روايات

رواية هيبة الفصل الأول 1 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة الفصل الأول 1 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة الجزء الأول

رواية هيبة البارت الأول

هيبة
هيبة

رواية هيبة الحلقة الأولى

ذكرى ميلادها الثامن عشر، إنها الأسوأ على الإطلاق، لم تراه طيلة الليلة. ظنّت بأنه عندما قال لن يحضر حفلها إنما فقط قالها نكايةً بها كما يفعل عادةً.
لكنه فعلها، حقًا فعلها و لم يحضر، ولماذا؟
لأجل زلّة وقع بها، خطأ أقترفه بحقها، لكنها سامحته، تقسم بأنها سامحته.
إلا إنه لم يسامح نفسه على ما يبدو. لهذا لم تراه منذ تلك الليلة، ولم تسمع عنه، من يُعاقب يا ترى؟
يعاقب نفسه أم يعاقبها هي!؟
ما ذنبها؟
لقد ألقى ثقلًا على قلبها لم تحتمله، لقد عرفت في لحظتها، لكنّها كذبت على نفسها.
منذ اللحظة الأولى، منذ أن قال لها إنه لن يحضر حفلها، كانت تعرف أنّ الأمر ليس مجرد مكيدة عابرة منه لإغاظتها كما اعتاد، بل عقاب. عقاب لها.. وعقاب له. لكنه لم يدرك أنّ الغياب عقاب أقسى مما يتصوّر.
كيف استطاع أن يبتعد بعد ما حدث؟ كيف استطاع أن يُقصيها، وهي التي لم تعرف الحياة إلا من خلاله؟
لقد كانت صغيرة جدًا حين بدأ قلبها ينبض باسمه. وهو، كان كبيرًا، ربما يكبرها بعدة سنوات، عشرة أو أكثر، كان “نديم”.. ابن عمّها الكبير، اليتيم، القاسِ بالفطرة، الذي يملك كل شيء حتى هذا المنزل.
إنه كلّ عالمها. لم ترَ فيه أبدًا صورة الأب الثاني فحسب، بل الرجل الأول والأخير، الرجل الذي تعلّقت به دون أن تدرك أنّ في تعلّقها خطيئة لم تنتبه إليها إلا بعدما أيقظها بنفسه.
لكن بأيّ صورة أيقظها؟
لم يكن يجب أن يحدث ذلك. لم يكن يجب أن يخطئ بحقها، ولا أن تفهم هي—أخيرًا—أن ما شعرت به نحوه لم يكن مجرد إعجاب طفلة بظلٍّ قويّ تحتمي به. كان شيئًا أكبر، أعمق، وأخطر.. شيء لم تسعَ إليه يومًا، ولم تتوقعه، لكنه سكنها على أيّ حال، حتى قبل أن يحدث ما حدث.
قبل ثلاث ليالٍ. كعادتها بقيت ساهرة بجوار النافذة حتى مطلع الفجر، كانت قلقة عليه للغاية، وتتساءل أين قد يكون حتى الآن؟
ليست المرة الأولى التي يتأخر على أيّة حال، لكن موطن قلقها يكمن بحالته هذه الفترة، لم يكن بخير، تشعر بذلك، كثير العصبية فوق عادته، سريع الغضب، حتى إنه تشاجر مع شقيقها البارحة لسببٍ تافهٍ جدًا متسببًا بقطع أبيها سُبُل الترفيه كلها عنه.
لعلها كانت نعسة قبل سويعاتٍ، لكن كلّما مرّ الوقت دون عودته يُصيبها أرق أشدّ، حتى لاح لها من بعيدٍ، أخيرًا، عاد!
تنفست “ليلى” الصعداء وهي تراقب مرور سيارته بالممر المعبّد بالحجارة وصولًا إلى باحة المنزل، رأته يترجل من السيارة ملقيًا سترة بذلته فوق كتفه، لم يغلقها حتى وسار متجهًا صوب باب المنزل.
استدارت مسرعة نحو خزانتها، سحبت روبًا وارتدته فوق قميص نومها القطنيّ، ثم هرولت خارجة من غرفتها، متوجهة نحو جناحه بالطابق العلوي.
كان هناك، بالكاد خرج من المصعد بينما استخدمت هي الدرج، مشيت نحوه وقد عبر عتبة جناحه راكلًا الباب خلفه بقدمه، إلا إنها اعترضته دافعة إيّاه ثانيةً قبل أن يُقفل تمامًا.
انتبه لحركتها من خلفه، ليلتفت نحوها مترنّحًا، بدا متفاجئًا لرؤيتها وقال بصوتٍ مشوّبًا بآثار الثمالة:
-ليلى! عايزة إيه؟ وإيه إللي جايبك هنا الساعة دي؟
ازدردت ريقها بتوترٍ، وقفت أمامه مباشرة متمتمة:
-جيت أطمن عليك. ماجاليش نوم لحد ما شفتك رجعت.. انت كويس؟
رفع رأسه ببطءٍ. التقت عيناه بعينيها، وسرت في جسدها قشعريرة لم تفهمها.
لم يكن يشبه نفسه. عيناه كانتا مثقلتين، باردتين، مشوّشتين، لكن هناك شيء في نظراته جعلها تشعر بالخطر، كأنّها أمام شخصٌ آخر، شخص لم تعرفه من قبل.
مرر يده في شعره بعصبية، ثم ضحك بصوتٍ خافت، لكن ضحكته كانت فارغة، مريرة ..
-إيه اللي جابك هنا يا ليلى؟.. كرر بصوتٍ أجشّ، ثقيل، كأنه خرج بصعوبة من بين شفتيه.
-أنا!.. ترددت. لم تعرف بماذا تجيبه، لكنها تشبّثت بذريعة قلقها:
-قلقت عليك.
ارتفع حاجبه بسخرية، وكأن كلامها استفزه:
-قلقتي عليا؟.. ضحك مجددًا، وهز رأسه مكملًا:
-ليه بقى؟ بقيتي ماما وأنا ماعرفش!؟
زادت نبضاتها. لم تكن معتادة على هذه اللهجة منه. كان دائمًا ما يغيظها، يسخر منها، لكنه لم يكن قاسيًا معها بهذا الشكل من قبل.
-طبعًا خايفة عليك!.. عقدت ذراعيها بقلق، وتساءلت:
-انت كنت فين طول اليوم؟ محدش كان عارف عنك حاجة!
رفع نظره إليها بحدة. صوته انخفض، لكنه صار أشد خطورة:
-وانتي مالك؟
ارتبكت: أنا.. أنا بس كنت عايزة أطمن عليك.
حدّق بها طويلًا. طويـــــلًا. نظرة لم تستطع فكّ شيفرتها، لكنها جعلت الدماء تتجمّد في عروقها.
ثم، فجأة، ارتدت خطوة للوراء لا إراديًا حين بدأ يتقرّب إليها، لم يتوقف، اقترب منها حتى صارت بينهما مسافة ضئيلة جدًا، وحتى شعرت بحرارة جسده أمامها، برائحته التي اختلطت برائحة الخمور التي فاحت منه.
لم تستطع التنفس لوهلةٍ. بينما يقول بصوتٍ خافت:
-ليه مهتمة بيا أوي كده يا ليلى؟
-لأنك مهم بالنسبة لي فعلًا!.. قالتها بتلعثمٍ.
نظر إليها بتمعن. ظلّت عيناه تبحثان عن شيء في وجهها، ثم ابتسم بسخرية.. ابتسامة جعلت معدتها تنقبض بخوف.
-ويا ترى اهتمامك بيا ده.. بريئ؟
عقدت حاجبيها: انت بتقول إيه؟
ردد بصوته القاسِ:
-فاكراني مش شايف؟ فاكرة نفسك لسا عيّلة صغيرة.. ومش عارفة إللي جواكي؟
ابتلعت ريقها بصعوبة. هناك شيء في كلماته نكأ جرحًا لم يكن يجب لمسه، حقيقة حاولت إنكارها طوال السنوات القليلة الماضية، لكنه الآن يُلقي بها في وجهها بكل وقاحة.
تراجعت خطوة أخرى للوراء قائلة بصوتٍ مرتعش:
-نديم.. انت مش في وعيك.. بليز لازم ترتاح.
وجاءت لتنسلّ من أمامه هاربة، لكنه مدّ يده فجأة، وأمسك برسغها. لم يشدّها إليه، لم يقبض عليها بقوة، لكن لمسته كانت كفيلة بأن تجعل أنفاسها تتسارع ..
-أقفي هنا. أنا لسا ماخلّصتش!!
شهقت، وحاولت سحب يدها، لكنه شدّها نحوه بخفة، جعلها تتعثّر بخطواتها حتى كادت تصطدم بصدره.
شعرت باضطراب غريب في داخلها، برغبة جامحة في الهروب، لكنها لم تستطع التحرّك.
ثم رفع يده الأخرى، ووضعها برفقٍ على وجنتها هامسًا:
-بقالك سنين بتبصيلي بطريقة مش بريئة. بتعامليني بأسلوب جديد. وفكراني مش فاهم.. مش كده؟
اتسعت عيناها برعب، وأخيرًا، شعرت بأنها تختنق.
-سيبني يا نديم!.. همست بصوتٍ مرتجف، لكنه لم يتحرّك.
نظر إليها للحظاتٍ بدت كالأبد، ثم خفّض رأسه قليلًا حتى اقترب وجهه منها أكثر، كأنه يختبر صبرها، كأنه يستمتع برؤيتها تنهار.
وفجأة، حنى رأسه وقبّلها.
قبلة عميقة، متطلّبة، خاطفة للأنفاس. لم تمنحه الإذن، لم تتوقعها، لكنّها حدثت.
أنّت باعتراضٍ وهي تشعر بجسده يضغطها إليه أكثر، بيديه تمسكان بوجهها، بأنفاسه الحارّة تذيب مقاومتها. كان طعم الخمر في فمه مُرًا، لكنه لم يكن أكثر مرارة من إحساسها بالعجز.
أرادت أن تدفعه، أن تصرخ، لكن كل ما فعلته هو أن تصلّبت في مكانها، متجمّدة بين ذراعيه، بين شفتيه.
ثم، حين كاد الأمر يتحوّل إلى شيء لا يمكن إصلاحه، حين شعرت بأن حدودها تُسحق تحت سطوته.. استيقظت.
تمكنت من رفع يدها أخيرًا، وصفعته.
صوت الصفعة شقّ الهواء كالسيف، والصدمة جمّدته في مكانه.
ظلّ واقفًا، ينظر إليها بعينين متسعتين، كأنه استعاد وعيه فجأة. كأنه رأى نفسه في المرآة لأول مرة.
أما هي، فتراجعت بسرعة، وضعت يدها على فمها والدموع ملء عينيها، اندفعت خارج الغرفة قبل أن يجرؤ أيٌّ منهما على نطق كلمة أخرى.
ركضت إلى غرفتها، أغلقت الباب خلفها، وسقطت على الأرض تبكي.
ظلت تبكي حتى جفّت دموعها، حتى تحجّرت بداخلها. لم تكن تبكي خوفًا، ولا حتى صدمة، بل وجعًا.. وجعًا مغمورًا بخيبة لم تفهمها تمامًا. كانت ترتجف، تتلمّس عنقها الذي امتدت إليه يده، وجسدها الذي كاد يضيع تحت ظلّه الثقيل.
لكن الأسوأ لم يكن ما فعله.
الأسوأ كان أنها، للحظة، شعرت بشيء آخر.. شيء حاولت قتله فورًا، شيء أرعبها أن يكون موجودًا.
حين استيقظت في الصباح بعد ليلة مليئة بالقلق والأحلام المزعجة، تحضّرت للذهاب إلى مدرستها، نزلت إلى الأسفل ظانّة بأنها سوف تراه على مائدة الفطور، لكنها لم تجده. كأنّه اختفى مع كوابيس ليلتها، كأنّ وجوده نفسه صار وهمًا. بحثت عنه بعينيها في كل زوايا البيت، رغم أنها لم تكن تجرؤ على أن تنطق باسمه أمام الآخرين.
تخطّت ما حدث بالليلة الماضية، وهاتفته ما إن صارت خارج المنزل، ولدهشتها رد على اتصالها. فسألته إن كان بخير بعد ليلة الأمس.
لم يرد سوى بلهجته الجافة المعتادة، كأنّ شيئًا لم يحدث.
لكنه حدث، وهي تعرف، إلا إنها لم تشأ تذكيره بحدث سخيف لعله نسيه اًصلًا.
وحين حلّ الليل، حين مرّت ساعات ليلة ميلادها باردة، فارغة، دون أن يأتي.. عرفت الحقيقة.
كان في وعيه إذن. كان يعرف ما يفعل. وكان يعرف بأن غيابه سيفضح ذلك أمامها أكثر ممّا قد تفضحه الكلمات.
تساقطت دموعها ببطءٍ، كما لو كانت تستسلم أخيرًا للحقيقة التي حاولت الهروب منها منذ وقت طويل. “نديم”.. إنها تحبّه.
ولكن ماذا عنه هو؟
ألقت نظرة أخيرة عبر نافذتها، بحثًا عنه في العدم، لقد بزغ الفجر فعلًا ولم يعد، والأحرى أنه لن يفعل مثل البارحة والليلة التي قبلها أيضًا.
تنهدت بحرارةٍ، ثم استدارت إلى سريرها، استلقت محتضنة وسادتها، وهمست باسمه:
-نديم!
____________
استيقظت “ليلى” على صوت أختها الكبرى “لُقى” قائلة بحماسة:
-ليلى. قومي بسرعة!
فتحت عينيها ببطء متمتمة:
-إيه يا لقى في إيه بتصحيني كده ليه؟
-قومي يابنتي نديم جامعنا تحت ومعاه مفاجأة.. باعتني أصحيكي مخصوص يلا قوووومي.
طار النعاس ما إن سمعت أسمه، نهضت من سريرها بينما كلمات أختها تتردد في رأسها. “نديم” عاد؟
شعرت بقلبها يقفز داخل صدرها، ودفعة من الحماس تجتاحها. أخيرًا عاد!
ابتسمت كأنها لم تكن مغمورة في بحرٍ من الحزن ليلة أمس. هرعت إلى الحمام، فتحت صنبور المياه، وغسلت وجهها سريعًا بالماء البارد، علّه يزيل آثار الدموع التي جفّت على وجنتيها طوال الليل. نظرت إلى انعكاسها في المرآة، عينيها متورّمتين قليلًا، لكنها لم تهتم.. المهم أنه هنا، وأنه بعث في طلبها، ترى ما هي المفاجأة؟
فرشت أسنانها على عجل، ثم خرجت تبحث عن شيء مناسب لترتديه. اختارت فستانًا رقيقًا بلون الخوخ الناعم، قماشه الخفيف ينساب على جسدها النحيل بانسيابيةٍ رقيقة، أكمامه قصيرة، وفتحة عنقه تُبرز عظمتيّ الترقوة برقة.
مشّطت شعرها البني الطويل، وتركته ينسدل على ظهرها، تموّجاته الطبيعية تزيده جاذبية. وضعت لمسة خفيفة من أحمر الشفاه الوردي، ثم استدارت تغادر الغرفة، وقلبها يخفق بقوة.
تذكر نفسها لحظةً بلحظة.. “نديم” ينتظرها بالأسفل.
نزلت الدرج بخفة، وكل خطوة تأخذها تزيد من تسارع أنفاسها. دخلت إلى غرفة الطعام أخيرًا، وقفت للحظة عند العتبة، تتأمل المشهد أمامها.
رأته. “نديم” يجلس على رأس الطاولة كالمعتاد، وسيمًا كعادته، بهيبتــــه المألوفة، لكن.. لم يكن وحده.
كانت بجواره “راندا”.. “راندا فؤاد منصور”.
ابنة رجل من أكبر رجال الأعمال، والشريك الأهم لابن عمّها بشتّى أعماله.
الابتسامة التي كانت تتراقص على شفتيها تلاشت، وكأن أحدهم أطفأ نورًا بداخلها فجأة. لم تكن تعرف لماذا، لكنها شعرت بغصّة ثقيلة تسكن صدرها.
ثم التقت عيناها بعينيه.
لمحت في نظراته شيئًا لم تفهمه، أو ربما لم ترد أن تفهمه. كان هناك شيء غريب، لكن قبل أن تستطيع فك رموزه، قطع صوته أفكارها:
-تعالي يا ليلى.. تعالي اقعدي.
هزّت رأسها ببطءٍ، وتحركت لتجلس.. إلا إن مقعدها المعتاد بجواره كان مشغولًا.
كانت “راندا” تشغله جالسةً بجوار رجل العائلة وكبيرها مقامًا.
ترددت للحظة، ثم اتخذت كرسيًا بعيدًا، جلست عليه بهدوءٍ، بينما عيناها تراقبان تلك الفتاة.
لطالما كانت “راندا” مشهورة بين الطبقة العليا. جذّابة.. بطريقة لم تستطع إنكارها.
بشرتها برونزية متألقة، عيناها سوداوين، واسعتان، تضجّان بأنوثةٍ طاغية، شعرها الأسود ينسدل بسلاسةٍ على كتفيها، وملامحها تشعّ سحرًا خفيًا. كانت ترتدي فستانًا زهري بسيطًا لكنه يبرز جسدها بكل إغراء ممكن. حركتها، ضحكتها، حتى طريقة جلوسها، كلها كانت تشير إلى امرأة تعرف جيدًا كيف تجذب الأنظار إليها.
شعرت “ليلى” بشيءٍ مزعج يتسلل إلى قلبها.. شيء أشبه بوخزة غيرة.
لكنها تجاهلت إحساسها، وأجبرت نفسها على التركيز فيما يحدث أمامها.
يلتفت “نديم” إلى عمه الآن، ويتحدث بنبرةٍ هادئة، لكنها محمّلة بالمشاعر:
-عمي.. أنا حبيت أشكرك قدام الكل. قدام مشيرة. قدام ولادك. إللي هما اخواتي.. على كل حاجة عملتها عشاني انت ومشيرة. من يوم ما أبويا وأمي ماتوا. وأنا عمري ما حسّيت إني وحيد وانت موجود.. انت كنت دايمًا الأب التاني ليا. ومشيرة كانت أم. ولادك مش بس أخواتي انا بحس انهم ولادي كمان.. والبيت ده قبل ما يكون بيتي هو بيتكوا. وماينفعش يتفتح إلا بيكوا.
ابتسم “مهران” بحنانٍ، ونظر إليه بعينين مليئتين بالفخر:
-انت مش محتاج تشكرني يا نديم. انت ابني.. مش بس ابن أخويا. أنا عمري ما شفتك غير كده.
ساد الصمت للحظاتٍ، قبل أن يفاجئهم جميعًا بما لم تتوقعه “ليلى” أبدًا.
أمسك بيد “راندا” وضغط عليها برفقٍ، ثم نظر إليها نظرةً خاصة.. نظرة لم ترَها في عينيه من قبل ..
-عشان كده.. أنا حبيت يكون الخبر ده لأول أشاركوا معاكوا.. مع عيلتي.
ابتلعت “ليلى” ريقها، والقشعريرة تتسلل إلى أطرافها بينما تسمعه يعلن بصوته القوي:
-أنا وراندا.. اتخطبنا إنهاردة. وفرحنا هايكون آخر الأسبوع.
كلماته سقطت كالصاعقة عليها. بينما ضجّ المكان بهتافات السعادة والمباركات، شعرت “ليلى” بالأرض تميد تحت قدميها، والهواء يختفي من حولها.
تبتسم “راندا” بخجلٍ وهي تتلقّى القبلات من السيدة مشيرة وابنتها الكبرى “لُقى”.. بينما “نديم” قد وقف ليعانق عمّه وابن عمه الأصغر ..
-أخيرًا عملتها يا دونجوان!.. قالها “ليث” مشاكسًا.
ضحك “نديم” بخشونة معانقًا إيّاه عناق أخوي رجولي، وسمح لنفسه بتسديد نظرة حادة صوب ابنة عمّه الصغيرة، نظرة ملؤها المعاني المبهمة.
ولأول مرة لا ترى “ليلى” الدفء بعينيه الخضرواين اللتين لطالما عشقتهما، بل العكس، كانت بالكاد تستطيع التنفس.
حدّقت إليه بشحوبٍ، وشعرت بحرقة تلتهم صدرها. بينما يرتد قليلًا هاتفًا وهو يخاطبها مباشرةً:
-إيه لولّا! مافيش مبروك؟
أجفلت متمتمة على الفور بصوتٍ مهزوز:
-مبروك!
هز رأسه قائلًا بهدوئه المعهود:
-لأ. مبروك حاف كده ماتنفعش.. تعالي في حضني. ولا بقيتي تتكسفي منّي؟
تدخل “مهران” ضاحكًا بموّدة:
-تتكسف منك؟ ده انت إللي مربيها. ده أنا فاكر أول ما جينا نعيش معاك كان عندها 3 سنين. وماكانتش بتنام غير في حضنك.. قومي يا ليلى احضني نديم وباركيله. ده أخوكي الكبير.
أجفلت للمرة الثانية، وكأن الكلمات أصابتها في مقتل، كأن وقعها على أذنيها أشدّ قسوة من كل ما سبق. للحظة، شعرت أنها غير قادرة على الحراك، قدماها تثقلتا فجأة، وقلبها يخفق كطائرٍ مذعور. لكن نظرات العائلة، المنتظرة، لم تترك لها خيارًا.
أجبرت نفسها على النهوض، ارتباكها يفضحها، خطواتها نحو “نديم” كانت مترددة، ثقيلة، وكأنها تسير على جمرٍ لا يُرى. كان هو ثابتًا في مكانه، لم يتحرك، فقط راقب اقترابها بصمتٍ مريب، كأنه ينتظر أن تصل إليه بنفسها.
وعندما وقفت أمامه مباشرةً، رفعت عينيها إليه، للحظةٍ تلاقت النظرات، فاشتعل شيءٌ ما في قلبها، إحساسٌ غامض، مجهول المصدر، لكنه خانق. لم تمنح نفسها وقتًا لتحلّل ما يحدث بداخلها، فقط مدّت ذراعيها ببطءٍ، وشبّت على أطراف أصابعها، تحيط عنقه بذراعيها في عناقٍ بدا وكأنه محاولة يائسة للامتثال لما يُطلب منها، أكثر من كونه فعلًا نابعًا من قلبها.
إلا إن الكلمات التي خرجت من بين شفتيها.. كانت الأثقل على روحها، الأشد إيلامًا:
-مبروك يا أخويا.
وما إن نطقتها، حتى شعرت بذراعيه تلتفّان حولها فجأة، بقوةٍ لم تتوقعها، كأنهما قيدٌ أحكم إغلاقه عليها، كأنهما يرفضانهما معًا، هذا اللقب الذي منحته إيّاه وبادلها ذاته بدوره.
جاء صوته منخفضًا، لكنّه نفذ إلى أعمق نقطةٍ في روحها، محملًا بشيءٍ لم تستطع تفسيره:
-الله يبارك فيكي.. يا أختي.
ذلك الرد، كان بمثابة الضربة القاضية لأيّ مشاعر أحسّتها تجاهه.. انتهى كل شيء.. حتى قبل أن يبدأ!
_ من أنا _ :
تتأمل انعكاسها بذهول، كأنها ترى نفسها لأول مرة. انسدلت خصيلاتها الجديدة على كتفيها بنعومة، تتراقص تحت الضوء بلونها الأشقر الذي أضفى على ملامحها وهجًا دافئًا. مرّرت أناملها على شعرها برفقٍ، تتحسس نعومته المعهودة بلا تموّجات، ثم أمالت رأسها قليلًا تتفحص زوايا التغيير، تراقب كيف يعكس الضوء لمعان اللون الجديد المدمج بلون شعرها الكستنائي الأصلي ..
-إيه رأيك أنسة ليلى؟ زي ما كنتي عايزة؟
إلتفتت “ليلى” صوب خبير التجميل الأشهر بالمدينة، ابتسمت له قائلة:
-انت بتهزر يا ريكو؟ ده تحفة. الهايلايت طلع فكرة تجنن زي ما قولتلي.
وافقها الأخير مغلغلًا أصابعه بشعرها ينتثره لتراه بالمرآة:
-أنا عملت إللي تخيّلته هايكون لايق جدًا عليكي. لما قولتيلي عايزة لوك جريئ يمحي آثار فتاة المدرسة وفي نفس الوقت مايشوّهش شكلك الأصلي.. دلوقتي بقيتي Lady بجد!
لم تستطع كبح ابتسامتها، تلك الابتسامة التي زيّنت ملامحها بثقةٍ لم تعهدها من قبل. رفعت ذقنها قليلًا، عبثت ببعض الخصيلات بيدها وكأنها تستكشف مدى تأثير هذا التغيير على حضورها، على إحساسها بذاتها. أزاحت الكرسي للخلف بخطواتٍ رشيقة، دارت نصف دائرة أمام المرآة، ثم عادت تتأمل ببطءٍ، وكأنها تود أن تحفظ هذا الوجه الجديد في ذاكرتها. لم يكن مجرد تغيير في الشعر، بل كان شيئًا أعمق، كأنه إعادة تعريف لنفسها، لمظهرها، لصورتها أمام العالم.
وقفت أمام المرآة تتأمل انعكاسها بذهول، كأنها ترى نفسها لأول مرة. انسدلت خصلاتها الجديدة على كتفيها بنعومة، تتراقص تحت الضوء بلونها الأشقر الذي أضفى على ملامحها وهجًا دافئًا. مرّرت أناملها على خصلاتها برفق، تتحسس النعومة التي لم تعهدها من قبل، ثم أمالت رأسها قليلًا تتفحص زوايا التغيير، تراقب كيف يعكس الضوء لمعان اللون الجديد.
لم تستطع كبح ابتسامتها، تلك الابتسامة التي زينت ملامحها بثقة لم تعهدها من قبل. رفعت ذقنها قليلًا، عبثت ببعض الخصلات بيدها وكأنها تستكشف مدى تأثير هذا التغيير على حضورها، على إحساسها بذاتها. أزاحت الكرسي للخلف بخطوات رشيقة، دارت نصف دائرة أمام المرآة، ثم عادت تتأمل ببطء، وكأنها تود أن تحفظ هذا الوجه الجديد في ذاكرتها. لم يكن مجرد تغيير في الشعر، بل كان شيئًا أعمق، كأنه إعادة تعريف لنفسها، لمظهرها، لصورتها أمام العالم.
وأمامه هو خاصةً. الرجل الذي كان ومازال عقدة حياتها، المتسلّط الغامض، والذي لم تستطع يومًا فهمه، لم يكن ما تفعله مجرد تغيير بسيط في مظهرها، بل كان ثورة صامتة، إعلانًا غير مباشر عن تحوّلها.
كم كان يضايقها بكلماته التي توحي بأنها طفلة، كم استهان بنضجها، حتى حين كانت تحاول أن تثبت له العكس. والآن؟ الآن لن يرى الطفلة التي طالما وضعها في قالب البراءة والصغر، بل سيجد أمامه امرأة، ربما تفوق زوجته الفاتنة إثارةً وجمالًا!
زفرَت “ليلى” ببطءٍ، تذكرت ليلة زفافه واقترانه بتلك الأخيرة. تذكرت الفترة العصيبة التي عاشتها لاحقًا، وهي تراه معها، ملاصقةً له، تستحوذ عليه وتهتم بتفاصيله، تشاركه كل شيء، ألا يحق لها؟
لقد صارت زوجته، ما يحدث بينهم غير ما ذكرت أكثر بكثير، وبمجرد تفكيرها به تشعر وكأنها على وشك البكاء، ولا تعرف السبب على وجه الدقة!!
لطالما أعجبت بـ”نديم”. وربما تحرّكت مشاعرها تجاهه بالآونة الأخيرة، لكنه لم يفعل، فلو فعل ما كان ليتجاهلها بهذا الشكل، ما كان لينظر لأخرى.
ابتسمت بسخرية، وكأنها تُذَكِّر نفسها بأنها لم تعد تحتاج لمقارنات واهية. لقد تجاوزت كل ذلك منذ لحظة إعلانهما زوجًا وزوجة.
ما يهمها الآن هو كيف إنها سوف تبهره، وستكون أشدّ الناس سعادة لمحو نظرة الاستخفاف بها من عينيه، اليوم، حين يراها، سيعلم بأنها لم تعد تلك الفتاة التي تركها خلفه، بل باتت امرأة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأكثر ممّا كان يتخيل …
-ميرسي أوي يا ريكو. بجد ميرسي على كل حاجة.
حدجها الشاب الوسيم مبتسمًا بلطفٍ وقال:
-أنا ماعملتش حاجة كبيرة. انتي إللي جمالك مش عادي.
رفرفت برموشها الطويلة تشكره برقةٍ من جديد، ثم ألقت على نفسها نرظة أخيرة بالمرآة، مرّرت أصابعها على شفتيها ذات الحمرة الصارخة، رفعت ذقنها قليلًا دافعة شعرها للوراء، ثم استدارت برشاقة، وكأنها تُودّع النسخة القديمة منها، ماضية بثقة نحو حياة لن يكون “نديم الراعي” جزءًا منها بعد الآن …
-لأ !.. تمتمت “ليلى” بتعجب ما إن صارت أمام السيارة التي بعثت في طلبها عبر الهاتف
لم يكن تعليقها يخص أحدًا غيره بالطبع، ما إن اهتز الهاتف بيدها أنبأها حدسها مسبقًا، وتأكدت عندما ألقت نظرة على الشاشة المضاءة، لترى أسمه الذي يُكثّف خفقات قلبها بمجرد سماعه أو حتى رؤيته ..
وللمرة الثانية يخبرها حدسها سبب إتصاله بها في هذا التوقيت تحديدًا، تطلق نهدة عميقة، تتمالك أعصابها جيدًا، ثم ترد عليه بثباتٍ:
-آلو!
جائها رده الهادئ حادًا بشدة:
-100 مرة قلت لك. لما تخرجي من البيت لوحدك يكون معاكي السواق.. حصل ولا لأ؟
تريّثت “ليلى” للثوانٍ قبل أن ترد عليه بضجرٍ:
-نديم.. من فضلك أنا مبسوطة جدًا دلوقتي. ومش في مود أسمع أي أوردر. عمومًا أنا راجعة البيت دلوقتي.
سمعت نبرة الخطر الخفيّة في صوته الخافت:
-أسمعي يا ليلى.. انتي كده كده هاتتحاسبي. ماتزوّديش فاتورتك أحسن لك
فضل السواق هاتلاقيه مستنيكي قدام المكان إللي انتي فيه. تروحي زي الشاطرة وتركبي معاه حالًا. ولينا كلام لما ترجعي.
لم تنتبه “ليلى” لآخر كلماته، إذ كانت مذهولة وهي ترفع عيناها باحثة عن أثر السيارة الفضّية التي تعرفها جيدًا، وبالفعل، وجدتها تقف على الجانب الآخر من الطريق المواجه للمركز التجميلي ..
كيف عرف بحق الله؟.. كيف عرف بمكانها وهي التي رفضت اصطحاب السائق لها صباحًا وجاءت بسيارة أجرة.. أيراقبها!؟
-سمعتي يا ليلى؟
أفاقت على صوته واعية لما يحدث، تجاهلت لهجته التحذيرية وقالت مدفوعة بحنقها بأسلوبه الأبوي الخانق:
-معلش هاتسمعني انت يا نديم.. أنا جيت هنا لوحدي وهاروّح البيت كمان لوحدي.. ولما أرجع فعلًا لينا كلام. انت بقيت بتخنقني بأوامرك وتحكماتك ومش فاهمة عشان إيه أصلًا.. بص. أنا جايّة.
صوت ما بأعماقها جمّدها قبل أن تتحامق وتغلق بوجهه، بينما قال عقب كلمتها الأخيرة مباشرةً بنبرةٍ أرجفتها:
-لو كلمتي ماتسمعتش يا ليلى وماروحتيش تركبي العربية مع فضل.. مش هاكتفي بتأديبك بشوية كلام. وهاتندمي!
ردت باستهزاءٍ غريزيّ:
-تصدق خوّفتني فعلًا يا نديم.. ده بابي نفسه مش بيخوّف زيك.. باي عشان الكابتن مستني وأنا اتأخرت عليه.
وأغلقت الآن قبل أن تسمع منه أيّ رد، سحبت نفسًا مرتعشًا عبر شفتيها، ثم سارت صوب السيارة المستأجرة بخطواتٍ بدت واثقة، ولكن من داخلها كانت عكس كل ما حاولت التظاهر به.
__________________
في جناحه المَلكي الفاخر ..
وقف “نديم الراعي” أمام المرآة الضخمة، يغلق أزرار قميصه الداكن بحركةٍ رتيبة، يضبط ياقته المفرودة، ويحرص على أن يكون مظهره لا تشوبه شائبة كعادته. الضوء الخافت المنبعث من الأباجورة الجانبية رسم ظلالًا ناعمة على ملامحه الحادة، لكن عينيه الخضراوين كانتا بعيدتين تمامًا عن انعكاسه في المرآة، كانتا غائصتين في بُعدٍ آخر.
وعقله في مكانٍ آخر… معها.. مع “ليلى”!
تلك الفتاة التي ربّاها بنفسه، وقد ظن بأنه يشكّلها كما يريد، لكنه الآن يدرك بأنها أفلتت من قبضته، تسلّلت بعيدًا عن الصورة التي رسمها لها، واكتسبت من شخصيته أكثر ممّا ينبغي. العناد، التمرد، الرغبة في فرض إرادتها… كلها صفات لم يكن يجب أن تكتسبها، لكنها فعلت، وبسببه هو. فهل يلومها؟
لكن الأمر لم يعد يحتمل. تجاوزت كل الحدود، وتمادت في تحدّيها له. كان عليه أن يضع حدًا لهذا العبث. هو “نديم الراعي”… وهي، من بين الجميع، هي بالذات، لا يمكن أن يسمح لها بتخطي الخطوط التي رسمها. لا يمكن أن تتحداه، أو أن تخرج عن طوعه. هي بالذات.
فجأة، شعر “نديم” بذراعين ناعمتين تلتفان حوله من الخلف، وصوت دافئ يهمس من وراء كتفه:
-بحبك!
لم يلتفت. لم يرد حتى. مدّ يده إلى زجاجة عطره المفضّل، ورشّ منه بوفرة على عنقه ومعصميه، بينما “راندا” زوجته، تقف في مكانها خلفه، تحتضنه وتنتظر… لكن دون جدوى.
تحرّكت لتقف إلى جانبه، نظرت إليه عبر المرآة، قبل أن تمسك بذراعه برفقٍ وتقول بنبرة عتاب:
-انت مش سامعني؟ بقولك بحبك يا نديم!
أخيرًا إلتفت إليها، لكن نظرته كانت باردة، وابتسامته لم تصل لعينيه …
-مالك يا راندا؟ خير. هاتي اللي عندك.
قطبت جبينها بانزعاجٍ، تركت ذراعه ونظرت إليه مباشرةً قائلة:
-هو أنا لازم أكون عايزة حاجة لما بقولك كده؟ في إيه يا نديم؟ انا مابقتش عارفة مالك. بقالك فترة طويلة مش معايا. مش حاسس بيا.. نديم.. انت حتى بطّلت تلمسني!
ألقى نظرة سريعة على ساعته، ثم زفر بنفاذ صبر، وعاد لضبط أكمام قميصه قائلًا بصلابة:
-راندا. مش وقته الكلام ده.
ردت بنزعة عصبية:
-أمال إمتى وقته؟ كل مرة نفس الرد!
أدار وجهه إليها أخيرًا، نبرته حملت ضيق ممزوجًا بحزمٍ واضح:
-خلاص قلت.. هانتأخر على الغدا.. زمانهم مستنيّنا تحت. يلا.
تشنجت ملامحها، وكأنها على وشك الرد بغضب، لكنها تراجعت في آخر لحظة. هزّت رأسها قليلًا، ثم استدارت بصمت، تاركةً له الإجابة التي لم تحصل عليها، والفراغ الذي بدأ يكبر بينهما دون أن يكترث.
__________________
في غرفة الطعام ..
هناك صمت ثقيلٌ لم يقطعه سوى صوت الأطباق وهي تُوضع على الطاولة بعنايةٍ. بينما جلس “مهران الراعي” في مكانه المعتاد، عاقدًا ذراعيه وهو يراقب زوجته، السيدة “مشيرة العقّاد” التي كانت توزّع الطعام برفقة مستخدميها على الأطباق بانشغالٍ واضح. تردد قليلًا قبل أن ينطق، لكنها كانت فرصته، لم يحضر أحد بعد، وهذا الحديث ضروري خاصةً بعد الذي حدث صباحًا …
-مشيرة.. واحنا لوحدنا كده. ممكن تفهميني باختصار ليه أسلوبك بقى جاف جدًا مع ليلى مؤخرًا؟
لم تتوقف مشيرة عن عملها، لكن حاجبيها ارتفعا قليلًا قبل أن تدير رأسها نحوه ببطءٍ لترد بنبرةٍ باردة:
-أسلوبي بقى جاف؟ لأ مش فاهمة يا مهران. جبت منين الفكرة دي. أو إيه الجديد إللي شوفتني عليه معاها؟
قطب “مهران” وهو يقول بلمحة غاضبة:
-انتي بقيتي قاسية عليها.. بتكلّميها بجفاء عكس أي حد هنا في البيت حتى راندا مرات نديم. وكأن ليلى هي الغريبة. كأنها مش بنتك!
وضعت الملعقة على الطاولة بقوة، ورفعت عينيها لتلتقي بعينيه مباشرةً، وكأنها تتحداه أن يقترب أكثر من هذه المنطقة …
-أديك قلت.. بنتي.. بنتي يا مهران زي ما قلت.. وأنا أدرى بمصلحتها. انت دلّعتها دلع ماسخ أوي من صغرها. ومعاملتي ليها إللي مش عاجباك دي محاولة أخيرة.. قبل ما عيارها يفلت.
صاح “مهران” بدهشة لا تخلو من الغضب الصريح:
-عيار مين إللي يفلت؟ كل ده عشان إيه؟ انتي عارفة أصلًا بتتكلمي عن مين.. دي ليلى.. ليلى يا مشيرة. دي لسا طفلة!!
-طفلة رايحة الجامعة كمان كام يوم.. صحيح!
ضيّق عينيه متفحصًا ملامحها، باحثًا عن إجابة خلف هذا العداء المستتر في كلماتها. وقال:
-عارفة يا مشيرة.. يارب أطلع غلطان.. وتكوني فعلًا بتتصرفي بدافع خوفك عليها. عشان لو إللي في دماغي صح.. هاتزعلي مني أوي.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكن عينيها ظلّتا باردتين وهي ترد عليه:
-انت زعلتني خلاص يا مهران.. وماظنش إن أي حاجة ممكن تعملها دلوقتي أو بعدين ممكن تزعلني.
اشتد فكه غضبًا، وهتف من بين أسنانه محتدًا:
-أنا بحذرك يا مشيرة.. وده أخر تحذير.. ليلى خط أحمر ومش هاسمح لك حتى تجيبي سيرتها بكلمة بطّالة انتي سامعة ..
-إهدى يا عمّي!
إنتبه “مهران” لصوت “نديم” المباغت، أمسك لسانه بينما يستطرد الأخير ماشيًا صوب مائدة الطعام بجواره زوجته:
-مين يقدر يجيب سيرة ليلى بكلمة بطّالة بس؟ محدش يقدر طول ما أنا موجود طبعًا.
وجلس على رأس الطاولة متابعًا وهو يوّزع ناظريه بين عمّه وزوجته:
-إيه الحكاية بقى؟
بادرت “مشيرة” وهي تضع له صحنه الخاص أمامه:
-ولا حاجة يا حبيبي.. عمّك كالعادة بس.. شايف ليلى ملاك مابتغلطش.
راقب “نديم” عمّه وهو يرمق زوجته بنظرة كانت لتحرقها لو أن لها تأثير.. سحب نفسًا عميقًا وقال بهدوء:
-مافيش حد مابيغلطش أكيد.. وخاصةً ليلى يا عمي!
نظر له “مهران” مشدوهًا ولم يرد، فأكمل “نديم” بصوتٍ أجش:
-ماتبصليش كده يا عمي.. بص أنا ماعرفش إيه مشكلة مشيرة مع ليلى. لكن إللي أنا واثق منه إنها واخدة وش على الكل الفترة دي ولازم يتعاد رسم حدودها.
عبس “مهران” قائلًا:
-انت هاتعوم على عوم مشيرة يا نديم. يابني ليلى لسا عيّلة. كل ده عشان سايبها تعيش سنّها؟ البنت مابتعملش حاجة غلط.
هز “نديم” رأسه وقال بمنطقه المقنع كالمعتاد:
-ما هو ده أول طريق التمرّد يا عمي.. لما إنهاردة تسمح لها تمشي على كيفها. تخرج وتدخل وقت ما تحب. تلبس إللي يعجبها. تكلّم أي حد منغير ما نعرفه على الأقل.. هاتاخد على كده ومحدش هايعرف يحاسبها بعدين.. ليلى محتاجة يتشدّ عليها شويتين وده إللي أنا ناوي أعمله.
لو كان أي أحد غيره قال هذا الكلام ربما كان “مهران” ليعارضه بقسوة، لكنه ولدهشة زوجته وزوجة ابن أخيه وافقه قائلًا وقد اقتنع بكلامه:
-جايز انت شايف حاجة أنا مش شايفها فعلًا.. خلاص يا نديم.. اتصرف معاها وأنا مش هاتدخل نهائي.
غمغمت “مشيرة” من مكانها متهكمة:
-لو ماكنش نديم قالها ماتبقاش كلمة حق صحيح!
صوّب “مهران” نحوها نظرة محتقنة، بينما ابتسم “نديم” متسائلًا فجأة:
-أومال فين ليث ولُقى؟
أجابت “مشيرة” وقد اشرق وجهها بالابتسام الآن:
-لُقى سافرت اسكندرية عشان تاخد قياسات فستان فرحها وليث طبعًا راح معاها.. يومين وهايرجعوا إن شاء الله.
-تمام بس ماتنسيش إن العريس اسكندراني. يعني عايش هناك. وليث لازم يفتّح عنيه على أخته كويس ومايسبهاش تتوارب عن عينه. مش هانيجي في الآخر ونخيب.
-لآ ماتقلقش.. ليث من الناحية دي طالع لك بالظبط. دي كانت هاتروح لوحدها وهو راسه وألف سيف رجله على رجلها.
-راجل!.. قالها مزهوًا بالفتى الذي كبر في كنفه وتعلّم منه الكثير على مرّ السنون
وأمسك بالملعقة وكاد يبدأ بتناول طعامه.. إلا إن صوتها جمّد كل شيء من حوله للحظة:
-Hello Humans!
أطلّت “ليلى” على أعتاب غرفة الطعام بغتةً، رأت الجميع كما توقّعت _ عدا شقيقاها _ والدها “مهران” في زاوية المائدة، وأمها مشيرة إلى جانبه، وعلى الجانب الآخر كانت “راندا”. أما “نديم” فكعادته، في الصدارة.
متجهمًا كالمعتاد، لم تسمع لأحد صوتًا بعد ظهورها، رغم أن أصواتهم تناهت إلى سمعها قبيل دخولها، عينيها لم تفوّت أيّ تفصيلة للأجواء المشحونة.
توقفت عند المدخل للحظة، كأنها تستجمع قواها قبل أن تتقدم، تحاول أن تبقي رأسها مرفوعًا رغم التوتر الذي بدأ يزحف إلى صدرها. لم يكن التوتر نابعًا من وجود الجميع بقدر ما كان بسبب نظرات “نديم” الحادة التي التقت بعينيها للحظة واحدة فقط… لكنها كانت كفيلة بأن تعيد إلى ذاكرتها وعيده القاسي لها عبر الهاتف قبل ساعة واحدة، حين عصت أوامره ولم تعد مع سائقه.
ورغم أنها كانت مغرورة بما يكفي لعدم إظهار خوفها، فإن ارتباكها كان حقيقيًا. ومع ذلك، تماسكت، وواصلت طريقها نحو الطاولة …
-مساء الخير!.. خرج صوتها هادئًا.
لكنه لم ينجح في كسر الجليد الذي خيّم على المكان. شعرت بتشنج “نديم” بمجرد أن نطقت، وكأن وجودها في حد ذاته كان مستفزًا له. تجاهلته تمامًا واقتربت من والدها، قبّلته على خده بمحبة، فردّ عليها بابتسامة دافئة. ثم التفتت إلى والدتها، فطبعَت قبلة خفيفة على خدها، لكن “مشيرة” لم تُظهر أيّ استجابة، اكتفت بإيماءة باردة وكأنها بالكاد تتسامح مع وجودها.
أدارت “ليلى” رأسها نحو كلًا من “نديم” و”راندا”. ألقت عليهما تحيّة مقتضبة، لا دفء فيها ولا عداء، مجرد كلمات رسمية خالية من أيّ مشاعر. لم تتوقع ردًا حارًا، ولم تحصل عليه، فاكتفت بأن تسحب الكرسي لتجلس…
لكن فجأة، جاءها صوته، حادًا، قاطعًا، لا يقبل الجدل:
-ماتقعديش!
تجمّدت يدها على ظهر الكرسي، وحدّقت فيه بذهول. لأول مرة منذ دخلت، نظرت إليه مباشرةً… وإلى ذلك البرود القاسي الذي يغلّف ملامحه.
-إيه؟
تقاطعت نظراتهما للحظاتٍ طويلة، قبل أن يتكئ إلى الخلف في مقعده، واضعًا ذراعه على الطاولة بلامبالاة مستفزة وهو يقول ببرودٍ:
-واضح إنك متخيّلة إن تصرفاتك هاتعدي ببساطة. وإنك ماعملتيش حاجة تستاهل العقاب.. كنتي فكراني بهزر؟
شعرت بالدماء تصعد إلى وجهها، تذكّرت المكالمة بحذافيرها وهي تنظر إليه… تذكّرت لهجته القاسية فيها والتي تحاكي لهجته في هذه اللحظة بإسلوبٍ مبطن. لكنها لم تكن لتتراجع الآن. انتصبت في مكانها، تحاول أن تحافظ على هدوئها رغم غليانها الداخلي، وقالت:
-عقاب؟ انت شايفني طفلة يا نديم؟ ثم أنا عملت إيه؟ أنا خرجت روحت الكوافير زي ما بعمل كل فترة عادي. إيه المشكلة يعني؟
-المشكلة إنك مش هاتعملي كده تاني!.. قالها بوضوحٍ، وأردف:
-أقصد ماعادش في فرص ليكي تعملي أي حاجة تيجي على بالك.. لا خروج ولا حتى نزول من أوضتك.
احتدت عيناها، واستدارت نحو والدها، متوسّلة تدخله:
-بابي انت ساكت ليه؟ مش هتقول حاجة؟!
زفر “مهران” بخفة، قبل أن يهز رأسه بأسفٍ، ويرد عليها بحزمٍ خذلها:
-أنا آسف يا ليلى… مقدرش أتدخل بينك وبين نديم. ده أخوكي الكبير. وأكيد عارف بيعمل إيه والأهم إنه عارف مصلحتك.
أخيها!!!
تراجعت خطوة للخلف، وكأنها تلقّت صفعة. نظرت إلى والدها بذهول، ثم إلى “نديم” الذي لم تفارق ملامحه تلك البرودة المستفزة.
صاحت بوجوههم فجأةً:
-ده مش أخويا!
خرجت الكلمات منها بعنفٍ، وكأنها تحاول بها كسر تلك السلطة التي فرضها عليها الجميع دون إرادتها. لكن “نديم” لم يتأثر، لم يغضب حتى. فقط ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة، أججت غضبها، قبل أن يرد بهدوءٍ مستفز:
-فعلًا… أنا مش أخوكي. بس ده مش معناه إنك تقدري تخرجي عن طوعي. أو تعملي اللي في دماغك أيًا كان. وبالمناسبة حسابك على إللي روحتي عملتيه في شكلك ده منغير ما تستأذني أنا شايله لقدام.. بس هاتعرفيه في وقته.
كانت إشارة صريحة لمظهر شعرها الجديد، لقد لفتت نظره إذن، وكانت لتغتبط في ظرفٍ آخر.
لكنها بدلًا من ذلك قبضت يديها بقوة، تحاول أن تكبح رغبتها في الصراخ بوجهه باسلوبٍ أكثر ضراوة، إلا إن “نديم” لم يمنحها فرصة للرد، وأكمل بصوتٍ ثابت:
-بما إنك شايفة نفسك ناضجة كفاية عشان تتحديني.. يبقى تستحملي نتيجة أفعالك.
صمت للحظة، ثم أنهى قراره بصرامة:
-هاتطلعي أوضتك.. مش هاتنزلي منها غير لما أسمح لك. مفهوم؟
اتسعت عيناها بدهشة وغضب ورددت:
-أفندم! أنت بتتكلم جد؟!
-جد جدًا. وده آخر كلام.
تلفتت حولها، منتظرة أن يتدخل أحد… لكن الصمت كان سيد الموقف. “راندا” بدت مستمتعة بما يجري ولم تستغرب، ووالدتها لم تحرك ساكنًا، أما والدها… فقد اكتفى بالصمت، كأن الأمر لا يعنيه.
عجزت عن كبح انفعالها أكثر، فصرخت بانفعالٍ:
-مش طالعة! ومش من حقك تمنعني من الخروج أو النزول. ولا تتعامل معايا بالطريقة دي أصلًا أنا ماسمحلكش!!
أطبق صمت مريب على الجميع، لم يجرؤ أحد على النطق، فقط حالة من الترقّب، ثم نهض “نديم” ببطءٍ.
رفع رأسه لينظر إليها نظرة ثابتة جعلت قلبها يضطرب رغمًا عنها. اقترب منها قليلًا، حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة، ثم قال بصوتٍ خفيض، لكنه كان أشبه بحكمٍ نهائي:
-اطلعي أوضتك يا ليلى… دلوقتي.
وقفت “ليلى” في مكانها، أنفاسها تتسارع، وعيناها تشتعلان بالغضب والعناد. لم تكن معتادة على أن يُملى عليها شيء، لم تكن تقبل الأوامر من أحد، فكيف به؟! كيف يجرؤ على فرض سلطته عليها بهذه الطريقة المهينة؟
لكن “نديم” لم يكن في مزاج يسمح له بتقبّل مقاومتها. تقدّم خطوة أخرى، حتى بات الفارق بينهما معدومًا تقريبًا، وحدّق في عينيها بنظرة ثقيلة، كأنها تهوي بسوط على كبريائها …
-قلت لك اطلعي أوضتك!.. صوته منخفضًا، لكنه يحمل في نبراته تهديدًا لا يمكن تجاهله.
رفعت رأسها بتحدٍّ، جمعت كل قوتها كي لا تبدو ضعيفة أمامه، بينما عقلها يُعيد استرجاع مواقفه السابقة معها… كان دائمًا يُنذر قبل أن يعاقب، لكنه اليوم، لم يكن في مزاج للإنذارات …
-ولو ماطلعتش؟ هاتعمل إيه يعني؟
كانت تعرف أن استفزازه أكبر خطأ يمكن أن تقترفه، لكنها لم تستطع منع نفسها. أرادت أن تريه بأنها ليست فتاة ضعيفة، وأنه لا يستطيع التحكم بها كما يتحكم بالآخرين.
لكن رد فعله كان أسرع ممّا توقعت.
في لحظة، امتدت قبضته إلى وتحوّلت إلى طوق حديدي حول معصمها، شدّها نحوه بعنفٍ جعلها تترنّح قليلًا، قبل أن يهمس في أذنها بنبرةٍ باردة تقطر تهديدًا:
-مش هاتجبَريني أوريكي هاعمل إيه لو ماسمعتيش الكلام. بس لو حابة تتهاني بجد يا ليلى.. كمّلي عناد!
تجمدت في مكانها، قلبها ينبض بعنف، ليس خوفًا، وإنما صدمة من حدة تصرفه. رفعت عينيها إليه، محاولة أن تجد أيّ أثر للين أو تراجع في ملامحه، لكنها لم تجد سوى القسوة المطلقة.
حاولت أن تسحب يدها من قبضته، لكن أصابعه ضغطت أكثر، فأدركت أن لا فائدة. نظرت حولها مستنجدة، فوجدت والدها ينظر بعيدًا كأنه غير معنيّ بالأمر، ووالدتها صامتة، و”راندا” لأول مرة ترتبك منذ رأتها، لكنها بالطبع لن تنبس بكلمة!!
شعرت بغصّة في حلقها… لا أحد سيقف بجانبها. كانت وحدها في هذه المعركة، والمعركة قد حُسمت بالفعل لصالحه.
لقد خسرت.
الرضوخ كان مُرًا، لكنه كان الخيار الوحيد الآن.
أخفضت عينيها، وأجبرت نفسها على ابتلاع عنادها، قبل أن تهمس بصوتٍ خرج مختنقًا رغمًا عنها:
-سيب إيدي!
لم يفلتها فورًا، كأنه أراد أن يتأكد من استسلامها تمامًا، ثم بعد لحظاتٍ أطلق سراحها ببطء. تراجعت خطوة إلى الخلف، تشعر بالذل يغلي في عروقها، لكنها لم ترفع رأسها، لم ترد أن يرى في عينيها أثر الانكسار الذي نجح في زرعه داخلها.
ثم، دون أن تنطق بكلمة أخرى، استدارت واتجهت نحو الدرج.
لكن قبل أن تختفي تمامًا، جاءها صوته مرةً أخرى، بنفس الصرامة التي أنهت كل جدال معها:
-غداكي وعشاكي إنهاردة في أوضتك.. مش عايز ألمحك حواليا في أي مكان لحد ما أقرر إمتى تخرجي.
تسارعت خطواتها دون أن ترد. لم تكن تريد أن تمنحه أيّ انتصار آخر… لكنه كان يعلم، كما تعلم هي، أن انتصاره الأكبر قد تحقق بالفعل.
لقد كسرها.
أغلقت “ليلى” باب غرفتها خلفها، وأسندت ظهرها إليه، ثم انزلقت ببطءٍ حتى جلست فوق الأرض. انفجر بكاؤها في لحظة، ليس بكاء ضعف، بل قهر. قهر من كل ما تمر به، من قسوة “نديم”. من إحساسها بالخذلان، من عجزها عن فهم ما الذي تغيّر، ولماذا تغيّر؟
لطالما كان “نديم” هو الرجل الذي نظرت إليه بانبهار، وكأنه خُلق ليكون فارسها. أحبّته في صمت، رسمت له في خيالها صورة البطل الذي لن يخذلها أبدًا، حتى صدمها قراره بالزواج من أخرى، فحطم أحلامها الورديّة دفعة واحدة. لكن رغم كل شيء، لم تستطع أن تكرهه، وما يؤلمها أنها لا زالت تحبّه.
تكاد تجن، لماذا تغيّرت معاملته لها؟ لم يكن هكذا معها في السابق. أجل، كان قويًا، حازمًا، لكنه كان يعرف كيف يحتويها أيضًا، كانت مدللته.. والآن؟ ماذا حدث؟ لماذا يعاملها بكل هذه القسوة؟ كيف نسى كل شيء؟
ألزوجته هذا التأثير الكبير عليه؟ هل نجحت بأخذه من الجميع حتى منها هي؟ اللئيمة. حتمًا هي من أشعلت نيران البغض في قلبه تجاهها، أجل هي لا غيرها!
زحفت “ليلى” نحو سريرها بصعوبةٍ، وكأن الحزن استنزف كل طاقتها، واستلقت عليه وهي تحضن وسادتها، تبكي حتى شعرت أن الدموع قد جفّت في عينيها. ظلّت على هذه الحال حتى اهتز هاتفها فجأة، نظرت إلى الشاشة بعينين محمرتين فرأت اسم “نوران”. صديقتها المقرّبة يضيئ الشاشة.
ترددت لثوانٍ قبل أن ترد بصوتٍ مبحوح، مثقل بالبكاء:
-آلو!
نوران بلهجةٍ قلقة:
-ليلى.. مالك في إيه؟ إنتي كويسة؟
ليلى بصوتٍ مختنق:
-كويسة؟ آه طبعًا.. كويسة جدًا. لدرجة إني مش عارفة أنطق!
نوران بحدة: إنتي بتعيطي؟! إيه اللي حصل؟
بكت “ليلى” بمرارة وهي تصارحها باحتياجٍ للإفصاح:
-نديم.. نديم بقى حد تاني يا نوران.. أنا مش عارفة ده مين! من ساعة ما اتجوز الزفتة دي وهو بيعاملني أسوأ معاملة. ودلوقتي بيحبسني. أنا.. أنا مش مصدقة إن ده هو نديم اللي كنت أعرفه طول عمري!
نوران بغضب: إيــه؟ حابسك؟ ليه إنتي عملتي إيه أصلًا؟؟؟
ليلى بسخرية أليمة:
-ماعملتش حاجة. بس واضح إن ده هايكون أسلوبه معايا من هنا ورايح.. سواء عملت حاجة أو ماعملتش!
نوران بحزم: خلاص يا ليلى.. خلاص إهدي وماتعيّطيش. أنا جاية لك دلوقتي!
ليلى بإسرعٍ: لأ يا نوران.. بلاش. ده فارض عليا عقاب.. ممكن مايخلّكيش تشوفيني أصلًا.
نوران بتصميمٍ: ولا تقلقي. هاجي ومش هاتحرّك إلا لما أشوفك.. أنا مش هاسيبك لوحدك الليلة دي. فاهمة؟
رضخت “ليلى” إلى صديقتها تحت إصرارها، أغلقت الهاتف وهي تحاول كتم شهقاتها. جزء منها كان يحتاج “نوران” بشدة، والجزء الآخر كان يخشى أن تنهار تمامًا حين تراها. لكن هل هناك ما تبقى لتنهار أكثر؟
____________
في غرفة المكتب ..
جلس “نديم” خلف مكتبه، ينظر إلى “مشيرة” التي اتخذت مقعدًا قبالته بوجهٍ متحجّر، كما لو أنها تحمل بداخله صخورًا من مشاعر دفينة لا ترغب في كشفها. فتح درج مكتبه بهدوءٍ، أخرج علبة سجائره، مدّ يده بها نحوها، فشكرته وهي تأخذ سيجارة بإصبعين رفيعين، ثم مالت قليلًا لتشعلها من ولاعته التي كان يمسكها بثباتٍ. تراقص انعكاس اللهب على ملامحها التي لم تهتز لحظة، وكأنها اعتادت الاشتعال دون أن تحترق.
راقبها وهو يضع سيجارته بين شفتيه، يسحب نفسًا بطيئًا، ثم ينفث الدخان برويّة، وكأنه يمنحها المساحة لتبدأ الحديث، لكنها لم تفعل. فقرر هو أن يبدأ.
نديم بنبرة هادئة:
-كنتي مبسوطة أوي وأنا بقرص على ليلى يا مشيرة.
بمجرد ذكر الاسم، انقبضت ملامح “مشيرة”. وتبدّلت عيناها إلى نظرة مشتعلة بعدائية مكبوتة. أخذت نفسًا من سيجارتها، ثم زفرته بعنفٍ، قبل أن ترد بلهجة باردة متحفزة:
-فعلًا يا نديم! ليلى؟ ليلى هي الموضوع المهم إللي جايبني هنا نتكلم فيه؟
نديم بصبر: مشيرة.. أنا جيت في صفّك إنهاردة قدام عمي عشان كنت مقتنع ان ليلى محتاجة يتشد عليها فعلًا.. لكن ده مش معناه اني موافق على طريقتك معاها. أنا كنت مستني منك تجري وراها بعد إللي أنا عملته فيها.. كنت مستني منك تحتويها بعد الموقف ده.
مشيرة بسخرية لاذعة:
-أحتويها؟ يا سلام! على أساس إنها ناقصة احتواء. ما عمّك بسم الله ما شاء الله قايم بالواجب. لما خلاص مابقاش حد قادر عليها.. غيرك انت يعني!
راقبها نديم، يحاول أن يسايرها، لا يريد أن يصطدم بها مباشرةً. يعلم أن “مشيرة” لطالما كانت دائمًا صارمة مع “ليلى” بالذات، لكنه لم يتخيّل أن الأمر قد يكون أعمق من مجرد الصرامة النابعة من قلق أم على ابنتها …
-مش شايفة إنك مزوّداها شوية يا مشيرة؟ على رأي عمي.. بقيتي قاسية عليها. كأنها غريبة.. كأنها مش بنتك!
مشيرة بحدة: البنت دي لو ما اتربتش بالعصاية. هاتمشي في سكة مالهاش آخر. وهاتتعبنا يا نديم. عمك مبوّظها بدلعه ليها!
نديم بإصرار: بس دي بنتك..
ضحكت “مشيرة” ضحكة قصيرة، خالية من أيّ دفء، قبل أن تنظر إليه بعينين لامعتين بغضبٍ غريب، ثم ردت ببطءٍ، كأنها أفعى تلقي سُمًا:
-مش بنتي.. وانت عارف!!
ساد الصمت لثوانٍ. لم يرد “نديم”.. فقط ثبت نظراته عليها، يراقب ارتجافة عينيها، تلك اللهجة التي لم تكن لهجة أم تخاف على ابنتها، بل لهجة امرأة تحمل في قلبها شيئًا أشبه بالكراهية.. لا، بل هو الكراهية نفسها.
نديم بصوت منخفض، لكنه حاد كحد السكين:
-أنا عارف.. وعارف حاجات كتير انتي ماتعرفيهاش يا مشيرة.. بس الاتفاق اتفاق.. وانتي ملزمة بيه.. عمّي قالها زمان.. وأنا بكررها دلوقتي.. ليلى مش من دمي.. لكن هاتفضل على أسمي لحد آخر يوم في عمرها.. ماينفعش ألمح في عنيكي نظرة كره ليها.
لم تهتز “مشيرة”. لم تصرخ ولم تنكر، بل على العكس، نظرت إليه مباشرةً، وعيناها تحترقان بنيران أقدم ممّا يتخيّل، ثم قالت بجمودٍ:
-الكره مش بإيدينا.. زي الحب تمام يا نديم.. مش بإيدينا!
لم ينبس “نديم” ببنت شفة، لم يعلّق على تلميحها حتى، فقط استمع، بينما أكملت هي، كأنما نزعت قيدًا ظل يخنقها لسنوات:
-انت فاهم يعني ايه أربي بنت الست إللي حبّها مهران؟ دي حتى مش بنته. مش صلبه. ده جابها هنا عشان يربيها وسط عياله واداها اسمه بعد ما أمها ماتت.. ماخافش لما جالي وقالّي دي بنت دهب. بنت الست إللي أنا بحبها. وماحبتش غيرها. لو عايزة تعيشي وسط ولادك يا مشيرة هاتعتبريها بنتك من اللحظة دي. وهاتربّيها مع ولادك.. بس أنا. أنا عمري ما شفتها بنتي يا نديم. ولا عمري هاعملها!
تلاشت الكلمات في صمتٍ ثقيل، بينما ظل نديم يحدق فيها، غير مصدق مدى الجفاء الذي يحمله صوتها. كان يعلم كل شيء منذ مجيئهم إلى هنا من أجل العيش معه، وعرف بأن “ليلى” لم تكن ابنة عمه منذ اليوم الأول حين جلس معه عمه وتحدّثا طويلًا حول كل شيء تقريبًا.
هذا الحديث لم ينساه أبدًا، كما لم ينسى كل موقف سابق تفوّهت فيه “مشيرة” بكلماتٍ قاسية تجاه “ليلى”. كل مرة تعاملت معها بغلظة غير مبررة، كل نظرة امتعاض ألقتها نحوها دون سببٍ واضح، لعله لم يكن واضحًا للطفلة، لكنه في داخله كان يراه كوضوح الشمس.
بالطبع “مشيرة” لم تحببها، ولم تراها يومًا كإبنة لها، لكنه لن يسمح لهذا الجحيم بالاستمرار، لن يترك “ليلى” فريسة لقسوة هذه المرأة.
رفع عينيه نحو “مشيرة”.. ابتسم ببرودٍ وقال بأكثر نبراته هدوءًا:
-يبقى ماينفعش الحبل يتشد من الطرفين يا مشيرة.. طالما انتي هاتشدي.. أنا هارخي.. وخلّيني أقولها لك تاني عشان تبقى وتضحة أكتر.. ليلى ماتقلش أهمية عن أي فرد من عيلتي.. وماينفعش ألمح في عنيكي نظرة كره ليها.. عشان لو حصل.. هاتزعلي مني أوي.. واضح؟
تجمّدت ملامح “مشيرة” للحظة، لكنها سرعان ما استعادت تماسكها، كأنها تحاول استيعاب التهديد المختبئ خلف نبرة “نديم” الحاسمة. نظرت إليه بعينين ضيقتين، عينيه تلمعان ببريقٍ حاد، يشبه تمامًا ذلك البريق الذي يسبق اندلاع النيران.
لا أحد يهددها، لا أحد يجرؤ على الوقوف في وجهها، خاصة في أمر يخص “ليلى”.. الطفلة التي لم تتقبلها يومًا، ولن تفعل.
لكن هذه المرة، شعرت بأن الأمور خرجت عن سيطرتها. لم يكن “نديم” مجرد شخص عابر، ولم يكن ممن يطلق كلمات فارغة. كان حازمًا، ثابتًا، ونظرته التي التقت بعينيها أخبرتها بأنه جاد.. جاد لدرجة جعلت شيئًا باردًا يتسلل إلى أطرافها، كأنما أدركت أن الحرب التي لطالما خاضتها في الخفاء، أصبحت الآن في العلن، وأن خصمها ليس بالسهل.
شدّت ظهرها، رفعت ذقنها في تحدٍّ صامت، لكن أصابعها المرتجفة وهي تطفئ السيجارة بقوة فوق المنفضة، فضحت جزءًا من اضطرابها. لم ترد.. فقط أطلقت ضحكة قصيرة، خالية من أيّ مرح، ثم نهضت، تعدل وقفتها كأنها ترتدي درعها المعتاد قائلة:
-واضح يا نديم.. واضح جدًا.. لو خلصت كلامك تسمحلي أخرج؟
أجابها بدماثة لم تخفي شراسته الدفينة:
-اتفضلي.
ابتسمت له قبل أن تستدير وتغادر، واختفت ابتسامتها بمجرد أن أولته ظهرها.
خطواتها رغم ثباتها الظاهر، لم تكن بالثبات نفسه، لأول مرة منذ سنوات، شعرت بأن الأرض التي تقف عليها لم تعد صلبة كما كانت!

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هيبة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى