رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم نهال عبدالواحد
رواية هل الضربة قاضية البارت الثالث والثلاثون
رواية هل الضربة قاضية الجزء الثالث والثلاثون

رواية هل الضربة قاضية الحلقة الثالثة والثلاثون
مرت أيام وأيام وحبيبة تتابع جلساتها بانتظام عند هذه المتخصصة، حرص رياض على الذهاب معها وانتظارها بالخارج، تقضي ما تقضيه من وقتٍ بالداخل ثم تخرج في حالة لا تعليق عليها تظل صامتة طوال الطريق فيحترم صمتها دون إلحاح منه لتحكي فهي تبدو دائمًا منهكة بعد هذه الجلسات.
أحيانًا تحكي في جلساتها عن طفولتها، عن أمها، عن هاجر ويطول حديثها عنها فهما متلازمتين طوال عمرهما متشاركتين في كل شيء، لا تتصور حياتها دونها على الإطلاق لتتأكد المتخصصة من أهميتها كشخص مؤثر في حياتها.
ثم يأتي دور الحديث عن رياض ذلك الذي دخل حياتها من اللاشيء، تحاول تذكر كيف تسلل داخل حياتها أو داخل قلبها بهذه الصورة لكنها لا تتذكر! رغم أنه لم تكن معرفتهما إلا مجرد عام وبضعة أشهر، لكن في النهاية صار شخص لا تستطيع الابتعاد عنه، ربما السبب الرئيسي لذهابها لمتخصصة هو عرض ذلك الأمر عليها، لا تتصور كيف تغيرت طبيعتها الشديدة ولا شخصيتها الصلبة الجافة من أي مشاعر، فقد كانت تعلم أنها مجرد صخرة وتفتخر بذلك فليس لها أي نقاط ضعف، أما الآن فقد لانت الصخرة، صارت تشعر وتخشى فراق أشخاص بعينهم.
أما عن نبيل وشاهندة فكان لهما نصيب في كلامها عنهما فلم تنكر إحساسها بهما منذ أول لقاء وانجراف مشاعرها نحوهما فكما يقال «الدم يحن.»
لكن لا تزال بموقفها لأبيها فلم تذكره إطلاقًا في قَصصها ولم تسألها المتخصصة عنه لدرجة أثارت فضول حبيبة؛ فقد انتظرت أن تسألها وتعاتبها لتنفجر فيها كعادتها كلما جاء ذكره لكنها لم تفعل وهذا في حد ذاته جعلها هي من تفكر في هذا الأمر، لقد صار لديها رغبة للتتحدث هي عنه، لكنها لا تدري من أين تبدأ!
هكذا فالممنوع مرغوب دائمًا.
ولا زالت شاهندة تجئ من وقت لآخر لحبيبة وهاجر ولا زال نبيل يوصيها بألا تتحدث عن أبيهم إطلاقًا كما يفعل هو بالضبط.
كانت حبيبة بالفعل تلاحظ ذلك، لا أحد يتحدث معها بشأن أبيها، مسامحته وكونه رجلًا مريضًا وحالته قد تأثرت ببُعدها، كانت تريدهما يتحدثان عنه حتى هذه المتخصصة لا تتحدث عنه أيضًا، مما زاد انشغالها بهذا الأمر.
كان لا يزال رأفت مريضًا ومتأثرًا بشدة من ابتعاد ابنته عنه رغم أن نبيل وشاهندة يطمئنانه عليها دائمًا، خاصةً عندما تصل شاهندة من عند أختها فإنها تذهب لأبيها في غرفته التي لم يعد يخرج منها وتظل تحكي له كل شيء عنها وكل شيء قد فعلوه معًا؛ تريد فقط أن تراه مبتسمًا فيضطر لتصنّع الابتسام لكن نبيل كان يدرك ذلك ويتألم من أجله كثيرًا وكان قد أخبره عن خضوع حبيبة لفترة من إعادة التأهيل النفسي وأن تلك المتخصصة زميلة قديمة ومحل ثقة وهو متابعًا للأمر بنفسه.
وذات يوم بينما كان نبيل جالسًا مع أبيه يتحدثان بشأن أمور تخص مسار العمل في الشركة وكانت قوت أخت رأفت جالسةً معهما مستمعةً دون تدخل، فهي تكاد لا تترك أخاها.
وجاءت شاهندة من الخارج وكانت عائدةً توًا من عند حبيبة فظلت تحكي وتمزح بعض الوقت حتى ابتسم أبوها.
وفجأة رن هاتف نبيل وكانت الدكتورة سلوى المرشدة النفسية فنهض مسرعًا متجه نحو النافذة ليتحدث بعيدًا عن الجميع، لكن هيهات فقد سكت الجميع وانتبه بكل حواسه مع نبيل.
– أهلًا يا دكتورة! إزي حضرتك؟ يا ترى عندك جديد؟
– الحمد لله بخير، إزي صحة الوالد ياريت يكون أفضل!
– إنت عارفة الإجابة كويس.
ثم تنهد وقال: الحمد لله على كل حال.
ثم تساءل: إيه الأخبار؟ يا ترى في جديد؟
– كل خير إن شاء الله، كنت عايزة أبلغ حضرتك إن حبيبة ممكن تعيش معاكم في القصر.
فتهللت أساريره قائلًا بفرحة: بجد! ده أحلى خبر والله!
– بس في شرط كده يعني.
فابتلع ريقه ببطء ثم قال: خير!
-لسه ده مش ميعاد اللقاء.
– يعني إيه!
– يعني تقدر تعيش معاه في نفس البيت، لكن من غير ما يتقابلوا وبرضو ما يتجابش سيرته إطلاقًا.
– إنتِ بتقولي إيه! ده كان يجراله حاجة! تبقى معاه ف بيت واحد ومش عايزة تشوفه! مش كفاية ساكتين وصابرين عليها كل الشهور دي!
– بص حضرتك، زي ما فهّمتك قبل كده مشكلة الفقدان الأبوي مش مشكلة بسيطة ولا هيّنة، ومع كل موقف بتبدأ تفتكر كل حاجة أو حتى تربطها به كنوع من دوافع النفس، وتبدأ تسترجع كل تفاصيلها وتحس بيها وتتأثر كأن الموضوع لسه جديد وحاصل توًا وكأنه عبارة عن مواقف كتيرة بتتكرر مش مجرد ذكريات بتستعيدها، تمام زي اللي بيتعرض لحادث شديد اللي بيأثر على العصب السمبثاوي فيرتفع مستوي نسبة الإدرينالين لفترة طويلة تخلي اللي اتعرض للحادث ده يفضل يفتكره كل شوية ويشعر بنفس الإحساس ونفس الألم اللي حصل وقتها، وبرضو بطمن حضرتك إن الشعور العدواني والرغبة في الانتقام ده ما وصلتش لحد العدوان المجتمعي، حالات كتير لما بيفقدوا الأب بيتحولوا لشخصيات عدوانية وإجرامية اتجاه المجتمع كله وكأنه بيحمّل المجتمع سبب اللي حصله وانتقامه بيكون شديد، لكن حبيبة الحمد لله ما وصلتش للدرجة دي، ربما يكون بسبب لعبة الملاكمة لأن لها قدرة عالية عن تنفيس الطاقات والانفعالات الزايدة اللي تؤثر على صحة الشخص وسلوكياته، وإحنا مشينا معاها بطريقة الممنوع مرغوب وفعلًا كتير كنت بحس إنها هي اللي عايزة تحكي عنه بس مستنياني أسألها، وأكيد حضرتك حسيت بده وإنت بتتعامل معاها.
فأومأ برأسه وقال: فعلًا، حتى بحس إنها سانّة سنانها عشان تجهز للعركة اللي هتتعاركها معانا، بس الطلب ده صعب ومش عارف إزاي هو هيتقبله!
– صدقني هيتقبله، لأنه أب وكل مُناه إنه يشوفها ويطمئن عليها إنها معاه في نفس البيت، وهيتقبل نص حل أحسن من مفيش، هيتقبل يشوفها من بعيد لبعيد.
– أنا فعلًا بتمنى إنها تيجي تعيش معانا، لكن مش بالصورة دي.
– صدقني الصورة دي هتقصّر الطريق، بس زي ما اتفقنا من غير أي ضغط من أي نوع ولا أي تلميحات، هي ذكية والأذكياء زي ما حضرتك عارف بيتعبونا في التعامل الغير مباشر.
فتنهد وقال: ربنا يسهل! أشكرك جدًا، حقيقي مش عارف من غيرك كان إيه اللي هيحصل.
– ما تشكرنيش، ده عملي اللي لازم ءأديه على أكمل وجه، ناهيك بأه إنها شخصية جميلة ولطيفة وتتحب والتعرف عليها من حسن حظي!
انتهت المكالمة وأغلق نبيل الخط، ظلّ واجمًا لا يدري من أين يبدأ! وإن كانوا قد سمعوا بعض من الحوار لكنهم يحتاجون لمزيد من التوضيح.
فناداه رأفت: فيه إيه يا نبيل؟ مش دي الدكتورة اللي بتتابع أختك؟!
فأومأ برأسه بهدوء، فأكمل الأب: طب في إيه؟
ثم ابتسم وقال: خلاص هينفع تيجي تعيش معانا!
فأجابه بتوتر ظاهر: يعني مش بالظبط كده.
فتدخلت قوت بانفعال: يعني إيه مش بالظبط كده ؟! ما توضح كلامك يا نبيل!
فسكت بعض الوقت كأنه يبحث عن الطريقة المثلى لشرح ما هو مطلوب، ثم تحدّث بلعثمة واضطرب: هو.. أصل…
فقاطعه الأب: خلاص فهمت! مسموح تيجي لكن مش مسموح تتعامل معايا!
فأومأ نبيل برأسه، فقالت قوت بغضب: ليه إن شاء الله؟! الموضوع ده طوّل وبوّخ أوي على فكرة!
فقالت شاهندة: والله يا عمتو حبيبة طيبة وشخصيتها حبّوبة بس…
فقاطعتها بنفس حدتها: بس إيه وبتاع إيه؟! ده أبوها وراجل كبير وتعبان! يعني إيه تيجي تعيش معاه في بيت واحد وما تتعاملش معاه؟! مستنية يجراله إيه تاني!
فقال نبيل: هي عايزة الخطوة دي تيجي منها وما تكونش مجبورة عليها.
فتأففت قوت وهمت تكمل حديثها الحاد فقاطعها رأفت قائلًا: و أنا موافق يا نبيل، موافق على النص حل، أقله هقدر أشوفها حتى لو ما اتكلمتش معاها، هكون مطمن إنها بايتة معايا ف نفس البيت مش بايتة في مكان بعيد عني، أنا موافق روحوا وهاتوها هي وبنت إسماعيل من بكرة.
فهاهو الأب! فلا يوجد رجل يهدي السعادة بلا مقابل سوى الأب.
فابتسم نبيل متنهدًا براحة، ثم انتبه قليلًا وقال: بس دي هنقنعها إزاي ولا نفاتحها إزاي؟!
فابتسمت شاهندة قائلة: سيب الموضوع ده عليّ.
بالفعل في اليوم التالي ذهبت شاهندة ونبيل إلى بيت حبيبة بحجة زيارتها، وبعد السلام والترحاب والأحاديث المتنوعة قالت شاهندة: بقولك إيه يا بيبو!
أجابتت حبيبة بابتسامة: قولي!
فأكملت شاهندة: ما تيجي تعيشي معانا ف القصر.
فوجمت حبيبة وهاجر على اختلاف أسبابهما، فأكملت شاهندة: أنا أخدت عليكم في حياتي وساعات مش بعرف آجي كل يوم، وساعات ببقى عايزاكِ في نص الليل أجيلك إزاي وقتها يا أختي الكبيرة؟! وبعدين في حاجات كتير عايزة نعملها سوا وأماكن كتير نروحها سوا مش بس نيجي نقعد كده.
فقال نبيل: طب والله أفكارك تجنن يا شاهي، وبآيتي بتعرفي تفكري!
فقالت متصنعة الغضب: يا سلام يا اخويا!
ثم التفتت إلى حبيبة قائلة: هه قُلتِ إيه! ويا ستي لو على بابي مش هنخليه يحتك بيكِ نهائيًّا… هه وافقي بأه!
كم هزها هذا الشرط وأحدث ألمًا داخلها لدرجة لاحظها من حولها خاصةً عندما شردت، وقد سعد نبيل وشاهندة بهذه الحالة التي انتابتها، إذن فقد صارت له مكانة وحيّز في قلبها.
لكن بعد لحظات استعادت نفسها وقالت تنظر ناحية هاجر: إنت عارفة كويس يا شاهي إني ما اقدرش أبعد وأسيب هاجر.
فقالت هاجر محاولةً إخفاء ألمها لكنه ظاهر في حشرجة صوتها: ما تشغليش بالك إنت بيّ، إنتِ هتعيشي معاهم مش هتقاطعيني يعني وممكن نزور بعض كمان.
فتألّم نبيل من أجلها ثم قال مبتسمًا بحنان ناظرًا إليها: ومين قالك إنك هتتسابي هنا لوحدك؟! رجلك على رجلنا، سبق وقلتلك إنتِ م العيلة.
فازداد توترها ودقات قلبها المتلاحقة رغم عدم مناسبة الوقت، ثم قالت وهي تجاهد نفسها لتهدأ: آسفة جدًا مش هينفع، مااتعودتش أعيش عالة على حد.
فاتسعت حدقة نبيل وقال بلغة آمرة: عالة على مين؟!
طب مش هحاسبك على اللي قُلتيه! لكن هتسمعي الكلام وتلمي حاجاتك إنتِ وحبيبة!
لم يعجبها أسلوب نبيل الآمر، فنهضت واقفة أمامه مباشرةً ثم قالت: يعني حضرتك حكّمت رأيك علينا وقعدتنا في البيت ومنعتنا نشتغل، كمان هتتحكم وتأمرنا نعيش في قصرك! هي أختك ءأمرها براحتك لكن أنا لا.
رغم إشعالها لغيظه هذه المتمردة لكنها زادت من إعجابه وتعلّقه بها، فنهض واقفًا أمامها مباشرةً ولم تكن قد حسبت رد فعل كهذا أو انتبهت لهذا القرب، لقد كانا قريبين للغاية، كان يتأمل ملامح وجهها بكل دقة وتفصيل عن قرب، يشتم رائحة عطرها قليلًا شعر بأنفاسها الغاضبة تلفح وجهه فازداد تعلّقًا بها وازدادت ضربات قلبه بقوة، لم يشعر بهذه المشاعر المتداخلة من قبل، كل ما يسيطر عليه الآن هو رغبة في ضمها بين ذراعيه وهو على يقين بأنها ستهدأ تمامًا بل ستذوب بين يديه، بل وأسرع من قطعة السكر في الماء الساخن.
فقال بهدوء وطريقة لم تعهدها إطلاقًا: أنا مش معترض إنكم تشتغلوا، أنا اعترضت على نوع الشغل، مش معقول تشتغلوا عند حد وعندنا شركة العيلة، تقدري تنزلوا تشتغلوا من بكرة، تقدروا تعملوا كل حاجة نفسكم فيها، المهم تكونوا جنبنا.
كانت نبرة صوته وطريقة كلامه الساحرة قد ألجمت غضبها بل ألجمت لسانها عن الحديث وتحكّمت في كل إنشٍ فيها وأقسم من داخله أنه لو جذبها نحوه الآن بين ذراعيه فلم يجد أدنى مقاومة.
فقالت حبيبة والتي كانت متابعة جيدة لهما وقد كانت تكذّب حدسها من قبل لكنها قد تأكدت من شكها بعكس شاهندة التي لم تنتبه لهما: بس إحنا ما نفهمش حاجة، أنا يادوب معايا ما يعادل بكالوريوس التجارة وهاجر بالعافية خليتها تخش الجامعة المفتوحة تاخد شهادة منها.
فقال نبيل ولا زال متأملًا لهاجر: أنا موجود وهعلمكم كل حاجة ، وبعدين لو عل دراسة هي مش بتروح غير عل إمتحان مش كده!
وجه السؤال إلى هاجر فأومأت برأسها، فأكمل قائلًا: خلاص، يبقى تتدربوا وتشتغلوا وأبقى أديكي أجازة قُرب الإمتحانات، زي ما هدّيكِ إنتِ كمان يا حبيبة لما يكون عندك بطولة ولا حاجة، وبعدين إنتِ لازم تتمرني باستمرار ولا إيه!
فابتسمت حبيبة ثم اتجهت ناحية أخيها وتعلّقت برقبته تشكره معبرة عن امتنانها له، بينما كان ناظراه متمركزين على هاجر كأنما يقول لها بلغة لا يفهمها إلا هي، ألا نظرتِ إلى هذا العناق الحار؟ كم أتمنى لو أعانقك أنتِ أيضًا وأؤكد لكِ أن لن تجدي راحة على هذه الأرض إلا بين ذراعيّ وأنتِ مستندة على قلبي…
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هل الضربة قاضية)