روايات

رواية ومضة الفصل العشرون 20 بقلم ميرنا ناصر

رواية ومضة الفصل العشرون 20 بقلم ميرنا ناصر

رواية ومضة الجزء العشرون

رواية ومضة البارت العشرون

ومضة
ومضة

رواية ومضة الحلقة العشرون

قلبت الصفحة التالية بيدين ترتجفان، وأنا أقرأ كل كلمة كأنها تُفتح أمامي أبواب لماضٍ لم أعشَه ولكنني أشعر بصداه يعصف داخلي. استقرت عيناي على نص يملؤه الغموض والحقائق الصادمة، وكأنه يروي قصة كانت مدفونة في أعماق الزمان. خطَّ جدي كلماته بأسلوب مباشر، لكنه يحمل في طياته أوجاعًا وأسرارًا دفينة:
_”وعد، حياتكِ في كريستافيل ليست مجرد اختبار. هذه المملكة تحتاج إليكِ كما تحتاجين إليها. ذكرتُ لكِ ألا تثقي برائف، وسأقص عليكِ السبب…_
أنا وممتاز وصادق كنا أقرب ثلاثة أصدقاء لا يُفرقنا شيء. عشنا طفولتنا ومراهقتنا معًا، وقفنا جنبًا إلى جنب في مواجهة الاحتلال، ولم يكن في العالم ما يمكنه أن يهز صداقتنا. هذا كله رغم أن عائلتينا كان بينهما خلاف عميق يعود لعقود طويلة. لم أستمع يومًا لتحذيرات والدي، رحمه الله، الذي كان يقول لي دومًا: _”العرق يمد لسابع جد يا منتصر، وهذا العرق ليس صافيًا.”_
كان والدي دائم الشك فيهم، يتحدث عن أخلاقهم وظنون حول أفعالهم. قال لي يومًا كلامًا أثقل قلبي: إنهم كانوا جواسيس في زمن مضى، وإنهم باعوا ذممهم للاحتلال الإنجليزي، وساعدوهم في الوصول إلى مصر، مقابل المال والوعود الفارغة. لم أصدّق، ظننت أن والدي متحاملٌ عليهم بسبب عداء العائلتين، واعتبرت كل ذلك مجرد شائعات. لكن مع مرور الوقت، بدأت الحقائق تتكشف شيئًا فشيئًا.
في خضم الاحتلال، كنا نقاوم بكل ما أوتينا من قوة. اكتشف والدي أن بعض أفراد عائلتهم كان لهم يد في تسهيل دخول الإنجليز إلى مصر. كان ممتاز استثناءً، لم يكن كعائلته، بل وقف معنا في المقاومة وضحى مثلنا. لكن الأمور تغيرت تمامًا عندما وجدنا طريقنا إلى مملكة كريستافيل.
اكتشفنا سر هذه المملكة، تعمقنا في تفاصيلها، وبدأت تتفتح أمامنا بوابات من المعرفة والقوة. وفي تلك الفترة، التقينا بالساحر العظيم _ماراجواي_ . كان ساحرًا لا يشبه أي ساحر آخر، حكمته كانت مخيفة ومرعبة. أخبرنا بوجود شِفرة عظيمة، شِفرة من شأنها أن تمنحنا القدرة على التحكم في كل شيء؛ أن تُمكننا من تدمير كل ما يعوقنا والحصول على قوى خارقة. لكن الشِفرة كانت تحمل مسؤولية ونتائج قد تكون مدمرة.”
بدأت أنفاسي تتسارع وأنا أقرأ الكلمات، شعرت أن شيئًا كبيرًا على وشك الانكشاف.
_”ماراجواي حذرنا، قال لنا: الشِفرة لا تصلح إلا لمن يمتلك قلبًا نقيًا وإرادة لا تهتز. لكنها ستفتح لمن يسعى وراء القوة أيضًا. ممتاز، للأسف، لم يستمع للتحذير. رغب في القوة والذهب والسيطرة، ولم يرَ في الشِفرة سوى وسيلة لتحقيق أحلامه. حاول أن يسيطر على المملكة، أن يستخدم ما منحه إياه السحر ليصبح شيئًا أعظم، لكنه نسي أن لكل شيء ثمنًا.
الشفرة تقوم على تدمير كريستافيل وكل الممالك الأخرى وكل من عليها من البشر لتحويلهم إلى رماد، وهذا الرماد يتحول إلى ذهب صافي يُحول إلى سبائك بقدرة الشخص الذي يستخدم الشِفرة. كان ممتاز يطمح لهذا، لكنني منعته بكل قوتي. قبل موتي، كنت واثقًا كل الثقة أنه لم يمتلك أي شيء هو وحفيدته مريم التي أتى بها إلى هنا حتى تلعب على إيمانويل، لكنها لم تستطع استغلال مشاعره لأنها كانت إنسانة.
أصبحت مريم جزءًا من الخطة، لكنها لم تستطع الاستمرار في اللعبة. بعد فترة، تغير ممتاز وطلب مني السماح ووافق على زواج مريم، مدعيًا أنني كنت على حق، وأن البشر ليسوا لعبًا يمكننا إحراقها براحتنا. لكنني شعرت بعدم تصديقه تمامًا. لذا، زرعت في قلب كل واحد من المملكة صورتك واسمك، وأخبرتهم ببطولاتك وأنك ستتحررينهم وستحققين المستحيل من أجلهم. زرعت الأمل في كل قلب، وأمنت الوعد بأنكِ ستأتين.
كان هناك اتفاق بيني وبين صادق، وهو لم أُخبركِ بكل هذا، لكنني كنت واثقًا أنكِ إذا اكتشفتِ الأمر بنفسك، لن يمنعكِ أحد حتى صادق وستُكملين الطريق بشجاعة. قلبكِ مثل قلب جدكِ منتصر، مليء بالشجاعة والحكمة. الحمد لله، لم تكن لكِ صلة بصادق أو إنكِ تحملي طباع قلبه
الذي لم يُكمل معي الطريق منذ البداية…بسبب خوفه.
إذا وصلتِ واكتشفتِ الأمر بنفسك، ستُكملين الطريق. كنت واثقًا أنكِ ستصلين. وإذا حاول ممتاز إرسال رائف ليحقق ما لم يستطع تحقيقه بنفسه، فسيتأذى ولن يتمكن من القيام بدوره.
الحسنة الوحيدة التي قد يفعلها ممتاز هي نقل جثتي من كريستافيل إلى مصر. ولكن، مَن يعلم؟ هل سيفعل ذلك أم لا؟”
أغلقتُ المذكرة للحظة، بينما دموعي تسيل على وجنتيّ، وأشعر بثقل الخيانة يغمرني. كيف لم أرَ ذلك من قبل؟ كيف وثقت في رائف؟! أهو مثلهم جميعًا؟ هل هو جزء من خطط ممتاز؟ مهما كان السبب، لن أعود لأواجهه إلا وأنا على استعدادٍ لكسر كل خيانة وضعت في طريقي.
بصوت مملوء بالدموع والغضب، همست لنفسي: “إذا عدتُ إليك يا رائف، فليكن في علمك أنني سأكسر تلك الثقة الزائفة.”
قلبتُ الصفحة من جديد، وبدأت أقرأ كلام جدي بتمعن:
_”وعد، كل شيء مؤمن لك. حتى لو باعني إيمانويل، بمجرد فك الشفرة، لن يتمكن من فهم أي شيء من الموجود. لن يستطيع أي شخص أن يأخذ هذه المذكرة إلا إذا قام التمثال بعملية التطابق، مما يعني أن وعد وحدها هي التي يمكنها الوقوف أمامه. في آخر المذكرة، ستجدين خمس مفاتيح لخمس ممالك مختلفة عن كريستافيل.”_
نظرت إلى نهاية المذكرة، ووجدت أسماء الممالك الخمس مكتوبة بخط جدي:
1. مملكة نوريلانديا
2. مملكة أرويثا
3. مملكة فيلارين
4. مملكة كايولاند
5. مملكة زافاريان
وقفت بتردد، أحاول استيعاب ما يعنيه كل ذلك. هذه الممالك، ماذا تخبئ؟ وما هي الأسرار التي تنتظرني هناك؟ وما الذي سأواجهه؟ شعرت بقلبي يثقل بالإثارة والخوف في آنٍ واحد، بينما بدأت ألمس المفاتيح الخمسة.
كان أمامي الكثير لأفعله، والكثير لاكتشافه. نظرت حولي للمكتبة المليئة بالكتب والمخطوطات
ثم قلبتُ الصفحة أخرى وبدأت أقرأ من جديد بتمعن:
“وعد، أريدكِ أن تسمعي هذا جيدًا. الصندوق الخشبي الموجود في لوحة “ومضة” في المكتبة ليس مجرد قطعة أثرية. هذا الصندوق يحمل بداخله أسرارًا عظيمة لمملكتنا. داخله، ستجدين خمس كتب، كل كتاب محفور في صفحاته مكان خاص لمفتاح. هذه المفاتيح ليست عادية؛ كل واحد منها مرتبط بإحدى الممالك الخمس التي كنت أملكها يومًا ما، والتي تنتظر الآن من يُعيدها إلى مجدها.
تذكري أسماءها جيدًا:
1. مملكة نوريلانديا
2. مملكة أرويثا
3. مملكة فيلارين
4. مملكة كايولاند
5. مملكة زافاريان
عندما تضعين المفتاح المناسب في الكتاب الخاص به، سيحملك فورًا إلى المملكة التي اخترتيها. هذا ليس مجرد نقل جسدي، بل هو انتقال إلى عالم مليء بالتحديات والأسرار، ممالك تنتظر من يحمل شعلة الأمل والقوة لإعادتها للحياة. كنت أملكها يومًا، لكنها الآن ملككِ لو أردتِ ذلك. ولكن، أترك لكِ حرية الاختيار.
إذا شعرتِ بحب عميق تجاه كريستافيل، يمكنكِ أن تبقي هنا، تعيشي فيها وتجعليها موطنكِ. هذا الكنز الذي تركته بين يديكِ ليس لكِ فقط، بل لأحفادك من بعدك. علميهم الأمانة، الثقة، والقيم التي بنيتُ مملكتي عليها. حافظي على إرثنا، واجعليهم دائمًا يتذكرون وعد التي حملت المسؤولية بإخلاص.
لكنني أعلم أن الحياة مليئة بتقلبات، وربما تشعرين يومًا بثقل المسؤولية يطغى عليكِ. إذا اخترتِ العودة إلى مصر وترك كل هذا خلفكِ، أرشح لكِ إيمانويل ليكون ملك كريستافيل، ولكن بشرط واحد. إذا لم يخن ثقتي ولم يحاول فك الشفرة، فهذا يعني أنه جدير بالثقة. أما إذا فعل ذلك، فلا تسلميه زمام المملكة، فهو حينها لا يستحقها. لقد وضعت له اختبارًا؛ إذا ساعدكِ من بعيد كما أمرته، فثقي فيه، لأنه سيثبت بذلك أنه أهل لهذا الدور.
وها أنا أترك لكِ فك الشفرة. آخر صفحة في هذه المذكرة تحمل الدليل لفكها. بغض النظر عن مكانكِ، سواء كنتِ في كريستافيل أو في القاهرة، الشفرة ستفتح لك الجناح الذي انتِ فيه الآن… احتفظي به في مصر إذا اخترتِ ذلك، وضعي المفاتيح مع المذكرة في نفس الصندوق. ستجدين تحت كل مفتاح العلامة التي تحدد المملكة التي ينتمي إليها.
بعدما قرأت الصفحة التالية في المذكرة، شعرت بنوع من الطمأنينة حين أوضح لي جدي أن الحبوب التي تناولتها ليست خطيرة. كلمات جدي كانت تأتي وكأنها تضمّد جراح روحي:
_وعد، بالنسبة للحبوب التي أكلتيها، لا يوجد أي خطر منها عليك يا حبيبة جدك. الحبوب تمنحك القدرة على قراءة أي لغة موجودة هنا وفهم أي شيء في هذا المكان_
كانت هذه الكلمات بلسماً لقلبي، حيث شعرت بأنني أكثر استعدادًا لمواجهة ما ينتظرني.
أمسكت بالمذكرة بقوة، وقلبي ينبض بالإثارة والخوف في آنٍ واحد. كانت هناك أسرار كثيرة لا تزال تنتظر أن تُكشف، وخطوات كثيرة يجب أن أتخذها بحذر وثقة. أدركت أن هذه المذكرة لم تكن مجرد دليل، بل كانت مفتاحًا لبوابات مغلقة منذ زمن، تنتظر من يجرؤ على فتحها.
وعد، طريقكِ ليس سهلًا، لكنه طريقكِ وحدكِ. قد تجدين في هذه الممالك ما لم تتوقعيه، وستواجهين تحديات لم تخطري ببالكِ، ولكنني واثق أن قلبكِ يشبه قلبي يعرف الحق ولا يخاف المواجهة
. لديك الشجاعة، لديك القوة، ولديك الإيمان بأنكِ قادرة على صنع المستحيل.
احملي إرثنا يا حبيبة جدكِ، وأكملي المسيرة.
محبك دومًا،
جدكِ، منتصر الجزار.
بمجرد أن أنهيت قراءة المذكرة، شعرت بإعياء شديد يجتاح جسدي. وجهي بدأ يشحب، ولون جلدي تحول إلى الزرقة. لم أستطع التقاط أنفاسي، وأحسست بقلبي يقبض بشدة. تساءلت في رعب: _هل أموت الآن؟_
أمسكت بالخاتم، لكنه كان يبعد عني كأنه يهرب من يدي. حاولت بكل طاقتي الوصول إليه، لكن أين طاقتي؟ إنها تختفي، أشعر أنني أموت. طويت المذكرة بسرعة وأخفيتها داخل ملابسي، ثم بدأت أزحف ببطء نحو الخاتم. كانت كل حركة تشعرني وكأنني أتحرك في بحر من الرمال المتحركة، لكنني لم أستسلم.
وصلت إلى الخاتم، وبدأت أحاول مرارًا وتكرارًا لمسه، لكن يدي كانت ترتعش بشدة. أخيرًا، استجاب الخاتم، وشعرت بقوة غريبة تجذبني نحو الممر.
لحظة السحب كانت كأنني أُسحب عبر دوامة من الضوء والظلام. شعرت بأن الهواء يندفع حولي، وكأنني أتحرك بسرعة فائقة. كل شيء من حولي كان يختفي، وأصبحت محاطة بضوء ساطع. شعرت بأنني أُسحب بقوة نحو الممر.
وصلت إلى الممر بأقدام لا تكاد تحملني، أنفاسي متقطعة كأن الهواء قد تخلى عني. شعرت أن هذا هو الخط الفاصل بين الحياة والموت. حاولت أن أجري، أن أقطع هذا الممر الطويل الذي بدا وكأنه يمتد بلا نهاية. كان هدفي واضحًا، الوصول إلى إيمانويل، الوحيد الذي يمكنه إنقاذي الآن. لكن نفسي بدأ يخذلني، رئتاي تصرخان طلبًا للهواء، جسدي بأكمله ينهار رويدًا رويدًا، كل خطوة كانت تسحب مني جزءًا من روحي.
لم أستطع الاستمرار، ساقاي أصبحتا كالرصاص، ثقيلتان، عاجزتان. ومع ذلك كنت متمسكة بالحياة، أمسك بخيطها الرفيع بكل ما تبقى لي من طاقة. سقطت على الأرض، يدي تمتد للأمام كأنني أحاول أن أزحف ولو شبرًا. الألم كان يجتاحني من الداخل، قلبي ينبض بشدة ثم يتوقف وكأنه يختبرني، هل أستسلم أم أواصل؟
وبينما كنت على وشك الانهيار الكامل، رفعت عيني بصعوبة إلى أول الممر، ورأيته هناك. كانت الظلال تخفي تفاصيله، لكنني كنت أعرف أنه إيمانويل. تجمع ما تبقى في داخلي من قوة، وصرخت باسمه بكل ما أملك، صرخة تخللتها كل مشاعري، خوف، أمل، ورجاء: “إيـــــــــــماااااانويـــــــــــــــل!”
صوتي كان كأنه ارتداد حياة أخيرة، صرخة كسر فيها الصمت الثقيل الذي كان يخيم على المكان. رأسي سقط على الأرض بعدها، وعيني بدأت تضعف، الرؤية أصبحت ضبابية، والظلام بدأ يزحف إلي ببطء.
فتحت عيناي أخيرًا، شعور غريب يسيطر عليّ كأنني أعود من أعماق اللاوعي. وجدت نفسي مستلقية على سريري الملكي في جناحي الخاص، لكنني لم أدرِ كم من الوقت مضى أو كيف وصلت إلى هنا. كان كل شيء غامضًا بالنسبة لي، والذاكرة تبدو مثقلة بالغموض كأنها ترفض أن تكشف لي ما حدث.
قبل أن أستوعب ما حولي، انفتح الباب بهدوء، وظهر إيمانويل. وجهه كان يشع دفئًا وبهجة، كل تفصيلة فيه تحكي عن حياة تنبض بالحب والأمل. عيناه المليئتان بالعاطفة تبتسمان لي، وملامحه كلها ترسل شعورًا غامرًا بالطمأنينة. حتى ابتسامته التي ملأت الغرفة بدت وكأنها مرساة تعيدني إلى الواقع.
تقدم بخطوات واثقة وجلس بجانبي على حافة السرير، ينظر إليّ نظرة مليئة بالدفء والحنان، وقال بصوت يحمل نبرة محبة واضحة: “ملكتنا، ما هذا؟ أسبوع كامل لتفيقي؟ يبدو أنكِ أكثر رقّة مما توقعت.”
نظرت إليه بصدمة حقيقية لم أستطع إخفاءها، وسألت بصوت مخنوق لم أصدق ما أسمعه: “أسبوع؟ هل كنتُ مغيبة أسبوعًا كاملًا؟”
اكتفى إيمانويل بإيماءة صغيرة برأسه، لم ينطق بكلمة، لكن عينيه تحدثتا بما يكفي. كانت نظراته تحتضنني، تطمئنني بصمت وكأنها تقول: “كل شيء بخير الآن.” شعرت بتناقض غريب بين صدمتي مما فاتني ودفء اللحظة التي تحملني بعيدًا عن كل خوف.
نظرتُ إليه بعينين ذابلتين، وكأن كل أوقياتي تسربت بعيدًا، وقلت بصوت يحمل تعبًا لا يمكن إنكاره: “إيمانويل… ما الذي جلبني إلى هنا؟”
ابتسم، ابتسامة دافئة تخفي في عمقها قلقًا من نوع ما، وقال بصوت مليء بالحب: “لا يهم الآن… المهم أنكِ هنا، سليمة بيننا.”
لكنّ قلبي لم يهدأ، كان هناك شيء في نبرته، شيء مفقود في الكلمات. استجمعتُ ما بقي في جسدي من قوة وقلت بتوسل: “أرجوك جاوبني، إيمانويل، أريد أن أعرف الحقيقة.”
هنا، تغيرت ملامح وجهه. عيناه التي كانت مليئة بالأمل تحولت إلى حزن عميق، وانحنى قليلاً نحوي قائلاً: “وحدات الطاقة لديكِ انتهت يا مولاتي… ولكن… الحمد لله أنني تمكنت من إنقاذك.”
شعرت بدهشة وحيرة تسري في أوصالي، نظرت إليه مذهولة، ثم قلت بذهول: “وحدات طاقة؟ وكيف؟ هل لديك أنت القدرة على العودة من الموت أيضًا؟”
هز رأسه بسرعة، وقال بنبرة خفيفة محملة بالهدوء والطمأنينة: “لا… لا أمتلك تلك القدرة، يا مولاتي. أياً كان ما حدث، حدث وانتهى.” لكن عينيه كانت تخفيان شيئًا أكبر مما قاله بصوته.
لم أستطع الصمت أكثر، فكررت بنبرة أكثر حدة وأشد إصرارًا: “إيمانويل… ما الذي فعلته؟!”
أخفض نظره قليلاً، وكأنه يحمل سرًا ثقيلًا على كاهله، ثم قال بهدوء: “أعطيتكِ من وحداتي…”
تجمدت في مكاني، وكأن العالم توقف من حولي، عيناي اتسعتا بينما قلت بصوت مليء بالصدمة: “أيــــــه؟! هل أنت مجنون؟! كيف تفعل ذلك؟ أنا كان يمكنني العودة إلى مصر في أي وقت، لكنك… أنت، كيف يمكنك المخاطرة بحياتك؟!”
اقترب مني، عيناه مليئتان بالحب واليقين، وقال بصوت دافئ هز كياني: “سأذهب إلى أي مكان تكونين فيه. حياتي هنا، معكِ.”
لم أستطع أن أسيطر على حزني الذي بدأ يتسلل إلى صوتي، وقلت بنبرة مختنقة: “لماذا فعلت هذا؟ لماذا؟!”
ابتسم، ابتسامة تحمل في ثناياها مشاعر لا تُوصف، وقال بهدوء متردد لكنه صادق: “لأنني… لأنني أحبكِ.”
شعرت بقلبي وكأنه توقف للحظة، ثم عاد للنبض بطريقة مختلفة تمامًا. كلماته كانت كالسهم الذي اخترق جدار الصدمة بداخلي. بالكاد استطعت أن أنطق، همستُ بصعوبة: “أيـــه؟!”
كانت لحظة تحمل كل التناقضات: الحزن، الصدمة، ولكن معها، شعور خفي بأن الحقيقة بدأت تظهر، ومعها فصل جديد من هذه القصة التي قد تغيّر حياتي تمامًا.
تسمرت مكاني، وعيناي اتسعتا بصدمة حقيقية، وقلت بصوت مرتجف “ماذا ؟! أنت مجنون؟ كيف تفعل ذلك؟ كان يمكنني العودة إلى مصر إذا لزم الأمر، لكنك…. أنت، كيف تخاطر بنفسك ؟!”
ابتسم إيمانويل، عيناه مليئتان بالحب، واقترب قليلاً وقال بصوت هادئ وصادق:
“سأذهب إلى أي مكان تكونين فيه، حياتي مرتبطة بحياتكِ.”
امتلأ قلبي بحزن عميق، وقلت بعاطفة تختلط بين الغضب والأسى:
“لماذا فعلت ذلك؟ لماذا؟!”
نظر إلي بعينين تشعّان بعاطفة جياشة، ثم قال بخفوت، كأنه يعترف بشيء احتفظ به لوقت طويل:
“لأنني… لأنني أحبكِ.”
تسمرت في مكاني، ولم أتمكن من الرد سوى بكلمة واحدة، جاءت بصوت متقطع مغمور بالدهشة والذهول:
“أنت… ماذا قلت؟!”
ابتسم مرة أخرى، نظرة في عينيه تقول كل شيء، وقال بثقة هادئة كأنما يخبرني بحقيقة لم يكن يجرؤ على قولها من قبل:
“وأنتِ أيضًا تحبينني.”
نظرت إليه بدهشة وقلت بحدة:
“يا سلام! وكيف عرفت ذلك؟!”
ابتسم ابتسامة ماكرة وقال وهو يرفع حاجبه بخفة:
“ساحر.”
تورد وجهي وشعرت بالخجل، ابتسمت لا إراديًا ونظرت بعيدًا. لكنه واصل بصوت هادئ يمزج بين الحب واليقين:
“لو كانت لديَّ آخر وحدة من وحداتي، كنت سأعطيها لكِ دون تردد. اكتشفت أنني أحبكِ أكثر مما كنت أدرك. أحببتكِ منذ زمن، لكنني لم أفهم ذلك إلا الآن.”
وفي تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة، ودخل رائف بخطوات مسرعة، وهو يصطنع اللهفة والقلق قائلاً:
” وعد، الحمد لله على سلامتك يا ست البنات إيه اللي حصل ؟ طمنيني عليك!.
كانت كلماته تحمل قناعًا زائفًا من الاهتمام، لكن عينيه اللتين تجولتا بسرعة في الغرفة كشفتا عن دوافعه الحقيقية. نظرت إليه، وعيني تحملان كل المشاعر المتناقضة التي شعرت بها، وأنا أرى أمامي مزيجًا من الحب الحقيقي والخداع المكشوف.
ابتسمت له بسخرية، وقلت: “أهلًا يا رائف، عامل إيه؟”
نظر نحو إيمانويل ببرود، وكأنه يتعمد تجاهله تمامًا، ثم قال: “اطلع برة دلوقتي، عايز أطّمن على الملكة، وعايز أقعد معاها على انفراد.”
لكنني قطعت عليه محاولته للتحكم، وقلت بحزم: “اقعد مكانك يا إيمانويل. وبالمناسبة، إيمانويل أنا عينته الراجل التاني في المملكة.”
تبدلت ملامح رائف إلى غضبٍ واضح، وزفر بغضب مكبوت قبل أن يقول باندهاش: “نعم؟! يعني إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟! أنا الراجل التاني هنا!”
ابتسمت له بسخرية عميقة، وقلت: “إيه يا رائف؟ زعلان عشان كده؟ أصل شكلها كده، هتطلع من المولد بلا حمص، زي ما بيقولوا.”
حاول أن يتمالك نفسه ويستعيد زمام الأمور، فردّ بابتسامةٍ مصطنعة: “لا يا وعد، مش فارق معايا… اللي تشوفيه.”
نظرت إليه بحدة وقلت: “بقى كده يا رائف؟ كنت بتمثّل عليّ الفترة اللي فاتت كلها؟ الدور اللي كنت بتلعبه كان واضح قوي. بس عارف، العيب مش منك، العيب من جدك، الله لا يرحمه.”
شعر رائف بأن الأمور خرجت عن سيطرته، فقال مرتبكًا: “مش فاهم قصدك إيه.”
قاطعته بحدة، وعينيّ تبرقان بالغضب: “أنا عرفت كل حاجة. عرفت إنك كنت بتنفذ خطة جدك ممتاز، علشان تحوّل الممالك لرماد وتحقق اللي هو فشل فيه. والحق أقول، العيب مش عليك، العيب عليّ أنا اللي سمحت لك بالاقتراب.”
سكتُّ لبرهة ثم أضفت بصرامة: “عندك خمس دقايق يا رائف، يا تتحبس هنا في السجن، يا ترجع مصر، بس خليك عارف إنك لو رجعت مش هتدخل المملكة تاني وهيتعملك حظر.”
ارتبك رائف، وحاول أن يستعيد الموقف فقال بلهفة: “اسمعيني يا وعد، أنا مش عارف مين قالك كده… بس أنا فعلًا… أنا بحبك.”
ضحكت بسخرية وقلت: “إنت مصدق نفسك يا رائف؟! ده انت في خناقة سابقة قلت بنفسك إنك مش هتسيب المكان والخير فيه. إنت طماع وجعان زي جدك بالظبط. دلوقتي قرر!”
أخفض رأسه، وبدت عليه علامات الاستسلام، ثم قال بهدوء: “هارجع القاهرة.”
نظرت إليه بصرامة وقلت: “كده تعجبني. اطلع قدامي فورًا.” ثم التفتُّ نحو إيمانويل وقلت: ” يا إيمانويل تابعه .”
نزلنا إلى القاعة الكبيرة، حيث كان رائف يقف يحاول التوسل لي للحصول على فرصة أخرى، لكن نظراتي كانت حازمة وقراري لا رجعة فيه. رفضت طلبه بقسوة، وأمرت بإدخاله إلى اللوحة السحرية التي ستعيده إلى مصر. كانت نهاية دوره في هذه المملكة.
التفتُّ إلى إيمانويل وقلت بحزم لا يقبل النقاش: “إيمانويل، أريد طريقة لحظر دخوله إلى مملكة كريستافيل نهائيًا. ليعتبر كريستافيل وكأنها حلم لا يستطيع الوصول إليه.”
أجاب إيمانويل بصوت مليء بالاحترام والعزم: “اعتبريه قد تم، يا مولاتي.”
مرت شهور، وشهدت المملكة تقدمًا وازدهارًا لا مثيل لهما. كل شيء كان يعود إلى ما كان عليه، بل وأصبح أفضل. شعرت بأنني أعيش في فترة من السلام والنمو، حيث كانت المملكة تتطور بشكل لم أكن أتصوره. لكنني لم أنسَ ما حدث، ولم أنسَ تلك اللحظة التي قررت فيها مواجهته.
بعد مرور شهرين، قررت اتخاذ خطوة جديدة. كانت فكرة تراودني لوقت طويل، وأخيرًا اتخذت القرار. توجهت إلى إيمانويل، عازمة على ما سأفعله.
“إيمانويل، أحتاج أن أتحدث معك في أمرٍ ضروري.” كان صوتي يحمل نبرة جدية وإصرار، وكنت أعلم أن الحديث القادم سيكون مفصليًا في حياتنا وفي حياة المملكة.
نظر إليّ إيمانويل بعينيه اللامعتين، وكنت أشعر بثقة ودعم لا مثيل لهما. جلسنا معًا في القاعة الملكية، حيث كان الوقت مساءً، والأجواء مهيبة وتحمل ثقل القرارات الكبيرة.
قلت له بعمق: “لقد مررنا بالكثير، وأنا ممتنة لكل ما فعلته من أجل المملكة ومن أجلي..
بعد أيام طويلة من التفكير والاستعداد، جاء اليوم الذي قررت فيه مغادرة مملكة كريستافيل والعودة إلى حياتي في القاهرة. كان الجناح الملكي هادئًا على غير العادة، وكأن الجدران نفسها تشعر بثقل قراري. جمعت أغراضي القليلة، ثم وقفت للحظات أمام النافذة، أُلقي نظرة أخيرة على السماء الممتدة وأبراج المملكة التي احتضنتني لفترة قصيرة ولكن عميقة. لم أستطع منع شعور بالحنين، لكنه كان ممزوجًا بقناعةٍ أن مكاني الحقيقي ليس هنا.
عندما وصلت إلى الممر الكبير المؤدي إلى اللوحة السحرية، رأيت إيمانويل يقف هناك منتظرًا. كان وجهه عابسًا، يعكس ألمًا واضحًا رغم محاولاته التماسك. تقدمت نحوه ببطء، خطواتي مثقلة بالوداع وأحمالي.
نظر إليّ بصوت خافت وكأنه يزن كلماته بحذر: “هل أنتِ متأكدة يا وعد؟ هل هذا حقًا ما تريدينه؟”
كانت عيناي غارقتين في الدموع، لكنني حسمت أمري وقلت له بصوت متهدج: “إيمانويل، هذا ليس مكاني. لا أستطيع أن أكذب عليك أو على نفسي. مكاني في القاهرة، حياتي هناك. وقلبي يقول لي إن الوقت قد حان لأعود.”
رأيت الألم يزداد وضوحًا في عينيه وهو يخطو خطوة نحوي، قائلاً برجاء: “لكني لا أستطيع تخيل الحياة هنا بدونك. كريستافيل لن تكون كما كانت بدون وجودكِ.”
ابتسمت ابتسامة حزينة، وقلت له بصوتٍ يختلط فيه الحب باليقين: “كريستافيل أقوى من أن تعتمد عليّ. لديك الحكمة والقوة لقيادة المملكة نحو مستقبل أفضل، وأنا أثق بك كما وثق بك جدي.”
صمت للحظة، محاولًا استيعاب كلماتي، فقلت بحزم: “إيمانويل، لا تنسَ أبدًا ما قلته لك. أنت الآن الملك. ستقود هذه المملكة بحب وعدل، وشعب كريستافيل يحتاجك أكثر مما يحتاجني.”
مددت يدي لأصافحه، لكنه جذبني إلى عناق طويل وصامت. كان يعانقني بكل قوته وكأنه يحاول حمايتي من الألم الذي يعتصرنا. شعرت بحرارة دموعه تنساب على كتفي، ولم أتمالك نفسي من البكاء أيضًا.
سألني إيمانويل بصوت يحمل نبرة غامضة، وهو يرفع حاجبه كمن استحضر ذكرى بعيدة: “ألستِ ناسية شيئًا؟”
توقفت عن التفكير للحظة، ثم نظرت إليه بحيرة وأجبت: “لا، لا أظن ذلك.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، لكنه لم يُظهر عجلة في الكلام. وفجأة جذبني برفق بين ذراعيه، بينما همس بهدوء: “الكتاب… الكتاب الذي كان بحوزتكِ يوم أن أنقذتكِ من ذلك الممر.”
شعرت حينها بصدمة المفاجأة، كأن تيارًا دافئًا اجتاح صدري، وتذكرت على الفور. راودتني مشاعر مختلطة من الحنين والامتنان، فنظرت إليه بعيون ممتلئة بالدفء وقلت بشوق: “أفتحته؟”
هز رأسه بخفة، تلك الحركة التي كان يؤديها دائمًا وكأنها امتزاج بين الثقة والصبر، ثم أجاب برفق: “كلا، لم أفتحه. كنت أعلم أنه يحمل شيئًا خاصًا بكِ، لذلك فضلت أن تكتشفيه بنفسك.” أخرج الكتاب من بين أغراضه ومدّه لي بحركة بطيئة، وعيناه تراقبان كل تعبير يمر على ملامحي.
نظرت إليه والدموع تملأ عينيّ، وقلت بصوت ممتلئ بالشوق: “سأنتظرك في مصر، لكن تذكر، إيمانويل، ستكون زائرًا فقط… لأن مكانك هنا، في مملكة كريستافيل.”
ابتسم بحنان محاولًا التخفيف من حدة المشاعر، وقال: “وهل ستأخذينني لرؤية الأهرامات؟”
ضحكت بين دموعي وقلت: “ليس الأهرامات فقط، سأريك مصر بأكملها… سأريك بلدي بكل تفاصيلها.”
ثم، ودون أن أتمالك نفسي، انهرت وانطلقت نحوه بسرعة لتعانقه بكل ما تبقى لي من قوة. كان عناقي يحمل في داخله آلاف المشاعر: الحنين، الحب، الشكر، وألم الفراق. ظللت بين أحضانه، لا أعلم كم من الوقت مر، لكنني شعرت وكأن اللحظة تمتد إلى الأبد…. وعد يا إيمانويل
بأن الفراق لن يمحو ما صنعناه سويًا، وأن الذكريات ستظل تربط بين قلوبنا مهما اختلفت الأماكن.
أخيرًا، سرت نحو اللوحة السحرية. وقفت أمامها للحظة، والتفتُّ إلى الخلف لأراه للمرة الأخيرة. كان يقف هناك، صامدًا رغم كل شيء. قال لي بصوت خافت وكأنه يضع وعدًا في قلبه: “أعدكِ، سأحافظ على كريستافيل كما أردتِ.”
ابتسمت له وقلت بصوت يرتجف من مشاعر الفراق: “وأنا سأظل أفتخر بكل ما فعلته هنا. شكرًا على كل شيء، إيمانويل.”
وضعت يدي على اللوحة السحرية، وشعرت بالقوة التي تجذبني نحو الطريق الذي سيعيدني إلى القاهرة. كان ضوء اللوحة يلتف حولي كأنما يحتضن قراري، وكانت رحلة مليئة بالألم والحنين، ولكنها كانت صحيحة بالنسبة لي.
عندما فتحت عينيّ، وجدت نفسي في غرفتي الصغيرة في القاهرة. كان صوت المدينة يحيط بي، مألوفًا ودافئًا، كأن الحياة تعيدني إلى حيث أنتمي. وقفت أمام نافذتي، أنظر إلى الشوارع التي غادرتها يومًا. شعرت بمزيج غريب بين الراحة والحنين، وابتسامة صغيرة ظهرت على وجهي. الآن أنا هنا، في مكاني، ومع ذلك لن أنسى أبدًا تلك المملكة التي غيّرتني للأبد.
_ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
| وبعد عدة أيام |
كنت أجلس مع جدي في سكينة المنزل، أنظر إليه بحب وابتسامة مرهفة، ثم سألته وكأنني أبحث عن تفاصيل خفية:
“وبس يا جدو؟ كل اللي حصل ده هو كل الحكاية؟”
ابتسم جدي بابتسامة دافئة تحمل خبثًا خفيفًا وقال:
“آه يا بنتي، بس قوليلي… هتعملي إيه بكره؟ والعقد اللي كتباه مع رائف؟… الكلب ده؟”
ارتفعت حاجباي بحدة وضحكت بسخرية، ثم قلت بحزم وثقة:
“رائف ده؟ ده هيتعلق على رأس الحارة بكره! والعقد؟ هفسخه طبعًا يا جدو… هو أنا بيهمني حد ولا إيه؟”
ضحك جدي بصوت عميق، ونظر إلي نظرة ملؤها الحب والاعتزاز. ثم جذبني بين ذراعيه وقال بابتسامة أبوية:
“لا طبعًا يا حبيبة جدك… حفيدتي الشجاعة اللي مش بيهمها حد.”
ثم نهض من كرسيه بهدوء، والتقط صندوقًا خشبيًا عتيقًا كان مركونًا بجانب مكتبه، وقال وهو يناوله لي:
“دلوقتي أقدر أديهولك وأنا مطمئن… عارف إنك بقيتي مستعدة… وجدك منتصر؟ الله يسامحه بقى.”
لم أتمالك نفسي من الضحك بصوت عالٍ وقلت بمرح:
“انت هتفضل لحد إمتى يا راجل يا عجوز كده تخاف على كل حاجة؟! بس سيبك أنت… وانت صغير كنت قمر، حتى وانت رفيع كده يا أبو عيون عسلية.”
ضحك جدي بدوره، بينما كنت أفتح الصندوق بحذر. أخذت منه ذكريات الماضي وسحبت درج المكتب لتضع بجانبها مذكرة جدي “منتصر”، التي تحمل كل الحكايات والتجارب.
نظر إلي جدي بمحبة وقال بهدوء:
“خلاص بقى، هننسى كريستافيل وكل الممالك والحوارات دي… إحنا عايزين نعيش في راحة بعيد عن المغامرات.”
أجبته بابتسامة واثقة تحمل بداخلها بذرة تحدٍ:
“ومين قال يا جدو؟ ما يمكن نغير كريستافيل ونختار مكان جديد للمغامرات.”
هز جدي رأسه بعصبية لطيفة وقال:
“تاني يا وعد؟! فضول ومغامرة تاني؟ خلاص أنا ماشي، وسايبلك الدنيا دي، ربنا يستر عليك! والله العظيم ماشي!”
نهض وبدأ يمشي ببطء كأنه غاضب، لكنني أوقفت ضحكتي بصعوبة وقلت بمرح:
“استنى يا جدو… أنا هروح واحدة من خمس أماكن… خلاص متقفش، طيب استنى؟!!
ظللت أضحك بحرارة، ثم تنهدت وقلت لنفسي بابتسامة مشاكسة: ماشي يا جدو؟ بهزر معاك بهزر لازم تاخد كل حاجه بجد كدا؟ ”
وقفتُ هناك، أراقب جدي وهو يغادر الغرفة بخطواته البطيئة التي تحمل ثقل سنوات من الحكمة والمغامرة. شعرتُ بشيء يشدني إلى الماضي، إلى كل اللحظات التي عشناها معًا، إلى كريستافيل، وإلى كل تلك الحكايات التي صنعت منا ما نحن عليه الآن.
أمسكتُ بالصندوق الخشبي بين يديّ، شعرتُ بدفء الذكريات ينبعث منه. كان يحمل أكثر من مجرد أشياء مادية؛ كان يحمل أرواحًا، مشاعر، وصورًا تروي قصة طويلة من التحدي والانتصار.
تقدمت بخطواتٍ هادئة نحو المكتب، ووضعت الصندوق بجانب المذكرة التي سجل فيها جدي كل شيء. ابتسمت وأنا أفكر في العبارة الأخيرة التي قالها لي: “هننسى كريستافيل وكل الحوارات دي”. لكنني كنت أعلم في أعماقي أنني لن أنسى أبدًا.
رفعت رأسي نحو النافذة، كان الليل قد بدأ ينسدل بردائه الهادئ على المكان. شعرت بنسيم خفيف يلامس وجهي، وكأنه يدعوني للرحيل نحو مغامرة جديدة، نحو مكان يحمل لغزًا آخر وتحديًا مختلفًا.
وقفت بثقة، وأخذت نفسًا عميقًا ثم قلت لنفسي بصوت يحمل بريق المستقبل:
“الملكة وعد، وعد منتصر الجزار… قصة انتهت لتبدأ أخرى. يا ترى، أين ستكون الرحلة القادمة؟”
وفي تلك اللحظة، أدركت أن الحياة ليست سوى سلسلة من الأبواب المفتوحة، تنتظر منا أن نعبرها بشجاعة وفضول. وأن كل نهاية هي بداية لقصة جديدة، مليئة بالأسرار والأحلام التي لم تُكتشف بعد.
وهكذا طويتُ صفحة أخرى، لكنني كنت أعلم أنني على وشك أن أفتح كتابًا جديدًا… كتابًا يحمل بين طياته مغامرات لا تنتهي.
#تمت
#الــــنـــهـــــايــة.

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ومضة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى