعرفها من والديه، فنهض عبيدة ليفعل مثله و عند جلسة التشهد، رفع سليمان اصبعه الصغير ففعل مثله عبيدة، ثم التفت له سُليمان و قال:
” قول يارب ماما تجيب لسُليمان فريوزه العب معاها ”
أبرز عبيدة أسنانه الأمامية الصغيرة ضاحكًا:
” تيايه ڤوو ”
نهض سُليمان ليقفز بصياحٍ مرح:
” أبتاه جيب لسُليمان تيايه ڤوو ”
ثم أخذا الاثنان يقلدان الطائرة، حتى دخلت مفيدة عليهما و قالت:
” ما تبطلوا صداع بقى صدعتونا.. يا تلعبوني معاكم ”
ركض سليمان عليها يجذبها من يدها هاتفًا:
” تيتا فوفه العب مع سُليمان و بودي ”
.. في حينٍ آخر، و بعدما خرج قُصي للواجهة المقصودة، أخرجت منة هاتفها سريعًا و أرسلت الرسائل الثلاثة للواء و كريم و إبراهيم، و كانت محتواها..
« أمريكا حطت قُصي في قايمة الاغتيالات، و قُصي راح يقابل القيصر عشان يتحالف معاه ضدهم، قُصي مش قد القيصر.. بالله عليكم اتصرفوا بسرعة».
و قامت بإرسالها في مجموعة تخصهم منذ آخر مهمة لهم معًا، مما وصلت الرسالة لرحيم و شمس هما الآخران، و أحدثت تلك الرسالة ضجة كبيرة، فقد تحرك اللواء عزمي لعقد اجتماع فوري مع الرئيس و جهاز المخابرات بعد مكالمة بينه و بين كريم يخبره فيها؛ أن يلحقه لمكان الاجتماع، لقد أرسلت لهم منة أيضًا نسخة من الأدلة التي قام قُصي بتحميلها على الشريحة، و استطاعت نسخها خلسة من وراءه، تلك الشريحة و ما بداخلها هي التي جعلت المخابرات تعقد اجتماعًا فوريًا مع الرئيس و الوزراء المعنيين بالأمر، فهذا يعني أنهم كانوا ينتظرون الحصول على دليل واحد كافي لإدانة أمريكا و الموساد الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، هذا الأمر يعني فضحهم أمام أعين العالم أجمع.
تحرك إبراهيم مع قوة من الرجال المسلحون الذين يعملون لدى والده، في طائرة خاصة استطاعوا بها عبور الحدود الجوية بين الدول موضحين أنهم في رحلة خاصة، فقد تظاهروا بذلك بمنتهى الاحترافية، بينما قُصي توجه لمقر و إمبراطورية « القيصر» كما يسميها هو.. مملكته الخاصة، رغم أنه ألماني الأصل لكنه اختار بإرادته تكوين جيشه على أرض أمريكا كنوع من أنواع الكيد لهم، و بمساعدة بعض الخائنين للبلاد أيضًا، و بما أن معظم ولايات أمريكا تشع بالإجرام و الفساد، فكان ذلك مساعدة جبارة من الأمريكان بدون وعيهم له في فرض سيطرته على مثيري الشغب منهم و ضمهم لجيشه.
وصل قُصي بعد ساعات في طائرة خاصة أرسلها القيصر لإحضاره في أمان، و عندما وصل أمام الأرض التابعة له و هبط من الطائرة.. ظل لدقائق طويلة ينظر بفم فارغ من الصدمة لهذا الجمع الهائل من الأسلحة الحديثة و الصواريخ التي يستعرضها على أرضه، لم يخطر على بال قُصي أن صديق طفولته سيفعل كل ذلك فقط لاشباع رغبة الذات و جنون العظمة المسيطر عليه !
أسطول هائل ممتد على مرمى البصر من السيارات السوداء المصفحة و الصواريخ الضخمة و الدبابات.. إلخ جيش بمعنى الكلمة، لم يستوعب أنه فعل كل ذلك وهو لم يتعدى سن الثلاثون بعد.!
أقسم في نفسه أنه من المؤكد أن يكون هناك شخص أكثر دهاء و سيطرة و أكبر سنًا من القيصر وراء كل ذلك.
همس قُصي بدهشة شديدة و عينيه تكاد تخرج من مكانهما:
” يا ابن البيتش يا قيصر ! ”
« قَيْصَر »، شاب في أواخر العشرينات، كان رفيق طفولة قُصي عندما مكث مع أسرته لسنوات قليلة في ألمانيا قبل انتقاله لتركيا، لا يقل ذكاء عن قُصي، و لكن الفرق بينهما أن الأخير اختار آخرته و قيصر فضل الدنيا.. قُصي انتصر على غروره و قيصر ازداد غروره حتى وصل لما هو عليه.
وقيصر ليس من الأسماء المرغوبة في الإسلام لأنه رمز لملوك النصارى المعروفين بعداوتهم للمسلمين منذ القِدم، و ليس كل النصارى.
قيصر قدوته في الحياة هو « هتلر» في الحقيقة هو من نسل هتلر، نسبه يمتد لقياصرة ألمانيا و كذلك حقيقته.
جسده مماثل لجسد قُصي، و لكن هو أطول بقليل، و له شعر ثلجي طويل قليلًا يتميز بخصلات فضية، ليس من المهق و لكن صبغة الميلانين قليلة جدًا في شعره و هذا أمر لا دخل للانسان فيه، فجعلت شعره أشبه بملكة الثلج فروزن، و إذا رأيته كما أراه أنا أمامي الآن؛ لظننت أنه هارب من رسومات الأنمي..
دائمًا يرتدي قلادة محفور عليها وسم الذئب، كما يرتدي ذئبه نفس قلادته، هذا الشاب جعل أقرب الأصدقاء إليه هو ذئب.. وجده وليدًا و أخذه ليرعاه، و ظل معه منذ سنوات يرافقه أينما ذهب، و الحق.. الذئب رغم أنه كائن عدواني و غير أليف بالمرة، لكنه لم يفكر بإيذاء قيصر ولا مرة.
اسمته والدته قيصر؛ لأنها وجدت فيه الحاكم و السلطان للعالم بأكمله، و تسعى بقوة نفوذها أن تجعل جميع الدول خاضعة لسيطرة ابنها المختل.
تقدم قُصي يمشي برفقة رجال يحملون أسلحة للمقر التابع للقيصر، فأخذوه في سيارة نظرًا لبعد المسافة، فتلك الأراضي التابعة له مساحتها كبيرة جدًا.. وصل أخيرًا لمقره، و هبط قُصي يتفحص بعينيه الزرقاء و بدهشة و استيعاب بطيء لما يفعله القيصر.
الأخير يقف في حلبة مصارعة كبيرة، و بداخله إمرأة تم تقييدها في خشبة عريضة تستقبل السكاكين الحادة التي يصوبها هو بمرحٍ عليها و كأنها مثل الحمام أمامه لا يأبه و إن أصابها نصل سكينه !
ظل يلقي بسكينة تليها الأخرى وهو يضحك و يهتف بسخرية لاذعة:
” اثنان و ثلاثون.. ثلاثة و ثلاثون..
ثم توقف عندما انتبه لوجود قُصي أخيرًا، و ألقى بالسكين من يده في اهمالٍ و رفع يديه كأنه يود استقبال قُصي بالعناق، ليقول كلمته الشهيرة عند رؤية ما يدهشه:
” أوه هُوو ! أهلًا بصديق الطفولة البائسة ”
ابتسم قُصي بسخرية من حالته التي لم تعجبه بتاتًا، و وضع يده على صدره قائلًا:
” متوضي ”
” ماذا ؟ ”
” أنا على وضوء أيها النذل ”
ضحك قيصر بصخبٍ، و اقترب منه رغمًا عنه يربت على كتفي قُصي العريضين هاتفًا بنظرة أربكت قُصي للحظات:
” أنت هنا في إمبراطورية القيصر، لا أحد يقول لي لا.. ”
ثم اقترب من أذنه بنبرة أخافته أكثر، و لأول مرة يشعر قصي بالخوف من شخص:
” أنا الآمر و الناهي، و أنت هنا تنفذ فقط ”
برم قُصي شفتيه بضيق منه و من معاملته التي حذرته زوجته منها، و قال بشجاعة مزيفة:
” لم آتِ لنيل رضاك أيها الأبلة، جئت لعقد صفقة تمثل لك أهمية كبيرة ”
” رغم كرهي الشديد للمسلمين، و لكنك تعجبني.. أنا أقدس الذكاء و أنت شخص ذكي و شجاع، و لكني أشم رائحة الخوف تملأ جسدك، و كذلك ذئبي يشمها، أخبرني ما سر رائحة الجُبن تلك التي تفوح منك أيها العالِم الجليل ”
تحدث بسخرية معها، فظل قُصي محافظًا على هدوئه حتى لا يخسر نفسه في تلك الأراضي المخيفة، و يترك منة تتعايش مع الأيام بدونه..
جلس على المقعد بجانبه و أردف بهدوءٍ:
” أعرف الأشخاص اللذين تورطوا في قتل شقيقك، أعرفهم جيدًا بالاسم و الشكل، و يمكنني أن أدلك عليهم لأخذ حق أخيك، و أيضًا يمكنني اطلاعك على كل ما يحدث داخل وكالة ناسا في غرفة الاجتماعات.. كل ذلك موجود على تلك الشريحة ”
قال الجملة الأخيرة، وهو يخرج له الشريحة، فكاد أن يرد عليه تزامن مع قول المرأة على الخشبة التي قاطعت حديثه:
” اتركني أذهب أرجوك سيدي ”
في ثوانٍ تحولت ملامحه للغضب و البرود مما قال قُصي لنفسه:
” الله يحرقك، ده أنت غلبتني في كل حاجة ! الحمدلله إني اتغلبت على نفسي.. الحمدلله بجد”
أما هو أشار بعينيه لرجل من رجاله:
” أقتل تلك الساقطة ”
قتلها الرجل في لمح البصر، فهتف قُصي بصدمة يوبخه:
” أنت اتجننت ياض أنت ! ”
” لا تتحدث بلغتك الحقيرة، لا أفهمها ”
ضرب كفًا بكف و أردف يستحقره بنظراته:
” أنت ترتكب خطأ كبير قيصر، ستندم فيما بعد أشد الندم، وقتها سيكون فات الأوان.. ارجع عما أنت فيه ”
” أنا في كامل سعادتي هكذا، تلك الساقطة قاطعتني و أنا أتحدث، و مين يتجرأ و يفعل ذلك، يلقي حتفه في الحال ”
لم يتمالك قُصي أعصابه و صاح بغضبٍ:
” أنت لم تكن بهذا الشر ! مالذي دهاك ؟! ماذا تفعل بحق نفسك ؟! هل جننت قيصر ؟! ”
سكت القيصر يتأمل قُصي في برودٍ و جمودٍ شديد دون أن يرتد طرفه، و مال للأمام قليلًا ليقول بنبرة أشبه بالهمس و التحذير:
” لديك أنف صغير قُصي، من الأفضل لك أن تبقيه ضمن مساحة وجهك الجغرافية و لا تتدخل فيما لا يعنيك، و إلا طال أنفك مثل بينوكيو و اضطررت لقطعه لك بنفسي ”
تجاهله قُصي و تابع بعد أن سمع أصوات استغاثة وصرخات بالداخل:
” ما مصدر تلك الأصوات ؟! هل تقوم بتعذيب الناس بالداخل ؟ أنا أعرف أنك لا تحب معاشرة النساء ولا تميل للسادية، ما مصدر تلك الأصوات إذًا ؟ أنت أيضًا لا تميل للشذوذ.. أخبرني ماذا تفعل بهم ؟! ”
رد القيصر بلا مبالاةٍ:
” هؤلاء عصوا أمري ولم يستيقظوا باكرًا كما أخبرتهم.. أنا في أرضي أضع قوانين و من يخرج عنها يتم تعذيبه حتى الموت ”
” متى ستتوب من كل هذا القرف قيصر ؟! ”
” التوبة لمن يذنبون، أما أنا فلا ”
قالها بنظرة تعالٍ و غرورٍ، ثم أضاف بجدية:
” لا تجعلني أغضب عليك صديقي، قلت لك لا تتدخل فيما لا يعنيك ”
زفر قُصي بضيقٍ و تمتم بخفوتٍ:
” يحرق أبو اللي جابو أبو أمك يا شيخ.. ربنا يهديك أو يهدك ملكش حل تالت ”
ثم تعالى صوته وهو يكمل حديثه عن الشريحة و ما تحتويه من كنز بالنسبة للقيصر، فهو ظل سنوات بعد مقتل شقيقه يبحث عن فاعلي الجريمة بأنفسهم للتخلص منهم على طريقته.. تساءل القيصر وعينيه متعلقة على الشريحة:
” و ما المقابل ؟ ”
قصّ عليه قُصي كل شيء، و قبل أن يرد القيصر بالموافقة.. قال:
” و لكن.. أنا لدي شرط للموافقة على تلك الصفقة القيمة ”
” انجز يا ابن البيتش خلصني.. ها أخبرني ما هو شرطك ؟
أشار بعينيه في حركة حماسية لحلبة المصارعة، ففهمه قُصي على الفور و أردف:
” قتال شوارع ؟ ”
أومأ القيصر وهو يرجع خصلات شعره الثلجية خلف أذنه، و يبتسم ابتسامة ماكرة:
” قتال شوارع ”
نهض بنشاطٍ لا يفارقه وهو ينزع ملابسه العلوية استعدادًا للقتال و ابراز مهاراته:
” و لكن هنا على أرضي الوضع مختلف، إذا أخرجتك خارج الحلبة سأكون أنا المنتصر و لن يتم عقد الصفقة، و إذا أخرجتني أنت؛ سأتكلف بحمايتك بنفسي ”
” الحامي ربنا، بس قشطة معنديش مشاكل.. أنا أصلًا بتاع مشاكل و شوارعي، أي نعم عالِم و مخترع عبقري، بس ده ميمنعش إني أصيع من اللي خلفوك يا فروزن هانم ”
قالها و نزع ملابسه هو الآخر، فهتف قيصر باستياءٍ منه:
” قلت لك لا تحدثني بلغتك الغبية هذه ! ”
” أنا لم أتحدث، أنا فقط كنت اشتم.. يا لك من أرعن سافل ”
ضحك قيصر ساخرًا ليقول وهو يتخذ وضعية الهجوم بحركاته الخفيفة على الحلبة:
” سنرى من منا السافل ”
القتال هنا ليس بالأسلحة النارية أو المبارزة بالسيوف !، القتال هنا يا صديقي قتالٌ بالجسد، نعم.. إذا كُنت ممن يجيدون الفنون القتالية، ربما.. ربما تنجو بجسدك من مخالبه و أنيابه التي لا تقل قوةً عن أنياب و مخالب ذئبه الأسود الشرس!
أما إذا كنت لا تفقه شيء في القتال بالجسد، فاتلو الفاتحة على روحك أو انطق الشهادتين قبل اللقاء به، هذا إن كان القدر ألقى بك في مرمى ساحته و بداخل مساحته.
القيصر، اسم يرادف القوة و فرض السيطرة، و هذا اللقب لم يكن مجرد لقب لُقِّبَ به لقدرته الهائلة على فرض الاستحواذ على كل ما ترمي إليه عينيه، بل هو اسمه الحقيقي..« القيصر» !
تفاجئ قُصي بهجوم القيصر عليه بحركة سريعة و بقفزة في الهواء لف على إثرها جسده لينزل بركلة قوية أصابت رأس قُصي، فجعلت شعره يتناثر على جبهته و اختل توازنه و كاد أن يسقط، لولا استناده على حبل الحلبة، ثم هبط القيصر مرتكزًا على جذعه بمهارة، و نهض ثانيةً ليتخذ وضعية الهجوم على قُصي، بينما الأخير استعاد نشاطه و قوته و تفادى ركلة أخرى من قيصر، ليتراجع الأخير للوراء بلكمة قوية من قصي و قبل أن يناوله لكمة أخرى، تحرر القيصر كالثعبان من الزاوية التي حاصره بها قُصي، و وجه لكمة لوجهه تليها ركلة جانبية، لكمة تليها ركلة.. لكمة تليها ركلة و أنهى الركلة بضم قدميه ثم دفع بهما تجاه صدر قُصي، فوقع الأخير بتعبٍ على الحلبة، و عندما حاول النهوض؛ هبط القيصر بكوعه في منتصف ظهر قُصي ضربة جعلته يئن و يصرخ من الألم، فأخذ من شدة الألم يضرب بقبضتيه الحلبة، و لم يدعه قيصر يأخذ أنفاسه، بل سحبه من شعره و أكمل الضرب في وجهه و أنحاء متفرقة من جسده وهو يصرخ بحماسٍ رهيب:
” أوه هُوو.. القيصر ينتصر ”
بدأ قُصي ينزف الدم من أنفه و جُرح حاجبه من كثرة الضرب فبدأ ينزف الدم من كل وجهه، و لم يقدر على الوقوف فسقط مُتألمًا على الأرض، حتى غرق الدم وجهه و تلاشت الرؤية أمامه.
في تلك اللحظة وصلا منة و إبراهيم لمقر القيصر، و معهما الرجال المسلحون، لم يعرف إبراهيم بأمر حمل منة، بينما هي جهزت سلاحها بالاضافة للمطواة الخاصة بها التي وضعتها في جيبها، و هجم الرجال على حراس بوابة الأراضي، و لكن لقوة و كثرة عدد رجال القيصر، تم القاء القبض على منة و إبراهيم و الرجال معهما.
لخفة جسد منة تحررت من يد الحارس و أخرج المطواة لتطعنه في بطنه، ثُم أخذتها لليمين و لليسار بالعرض حتى خرّ الرجل قتيلًا، و أشهر حارس آخر السلاح في وجه منة و قبل أن يضغط الزناد، جاءه الأمر من القيصر بعدم المساس بهم بأذى.
صاحت وهي تحاول الافلات منهم:
” وديتوا جوزي فين يا كفرة يا ولاد الـ *، ده أنا هخلصوا عليكوا واحد واحد.. و أنت شيل ايدك الـ* دي من عليا ياللي تتشل فيها.. ابعد عني يالاه ”
هتف إبراهيم بعد أن تحرر من الرجل و وضع السلاح في رأسه:
” اتركها و إلا فجرت رأسه ”
أتاهم الأمر في جهاز اللاسلكي بأن يتركوهم و يأتوا بهم للقيصر، فقد وصل إليه الأمر و علم بشأنهما من تحايل قُصي عليه بألا يؤذيهم..
ركبوا بالسيارة التابعة للأراضي، و بعدما وصلوا و ترجلت منة منها.. شهقت بهلعٍ واضعة يدها على فمها من هيئة قُصي المزرية، و ركضت نحوه تمسح الدماء عن وجهه قائلة ببكاء:
” عملوا لك إيه اللي ربنا ياخدهم دول.. قُصي رد عليا، رد عليا يا حبيبي ”
همس بتعبٍ شديد:
” إيه اللي جابك ؟ ”
” قلبي مكنش مطمن.. كنت حاسة إنه هيحصلك حاجة.. عملوا لك إيه ؟ ”
لم يستطع اكمال حديثه معها بسبب الألم الكبير الذي يشعر به ينتشر في جميع جوارحه، فتركته و اتجهت للقيصر تصرخ في وجهه:
” ماذا فعلت به لعنك الله ؟ أقسم بالله لن أتركك ”
قالتها و دخلت للحلبة ثُم أخرجت المطواة لتتابع بنظرة جهنمية:
” وريني يا دكر هتعمل إيه ”
لم يفمهما قيصر، و لكن اتضح من معالم وجهها أنها منزعجة للغاية مما حدث لقُصي، فصاح ضاحكًا:
” أوه هُوو.. شرسة ! ”
تدخل إبراهيم يهتف بغضبٍ هو الآخر:
” دعك منها، إذا كنت تود القتال.. أنا جاهز، فلنتقاتل ”
حينما تم تشتيت القيصر، تحامل قُصي على نفسه و استعاد قوته، ثُم قفز في الهواء في حركة دائرية لينزل بقدمه في منتصف صدر القيصر يخرجه خارج الحلبة، ليقع القيصر أرضًا وبعد دقيقة من استيعابه للخسارة، نهض وهو يصفق بلا مبالاةٍ:
” أحسنت قُصي.. أحسنت صديقي، تمت الصفقة ”
” سافل .. نذل ”
هتف بها قُصي وهو يعرج على قدمه و يصطحب منة معه قائلًا لها بصرامة:
” و أنتِ حسابك معايا لما نروح ”
ردت وهي تسنده و تبكي على هيئته:
” أنت تسكت خالص و مسمعش صوتك، شوف عملت في نفسك إيه ! ”
” المهم وصلت للي أنا عاوزه ”
و التفت لإبراهيم الذي كان يسنده من الجانب الآخر ليقول له:
” أنت إيه اللي جابك أنت كمان ! هي المشرحة ناقصة قُتلة ! ”
” و عايزني اسيبك ازاي في الظروف دي يعني ! أنت غلطان إنك اتصرفت من دماغي ”
” منا طول عمري بتصرف من دماغي.. إيه الجديد”
ردت منة وهي توكزه في كتفه متناسية ألمه:
” شوف حصلك إيه من العند بتاعك ”
” آه كتفي.. كتفي حرام عليك، أنا لسه واكل علقة موت مكلهاش حمار في مطلع، لأول مرة أنضرب في حياتي ”
ربتت على كتفه بأسف تقول بدموع ثانيةً:
” معلش والله أنا آسفة مخدتش بالي ”
صمتت لثانية و أضافت:
” بس أنا ضربتك قبل كده.. فاكر ولا نسيت ؟! ”
توقف ينظر لها بدهشة و أردف بنبرة ضاحكة لا تخلو من صوت أنينه من ألمه الشديد:
” أنتِ معايا ولا معاهم ؟! ”
” أنا مع الحق و الحق بيقول إن موضوع زي ده المفروض مكنتش تخبيه عليا، بس وربنا يا قُصي لو عملت حاجة من ورايا تاني، لهتشوف النجوم في عز الضهر.. أنت سامع ولا لأ ؟! ”
رد بطاعة:
” حاضر ”
ضحك إبراهيم بخفةً، فقد تحقق ما كان يظنه الجميع مستحيلا وهو أن ينصاع قُصي لأوامر أحد.
في اليوم الثاني، يذهب القيصر بأكثر من ثلاثين سيارة سوداء مصفحة بها رجال أقوياء أشداء، و بحوزتهم أحدث الأسلحة القوية و معظمهم قناصون ماهرون، و بأكثر من عشرون طائرة بها مسلحون أيضًا.. يحومون حول قصر البَنْتَاغُون، و هو مبنى وزارة دفاع الولايات المتحدة ويقع في مدينة أرلينغتون في ولاية فرجينيا، و جزء آخر انتقل لمقر وكالة ناسا على استعداد لاقتحامها.
المقصد من هذا العرض الضخم و المخيف من الرجال و الأسلحة و السيارات، و الطائرات المحملة بالقنابل؛ أن يقوموا بتسليم كل من كانت له يد في مقتل شقيقه، و اعلان وقف اغتيال العلماء أمام الكاميرات التي تنقل الحدث الجلل للعالم برمته.
و ظهر قُصي من خلف القيصر يبرز للكاميرات و الصحافة الجروح في وجهه، واضعًا أمريكا في موقف مخزي و مخجل بقوله أنهم حاولوا قتله و نجا بصعوبة منهم، و ادعى ذلك بالاتفاق مع القيصر لوضعهم في هذا المأزق، و قد تمت الصفقة و العملية بنجاح و عاد قُصي منتصرًا، ليتم فرض حصانة عليه تلك المرة بأنهم ملزمون أمام العالم، إذا حاول أحد قتله هو أو أي عالم آخر، و تم إبرام تلك المعاهدات و العقود مع تواصل المخابرات المصرية بالبنتاغون و البيت الأبيض، لتصبح قضية العالِم « قُصي الخياط» واحدة من أشهر القضايا المعاصرة في عام
« 2029 ».
عاد إبراهيم و لكن تلك المرة سافر لمقابلة عمه مجاهد للحديث معه حول زواجه من ملك واضعًا في عين الاعتبار أن والدها من الممكن أن يرفض بسبب حالتها.
في حين أن سيف لم يستطع لم شمل العائلة، بسبب انشغالهم بأمور كثيرة، فودعهم على أمل أن يلتقي بهم جميعًا في الاجازة القادمة، و عاود ادراجه لاستكمال المباريات.
يستعد سيف للعودة إلى أسبانيا للدخول في معسكر مغلق استعدادًا للمواجهة المرتقبة في قمة كلاسيكية بين برشلونة و ريال مدريد في مباراة السوبر الاسباني، حيث نعلم جميعًا بأن سيف يحمل القميص رقم سبعة في فريق برشلونة، و كان أول لاعب مصري ينتقل من الدوري المصري إلى الدوري الاسباني، و الجدير بالذكر أن سيف الآن قيمته التسويقية بلغت أربع و عشرون مليون يورو..
يبدأ الآن نزول الفريقين إلى أرضية الملعب حيث تقام المباراة في دولة الامارات على استاد
« هزاع بن زايد».
نزل الفريقين أرضية الملعب، و ها هو النشيد الوطني الاسباني يُعزف في أرضية الملعب، برشلونة بطل الدوري و ريال مدريد بطل الكأس، و سَيفُنا يلعب في وسط الميدان و طموح و أحلام محبي كتالونيا في سيف.
الحكم يعطي البدء بانطلاق المباراة.. برشلونة بزيِّه الرسمي و ريال مدريد أيضًا كذلك تحت قيادة تحكيمية ايطالية، و تبدأ المباراة و كما توقعنا فَسيف مراقب رقابة لاصقة من قبل لاعبي ريال مدريد حيث يعرفون قيمة سيف في أرضية الملعب، و في هجمة خطرة من الجهة اليسرى ينطلق
« لاميلاما» في كرة عنترية بمجهود شخصي يعطيها لسيف ليسجل هدفًا في أول لمسة في الدقيقة السابعة محرزًا هدفًا.. الهدف الأول لبرشلونة.. نستأنف مرة أخرى للقاء و ها هي الدقيقة الثالثة و الثلاثين، حيث ينطلق من وسط الميدان
« سيف» بمجهود فردي حيث يتلاعب بدفاع الملكي ليسجل هدفًا ثاني هدف مرضوني هدف استثنائي، هدف ينافس على جائزة بوشكاش لأفضل هدف في هذا العام، و ينتهي الشوط الأول بتقدم البارسا.
و بعد الاستراحة يأتِ الشوط الثاني و ليس هناك أي تعديل لا على الخطة ولا على التشكيل من جانب الفريقين.. نلعب في الدقيقة الستين من عمر المباراة، و ضربة جزاء لصالح الريال يسجلها
« كافمنجا» محرزا الهدف الأول للريال لتشتعل المباراة و لتشتعل القمة في الدقيقة الثمانين ليخرج
” سيف” في التبديل لاصطدامه مع مراقبه
« كازا ميرو» و يخرج سيف في تبديل اضطراري خوفًا عليه من أي اصابة و أي مضاعفات.
يخرج سيف من أرضية الملعب لينادي عليه جمهور البارسا في هتافٍ و تشجيعٍ له، مما اجبر سيف للذهاب إلى مدرجات الجماهير يبادلهم الدعم هاتفًا بالمصرية «سيف واحد بس و الباقي هُس هُس» مما صاحوا يقولون مثله في بعض التخبط للأحرف، ثم اتجه يجلس لمتابعة بقية المباراة إلى أن تُوِّج البارسا بالبطولة.
.. و الآن سنربط حزام الآمان جيدًا للقفزة الزمنية، و نقول بصوت عالٍ.. واحد.. اثنان.. ثلاثة هوبــا !
« نحن الآن في عام 2034 »
مرت سنوات تحمل الكثير من الأحداث منها الجيد و منها المُحزن جدًا.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)