روايات

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الثاني 2 بقلم مريم الشهاوي

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الثاني 2 بقلم مريم الشهاوي

رواية موعدنا في زمن آخر الجزء الثاني

رواية موعدنا في زمن آخر البارت الثاني

موعدنا في زمن آخر
موعدنا في زمن آخر

رواية موعدنا في زمن آخر الحلقة الثانية

نوح… هموو.. ت
وفجأة، سمع نوح صراخ الضابط حسن وبعض العساكر يتقدمون نحوهم. ترك رهف التي انهارت على الأرض، تسعل بشدة وتمسك برقبتها وتأخذ أنفاسها بعنف. اقتحم العساكر المكان وانهالوا على نوح بالضرب، معاقبينه على فعلته. في تلك الأثناء، انخفض حسن إلى مستوى رهف، ولهفة تملأ صدره، ونطق بصوت مضطرب:”انتِ كويسة؟”
نظرت رهف إلى زوجها، وعيناها تتلألآن بالدموع التي تساقطت بغزارة، تعبيراً عن ألمها وحيرتها. ثم حوّلت نظرتها إلى حسن، بصوت متهدج وقلبها يفيض مشاعر مختلطة، وقالت: “خليهم يوقفوا ضرب… حسن…. خليهم يوقفوا ضرب فورا.”
صاح حسن للعساكر آمرًا إياهم بإيقاف الضرب، فتوقف العساكر على الفور. انهار نوح على الأرض، عينيه شاخصتان نحو السقف، غير مصدق لحاله وما آل إليه. اقترب حسن من رهف بحنان وحاوط ذراعيها بيديه، وتوجه الجميع إلى الخارج، تاركين نوح في الغرفة وحيدًا.
“مبسوطة كدا… عاجبك اللي عمله دا؟ ”
كانت كلمات حسن تتردد في أذنيها، فالتفتت رهف نحوه بعينين دامعتين، وقالت بصوت مختنق: “وانا كنت اعرف انه ممكن يموتني؟؟… انا بس كنت…”
صاح حسن بغضب، صوته يجلجل في المكتب كالرعد: “بس ايه يا رهف بس ايه…. اربع سنين بتحاولي توصليله ولما لقيتيه كان هيموتك لامتى هتفضلي كده؟؟”
قالت بعينين تفيض بالدموع، صوتها يرتجف بألم: “لحد اما اموت.”
قال حسن، محاولاً إقناعها، بصوت يفيض بالحب والشعور بالغيرة:”هو ميستاهلش حبك دا لانه مش فاكرك اصلا.”
ردت رهف عليه بصوت مهزوز بالحزن واليقين: “في يوم هترجع ذاكرته وهيفتكرني ونرجع لبعض تاني.. هي مسألة وقت.”
رجع حسن للوراء بوجه يعبر عن الخوف، وكلمات رهف تتكرر في ذهنه…. لا… لن يحدث هذا… لن يفقد رهف مرة أخرى…
يعانقه الحب لرهف ويرغب في إبعادها عن نوح، كي لا يتذكرها ويعودان لبعضهما ويبقى هو وحده مجددًا. سينقل نوح إلى سجن بعيد، بعيدًا عن عينيها وقلبها، لتكون رهف له…يمكن ان يكون ليس اليوم ولكن ربما يكون غدًا.
وبالفعل، خرج حسن من مكتبه بعزم، ليباشر تحقيقاته في نقل نوح إلى سجن بعيد، بعيدًا عن رهف وعن أعين الجميع. لن يصل أحد إلى ذلك السجن، ولن يعلم أحد عن مكانه، حتى رهف لن تعرف. سيظل نوح هناك طوال عمره، هذه هي الفرصة التي يسعى حسن للاستفادة منها، لكي يكسب قلب رهف.
وبسرعة، تم نقل أوراق نوح للحجز في سجن بعيد، في حين كانت رهف لا تزال في القسم. قال حسن لها بصوت متأثر ومليء بالحنان:
“هتروحي امتى متعبتيش؟”
قالت رهف بعزيمة بداخلها تدفعها للوصول: “انا بعت لماما تجيب لوجي من البيت وتيجي.”
قال حسن بغضب شديد: “ليه يا رهف قولتي لخالتو تجيبها دا مكان مجرمين مينفعش لطفلة.”
ردت رهف بتحدي وبرود قاطع: “جايباها عشان تشوف ابوها.”
قال حسن بعدم استيعاب: “هو انتِ الاربع سنين اثروا على مخك ومبقيتيش بتفكري… لوجي ايه اللي تشوف ابوها مين ابوها دا اصلا…. فين ابوها؟؟”
قاطعهم صوت عسكري يتحدث مع حسن: “حضرت الضابط… الاوراق المطلوبة اهي.”
قالت رهف بفضول: “اوراق ايه؟”
فرد حسن بمكر: “اوراق نقل نوح لسجن***.”
صاحت رهف: “بس دا بعيد اوي….”
اجاب حسن ببرود وعملية: “وجوده هنا بيشكل خطر… عايزين نرحله بعيد عشان عصابته متعرفش توصله.”
قالت رهف وهي دموعها أوشكت أن تتساقط: “بس كده مش هعرف اشوفه.”
فاجاب حسن بداخله منتصرا: “ودا اللي انا عايزه.”
خرجت رهف من القسم بعد لحظات، لتصف لوالدتها مكانه. حيث رأت ابنتها “لوجي”، ركضت لتعانق والدتها… متسائلة عن والدها الذي تذكرته بوضوح، فقد غاب عنها وشوقها إليه كان عميقًا جدًا.
وبينما الصغيرة تسألها عن والدها، لمحت رهف نوح مكبلاً ويُجره بعض العساكر نحو سيارة الشرطة للنقل. ما أن رأت لوجي والدها، فرت مسرعة نحوه بدون تردد، فصاحت رهف تنادي عليها بخوف، ولكن لوجي لم تستمع إليها، وهي تجري بخطوات سريعة ومتوترة. عندما وصلت، عانقت والدها بقوة، تحيط به بذراعيها الصغيرتين، وأمسكت به من خصره بحنان لا يُضاهى. نظر نوح إلى الأسفل، ليتفاجأ بفتاة جميلة، تنظر إليه بعيونٍ مليئة بالحب، وتقول بصوت طفولي ينبض بالدفء والبراءة:
“بابا وحشتني اوي.”
وبينما حاولت العساكر بجبروت إبعادها، هبط نوح بخطوات ثابتة لينظر إلى لوجي، وفي تلك اللحظة تعمقت فيه ملامحها في عقله بكل وضوح، إنها تشبهه إلى حد كبير، عيناها الزرقاوتان تلمعان كالياقوت،لون شعرها البني الناعم، حتى رسمة أنفها تشبهه…وكأنه يقف أمام المرآة كيف تشبهه لهذه الدرجة؟!
ركضت رهف على بتوتر نحو ابنتها بخطوات متسارعة، حتى أمسكت بها بقوة لتجذبها نحوها، تخشى على سلامتها من نوح….والدها!
نظر نوح بحيرة إلى رهف، وتلاقت أعينهما في لحظة من التساؤلات العميقة، ولكن قبل أن يتمكن من التفكير أكثر، هاجمت عصابته بقسوة، مُلقية قنابل الدخان المثيرة للدموع التي أعمت الأبصار وغطت المكان بضباب كثيف.
كانت العصابة تنفذ خططًا لا ترحم في محاولة للهروب، ولكن نوح كان مصدومًا من تغير الاجواء بهذه السرعة!
فجأة، شعر بأيادٍ تجذبه بقوة، وأثناء محاولته بالتحرك معهم بحرص وسط هذا الضباب، لمح نظرةً سريعة لرهف التي كان يسمع سعالها… وجدها مرماة على الارض تحاول اخذ شهيق ولكن بلا جدوى اصوات سعالها كانت مختلطة مع اصوات صراخ الناس… ركب سيارة ما وهو لا يفهم شيئًا ومتوترًا من الحدث!
ولكن ما ان ران على ثغره ابتسامة عميقة حينما رأى اصدقائه قال بفرحة:
Fraco, Tom, Jane, good to see you again. I thought my doom was near!
فرانكو، توم، جين سعيد برؤيتكم مرة اخرى ظننت ان هلاكي قد اقترب!
ضحكت جين بسعادة وهي تنظر إليه بحب غامر قائلة:
We will never forget you, Peter. You have become one of us.
لن ننساك ابدًا يا بيتر فانت اصبحت واحدًا منا.
ضحك الجميع ببهجة وتحركت السيارة لواجهتها المحددة.
طغت صورة رهف على ذهن نوح كالكابوس، لا تزول.
رآها ممددة على الأرض، جسدها ينتفض كمن يصارع الموت، أنفاسها خشنة، تتقطع في حلقها كما لو أن صدرها ضاق بالحياة.
صرخاتها لم تكن عادية؛ كانت تمزق السكون وتترك في الهواء رعشة باردة.
وجهها… كان الموت نفسه.
ليس في غيابه، بل في حضوره.
كل شهيق كان نحيبًا مكبوتًا، وكل زفير كان رجاءً أخيرًا.
شيء داخله انتفض.
مشاعر لا اسم لها، ولا شكل، لكنها حادة، جارحة، فوضوية.
سأل نفسه:
لماذا يهتم؟
من تكون هذه الفتاة التي رأى وجهها مرتين فقط، ليحفره الزمن في ذهنه بهذا العنف؟
لماذا تنغرز ملامحها في عمقه، كأنها تخصه؟
لماذا يهتم إن كانت تنهار؟
وما شأنه؟
لكن لا وقت للبحث عن أجوبة.
كل ما يعرفه الآن أن صورتها لن تذهب.
وليس متأكدًا إن كان يريدها أن تذهب.
طلب من فرانكو، الذي كان يقود السيارة:
Franco… stop
فرانكو…. توقف
فتحدث توم بتساؤل:
We don’t have time, Peter
ليس لدينا وقت يا بيتر
فصاح نوح وهو ذاكرته وقلبه بهيئة رهف الضعيفة وقلبه ينبض بقوة:
I said stop…. I won’t be late
قلت توقف…. انا لن اتأخر
وبالفعل، توقف فرانكو بسيارته وهرول نوح بسرعة نحو موقع رهف وسط الضباب، حيث أمسكها وحملها بعيدًا عن الدخان، يركض بين الأشجار حاملاً إياها، حتى انفصالهما تمامًا عن الضباب. وبعد ذلك، أنزلها ببطء وحذر على الأرض، ونظر إليها بقلق شديد، وبينما يحاول إيقاظها، قال بلهفة في داخله.”رهف… رهف… فوقي”
بعد محاولات عديدة بلا جدوى، شعر نوح بأن روحه تنسحب منه وانه يفقدها ولوهلة شعر بأن رهف قطعة منه وان خسرها خسر جزءًا منه!
الظلام يعم الغابة بأكملها ورهف لا تفيق ابدًا، فأمسك بحقيبتها التي كانت تحملها.. وبدأ في البحث عن كشاف. بمجرد أن وجد هاتفها، قام بتشغيل كشافه ورمى الحقيبة بعيدًا ليفحص عينيها. لكن بدلاً من ذلك، لاحظ بخاخًا مخصصًا لمرض الربو، وبطريقة عفوية دون تفكير، أخذ البخاخ ووضعه بفمها. بدأ يضغط عليه مع كل ضغطة، شهقت رهف بقوة….و سرعان ما ابتسم نوح بابتسامة من الارتياح عندما رأى رهف تستفيق، فتحت عينيها ببطء، ورأت نفسها بين يدي نوح الذي ينظر إليها بلهفة، وعلى وجهه ابتسامة من الراحة. ابتسمت رهف قليلاً ورفعت يدها لتضعها على وجهه، وعيناها تبرزان بريقًا مع اجتماع بعض الدموع، قائلة: “نوح”.
بلع نوح ريقه بينما يغلبه شعور بسحب كيانه تجاهها، محاطًا بنظراتها التي تلتف حوله كالظلال. في لحظة من الصمت اشتبكت انظارهم بحديث طويل، انقضت صيحات العساكر وأضواء الكشافات نحو الموقع الذي هم به. نهض نوح بسرعة كي يهرب، لكن رهف أمسكت يديه بقوة، وقالت بخوف يتغلغل بداخلها:
“نوح… هشوفك تاني؟”
كانت هناك انطباعات مشتة في نفس نوح حيال تلك الفتاة، فقرر العودة وكشف سبب الارتباط الغامض الذي كان بينهما، الذي بدأ يستلذ داخله حتى وصلت الأمور إلى هذا المستوى! همس نوح مجيبًا إياها بثقة:”اكيد ”
ثم ركض مسرعًا لمكان تواجد سيارة فرانكو وصعد بالسيارة وهو ينظر للخلف بقلق يتابع الشرطة اذا كانوا يلاحقونهم ام لا ولحسن الحظ لم يرى اي سيارة شرطة تلاحقهم.
تحدثت جين بفضول:
Where did you go?
أين ذهبت؟
فاجاب نوح بتشتت وهو عقله مشغولًا برهف:
I forgot something so I went back to get it.
نسيت شيئًا لذلك عدت لآخذه
ثم لاحظ نوح بأنه مازال ممسكًا بهاتفها بيده! فاغلق كشافه ووضعه بجيب بنطاله وتحركا بالسيارة بعيدًا بمكان لا يعرفه احد بجانب البحر نزلوا الجميع من السيارة بعد ان وصلوا فتحدث توم:
After four hours, a ship will come to take us from Alexandria to Cyprus, and from Cyprus we will take a plane to Rome.
بعد أربع ساعات ستأتي باخرة تأخذنا من اسكندرية الي قبرص ومن قبرص نأخذ طيارة الى روما.
فتحدث نوح بضعف ينتابه من كثرة الجوع:
We will stay here for four hours !! I won’t bear it all this time while I’m hungry… Do you have any food to satisfy my hunger?
سوف نبقى هنا لمدة أربع ساعات!! لن أتحمل كل هذا الوقت وأنا جائع.. هل لديك ما يسد جوعي؟
اجابت جين بحماس:
We certainly didn’t forget this. We ordered pizza
لم نغفل عن هذا أكيد… لقد طلبنا البيتزا
ثم تقدمت جين الى السيارة بالخلف وفتحت حقيبة السيارة وفجأة سمعوا جين تهتف بصدمة قائلة بدهشة تغمرها مما رأته:
Hey guys look..!
يا شباب انظروا..!
تقدم الثلاثة نحوها ليروا ماذا رأت بحقيبة السيارة وما ان وصل نوح ينظر بالحقيبة إلا ان اصابته الصدمة حين رأى “لوجي” بحقيبة السيارة!
كانت لوجي خائفة عندما رأت جين ولكن حين جاء نوح هتفت بسعادة وهي تنظر اليه مبتسمة: “بابا.”
صمت الجميع بصدمة ينظرون لبعضهم بحيرة غير مصدقين!!
رجع إلى منزله مثقلًا بأعباء يومه الطويل، وصعد إلى غرفته متثاقلاً ليأخذ حمامًا دافئًا. لعلّ حرارة الماء تُزيح بعضًا من الألم الذي يعتري جسده المنهك. بعد خروجه من الحمام، توجه إلى مقعده المفضل، المكان الوحيد الذي يجد فيه ملاذًا من صخب الحياة. أخذ كتابًا بين يديه، سعيًا للهروب من واقعه المرير إلى عوالم القصص والروايات.
بينما كان غارقًا في صفحات الكتاب، اخترق صوت عاصفة عاتية سكون الليل، مما أثار في نفسه قلقًا عميقًا. فجأة، برزت في ذهنه صورة “سمر” بوضوح مؤلم، تساؤلاته عنها لم تهدأ: ما حالها الآن؟ أين يمكن أن تكون في هذه اللحظة؟ هل ما زالت في المستشفى، أم أن العاصفة أجبرتها على البحث عن مأوى آخر؟ خفق قلبه باضطراب، وشعر وكأن جبلاً من المسؤولية يُلقى على كتفيه. كيف يمكنه أن يترك فتاة وحيدة في هذا العالم القاسي؟
نفخ بضيق، محاولًا تهدئة أفكاره الحنونة التي تتصارع بداخله. تلك المشاعر كانت كضباب كثيف، لا يعرف أحد عنها شيئًا. فحمزة رقيق القلب لا يعرف القسوة ولكن مشكلته هي ان تدخل فتاة أخرى حياته. لكن الحقيقة كانت أعمق من ذلك بكثير. وسط غيوم التفكير، اتخذ قرارًا مفاجئًا. نهض من مقعده، وتوجه إلى خزانة ملابسه. استبدل ثيابه على عجل، وكأن قلبه يدفعه بقوة لا يمكن مقاومتها. نزل من منزله بخطوات متسارعة، وركب سيارته، مشغلًا المحرك بإصرار. كانت وجهته واضحة في ذهنه، طريق المستشفى حيث يأمل أن يجد “سمر” وسط تلك العاصفة التي تعصف ليس فقط بالسماء، بل بكيانه كله.
قال لنفسه لكي يطمئنها قليلًا: “هي اكيد في المستشفى… مخرجتش في العاصفة دي… إن شاء الله تكون لسه في المستشفى.”
ولكن حدث ما كان يخشاه. سأل عنها موظفي المستشفى، فأخبروه بأنها غادرت لتبحث عنه. اجتاحه شعور بالذنب لم يعرفه من قبل. كيف سمح لنفسه بتركها؟ هي لا تعرف أحدًا غيره، لا تعرف غير خالد ولا تعتمد على أحد سواه. نعم، هو ليس خالد ولكنه هكذا في نظرها، فليكون خالد لأجلها.
ركب سيارته بسرعة، والخوف يعتصر قلبه، وبدأ يبحث عنها بقلق بين الشوارع المظلمة، يدعو أن يجدها سالمة. كان المطر يهطل بغزارة، وكأن السماء تشاركه توتره وخوفه. بينما كان واقفًا عند إشارة المرور، رأى ظلالًا تتحرك في الظلام. سمع خبطًا خفيفًا على زجاج نافذته. فتح النافذة ببطء، ليجد فتاة ترتجف، تضع كرتونة على رأسها لتحميها من المطر. كانت نظرتها مليئة بالبؤس، ومدت يدها له قائلة بصوت مرتجف:
“ممكن فلوس أكل بيها؟ مفطرتش من الصبح وجعانة أوي.”
– “سمر!”
انتبهت لصوته، نظرت إليه بدقة، ثم هتفت بفرح والابتسامة تملأ وجهها: “خالد!”
شعر حمزة بموجة من الطمأنينة تتغلغل في قلبه، لكن منظرها وهي ترتجف مزق قلبه إلى أشلاء. كان جسدها النحيل يقاوم برد المطر بلا جدوى، وعيناها المتوسلتان كانت تروي حكاية عذاب لا تنتهي. احتاج للحظة ليستوعب قوة المشهد أمامه، ثم استجمع شجاعته وعرض عليها أن تدخل سيارته بسرعة، محاولاً توفير ملاذ دافئ وآمن لها من العاصفة القاسية.
وحينما جلست سمر على الكرسي، زفرت براحة وقالت:
“أخيرًا لقيتك… دورت عليك كتير أوي. كنت فين؟ مصدقتش الممرضين لما قالولي إنك مشيت وسيبتني… أنا مبسوطة إنك معايا أوي يا خالد.”
أمسكت بيده وتشابكت أصابعها بفرحة، فنظر إليها مبتسمًا:
“الحمد لله إنك بخير…”
شعر بيديها الباردتين أثناء مماسكته بها، فخلع سترته وألبسها إياها بخوف:
“أكيد بردتي. كلك ماية. هنروح دلوقتي وهتبقي كويسة.”
نظرت إليه بحب عميق:
“أنا خلاص بقيت كويسة مادام أنت قدام عيني. فأنا كويسة يا حبيبي.”
بعد وصولهما إلى المنزل، نزل حمزة من سيارته وتوجه نحو الباب الخلفي ليفتحه لسمر، وقال بصوت هادئ: “انزلي وصلنا.”
نزلت سمر من السيارة، وكانت تبدو مندهشة بينما نظرت حولها إلى المنزل، وهي تقول بدهشة: “إيه دا… بس دا مش بيتنا.”
لحظة من الصمت تراود حمزة قبل أن يجيب بتردد: “دا بيتنا الجديد.”
فتحت سمر فمها باعجاب وهي تنظر إلى المنزل الضخم، قائلة بدهشة مستمرة: “متهزرش… دا بيتنا أنا وأنت.”
حاول حمزة التحدث بصعوبة، ينفخ بضيق ويقول: “أيوة.”
لم يمضِ وقت طويل حتى لاحظ حمزة أن سمر تركض بفرح نحو بوابة المنزل، وهي تهتف بسعادة: “الله.”
ابتسم حمزة بسرور لرؤيتها بهذا الحال، ولكن سرعان ما عاد ليستعيد هدوءه، فأخفى ابتسامته فورًا وعاد لحالته الطبيعية.
تقدمت سمر نحو حارس البوابة بخطواتٍ ثابتة، تنطلق من عزيمةٍ متجددة، وهي تهتف بحماس: “افتح بسرعة.”
أوقفها الحارس بحرصٍ ممنوعٍ على وجهه، فنظرت سمر إليه بدهشةٍ لا تخفى، وقالت بصوت يحمل الصدمة بعض الشيء: “ايه دا.. انت متعرفش انا مين؟”
أجاب الحارس بتواضعٍ مخلصٍ: “آسف… بس أنا أول مرة أشوف حضرتك؟”
ردت سمر بفخرٍ غير مهزوز، وهي ترفع رأسها بثقة: “أنا مرات سيدك… وسعلي بقا وافتح.”
كان حمزة يراقب الوضع بحذر، تدخل ليتدخل ويمهد الطريق، يجيب عن التساؤلات ببرودةٍ متماسكة: “افتحلها دي تبعي.”
نظر الحارس إلى حمزة بصدمةٍ وتعجبٍ واضحين، يسأل بصوتٍ ينطلق من داخل الدهشة: “هو حضرتك متجوز؟”
“لا”
نطقها حمزة بعفوية ولكن لاحظ تعابير وجه سمر وما ان بدّل كلامه على الفور قائلًا بابتسامةٍ مشوشة: “اقصد.. اه.. هفهمك بعدين.”
ثم وضع ذراعيه حول كتفي سمر، ودخلا سويًا إلى المنزل الضخم، حيث أسرت عينيها رؤية المساحات الفسيحة والديكورات الفاخرة. نظرت إلى الحديقة المجاورة، فأخذت تراجع في ذاكرتها لتلك الأحلام التي كانت تحلمها هي وخالد، وقالت بصوتٍ هامس يحمل الدهشة والامتنان: “دا كان بيت أحلامنا في يوم من الأيام… شكرًا يا خالد لأنك حققت حلمنا.”
ثم عانقته بقوة وهي تستشعر رائحته بدفء، لم يستطع سوى الوقوف في مكانه، صامتًا لا يقدر على قول لها الحقيقة…كيف ستمر تلك الايام عليه حتى تعلم بالحقيقة؟
ابتعدت سمر عنه قليلا وما ان لمحت مسبحًا كبير بجوار المنزل، انطلقت بسرعة نحو المسبح، تغمرها ضحكات الفرح والحركة الحية. لحقها حمزة بسرعة لكي يوقفها من اي تصرف متهور لها في هذا الجو: “سمر الجو بارد متنز…”
قبل أن يكمل جملته، سمع صوت المياه يعلو بينما يدل على هبوط شخص فيها. وضع يده على رأسه وهو يزفر بضيق، مسح وجهه بيديه ثم انتظر قليلاً وحينما اطال انتظاره هتف بصوت يترنحه بعض القلق: “خلاص….يلا اطلعي…سمر!…اطلعي….. سمر!!! ”
لم يفكر بأي شيء، ثوانٍ وكان قد قفز في المسبح لانقاذ تلك الغبية. استطاع حمزة الإمساك بها وحملها فوق سطح الماء حيث صدح صوت سمر بسعال قوي، وهي تتألم وتصرخ في محاولة يائسة لاستعادة نفسها. كانت تتعلق بشدة برقبته، كأنها تحاول الإمساك بآخر نسمة من الحياة، فقال حمزة محاول بث الطمأنينة بداخلها:
“اهدي خلاص انتِ كويسة…. اهدي اتنفسي بالراحة. ”
وضع حمزة كفَّه على وجهها، يزيح خصلات الشعر المتناثرة عن جبينها، يُسويها برفق، ويُهدِّئ من اضطرابها كأنما يُراعي طفلة ويطمئنها. ولم تكد أنفاسه تستقر حتى عطست سمر في وجهه عطسة باغتته، فأغمض عينيه برهة، ومسح وجهه بكفَّيه في صمت مُطبق، ثم تحرّك بها ببطء في الماء.
وما إن خطا بها خطوة حتى صاحت سمر فجأة، تضرب صدره بعنف، وهي تبكي قائلة : “عامله غويط ليه… انت عارف اني مش بعرف اعوم.”
تحمل حمزة ضرباتها بكل ثبات، وقادها نحو حافة المسبح لتجلس عليها وهي تسعل بشدة. نهض من المسبح واتجه إلى داخل المنزل ليجلب منشفة. عاد مسرعًا، ملهوفًا لمساعدتها، لكن عند وصوله، صُدم باختفاء سمر!
وقف مذهولاً، يمسك رأسه بحيرة، يبحث عنها في كل أرجاء المنزل. كيف يمكن أن تختفي بهذه السرعة؟ كان اختفاؤها كلمح البصر، تاركًا إياه في حالة من الذهول والتساؤل، والشعور بفراغ غامض يلف المكان.
وفي مكانٍ آخر
اجرى رحيم مكالمة بهاتفه: “لسه طالعين بعربياتهم…. اه انا متأكد ان العيلة كلها مشيت… مفيش حد اهم حاجة وقفت الكاميرات؟”
قال عماد صديقه بالهاتف: “كله تمام مفيش ولا كاميرا شغالة في البيت قدرت اتحكم فيهم وهشغلهم بعد مانت تخرج.”
همس رحيم بمكر: “حلو اوى… والحراس؟”
اجابه عماد بثقة: “متقلقش…. فارس حطلهم منوم هيقعد تلت ساعات اتسحب وخد مفاتيح البوابة وادخل كله امان.”
اغلق رحيم معه مكالمة الهاتف وهو يبتسم بانتصار ثم حمل حقيبته واخذ يخطو خطوات بطيئة نحو المنزل ونجح بمهمة سرق المفاتيح من الحراس وهم نائمون.
فتح بوابة المنزل الحديدية بحذر، ثم أغلقها خلفه بهدوء ليبدد أي شكوك. تقدم بخطوات حذرة نحو المنزل، وصعد السلالم بتوتر متزايد نحو مهمته “الشريفة” كما يسميها، السرقة. عند دخوله، استشعر الهدوء القاتل الذي يملأ أرجاء المكان، وكأن الجدران تراقبه بصمت.
بدأ في البحث عن أي شيء ذو قيمة، من المجوهرات اللامعة إلى القطع النادرة. كان قلبه يخفق بسرعة، مزيج من الإثارة والخوف. كل قطعة يجدها تزيد من شعوره بالنشوة والغنيمة. عندما وصل إلى غرفة كبير المنزل، المكتب الذي يشتهر بوجود خزنة كبيرة، شعر بشيء من الارتياح، وكأنها غنيمته النهائية.
فتح باب الغرفة الذي كان يُفتح ببصمة يد صاحب المكتب. لقد حصل على تلك البصمة بمهارة، وكان يرتب لهذه اللحظة منذ أشهر. خلال عملية جراحية أجريت للرجل الكبير حديثاً، تمكن من أخذ بصمته بذكاء وعمل نسخة لها، ليضمن دخول الغرفة بكل سلاسة.
عندما دخل الغرفة، شعر بمزيج من التوتر والإنجاز. كان الجو في الداخل كثيفًا برائحة الكتب القديمة والمستندات المبعثرة. أصوات خطاه كانت تكاد تكون مسموعة فقط له، تتردد في أذنه كنبضات قلبه المتسارعة. ألقى نظرة سريعة على كل زاوية في الغرفة، متمهلاً للتأكد من أن كل شيء كان كما توقع.
وقف أمام الخزنة، وعينيه تلمعان بلهفة. تخيل المال الذي سيجده داخلها وكيف سيغير ذلك حياته ولو لشهر واحد، يغنيه عن هذه الحياة القاسية. في تلك اللحظة، تداخلت مشاعر الطمع والخوف والأمل داخله، مجتمعة لتشكل عاصفة من العواطف.
بيد مرتجفة، أخرج هاتفه وأجرى اتصالاً بصديقه. صوته كان منخفضًا لكنه محملاً بالتوتر، وكأنه يخشى أن يتردد صدى كلماته في الأرجاء. قال بهمس: “ايوا يا طه…. الخزنة دي هتتفتح ازاي؟ ”
قال طه بفخر: “الخزنة دي بتتفتح بباسورد الواد زياد لعيب في البرمجة وغيرناه لبوس الواوا.”
ردد رحيم باستعجاب مما قاله للتو: “ايه يخويا..!”
ضحك طه بمرح واوضح له اكثر: “اكتب بس وربنا هو كده… بس بالانجليزي boselwawa”
ضحك رحيم بقهقهة مكتومة وهو يكتب الرقم السري بيد ثابتة. في تلك اللحظة، كان شعور الغلبة والظفر يتملك كل جوارحه. وبعد ثوانٍ، فتحت الخزنة ببطء، كاشفة عن كنوز لا تعد ولا تحصى من الأموال والألماس، متلألئة بوميض كأنها نجوم في سماء معتمة.
وقف رحيم أمام هذه الثروة الطائلة، مذهولاً من حجم الغنيمة. عيناه تلمعان ببريق الانتصار، ويداه ترتعشان من فرط الإثارة. كانت اللحظة تتجاوز مجرد سرقة؛ كانت انتقامًا للحرمان الذي عانى منه طوال حياته.
تملأه مشاعر مختلطة من الفخر والنشوة والخوف. لقد نجح في ما كان يبدو مستحيلاً. ثروات الرجل الكبير كانت الآن تحت سيطرته، وكأنها تنتظره ليجمعها. في تلك اللحظة، شعر بأن كل الأبواب التي كانت مغلقة أمامه قد انفتحت، وأن العالم بأسره قد أصبح في متناول يديه.
ردد رحيم بفرحة: “يابنلعيبة يا زياد.”
قال طه بجمود وحزازية: “خلص احنا مستنينك برا.”
أغلق هاتفه ببطء، ثم بدأ يعبئ النقود من الخزنة إلى حقيبته بلهفة، حتى أفرغها تمامًا. كانت الأوراق النقدية والمجوهرات تملأ الحقيبة بثقل يتزايد مع كل دفعة. بعد أن انتهى، أغلق الخزنة بعناية، محاولاً أن يترك كل شيء كما كان.
توجه نحو باب الخروج بخطوات حذرة، لكن فجأة تجمد في مكانه. أمام باب المكتب، كانت تقف فتاة في العشرين من عمرها، تنظر إليه بعيون متسعة. كانت ملامحها تعكس مزيجًا من الدهشة والخوف، وكأنها لم تصدق ما ترى.
شعر رحيم بتسارع دقات قلبه، وكأن الزمن قد توقف في تلك اللحظة. ارتبكت أفكاره، وتدافعت مشاعر القلق والتوتر في داخله. حاول أن يستجمع شتات نفسه، ولكن عينيه لم تستطع الابتعاد عن تلك العيون الواسعة التي تراقبه بصمت.
في تلك اللحظة، كانت الأفكار تتصارع في ذهنه كعاصفة هوجاء. كان يشعر باندفاع الأدرينالين يجتاح جسده، مخفيًا وراءه كل تردد أو خوف. كل ما يهم الآن هو النجاة والهروب، بغض النظر عن الثمن.
لم يتردد رحيم لثانية واحدة. عيون الفتاة الواسعة والمذهولة كانت تحثه على التحرك بسرعة. قبض بيدٍ مرتجفة على السك ين الذي كان يحمله، وتوجه نحوها بخطوات سريعة ومصممة.
…..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية موعدنا في زمن آخر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى