رواية ومضة الفصل التاسع عشر 19 بقلم ميرنا ناصر
رواية ومضة الجزء التاسع عشر
رواية ومضة البارت التاسع عشر

رواية ومضة الحلقة التاسعة عشر
كان كل شيء مذهلًا، ، كأنني عبرت إلى عالم مختلف. لم أفهم ما ينتظرني، لكن قلبي كان يعلم أن هذه اللحظة كانت البداية لاكتشاف ما وراء هذا البناء الملكي العظيم.
وفي اللحظة التالية، جذبني تيارٌ غريب، كأنه قوة غير مرئية تأخذني إلى الداخل بعمق أقوى.
وجدت نفسي في قاعة فسيحة تملأها هيبة الملكية القديمة. الهواء هناك كان أثقل، مشبعًا برائحة الزمن وتاريخ عريق لا يُمحى. الجدران، المصقولة بلون الذهب الخالص، عكست ضوءًا دافئًا كأنها تتحدث بلغة خفية. النقوش التي زينتها بدت كأنها صفحات من كتاب مُغلق على حكايات ماضية. كل خط وحرف محفور بدقة متناهية وكأنه يعبر عن رمز لا يُفكُّ إلا لمن يعرف سر المكان.
أما السقف فقد بدا متلألئًا، كمرآة تعكس تفاصيل القاعة، لكنه حمل في أعماقه بعدًا آخر، وكأنه نافذة إلى عالم خفي. الأرضية كانت كلوحٍ ناعم مُضاء بخفوت، لامعة كأنها مزيج من الزجاج والمعدن، تعكس بريقًا يبعث على الدهشة.
وفي زاوية القاعة، سمعت همسات خافتة، أصواتًا بدت مألوفة؛ كان جدي، يشاركه إيمانويل حديثًا منخفضًا. تقدمت ببطء، محاوِلة ألا يُكشف أمري. لكن خطواتي، رغم هدوئها، بدت كأنها تثير فضول الجدران من حولي. شعرت بشيء غريب يضغط على صدري، مزيج من الفضول والخوف، وكأن كل حركة جديدة تنذر بكشف المزيد من الأسرار.
واصلت الاقتراب بخفة، قلبي ينبض بقوة وكأن صوته يصدح في أرجاء القاعة المهيبة. كانت الأصوات تتضح أكثر مع كل خطوة أخطوها. جدي كان يتحدث بنبرة حازمة، لكنها مثقلة بالتعب، وإيمانويل يرد عليه باهتمام وتركيز بالغ.
اقتربت من إحدى الزوايا بالقرب من الستائر الثقيلة، ووقفت خلفها بحذر، أحبس أنفاسي حتى لا أُصدر أدنى صوت. استطعت سماع جدي بوضوح وهو يقول: “إيمانويل، ما سأخبرك به الآن هو أعظم أسرار المملكة… هذا المكان ليس مجرد جناح أو مقبره عادية. هنا تُتخذ القرارات المصيرية، وهنا تُخبأ أعمق الأسرار.”
إيمانويل سأله بصوت متردد: “ولكن يا مولاي، ما سر هذا المكان تحديدًا؟ ولماذا تُخبأ هذه الأسرار هنا؟”
أخذ جدي نفسًا عميقًا، وكأن الكلمات نفسها تحمل وزنًا يصعب النطق به، ثم قال: “هذا البنيان، يا إيمانويل، بوابتنا للعوالم الأخرى، وهو الحارس لما نملك.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. _بوابة للعوالم الأخرى؟ ما معنى هذا؟_ حاولت أن أقترب أكثر، لكن الأرضية المصقولة تحت قدمي جعلتني أتردد خشية أن أنزلق أو أكشف نفسي.
إيمانويل رد بنبرة تحمل خليطًا من الدهشة والإدراك: “إنها أكبر مما تخيلت، مولاي… لكن، إذا كانت هذه البوابة، فكيف نحميها؟ وكيف نحمي من قد يسعون للعبث بأسرارها؟”
جدي أجابه بنبرة حاسمة: “لهذا السبب أنت هنا يا إيمانويل. ليس لحماية المكان فقط، بل لحماية الفكرة، حماية المبدأ. من يدخل هنا عليه أن يثبت أنه يستحق، أن يدفع الثمن…”
وفي هذه اللحظة، شعرت بخفقان قلبي يتسارع. الكلمات حملت معها غموضًا مخيفًا، وكأنني أمام لغز يتشابك أكثر كلما حاولت فهمه. شعرت أن قدميّ بدأتا تخذلانني، وبدأت تساؤلات عديدة تغمر رأسي: _ما الثمن الذي تحدث عنه جدي؟ وهل سأدفعه قريبًا؟_
تابعت الحديث من خلف الستائر الثقيلة، والخوف والفضول يشقان صدري. جاء صوت إيمانويل مليئًا بالدهشة والتساؤل، فقال: “ماذا تعني بوابات لعوالم أخرى؟!”
رد جدي بسرعة، بنبرة حازمة لم تُفسح مجالًا للنقاش: “لا يهم. المهم أن ترصد هذا المكان جيدًا، وألا تفتح الجناح مهما كان السبب، حتى لو طلب منك مولماز نفسه. مفهوم؟!”
ظهرت على إيمانويل ملامح الحيرة، وتردد للحظة قبل أن يقول: “مولاي، هل أنت على غير وفاق مع مولماز؟”
تنهد جدي، وكأن ثقل السؤال أرهقه، ثم قال بصوت منخفض لكنه ثابت: “لا، بل… لا أريد أحدًا يدخل هذا المكان بعد موتي، هذا كل ما في الأمر.”
لكن هنا، كان جدي يكذب. وأنا أعلم حين يكذب، كأن وجهه يروي قصصًا مختلفة عما تنطق به كلماته. ظهرت على وجهه تلك الإيماءة الدقيقة، التي قد لا يُلاحظها سواي. نظرته باتت أكثر شرودًا، وكأن عينيه تهربان من الحقيقة. ارتعاشة خفيفة بالكاد تُرى سرت في زاوية فمه، ويداه، اللتان لطالما كانتا ثابتتين حتى في أصعب اللحظات، أصبحتا أكثر توترًا، وكأن أصابعه تحاول الإمساك بشيء غير مرئي.
حتى صوته حين نطق تلك الكلمات الأخيرة كان فيه شيء من الخفوت غير المألوف، كما لو أنه يداري الحقيقة بين طيات كلماته. تلك التفاصيل الصغيرة، التي قد تبدو غير مرئية للآخرين، كانت بالنسبة لي جرس إنذار واضحًا: جدي يُخفي شيئًا أكبر، شيئًا لم يكن مستعدًا للإفصاح عنه، حتى أمام إيمانويل.
تزايدت ضربات قلبي، وازداد تساؤلي: _ما الذي يخفيه جدي؟ وما الذي يحاول أن يُبقيه مغلقًا إلى هذا الحد؟_ لحظات صمته، ونظراته المبتعدة، كانت تخبرني أن وراء كلماته تكمن حقيقة خطيرة تنتظر أن تُكشف.
بعد أن لاحظت ارتباك جدي وكذبه الذي عرفته ببديهة من نشأت على فهم تفاصيل وجهه، شعرت أنني أقرب إلى كشف سر خطير. لكن، في تلك اللحظة، بدأ صوت غريب يعلو في القاعة، صوت أشبه بهمهمة بعيدة تزداد وضوحًا، وكأن البنيان نفسه يهمس بأسراره. شعرت بشعور غريب، مزيج من الانجذاب والرعب، وكأن القاعة تنبض بحياة غامضة لا أستطيع تفسيرها.
فجأة، تلاشى صوت حديث جدي وإيمانويل، أدركت إنهم خرجوا وتركوا المكان.. أو ربما لم أعد أسمعه بسبب صوت الهسيس الذي يزداد ارتفاعًا في أذني. أردت التقدم أكثر، لكن الأرضية تحت قدمي بدأت ترتعش برفق، وكأنها تخبرني أنني أقف على نقطة غير عادية. شعرت أن هذا المكان لا يسمح للمتطفلين بالبقاء، وكأنني على حافة مواجهة شيء غير متوقع.
قررت أن أخرج من مكاني المختبئ وأتجه نحو زاوية أخرى في القاعة. كلما تحركت، بدا وكأن النقوش على الجدران تتحرك معي، تنير وتخفت في تناسق غريب. فجأة، انجذب بصري نحو شيء في نهاية القاعة، لوحة كانت مطموسة بألوان خافتة. تلك اللوحة بدت وكأنها تحتوي على مشهد حي، عالم يتحرك خلف إطارها.
دفعني الفضول للاقتراب من اللوحة، لكن الأرضية تحتها لم تكن عادية. كانت مجموعة من الخطوط المتداخلة التي تضيء بألوان غير مألوفة، وكأنها شيفرة تمنعني من الاقتراب بسهولة. حاولت التركيز، وعندما مددت يدي بحذر نحو اللوحة، شعرت بقوة مغناطيسية تجذبني فجأة!
قبل أن أتمكن من الصراخ أو التراجع، أصبحت محاطة بضوء مشع، كأنني أُسحب إلى داخل اللوحة نفسها. شعرت بأن الهواء حولي يختفي، وعيناي غمرتهما الألوان. ثم، وفي لحظة خاطفة، وجدت نفسي في مكان آخر تمامًا.
شعرت بقوة غير مرئية تسحبني بقوة وسرعة مذهلة. وجدت نفسي داخل غرفة هائلة الاتساع، مليئة بالكتب القديمة والمخطوطات المبعثرة. الجدران كانت مغلفة بأرفف ضخمة تمتد من الأرض إلى السقف، وكل رف مزدحم بكتب بأغلفة جلدية عتيقة تفوح منها رائحة الورق القديم، مختلطة بغبار يبعث شعورًا بالتاريخ والعظمة.
وسط القاعة، كانت هناك طاولة خشبية كبيرة، سطحها مغطى بالمخطوطات المفتوحة وأوراق مليئة برموز ونقوش غامضة. الإضاءة الخافتة كانت تأتي من مصابيح صغيرة تسبح في الهواء، تضيء الغرفة بضوء دافئ يشبه بريق الشموع.
ولكن ما لفت انتباهي حقًا كانت تلك القطع التي كانت متناثرة بشكل عشوائي فوق الطاولة وفي زوايا الغرفة. كانت تلك القطع ملفوفة بغلاف يشبه غلاف الشوكولاتة، لكنها ليست ناعمة كما بدت؛ بل كانت صلبة ولامعة قليلاً، كأنها مصنوعة من مادة معدنية مجهولة. على كل قطعة، كانت هناك كتابة بارزة باللغة العربية: “قابلة للأكل – حبوب تخزين”.
الغريب في الأمر أن تلك القطع كانت تشع بألوان خافتة تتغير عند النظر إليها من زوايا مختلفة، وكأنها تحمل بداخلها طاقة مخفية. شعرت بيدي تقترب منها دون إرادتي، لكنني توقفت للحظة، متسائلة: _ما هذه الحبوب؟_
الجدران من حولي بدت وكأنها تهمس بأصوات غامضة، والكتب تلمع أطرافها الخشنة كلما مررت بجانبها. كان المكان غارقًا في الغموض، لكنه بدا لي وكأنه يشكل جزءًا من لغز أكبر، لغز كنت أقرب إلى كشفه.
تقدمت خطوة أخرى داخل المكتبة، يسيطر عليّ مزيج من الفضول والخوف. كانت الكتب والمخطوطات المكدسة على الأرفف تحمل في طياتها وهجًا خافتًا، وكأنها تستجيب لوجودي. نظرت حولي، وعيني تتجول بين الأرفف الممتلئة بالعناوين الغامضة والمجهولة. بعضها كان مكتوبًا بلغة عربية قديمة، والبعض الآخر برموز معقدة بدت لي وكأنها مفاتيح لأسرار هذا المكان.
رأيت الطاولة الكبيرة وسط الغرفة، محاطة بالضوء العائم في الهواء، وكأنها تحتل مركزًا مقدسًا في هذا العالم الغريب. كانت تلك الحبوب الغامضة الموصوفة بـ”قابلة للكل – حبوب تخزين” متناثرة على الطاولة، تلمع بألوان متغيرة تشبه انعكاسات الضوء على الكريستال. كل قطعة بدت كأنها تحتوي على سر دفين، وسؤال ملح كان يصرخ داخلي: _ما الذي يُخزن داخل هذه الحبوب؟_
كنت أقترب ببطء من الطاولة، أنفاسي مكتومة، ويدي ممدودة بحذر. لكن قبل أن ألمس واحدة من تلك القطع، شعرت بهواء بارد يمر من خلفي. استدرت بحدة، لكن لم يكن هناك أحد. الغرفة كانت هادئة، والصمت فيها كان ثقيلاً كأن الجدران نفسها تراقبني.
قررت الاستمرار في استكشاف المكان. مررت بأطراف أصابعي على أحد الرفوف، والغبار الذي التصق بيدي كان يشبه رمادًا ناعمًا كأن الزمن نفسه قد ترك أثره هنا. فجأة، لفت انتباهي مخطوطة مفتوحة على أحد الأطراف، كانت مكتوبة بلغة عربية قديمة. الكلمات كانت مترابطة بطريقة غير مفهومة، لكنها تكررت فيها عبارة واحدة: _”المذكرة هي المفتاح، والمفتاح هو الاختبار.”
هذه العبارة أعادت الرهبة إلى قلبي. بدأت أفكر: _ما علاقة المكتبة بهذه المذكرة؟ وما الذي يخبئه جدي هنا؟ ولماذا تحتوي هذه الغرفة على عناصر تجمع بين الحكمة والغموض؟
بينما كنت غارقة في التفكير، شعرت بارتعاش خفيف في الأرضية تحت قدمي. كانت كأنها نبضة، مثلما لو أن المكان ينبض بالحياة من جديد. قطع الغرفة بدأت تلمع أكثر، والهواء أصبح أكثر برودة. .
شعرت بنبضات الأرضية تتكرر، وكأنها تُملي عليّ أن أتبع إشاراتها. الغرفة من حولي بدت وكأنها تُعيد ترتيب نفسها، الكتب على الرفوف تلمع للحظة ثم تعود إلى خفوتها.
توجهت نحو الطاولة الكبيرة مرة أخرى، عيني لم تفارق تلك الحبوب الغامضة التي تحمل عبارة “قابلة للكل – حبوب تخزين”.
مددت يدي نحو واحدة منها بحذر. ملمسها كان صلبًا وباردًا لكنه ناعم في الوقت ذاته، وكأنها منحوتة بعناية فائقة. فجأة، شعرت برجفة خفيفة تسري في جسدي، ورأيت الضوء يتوهج ببطء داخل القطعة، كأنها تستجيب للمسة يدي.
قبل أن أفكر أكثر، لفت انتباهي أحد المخطوطات المفتوحة على الطاولة. الكلمات المكتوبة عليها كانت بلغة عربية، لكنها تحمل رموزًا مدمجة بين الكلمات، كما لو أنها شفرة تحتاج إلى فك. قرأت بصوت خافت جملة تقول: _”الحبة تحفظ المعرفة، لكن المعرفة لمن يتحلى بالشجاعة.”_
ترددت للحظة. هل هذه الحبوب تحتوي على شيء؟ هل يمكنني تجربتها؟ لكن قبل أن أتخذ قراري، سمعت صوتًا خلفي، أشبه بصفير الرياح، يقترب ببطء. التفت بسرعة، لكن لم أجد أحدًا. الغرفة كانت هادئة، لكن الجو أصبح أكثر برودة، وكأن هناك وجودًا خفيًا يراقبني.
قررت أن أتجول بين الرفوف، أبحث عن أي دليل آخر. رأيت مجموعة من الكتب تحمل نفس النقوش التي كانت على الحبوب، وبعضها كان مفتوحًا على صفحات تُظهر رسومًا معقدة لعوالم غريبة، مناظر طبيعية تتغير بمجرد النظر إليها. كانت تلك الرسومات تنبض بالحركة، وكأنها تعيش داخل صفحات الكتب.
بينما كنت أتحرك، شعرت بشيء في الارض ملقى، ومغلف.. نظرت إلى الأسفل ورأيت قطعة صغيرة أخرى من الحبوب قد سقطت على الأرض، لكنها كانت مختلفة قليلًا. لونها كان أكثر إشراقًا، والنقوش عليها بدت وكأنها تلمع أكثر، كأنها تحمل رسالة مميزة. وقفتُ لحظة أراقبها، شعور غريب تملكني، شيء خفي وكأنه يهمس لي، يلح عليَّ بأكلها. لم أستطع مقاومة الإلحاح. مددت يدي بتردد، حملت القطعة ببطء إلى فمي، وقبل أن أدرك ما كنت أفعله، ابتلعتها.
فور أن وصلت إلى جوفي، شعرت بتغير غريب يكتسح جسدي. الحرارة بدأت تتدفق داخلي كأنها نهر صغير ينساب من أطرافي إلى قلبي. عيني أصبحتا أكثر حدة فجأة؛ الألوان من حولي بدت أكثر إشراقًا، وكأن الغرفة قد اشتعلت حياةً لم تكن ظاهرة لي من قبل. الخطوط والنقوش على الجدران أصبحت تتحرك بوضوح، كأنها تتنفس، تخبرني بقصص لم أفهمها بعد.
ثم فجأة، بدأت رؤوس أصابعي تشعر بوخز خفيف، وكأن كل شعرة على جلدي تستجيب لتيار كهربائي دافئ. صوت غامض، همس ناعم لكنه واضح، بدأ ينساب في أذني: _”المعرفة تكمن في الداخل. اصغي لقلبك، واتبع نور الحقيقة.”_
شعرت بدوار خفيف، كأن المكان بأسره يدور من حولي، لكنني لم أشعر بالخوف. على العكس، كان هناك شعور غريب بالسكينة، وكأن هذه التجربة كانت مخصصة لي وحدي. رأسي أصبح أخف، وذاكرتي بدت وكأنها تتفتح على مشاهد وأفكار لم تكن لي. كانت هناك صور غامضة تمر بسرعة في ذهني، أماكن لا أعرفها، أصوات بعيدة وكلمات غير مفهومة، لكنها تحمل في أعماقها معنى ينتظر أن يُكتشف.
وقفت متسمّرة في مكاني، أحدّق فيما حولي بذهول، بينما قدماي تتحركان دون إرادة مني، تقودانني إلى وجهة مجهولة كأنهما تحت تأثير قوة خفية. هناك، صُدمت حين وقعت عيناي على صورتي. كانت تقف أمامي، ماثلة بكامل هيئتي الملكية، ترتدي ذات اللباس وتحمل بين يديها كتابًا غريبًا. لم تكن مجرد صورة أو نقش على الجدران؛ كانت أشبه بمجسم ينبض بالحياة، أو ربما تمثال تفوق دقته حدود العقل.
ما أرعبني أن المجسم لم يكن جامدًا كما ظننت في البداية؛ بل كان ينظر إلي نظرات حادة ثابتة، ترافقني أينما تحركت، يمينًا أو يسارًا. بدا وكأنني أواجه نفسي، لكن نفسي التي تكتنفها هيبة مرعبة. شعرت وكأنني على وشك الجنون. توقفت مكاني مشلولة الحركة، أحاول استيعاب المشهد، ولا زلت عاجزة عن التعافي من فكرة أنني تحدثت مع نفسي سابقًا ورأيتها ولامستها، وها أنا الآن أواجه تمثالًا خاصًا بي.
لكن هذا التمثال كان مهيبًا ومرعبًا في آن. عيناه حادتان، تشع منهما قوة غامضة، تحمل بين طياتها خوفًا وغضبًا، شجاعة وجبروتًا، كل تلك المشاعر متداخلة في مزيج مهيب. شعرت برعشة تسري في جسدي، وقلت بصوت عالٍ، كأنني أصرخ لعلّني أكسر هذا الصمت الثقيل: “ما هذا الذي أحمله في التمثال؟”
خرجت الكلمات بصعوبة، لكن الإجابة كانت أمامي واضحة وصادمة؛ على الكتاب الذي يحمله التمثال، برزت عبارة “مذكرات جدك منتصر.” تجمدت أطرافي للحظة، تذكرت فورًا تلك العبارة التي قرأتها في المخطوطة: _”المذكرة هي المفتاح، والمفتاح هو الاختبار.”_
اقتربت ببطء، مدفوعة بشيء أقوى من الخوف، شيء أشبه بالواجب أو الفضول القاهر. مددت يدي بحذر، ولمست المذكرة التي كان يحملها التمثال. فجأة، انطلقت أشعة قوية كأشعة الشمس من كل مكان في المجسم، غمرت الغرفة بأكملها. شعرت وكأن كل شعاع يخرج من التمثال ليجد طريقه نحوي مباشرة، وكأنني النقطة المقصودة في هذه الدوامة من الضوء.
كانت تلك الأشعة تشع دفئًا غريبًا، لكنها في ذات الوقت تحمل ثقلًا يجعل صدري يضيق. تساءلت في داخلي بصوت مضطرب: _هل ما أراه يحدث حقًا؟ هل يعقل أن هذا المجسم يختبرني؟ هل يتأكد إن كنت أنا وعد أم أنني مجرد شخص آخر؟_
استمرت الأشعة في محاصرتي، وعند نقطة معينة شعرت وكأننا أصبحنا شيئًا واحدًا. المجسم بدأ يتطابق معي، أو بالأحرى، بدأ يصنع نسخة مني بداخله. شعرت بهذا الاتصال القوي الذي لم أشعر به من قبل، حتى حدث ما لم أتوقعه: المذكرة نفسها، التي كانت ثابتة في يد المجسم، بدأت تتحرك. لم تكن مجرد حركة عادية؛ بل بدت وكأنها تتحرر من الجمود، تسير بخطوات واثقة ككائن حي.
ارتفعت المذكرة إلى مستوى يدي، متوجهة نحوي بثبات وكأنها تخبرني بصمت أنها تنتظرني لأحملها. وقفت هناك مذهولة، أرتجف، أدركت في تلك اللحظة أن هذه المذكرة ليست مجرد كتاب. إنها السر، إنها المفتاح، وهي الآن تطلب مني أن أكون جديرة بحملها.
أخذتُ المذكرة بين يدي وركضت كمن يحمل كنزًا لا يقدر بثمن. قلبي ينبض بقوة، والخوف والفضول يشتعلان داخلي. بحثت عن زاوية هادئة في تلك المكتبة الشاسعة، جلست فيها على الأرض، بينما أنفاسي تتلاحق وكأنني أنهيت سباقًا لا نهاية له.
بيدين مرتجفتين فتحت المذكرة، تلك التي تحمل في طياتها أسرارًا تُثقل الهواء من حولي. الصفحة الأولى كانت مكتوبة بخط يد مألوف بالنسبة لي، خط جدي المنتصر، لكنها لم تكن تحمل فقط الكلمات… بل حملت روحه، ثقله، ومسؤوليته.
قرأت بصوت خافت كأنني أخشى أن يُسمع صوتي:
“وعد الحبيبة، إذا وصلتِ إلى مملكة كريستافيل، وإذا صممتِ كعادتك أن تعرفي كل شيء، وأتى إيمانويل ليساعدك في الوصول إلى هنا… فاعلمي أنني هنا لأكشف لك كل شيء.
أنا، منتصر الجزار، جدك الذي تعرفين كل شيء عنه في مصر، لكنك لا تعرفين أسراره وخباياه. إذا كنتِ تقرئين هذه الكلمات الآن، فهذا يعني أنك تحملتِ المسؤولية وأكملتِ طريقك في المملكة. وهذا ما يجعلني فخورًا بك، يا حبيبة جدك، لأنك تتحلين بالقوة والشجاعة، تمامًا كما أردتُ لك.
لكن، أوصيكي بشيء واحد: أوعي تثقي في رائف، وهتفهمي السبب حين تقرئين باقي المذكرة.”
توقفت للحظة عند كلمة “رائف”. ارتجف قلبي، لم أكن أتوقع هذه العبارة. تساءلت في صمت: _لماذا؟ كيف يمكن ألا أثق به؟ وما الذي يعرفه جدي عنه ولم يخبرني به من قبل؟_
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ومضة)