روايات

رواية هيبة الفصل الثالث عشر 13 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة الفصل الثالث عشر 13 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة الجزء الثالث عشر

رواية هيبة البارت الثالث عشر

هيبة
هيبة

رواية هيبة الحلقة الثالثة عشر

_ براءة الغزال _ :
______________________________________________________
لا تزال “راندا” ممددة على الأريكة، جفناها مغمضان، وجسدها ساكن، إلا من أنفاس متقطعة بدأت تعود إلى انتظامها ..
بينما الطبيب يباشر فحصه الروتيني عليها، فابتعد عمر قليلًا ليمنحه مساحته الكاملة، اكتفى بمراقبة المشهد بصمتٍ والقلق يعلو ملامحه ..
وبعد دقائق من الفحص السريع، فتحت “راندا” عينيها ببطء، رمشت مرة، ثم الثانية، ثم نظرت حولها في ارتباكٍ، ارتسمت علامات التيّقظ على وجهها، ووضعت يدها على جبينها كما لو كانت تستعيد توازن ذاكرتها قبل أن تنطق …
-أنا فين؟ .. تمتمت “راندا” بصوتٍ غائم
اقترب “عمر منها قليلًا، ابتسم ابتسامة باهتة وقال:
-حمد لله على السلامة.. ماتقلقيش انتي بخير.. صح يا دكتور؟
وإلتفت نحو الطبيب الأربعيني، ليرد الأخير ببشاشة:
-صح طبعًا يا مستر عمر.. المدام زي الفل وشوية وتقدر تقوم عادي جدًا.
لكنها أرادت أن تجلس في الحال، إلا إن “عمر” أسرع وأشار لها وهو يدفع بكتفها برفق:
-استني شوية. خليكي مرتاحة!
أومأت برأسها دون رد وأراحت ظهره إلى الوسادة ثانيةً، بينما الطبيب انحنى يلتقط حقيبته ثم أشار لـ”عمر” بالعروج إلى زاوية جانبية من الغرفة ..
تبع “عمر” الإشارة، وقف معه على بُعد خطوات من الأريكة، ثم سأله:
-طمني يا دكتور.. فيها حاجة؟
جاوبه الطبيب بابتسامة خفيفة:
-مافيش حاجة تقلق أطمن.. بس واضح إنها كانت تحت ضغط عصبي شديد. إللي حصل ده أقرب لانهيار مؤقت نتيجة توتر نفسي حاد. محتاجة راحة وهدوء. ويفضل تبعد شوية عن أي صدمة أو مواجهة الفترة دي.
أومأ “عمر” بامتنان، وصافحه قائلًا:
-متشكر يا دكتور محمود.. تعبتك معايا.
-لا شكر على واجب يا عمر.. وبعدين احنا اصحاب مافيش بينا الكلام ده. يلا بالإذن بقى.
وغادر الطبيب، ليعود “عمر” إلى “راندا” التي كانت قد جلست الآن وتمدّ يدها لتعدل ثيابها ..
ابتسم لها بهدوء، لكنها بادرت بتحريك جسدها وكأنها تهمّ بالنهوض، ليقول بسرعة:
-هاتقومى ليه دلوقتي؟ خليكي مرتاحة شوية كمان.
ردّت بصوت متعب يحمل عزيمة مكسورة:
-أنا ماقلتش لبابا إني جاية هنا.. لازم أرجع. ولازم يعرف إللي حصل.
عبست ملامحه، وحدّق فيها بقلق قائلًا:
-وهو إيه إللي حصل يا راندا؟ وهاتقوليله إيه؟ احنا مش عايزين فضايح… أرجوكي!
نظرت إليه بحدّة، عيناها لا تزالان تلمعان بالدموع، ثم ردّت بانفعال:
-نديم خانّي يا عمر! ومش بس كده.. ده وقف قصادي بمنتهى البجاحة وقال إنه هايطلقني.
وأنا فعلاً عايزاه يطلقني. خلاص.. مستحيل أعيش أصلًا معاه بعد إللي شوفته بعيني.
أطرق “عمر” رأسه لثوانٍ، ثم رفع رأسه لها ثانيةً وقال بهدوء:
-أنا معاكي إن نديم غلط. غلط كبير كمان.. بس الغلط مايقعش على ليلى معاه يا راندا. ليلى لسا صغيرة. اللوم كله على نديم. أرجوكي. لو عايزة تنهي علاقتك بيه. ده حقك..لكن ماتحاوليش تبوّظي سمعة ليلى.. أرجوكي!
نظرت إليه بدهشة وقالت باستنكارٍ:
-إنت كمان بتدافع عنها يا عمر؟
هزّ رأسه نافيًا، وقال مبررًا:
-مش بدافع صدقيني. قلت لك ليلى غلطت. بس في نفس الوقت مش هاعلّق لها المشَنقة لأني عارف ابن خالتي وفاهم دماغه. يا راندا افهمي.. ليلى مش بس بتحب نديم. دي اتربّت على إيده. كبرت معاه. بتثق فيه أكتر من أي حد.. يعني نديم مسيطر على عقلها. لما أقنعها بإللي بينهم مافكرتش لأنها واثقة إنه بيعمل الصح ايمًا.. ليلى ضحيّة… زيك يا راندا.
كادت “راندا” تفقد عقلها، قفزت من مكانها واقفة وقد ترنّحت للحظة، عيناها متسعتان بالغضب والذهول وهي تصيح:
-مين دي إللي ضحيّة؟ إنت ماشوفتش إللي أنا شوفته يا عمر! دي كانت.. كانت في حضنه.. وكانت …
بترت عبارتها، الكلمات اختنقت في حلقها، بينما الصورة التي رآتها لا تزال تنهش قلبها وتحرق عقلها ..
اقترب “عمر” منها خطوة، وقال بصوتٍ هادئ متألم:
-أنا فاهمك… فاهمك يا راندا. بس صدقيني. صدقيني لما أقولك.. ليلى ضحيّة.. ونديم نفسه هايندم على إللي عمله ده. هو لسا مش مدرك المصيبة بس.
رمقته بنظرة باردة مشبّعة بالخذلان، ثم قالت:
-وأنا مش ملزمة أُسهّل عليه أو عليها أي حاجة. الخاين يتحمل عملته. وأنا هاطّلق. وهقول أسبابي يا عمر..
عن إذنك!
استدارت لتغادر، فمدّ يده سريعًا وأمسك بمعصمها قائلًا:
-راحة فين؟ أنا مش هاسيبك تمشي لوحدك وإنتي كده!
انتزعت يدها من قبضته بلطف وقالت بصلابة:
-لازم أرجع القاهرة دلوقتي حالًا. ماينفعش أستنى هنا أكتر من كده.
نظر إليها لحظة كأنه يفكر في أمرٍ ما، ثم هزّ رأسه وقال بحزم:
-طيب… هاوصلك.. هاوصلك لحد بيتك كمان.. مش هاسيبك تمشي لوحدك!
_____________________________________________________________
تزامنًا مع خروجهما، عبر “زين نصر الدين” بوابة الفندق الداخلية بجوار “عمر البدري” مباشرةً، لكن كلاهما لا يعرفان ..
اتجه “زين” من فوره تجاه مكتب الاستقبال بخطى واثقة، حذاؤه الجلدي يقرع الأرض الرخامية بإيقاعٍ ثابت، عينيه الصارمتين تمسحان المكان بنظرة رجلٍ لا يُفوّت تفصيلة ..
اقترب من مكتب الاستقبال، حيث وقفت موظفة في أواخر العشرينات، ترتدي بذلة أنيقة بلون خمري، وابتسامة مهنية لا تنكسر …
-مساء الخير.. بسأل عن الآنسة ريهام عاصم البدري. ألاقيها فين من فضلك؟
رفعت الموظفة رأسها، لم تُجبه على الفور، بل تأملت هيئته لحظة قبل أن تسأل بتحفظ:
-حضرتك مين يا فندم؟
أخرج “زين” بطاقته الميري في الحال ووضعها أمامها بهدوء، ثم قال بنبرة ثابتة:
-أنا الرائد زين نصر الدين.. من الداخلية!
تغيّر وجهها فورًا، عدلت وقفتها بانضباط أكير وانحنت برأسها باحترام قائلة:
-أهلاً وسهلاً بسيادتك.. لحظة واحدة بس ..
ومدت يدها إلى سماعة الهاتف، ضغطت زرًا، وانتظرت، بينما راح “زين” ينظر إلى بهو الفندق في صمتٍ ثقيل، يتابع بعيناه حركة العاملين والضيوف، والهدوء المصطنع الذي يغلّف كل شيء ..
تحدثت الموظفة لدقائق قليلة بصوتٍ خافت، ثم أنهت المكالمة وأعادت السماعة إلى مكانها، التفتت إليه من جديد وقالت بلباقةٍ:
-الآنسة ريري فـ آ …
زين مقاطعًا : ريري!!
حاجباه ينعقدان في دهشة لغرابة الاسم ..
أومأت الموظفة بثقة وقالت:
-أيوه يا فندم… إحنا هنا كلنا بنناديها كده. الآنسة ريري موجودة حالًا في الـ Adventure Zone مع الناني بتاعتها.. بتشارك في Color Festival للأطفال. تحب أبعت مع حضرتك حد يوصلك عندها؟
رد “زين” ولا يزال مأخوذًا بغرابة ما يسمع:
-آه… ياريت.
أشارت الموظفة بيدها إلى أحد العاملين بالجوار، شاب يرتدي زيّ الفندق الأسود ويحمل بطاقة تعريف فضية فوق سترته، أمرته بلطفٍ:
-وصّل سيادة الرائد عند الآنسة ريري.. حالًا.
انحنى الشاب قليلًا، وأشار بيده مرددًا باحترامٍ:
-من هنا يافندم. اتفضل معايا!
تحرك “زين” خلفه، خطواته الثقيلة الواسعة تسير فوق سجادة سميكة لا تمتص صرامة حضوره، وملامحه التي ما زالت متوجسة لما يجري هنا، الرجل قال له بأن ابنته بالغة، فلماذا يؤكد من هنا بأنها محض طفلة؟
سيرى الآن!
____________________________________________________
أفضل وسيلة للدفاع.. الهجوم!
هذا المبدأ الذي سار عليه منذ حداثته، لا يبدله حتى في خضم مرحلته الرجولية المكتملة، لأجل حبّه سيفعل أيّ شيء، سيدافع، بل سيهاجم كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من حرم ذلك العشق، حتى لو اضطر لتدنيسه عن آخره، لأنه لا يستطيع تخيّل الباقي من عمره دونها ..
الآن ارتأى أن الهروب بعقلها من التفكير في ما حدث هو الحل الأمثل لتخفيف وقع الصدمات عليها، أخذها “نديم” إلى الحمام دون تفكير، البخار يملأ الفراغ حولهما، يعتم المرايا، ويطمس الملامح، كأنّه يحاول ستر ما هتك بالفعل ..
صوت رذاذ الماء المنهمر فوق المغطس بدا كأنّه إيقاع داخلي، إيقاع لقلوبٍ مضطربة، لعقلين أحدهما يسأل “ماذا فعلنا؟”.. والآخر يهمس “لا تفكري” ..
كانت “ليلى” واقفة تحت الدش مباشرةً، الماء ينساب فوق جسدها كما لو أنه يحاول غسل عارها ..
عيناها ساكنتان، تحدّقان في اللا شيء، جسدها يتحرّك فقط بضغط الماء، أما روحها فكانت عالقة هناك، في اللحظة التي ضُبطت فيها بين أحضان “نديم”. في اللحظة التي سمعت أحطّ النعوت توّجه لها، كما لو أنها ليست زوجته، كما لو أنها.. عاهرته!
يلج “نديم” إلى المغطس في هذه اللحظة، لم يكن فيه ذرة تردّد، كان يعرف تمامًا ما يفعل، أو على الأقل.. يقنع نفسه بذلك ..
اقترب منها، وقف خلفها دون أن يلمسها في البادئ، عينيه مرّتا على تقاطيع ظهرها المرتجف، على خيوط شعرها المبتل، على عنقها المشدود كوترٍ على وشك الانفجار ..
ردد بصوتٍ خافت أقشعر بدنها له:
-لسا بتفكري في اللي حصل؟
لم تجب، لكن شهقة صغيرة أفلتت من صدرها، تشبه البكاء، الندم ..
اقترب أكثر، ورفع يده ببطء، ثم وضعها على كتفها، لمسة خفيفة، لكنها كانت كافية لتجعل جسدها كله ينتفض ..
بينما يغمغم “نديم” بصوتٍ مكتوم:
-إحنا ماعملناش حاجة غلط يا ليلى.. سامعة؟ بقولك ماعلمناش حاجة غلط. راندا غيرانة منك. راندا حاسة من أول يوم بإللي جوايا ناحيتك.. ماتخليهاش تلعب بعقلك.. إنتي مراتي.. كل حاجة حصلت بيني وبينك من حقي. ومن حقك إنتي كمان.. وهاثبت لك تاني!
أنفاسه لامست أذنها، ونبرته كانت خليطًا بين الذنب والعناد لكنها لم تميّز، قبّلها هناك، قبلة خفيفة، ناعمة، لكن وراءها نارٌ خامدة تنتظر شرارة لتندلع ..
ثم انسابت شفتاه على عنقها، كتفها، ظهرها ..
كل قبلة كانت وعدًا، وكل لمسة كانت محاولة لتشتيتها، لخلط الخوف بالرغبة، للحفاظ على سطوة العلاقة وسط العاصفة ..
لم تتكلم “ليلى”” لكنّها لم تتراجع أيضًا ..
كان استسلامها لا يشبه الرضا، بل يشبه الغرق، الغرق في شخصٍ تعرف أنّه خطر، لكنها لا تملك النجاة منه، لأنه يمثل لها النجاة بعينها، حتى لو كان هو بذاته حتفها، لا يمكنها إلا أن تسير نحوه ..
يهمس لها “نديم” بغلظة من بين قبلاته:
-إنتي مش هاتصدقي حد غيري.. مش هاتسمعي كلام حد غيري.. عشان أنا لوحدي إللي بملكك.. أنا إللي بحبك.. أنا يا ليلى!!
ثم شدّها نحوه بغتةً حتى التصقت به وشهقت، عانقها من الخلف بقوة، صدره يسند ظهرها، كأنه يخلق لها عالمًا جديدًا، بلا أبواب، بلا نظرات، بلا قبح أو ذنب ..
لمساته صارت أجرأ، لكنها ظلّت ناعمة، تعرف طريقها إلى النقطة التي تذوّب فيها شكوكها ..
ومرّت اللحظات، تليها دقائق طويلة، صوتها خرج متقطعًا، شهيق خافت، وارتعاشه تنبئ بانهيارٍ وشيك ..
تلاحمت أنفاسهما كما جسديهما، أصوات خافتة انبعثت من بين الشفاه، آهات متبادلة، ارتجافات متلاحقة، كلّها كانت تقول إن الجسد سبق العقل، وإن العقل أُسكت عن عمد ..
نظرت له “ليلى” من خلال جفونها المتثاقلة، وردتدت بهمس متعب:
-نديم.. أنا تعبت!
تألقت عيناه بعكسها وهو يلتهم تفاصيلها المغرية غير مصدقًا حتى الآن بأنها صارت له، كلّها، ثم قال بعنادٍ:
-لسا بدري.. لسا بدري على الكلمة دي.
واستمر، رغم ارتجاف نبراتها، رغم ما في عينيها من توسّل صامت ..
تشبّثت “ليلى” بحافة المغطس ببيدٍ، ولفّت الأخرى حول عنقه تحاول إلتماس شيء من قوته بلا جدوى، تضعف وتُستنزف بمرور الوقت، بينما يرأف قلبه لأجلها عندما لمح دمعة كبيرة تسيل على جانب عينها، استعجل اللحظة، كأنّه يخشى أن تنهار قبل أن يُنهي ما بدأ ..
صوت الماء أصبح أسرع، وأكثر فوضى، كأنّه يترجم ما بين جسديهما من تصعيد ..
وفجأة… دقّ الهاتف في الغرفة وتمكن من سماعه للمرة الثالثة ..
لكنه تجاهله مجددًا، شدّ ذراعيه حولها، كأنّه يثبتها، لم يتوقّف حتى إلتهبت اللحظة بكل ما فيها من عنفٍ هادئ، ورغبةٍ مرتبكة، واحتياجٍ مشوّه ..
ثم.. أخيرًا.. سكون …
فتح عينيه بعد لحظة مطوّلة، ونظر إليها ..
أنفاسه العميقة تلفح بشرتها، بينما هي مغلقة العينين، ذراعاها متراخيتان، وجسدها ساكن كمن أنهكته معركة غير متكافئة ..
رفع رأس الدُش بتكاسل متوقع، وبدأ يغسلها بيديه، حركاته بطيئة، حنونة، نظّفها جيدًا كأنه يحمم طفلته أو ما شابه ..
ثم لفّها بروب الاستحمام الأبيض، رفعها بين ذراعيه وسار بها خارج الحمّام عائدًا للغرفة، وضعها فوق السرير بلطفٍ أبويّ مرعب التناقض _ نامت على الفور _ ثم التفت نحو الهاتف الذي ما زال يرنّ ..
التقطه، ثم ضغط زر الرد وأجاب بصوتٍ أجش:
-آلو!
أتاه صوت إحدى موظفات الفندق:
-نديم بيه.. بحاول أوصل لمستر عمر ومش عارفة موبايله مغلق.. آسفة بس حضرتك الأقرب لينا لازم تنزل حالًا يافندم.
نديم عابسًا: في إيه؟
-في ظابط جه وسأل على الأنسة ريري. وهو حاليًا وصل عندها.. ماعنديش معلومات تاني!
-أنا نازل حالًا!!
ولم ينتظر “نديم” لحظة أخرى، توجه نحو الخزانة، فتحها وأخرج منها ما وجده أمامه، قميص داكن وسروال جينز، ارتدى ملابسه على عجلٍ وهو ينظر في السرير حيث كانت “ليلى” قد غطّت في نومٍ عميق، مدفوعة بإرهاقها وصدماتها التي حتمًا أراجت الفرار منها بالنوم ..
تنهد بحرارة وهو ينتعل الحذاء مسرعًا، ثم سحب هاتفه وهرول مغادرًا الجناح من فوره …
____________________________________________________
جالسة القرفصاء وسط حلقة من الأطفال، حولها فوضى من الألوان والورق الممزق، وأصابعها الصغيرة ملوّنة بالأحمر والأزرق والأخضر ..
وجهها الطفولي مضيء بانعكاسات أضواء القاعة الفسيحة، شعرها الأسود المنسدل على كتفيها المتسخين ببقع الطباشير منحها هيئة ملاكٍ هبط لتوّه من السماء ..
في الجهة المقابلة، وقف “زين نصر الدين”. مختلفًا عن جميع الرواد بلقائه الرسمي الضيّق على قوامه المفتول ..
يراقبها في صمتٍ مضطرب، عيناها الزرقاوان الواسعتان، كانتا خاليتين من أيّ إدراك.. وكأن ما بداخلهما لا ينتمي لهذا العُمر.. لهذا العالم …
لا يمكن أن تكون تلك في العشرين من عمرها!
اقترب “زين” بخطى حذرة حاسمًا أمره، وبصوت هادئ ناداها:
-آنسة ريهام!
لم تلتفت ..
ظلّت ترسم بدقة طفولية، كأن لا أحد ناداها، كأن الدنيا ما وُجدت إلا داخل دائرتها الصغيرة ..
اقترب خطوة أخرى، علت نبرته قليلًا وكرر ندائه مستخدمًا اسمها المتداول:
-آنسة ريري!!
وهنا رفعت رأسها فجأة، عيناها اتسعتا حين وقعتا عليه، لم يكن في نظرتها ذعر، بل اندهاش صافي، كطفلةٍ ترى لعبة جديدة، أو مخلوق عجيب خرج من إحدى الأساطير التي تقرأها كل ليلة قبل أن تخلد للنوم ..
وقف أمامها بثبات وقال:
-مساء الخير يا آنسة.. والد حضرتك. سيادة السفير عاصم البدري. كلّفني آجي وآخدك معايا للقاهرة. من فضلك. لازم تيجي معايا دلوقتي حالًا.
نظرت له “ريهام” ببلاهة ناعمة، ثم قطّبت حاجبيها بتعبيرٍ طفولي وقالت بنزق:
-مين إنت؟
شدّ “زين” على فكّه، يحاول كتم ضيقه وجاوبها:
-أنا الرائد زين نصر الدين. والدك سيادة السفير عايزك تروحي له. وأنا مكلف أوصلك لحد عنده قبل بُكرة الصبح.. ممكن تقومي تتفضلي معايا من فضلك؟
هزّت رأسها برفضٍ عنيد، وقالت بذات اللهجة الطفولية التي لا تلائم شكلها البتّة:
-عمر قالّي ماتمشيش مع حد غريب!
ابتلع “زين” ضيقه وهو يحدّق فيها، بدأت تتضح له الحقيقة، هناك خلل، شيء ما في هذه الفتاة الجميلة لا ينتمي لمظهرها ..
زفر وهو يحكّ جبينه مرددًا:
-طيب.. أنا ممكن أكلم لك سيادة السفير. وهو يقولك بنفسه تيجي معايا. إيه رأيك؟
قالت بعناد أكثر، وعينها تلمع بدمعة مباغتة:
-للللللللأ!!
حدّق “زين” فيها للحظة، ثم تراجع خطوة صغيرة، وهو يغمغم من بين أسنانه:
-لأ أنا إللي مش فاضي للعب العيال ده ..
مدّ يده فجأة، وبحركة واحدة جذبها من الأرض، نهضت “ريهام” بفزع، يديها ترتجفان، عيناها الزرقاوان اتسعتا بالرعب الخالص ..
بينما يقول “زين” بصرامة:
-حضرتك هاتيجي معايا. ودلوقتي حالًا.. اتفضّلي لو سمحتي!!!
صرخت “ريهام” من فورها، صوتها عالٍ ومذعور، وبدأت تحاول الافلات من قبضته بكل ما تملك من قوتها الضعيفة ..
الناس حولهم بدأوا يلتفتون، يراقبون المشهد في صمتٍ متواطئ، لا أحد يجرؤ على التدخل مأخوذين بهيبة ذاك الرجل الذي بدا كوحش بشري مخيف ..
وفي اللحظة التي همّ “زين” بسحبها خلفه، جاء هو من الخلف كعاصفة، سدد لكمة عنيفة في وجه “زين” جعلته يتراجع مترًا كاملًا إلى الوراء ..
يتأرجح “زين” للحظة وهو يمسح الدم عن زاوية فمه، بينما يحدّق في القادم الجديد بذهولٍ واحتقان متسائلًا من ذا الذي تجرأ وباغته بهذه الطريقة!!!
كان نديم هو من ظهر من بين الجموع، لم تكن لكمته فقط التي أحدثت الصدمة، بل حضوره الفارض، نظراته الحادة، وقامته التي وقفت كجدارٍ منيعٍ بين ابنة خالته وذاك الرجل الذي لا يقل عنه ضخامة، بل لعله يتفوّق عليه جسديًا بشكل طفيف ..
احتمت “ريهام” بـ”نديم” فورًا دون أن تنطق، اختبأت خلفه كما تفعل الطفلة بخوف غريزي، ودفنت وجهها في ظهره كأنها تعرف أن الأمان لا يُوجد إلا هنا، حيث يقف هو ..
ثبت “نديم” قدميه، انكمش فكه، عينيه تضربان كالسكاكين في عيني “زين” بينما يقول بنبرة جافة، مشتعلة:
-إنت شارب حاجة صح؟ أيًّا كت مين إيدك إللي اتمدت عليها دي هاقطّعهالك لو فكرت تمدها تاني!!!
حدق “زين” فيه طويلًا، نظرة ضارية لا تهتز، فَتَّاكة لكنها منضبطة… ثم رد بصوتٍ مكتوم بالغضب:
-إنت مين أصلاً؟
ردّ “نديم” فورًا بخشونة:
-أنا أخوها. إنت إللي مين؟ وإزاي تتجرأ وتلمسها؟
بدأ الغضب ينحسر تدريجيًا من وجه “زين”. حدة الموقف، صدمة الضربة، ووضوح الرابطة بين “ريهام” وذلك الرجل، كلها أشياء جعلته يلتقط أنفاسه على مهلٍ ..
لكنه لم يخفِ احتقانه الداخلي من أثر المباغتة التي تعرّض لها لأول مرة بحياته، ثم قال وهو يضغط على كل كلمة تخرج من فاهِ:
-أنا الرائد زين نصر الدين. جاي بتكليف من سيادة السفير عاصم البدري أجيب له بنته الأنسة ريهام.
أمال “نديم” رأسه، ازدراءه ظاهر في صوته وهو يقول:
-تجيبها له إزاي يعني؟ مش فاهم؟
جاوبه “زين”بصوتٍ منخفض، محمَّل بنفاد صبرٍ واضح:
-سيادة السفير رجع إنهاردة البلد ونزل في مقر إقامته في القاهرة.. أول حاجة عملها لما نزل من الطيارة طلب إن بنته تيجي له فورًا.
هز “نديم” رأسه ببطء، كأن الكلام لا يستقيم في أذنه وقال:
-عاصم البدري مسافر وأخباره مقطوعة من ٣ سنين. حضرتك مستني مني أسلّمك أختي بكلمتين زي دول؟ أنا ماشتريتش!
زفر “زين” وقد أخرج من جيبه بطاقة عمله ومدها له قائلًا:
-ده الكارنيه بتاعي.. وحالًا هاتسمع معالي السفير بنفسك ..
أستلّ هاتفه، أجرى الاتصال برقم خاص، وضعه على مكبر الصوت، لم تمضِ ثوانٍ حتى جاء صوت رجلٍ عميق من الطرف الآخر:
-آلو؟ سيادة الرائد؟
-أيوة معالي السفير. أنا حاليًا في الفندق وقدامي الأنسة ريهام وأخوها.. لكن حضرته مش عايز يسلّمها لي وبيطلب دليل إنك أنت إللي مكلفني.. أنا بكلمك عشان أحل معاه الموقف ودّي يافندم. لكن أنا أقدر آخد الأنسة ريهام على أي حال.
صمت بسيط، تخللته نظرات “نجيم” المتحدّية وتأهب “زين” الواضح من لغة جسده.. ثم رد “عاصم” بثقة على الطرف الآخر:
-ادهولي يا سيادة الرائد.
مد “زين” الهاتف نحو “نديم” ..
لم يحرك “نديم” ساكنًا للحظة، ثم أخذه ببطء، وضعه فوق أذنه ورد بصوتٍ جلف، جاف:
-عاصم بيه.
صمت الطرف الآخر برهة مدركًا بأن هذا الصوت ليس لإبنه، ثم تساءل:
-مين معايا؟
رد “نديم” وهو ينظر لـ”زين” دون أن يرمش:
-معاك نديم الراعي.
نظرة الذهول التي ارتسمت على وجه “زين” ما إن سمع الأسم لم تكن لحظية، لم يستوعب.. هذا هو “نديم الراعي”؟
لكن “نديم” لم يُبعد عينيه عنه، لم يرفّ له جفن ..
جاء صوت “عاصم” بعدها أهدأ وأكثر مرونة:
-أهلاً يا نديم. إزيك يا حبيبي.. عمر مش عندك ولا إيه؟
نديم بجمودٍ: أنا مكانه في غيابه يا عاصم بيه. وحتى لو موجود.. أنا بردو جنب ريهام دايمًا.
-أكيد ما عنديش شك إنك جنبها وبتحميها زي ما طول عمرك بتعمل.. بس المرادي ما فيش مبرر لحمائيتك عليها. أنا أبوها.. وعايزها يا نديم!
في تلك اللحظة، بدا “نديم” كمن شُلّ داخليًا. كلمة “أبوها” اخترقت كل حججه، مزّقت حمايته، وبترت اعتراضه ..
ظلّ صامتًا، عينيه عالقتان في فراغٍ داخليّ… ثم همس:
-بس عمر مش هنا… إزاي أسلّمها بإيدي لشخص غريب وهو مش موجود؟
رد “عاصم” بحزم لا يحتمل أيّ هوامش للرفض:
-ده مش أي شخص يا نديم. إللي قدامك ده من أكفأ ظباط الداخلية والمسؤول شخصيًا عن تأميني.. يعني ريهام عمرها ما هاتلاقي أمان زي معاه. حتى جوا فندق عمر.. من فضلك سلّمها له حالًا. ريهام كده كده هتكون عندي الليلة دي.. حتى لو اضطرّيت أجي بنفسي وأخدها.
السكون بعد تلك الكلمات كان حادًا.. مشحونًا ..
ظل “نديم” ممسكًا بالهاتف، عينيه مسمرتين بعينيّ “زين”. ملامحه محاصرة ..
لا يستطيع تحدّي أب، ولا يثق في هذا الرجل الغريب، ولا يجد مخرجًا، حتى “عمر” لا يمكنه الوصول إليه ..
أين هو بحق الله؟
لم يرد “نديم” بعد ذلك ..
مدّ الهاتف بصمت إلى “زين”.. أخذه الأخير دون أن يزيح عينيه عن وجه “نديم”.. خاطب “عاصم” باقتضاب:
-تمام معالي السفير.. إن شاء الله على وصول.
ثم أغلق الخط ..
الصمت بينهما أمتد بثقل.. وظل عالقًا للحظات قبل أن يقطعه “نديم” بجفاء جاف كحد السكين:
-لازم ريهام تجهز الأول.. ماينفعش تمشي معاك كده منغير شنطة هدومها ومتعلّقاتها الشخصية.
أومأ “زين” وصوته أكثر هدوءًا ممّا يتوقعه “نديم”:
-أنا في الانتظار.
أشاح “نديم” بوجهه عنه دون كلمة أخرى، إلتفت ناحية “ريهام” وقد انخفض صوته قليلًا وهو يمدّ لها يده:
-تعالي معايا يا ريري.
وضعت “ريهام” يدها الصغيرة في يده دون تردد وهي تصوّب نظرة عداء نحو “زين”. كانت ترتجف قليلًا، لكن ثقتها في وجود “نديم” لا تهتز ..
سارت معه وعبرا أروقة الفندق، تسير خلفهما مربّيتها الأسيوية المسنّة، وفجأة، توقف “نديم” قبل أن يبلغا الممر المؤدي لجناحها الخاص ..
تجمّد كأنه أدرك كارثة ..
أراد رأسه بقوة ناظرًا خلفه، وأستلّ هاتفه مجريًا الاتصال بعمّه، لحظات وأتاه صوت “مهران”:
-نديم!
سأله “نديم” على الفور بصوتٍ جليدي:
-حفيد رياض نصر الدين إللي جالك البيت.. إسمه إيه يا عمي؟
جاوبه “مهران” بصوتٍ مشبّع بالقلق:
-اسمه زين.. زين. ابن طاهر.. ابن رياض نصر الدين.. بتسأل ليه يا نديم؟ في إيه؟
لم يكن “نديم” يسمعه بعد أن أكد له أسم غريمه.. بل لم يعد يسمع شيء.. صوت عقله كان طاغيًا على كل الأصوات ..
وعشرات الظنون تتراص أمام عينيه!…………………………………………………………….

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هيبة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى