رواية مشاعر موقدة الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم فاطيما يوسف
رواية مشاعر موقدة الجزء الحادي والثلاثون
رواية مشاعر موقدة البارت الحادي والثلاثون

رواية مشاعر موقدة الحلقة الحادية والثلاثون
كان “رسلـان” واقفًا في منتصف الغرفة، وعيناه تتوسلان الرحمة، وصوته مبحوح من كثرة الرجاء، كان قلبه يضج بالألم، ونظراته تتنقل بين الأرض ووجه “خالته” كأنها تبحث عن بصيص أمل:
ـ يا “خالتو” حرام عليكِ بجد اللي انت بتعمليه فيا أنا و”دعاء”، أنا بقى لي سنتين بتحايل عليك إن احنا نتقدم خطوة في علاقتنا ونرتبط أنا وهي، وخصوصا إن احنا الاتنين عايزين بعض، وانتِ مصممة على الرفض، أنا مش فاهم أعمل إيه تاني علشان أقنعك إن أنا مش عايز غيرها.
جاء صوت “خالته” جافًا متماسكًا، تخبئ خلف نبرته جراحًا قديمة لم تندمل بعد ،كانت عيناها تومضان بنار الخذلان وشفتيها ترتجفان بتحدٍ مرير:
ـ أنا مش هقتنع يا “رسلـان” غير لما والدك ووالدتك يجوا يطلبوها مني، انت ناسي أمك جت عملت فيا إيه؟
أمك بهدلتني من سنتين لما عرفت إن انت عايز تخطب البنت، وجت عليت صوتها عليا قدام أهل بلدي وحتتي، يعتبر فرجت عليا الناس علشان شايفة إن أنا محوطة عليك بإيدي وأسنانى علشان آخدك لبنتي غصب عنها.
استعاد “رسلـان” ملامح الغضب القديم، وكان قلبه يشتعل من ظلم لم يكن له يد فيه ، تطلعت عيناه في ارتباك حزين، وصوت خالته خرج محمّلاً بالمرارة:
ـ دي اتهمتني إن أنا عاملة لك عمل، وخلت “باباك” يستغل منصبه ويعمل مشاكل لأبو “دعاء” في الشغل، لحد ما سيبوه الشغل، وعرفنا بعد كده إنه كان حد وازه عليه، وما فيش غير حد عنده سلطة غير والدك ووالدتك، هم اللي يعملوا كده علشان شايفين إن أنا أخدتك منهم أنا وبنتي، ولعبنا على عقلك وسحرنالك علشان تخطبها، عارف بقى لو وافقت أمك هتقول إنها كان عندها حق.
ارتعشت شفتا “رسلـان” وهو يقاوم الدموع، وكأن صوته صار صدى لصرخة في داخله، تاه في نظرات حائرة نحو المجهول :
ـ يا “خالتو” أنا ما ليش ذنب أنا و”دعاء” في كل اللي بيحصل ده، وفيها إيه لما تتنازلي علشان خاطر سعادتنا أنا وهي؟
انتِ مش شايفاها بقت عاملة إزاي؟
بقت حزينة ومكتئبة بسبب حياتنا أنا وهي، اللي واقفة علشان المشاكل اللي بينك وبين “ماما”، وإذا كانت “ماما” مش مدركة حبنا لبعض، ولا مدركة إن أنا عمري ما هتنازل عن حبي لـ “دعاء”، وإن أنا مش عايز غيرها زوجة ليا، انتِ يا “خالتو” عقلك كبير وما تضيعيش سعادتنا أنا وهي، لحد ما نضيع من إيديكم خالص، وترجعي تقولي يا ريتني ما حطيت كلام أختي في اعتباري وبصيت لبنتي وسعادتها.
ارتسم على وجه الجد وقار الحكمة، وبدت تجاعيد وجهه تنطق بالحنين إلى أيام مضت، وصوته حمل دفئًا ممزوجًا بالعتاب :
ـ يا بنتي هو أنا مش أبوكي؟
وليا كلمة عليكِ، ليه سايبة الأولاد يتعذبوا بالشكل ده؟
حرام اللي بيحصل فيهم، الاتنين أحفادي، وأنا من وجهة نظري راجل كبير حكيم، عدى عليه من العمر سنين وسنين، بقول لكِ طريق العند اللي انتِ ماشية فيه انتِ وأختك غلط، ولادكم ما لهمش ذنب في تفكير كل واحدة فيكم، أنتم الاتنين هتخسروا كتير بسبب لو جرى لهم حاجة.
نطقت الكلمات من فمها كالسهم، وعيناها تقدحان شررًا، تختلط فيها الأمومة بالخوف، والكرامة بالمرارة :
ـ يعني انت يا “بابا” على رأي المثل ما بيقول، سايب الحمار وبتمسك في البردعة؟
لا مؤاخذة يعني يا “بابا” أنا بنتي “دعاء” ما حلتيش غيرها في الدنيا، تصور كده إن يتقدم لها عريس من غير أب ولا أم، ولا حد يجي يطلب إيديها مني،
أهل البلد يقولوا عليا إيه؟ برمي بنتي؟
ببيعها علشان خاطر منصب ولا فلوس؟ ويرجعوا يصدقوا كلام أختي اللي جت فرجت عليا الناس بسببه.
تكسرت نبرة صوتها على ضفة التعب، وارتسم الأسى في زوايا عينيها، كأنها تحاول تبرير وجع لم تفصح عنه من قبل :
ـ أرجوك يا “بابا” قدر موقفي، أنا والله ما عندي اعتراض على “رسلـان” نهائي، وربنا الأعلم محبته في قلبي قد إيه، وربنا الأعلم برده إني ما أتمناش لبنتي عريس زي ما هتمنى لها “رسلـان”، بس انت يرضيك إن “دعاء” حفيدتك تتجوز الجوازة دي؟ تبقى منبوذة من أهل جوزها؟ وزي ما “رسلـان” حفيدك هي برده حفيدتك، واللي ما ترضهوش من ذلة ومهانة لـ “رسلـان” ما ترضاهوش من ذلة ومهانة لبنتي اللي ربيتها على الغالي، وعلمتها أحسن تعليم علشان خاطر تمشي رافعة راسها في البلد، وما حدش يتعايل عليها، مش علشان أبوها موظف وعلى قد حاله وعايشين مستورين، كل من هب ودب يفتري علينا ويخلي عيشتنا مرار بالشكل ده.
هز الجد رأسه بأسى، وكأن الحياة علمته أن لا منتصر في الحروب العائلية، فقط قلوب تئن بصمت :
ـ انتِ عندك حق يا بنتي في كل كلمة قلتيها، انتِ عداك العيب وزيادة، العيب فعلا مش عليكِ، العيب على بنتي الكبيرة اللي عقلها وكبرياءها سيطروا عليها وخلّوها معمية العين، بس القرار النهائي اللي أنا أخدته دلوقتي، زي ما انتِ ما قلتي إن “دعاء” تبقى حفيدتي و”رسلـان” يبقى حفيدي، أنا هروح لأختك، وهحاول معاها آخر محاولة، رضيت كان بها، ما رضيتش، هتمم الجوازة، وما لكيش دعوة بكلام الناس، الناس مش هينفعونا بحاجة لما الأولاد يجرى لهم حاجة لا سمح الله.
ترددت في كلماتها، بينما عيناها تحاولان اتقاء خيبة محتملة، وشفتاها ترتجفان من قلقٍ مألوف:
ـ طب، افرض يا “بابا” انت رحت لها علشان تقنعها، وجت هنا تاني فرجت عليا الناس، وفضحتني في حتتي للمرة التانية، ساعتها موقفي هيبقى إيه؟ أنا المرة اللي فاتت عملت لحضرتك اعتبار وما ردتش عليها علشان ما أفرجش علينا الناس أكثر ما هي فرجتها، علشان ما أسببلكش حزن في قلبك لما تشوف بناتك الاتنين واقفين قصاد بعض؟
مد الجد يده نحوها بحنو، ونظراته حملت رجاءً دافئًا وكأنها تقول: ما زال في العمر متسع للمحبة. ـ أنا بوعدك يا بنتي إن هي مش هتيجي تاني هنا إلا إذا كانت وافقت وجاية تطلب منك إيد “دعاء”، بس عايزك تدي الأولاد فرصة وأمل إنهم هيكونوا لبعض، علشان البنت بنتك حالتها بقت صعبة، والولد كمان مش متحمل الضغوطات اللي بتحصل لهم، بسبب رأيك عليها وبسبب رأي والدته عليه.
ارتخت كتفاها كأنها ألقت عن كاهلها جبالًا من الحيرة، ولمع في عينيها بريق صغير من الأمل:
ـ تمام يا “بابا”، شوف هتعمل معاها إيه، وأنا أي قرار أنا مش هعترض، حضرتك فين؟ انت عارف إن كلامك سيف على رقبتي.
ارتسمت ابتسامة شاحبة على وجه الجد، وارتجف صوته بشيء من الدعاء الصادق :
ـ ربنا يبارك فيكِ يا بنتي، وفي بنتك، وفي جوزك، ويبعد عنكم الأذى والشر.
تطلع إلى حفيده بعينين فيهما حنين ورجاء، ثم مد يده إليه كمن يدعوه للعودة إلى دفء العائلة :
ـ وانت يا “رسلـان” يا حبيبي، تعالى معايا، هنروح نعمل آخر محاولة مع والدتك، لعل وعسى، يمكن رجع لها إن بعد السنتين دول اللي في دماغك في دماغك، وتهدي الدور شوية :
انخفضت نظرات “رسلـان” نحو الأرض، وصدره يعلو ويهبط من شدة الانكسار، وكأن الحزن أثقل كاهله:
ـ يا “جدو” دي ما سألتش عني خالص، وخلت “بابا” يحرمني من كل حاجة، وما بيسألش عني هو كمان،
إزاي عايزني أروح بعد ما عملوا فيا كده؟
ربّت الجد على كتفه بلطف، وعيناه تدمعان بخشوع، كأنما يسترجع آيات بر الوالدين في قلبه:
ـ يا حبيبي، الأب والأم مهما عملوا في أولادهم، المفروض إن أولادهم يتحملوهم، وهم اللي يجوا على نفسهم علشان خاطر رضا أبوهم وأمهم، ده ربنا قال في القرآن الكريم “ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما”
حتى لو كان الأب والأم والعياذ بالله مشركين، المفروض عليك تبر والدك ووالدتك مهما عملوا، أنا مش عايز يا ابني أشيل ذنب إعاقتك لأمك وأبوك، حتى لو أنا اللي مختلف معاهم.
رفع “رسلـان” عينيه إلى جده، وكان فيهما ذل الخضوع وصمت الصبر، وأومأ برأسه في استسلام تام:
ـ حاضر يا “جدو”، هاجي معاك، ما عنديش إرادة ولا عندي حل تاني غير إني أفضل متمرمط ما بينهم، علشان خاطر أستقر زيي زي أي شاب.
ربت الجد على كتفه مرة أخرى، وهمس بدعاء كأنما يعلّقه في رقبة السماء:
ـ ربنا يهدي لك الحال يا ابني، وإن شاء الله زيارتنا تيجي بنتيجة.
*********
وقف “رسلان” أمامها بقلبٍ مثقل بالوجع، عيناه تترنّحان بين الأمل واليأس، كأنّ روحه تستجدي لحظةَ احتواءٍ أخيرة قبل الرحيل، ولم يستطع أن يُخفي رجفة صوته وهو يحدّق في ملامحها الشاحبة التي خنقتها الدموع :
ـ انا مسافر يا “دعاء” أعمل آخر محاو̀لة مع “ماما” و”بابا” بس مش عايز أمشي وانا شايفك حزين̀ة كده من بقالي كتير ما شفتش الإبتسام̀ة الحلو̀ة بتاعتك اللي بتديني أمل إننا نكمل مع بعض.
انخفضت نظرات “دعاء” نحو الأرض، وكأنها تبحث عن مساحة أمانٍ تُخبّئ فيها قلبها المتصدّع، كانت كلمات “رسلان” كالسكين، تدور في صدرها ببطءٍ موجع، فهزّت رأسها بحزن لا يُوصف:
ـ غصب عني يا “رسلان” ما أقدر̀ش أوقف قدام “بابا” و”ماما” ولا إني أكسر كلمته̀م، وكمان إنت علقتني بيك قوي لدر̀جة إن أنا ما بقيتش أشوفك راجل يكون ليا غيرك، غصب عني لازم أبقى حزين̀ة.
رمش “رسلان” بعينيه سريعًا، يحاول أن يمنع دمعة ساخنة من الهروب، كان يتمسك بكبريائه كرجل لكنه بدا كطفلٍ يُنتزع منه حضن الأمان، وتكلّم والرجفة لا تزال تسكن صوته:
ـ أنا بتقو̀ى بيكي يا “دعاء”، بتقو̀ى بيقينك بالنصيب اللي هيجمعني معاكي، بتقو̀ى بإيمانك الكبير إن ربنا مش هيفرق ما بينا بعد الحب الكبير الطاهر اللي جمعنا مع بعض، أوعدك إن أنا هرجع لك تاني، بس المرة دي لازم كل حاج̀ة تتم وأنا وإنت نتجوز مهما كانت الظروف معاند̀ة.
ارتجف أنفاسها وهي تستمع إليه، كأنها تخشى أن تنفلت منها لحظة العمر، نظرت إليه نظرة ممتلئة بالرجاء والخوف، وكأنّ قلبها يصرخ بما عجز لسانها عن قوله :
ـ مش عارف̀ة يا “رسلان”، حاس̀ة إن زيارتك دي هتخليني ما أشوفكش تاني، يعني إنت هنا قد̀امي، إنت و”جدو” بتعدي وتيجي علينا وبشوفك على طول، حاس̀ة إن الزيار̀ة دي بالذات مش هيجي من وراها خير، ما تسافر̀ش يا “رسلان” وأنا هحاول أتكلم مع “ماما” وأقولها إني موافق̀ة جواز̀ي منك يتم بالشكل ده.
اقترب منها خطوة واحدة، كأن المسافة بينهما كانت فجوة زمنية يُريد أن يعبرها، ونظر إليها بحنو غامر، بعينين تتوسلان الفهم:
ـ ما ينفع̀ش يا “دعاء”، دول “بابا” و”ماما”، ما ينفع̀ش إن أنا أتبر̀ى منهم، وزيارتهم واجب̀ة عليا أولاً وأخيراً، وصدقيني أنا ما أقدر̀ش أبعد عنك أصلاً، قلبي اتعلّق هنا بالمكان، اتعلّق بوجودك، بصوتك، بأنفاسك، بعطرك الطبيعي، اتعلّق بعيونك الحلو̀ين يا حبيبتي.
تحركت ملامحها كأنها على شفا انهيار، تذكّرت كل لحظة قرب، وكل كلمة دافئة، وكل نظرة محبة من عينيه التي لا تكذب:
ـ أنا كمان اتعلّقت بيك قوي، وما كنتش متخيل̀ة إنك تقدر تشيل الحاجز اللي أنا كنت حاطّاه ما بيني وما بينك، علشان طول عمر̀ي خايف̀ة من اللحظات دي، خايف̀ة من “خالتو” اللي دايم̀اً بتعتبرني دون المستوى عنكم.
مدّ يده نحو وجهها لكنه توقّف في منتصف الطريق، كأنه لا يريد أن يُخدش هذا النقاء الذي يسكنها، واكتفى بالهمس المطمئن :
ـ ارفعي عيونك يا حبيبتي، مش عايز أشوف دموعك ولا حزن̀ك، إحنا بجد تعبنا قوي أنا وإنتِ يا “دودو” قلب̀ي ، انتي مش دون المستوى ولا حاجة احنا في تكافؤ بيننا في التعليم ولما دخلت بيتكم وأكلت معاكم من نفس الأكل اللي انتم بتاكلوا منه حسيت ان انا محروم من حاجات حلوة كتيرة عمري ما شفتها ولا حسيت بيها على سفرة بابا وماما ، كفاية الدفا والامان اللي لقيته في بيتكم عمري ما حسيت بيه بين اهلي وعيلتي و اذا كان ولابد على التكافؤ والمستوى فانا اللي مش قادر اوصل لمستواكي يا “دعاء” .
أغمضت عينيها للحظة، تحتضن صوته في داخلها، كأنه البلسم الأخير الذي يُسكّن جرح الروح، ثم همس مجدداً بشغفٍ لا يُخفى :
ـ بقولك إيه، بحبك يا قلب “رسلان” وعمري كله، يا أجمل من شافت عيوني، بجد نفسي أسمعها منك قوي كلم̀ة “بحبك” يا “رسلان”، مش عارف إزاي مش قادر̀ة تقوليها لحد دلوقتي، أوعي تكون̀ي ما حسيتيها̀ش؟
هزّ رأسه بإعجابٍ وانبهار، ونظر إليها كأنّه يُقايض الكون كله بلحظة صدق واحدة منها، لكنّها تنهدت وقالت :
ـ مش قادر̀ة أقولها يا “رسلان” إلا لما يبقى في ميثاق شرعي ما بيني وما بينك، مش قادر̀ة أقولها إلا لما أحس فعلًا إن أنا لما أقولها أول مرة، هقولها تاني وثالث ورابع، مافيش حاج̀ة تخوف̀ني سواء كان فراق أو مشوار طويل لسه هنمشي مع بعض، لحد ما ربنا يجمعنا، يخلّيني أقلق إني أقولها.
نظر إليها بعينين دامعتين، وقد أضاءت داخله بارقة رجاء، وتكلم كأنه يُقسم بعمره كلّه:
ـ ما تقلقيش يا حبيبتي، أنا مش هسيبك، أنا متمسك بيكي وبوجودك، متمسك إن أنا وإنت نكون لبعض، وصدقيني يا “دعاء” أنا جوايّا مشاعر وأحاسيس ليكي، عمري ما حسيت بيها قبل كده، ولا بقوتها اللي بتزلزل كيان̀ي أول ما بشوف عينيكِ.
ابتسمت من خلف الدموع، وكأن كلمات حبيبها أعادت إحياء شيء ميت داخلها، ثم تمتمت بصوتٍ يكاد يُسمع:
ـ يا رب يجمعنا أنا وإنت في حلاله، وصدقني هتلاقي مني كل المشاعر والأحاسيس اللي إنت تتمناها وأكثر، أرجوك أوعدني إن إنت هتروح وهترجع تاني.
ضمّ قبضتيه كأنّه يتشبّث بعهدٍ صادق، وحدق فيها بثباتٍ عميق:
ـ صدقيني لو كل الدنيا وقفوا قصادي علشان يبعدوني عنك، أنا مش هبعد، أنا استحملت سنتين بحالهم علشانك، وعلشان أعافر لوجودنا مع بعض، وهفضل أعافر لحد آخر نفس فيّ، بس إنت إدّيني أمل إنك ما تفقد̀يش الأمل في موضوعنا.
رفعت رأسها نحوه، تلمع في عينيها قوة مستمدّة من ضعفه، ومن حبٍّ أثبت وجوده رغم كل الظروف:
ـ أصلًا ما حلّتيش حاج̀ة غير الأمل أديه لك يا “رسلان”، أنا ما ينفع̀ش أكون لحد غيرك، ما ينفع̀ش أظلم إنسان تاني معايا وأنا قلبي وإحساسي ومشاعري معاك إنت.
مال نحوها قليلًا، يهمس بعهدٍ جديد، وعيناه تلمعان بوعدٍ لا يُكسر:
ـ ربنا يخليكي ليا، وإن شاء الله أرجع أقولك “إحنا بقينا لبعض” يا حبيبتي، وإن شاء الله نصيبك هو نصيب̀ي، بعشقك وبحبك قوي، وهتوحشيني قوي.
ضحكت من قلبها هذه المرة، خجلها الطفولي يحاول أن يخفي لهفتها، لكنه رآها كما لم يرها من قبل:
ـ ياه، لما عيونك يتدار̀وا عني من كتر الخجل، بيبقى شكل̀ك قمر وسط النجوم، حال̀ة إنتي مختلف̀ة عن كل البنات اللي مرّوا عليّا، خجل̀ك بقى نادر الوجود، حياؤك نور وسط العتمة، وبجد أنا بشكر ربنا على إنه جابني هنا ووضع حبك في قلب̀ي.
نظرت إليه نظرة مشحونة بالحنين، ثم تمتمت برجاء الأمس وغد الأمل:
ـ خلي بالك من نفسك يا “رسلان” وارجع لي بسر̀عة.
فرد عليها بكلماتٍ تنبض عشقًا وحنانًا:
ـ من عيوني يا نور عيون “رسلان” وقلبه وروحه، بس بالله عليكي ابتسمي بقى علشان الشمس تطل والزهور تتفتح.
ضحكت وهي تمسح دمعتها الأخيرة، ثم ردت بمزاحٍ حنون:
ـ ما حلّتيش حاج̀ة أديهالك غير الابتسام̀ة يا بن “خالتي” اللي مطلّع عيني معاك.
ابتسم وهو ينظر إليها كأنها الكنز المفقود:
ـ أجمل بسمة وأجمل وجه يتبسم، ملاكي الجميل.
********
كان ضوء المغيب يتسلل من بين الستائر، يغمر الغرفة بلونٍ ذهبي خافت، فيما صوت خطوات “هاشم” الثقيلة يُعلن عودته من يومٍ شاقٍ في العمل وقف لحظةً عند الباب، ينظر إلى أرجاء المكان بصمتٍ، ثم زفر زفرةً طويلة:
ـ “حنين” قومي بقى من النوم، كل أما أرجع من الشغل ألاقيكي نايمـة إنتِ والبنت، بقالـي أسبوع على الحوار ده، هو في إيه بالظبط؟
تقلّبت “حنين” في الفراش ببطء، وقد بدت ملامح الإرهاق محفورة على وجهها الشاحب، عيناها نصف مغمضتين، وصوتها متعب، لكن حنون:
ـ سيبني يا “هاشم”، أنا مجهزّة لك الأكل وحاطـة لك على السفرة ومتغلف بالفويـل، هتلاقيه سخن عايزة أنام، البنت ما نيمتنيش طول الليل، وأنا وهي نايمين الساعة اتنين بعد الظهر.
تقدّم “هاشم” نحو منتصف الغرفة بخطى مترددة، وقد بدا عليه الغضب الممزوج بخيبة أمل ثم رفع عينيه نحو الساعة المعلقة، ثم أعاد نظره إليها، صوته يحمل عتبًا أكثر من انفعال :
ـ طب ما الساعة بقت 6:00 دلوقتي يا “حنين”، هو أنا كل أما أرجع من الشغل كل يوم آكل لوحدي وأقعد مع نفسي؟
إزاي مش قادرة تنظّمي نوم البنت؟ لحد دلوقتي بقى عندها زيادة عن سنة أهو؟
مدّت “حنين” يدها تتلمس الوسادة، وأسدلت جفنيها كأنها تهرب من المواجهة، ثم قالت بصوتٍ خافت ومكسور :
ـ يا “هاشم”، البنت واخدة التطعيم ومدوّخاني معاها، سيبني أنام بقى، إنت مش بترضى تشيلها معايا، آخرك تشيلها نص ساعة وخلاص، وأقول لك اسهر بيها شوية ما بترضاش.
انكمش جبين “هاشم”، وتعالى صدره بأنفاسٍ مضطربة وبدا وكأن كلماتها وخزت شيئًا بداخله، فرفع حاجبيه وتمتم بنبرة يائسة :
ـ أنا ببقى تعبان في الشغل طول النهار ومش حمل السهر طول الليل، وبعدين العيشـة دي ما بقتش تنفع خلاص أنا زهقت حاولي توازني ما بينا احنا الاتنين مش معقول كل الأمهات كدة ؟
صمتٌ ثقيل خيّم للحظات، ثم خفّت نبرة “هاشم”، وصار صوته أقرب إلى الرجاء منه إلى اللوم، رمقها بنظرةٍ ممتزجة بين الحنين والخذلان :
ـ وبعدين، إنتِ وحشتني، حضنك وحشني يا “حنيني”، هو أنا ما وحشتكيش؟
ولا الأمومـة نسيتك إن ليكـي ابن بكري محتاج احتوائك وحنانك؟
اعتدلت “حنين” قليلًا وهي تفرك عينيها ببطء، كأنها تحاول الهروب من ثقل التعب الذي يسكن جسدها وروحها، ثم همست بضعف :
ـ يوه، بقول لك يا “هاشم”، ما نمتش، مش قادرة أصلّب طولي أصلًا، طب سيبني أنام شوية، وأنا أوعدك إني أسهر معاك النهاردة لحد الصبح، بس سيبني كمان ساعتين تلاتة.
أدار “هاشم” وجهه للحظة كأنه يحاول السيطرة على مشاعره، ثم استدار ناحيتها بعزم، وصوته هذه المرة كان حاسمًا ولكن متألمًا:
ـ ما فيش الكلام ده يا “حنين”، إنتِ كل يوم تقولي لي كده، وأنا خلاص ما بقيتش متحمّل، حاولي توازني ما بين البنت، وما بين احتياجاتي ليكـي، وما بين واجبك عليّ، يلا قومي بقى نستغل الوقت ده والبنت نايمـة نقعد مع بعض شوية وتتغدي معايا.
دفنت وجهها في الوسادة للحظة، ثم سحبت الغطاء كأنها تحتمي به، قبل أن تردّ بصوتٍ نصف نائم و نصف مستسلم :
ـ يوه، وكمان بتشد الغطا! حاضر يا “هاشم”، هقوم، أنا عارفـة إنك مش هتسيبني أصلًا.
ضحك “هاشم” بخفة، وهو يقترب منها، محاولًا التخفيف من توتر الجو، فتألقت عيناه بلمعة حنانٍ طفيفة:
ـ يا بنتي، هو إنت تطولي “الشيف هاشم” يقول لك إنك وحشاه وإن حضنك بالنسبـة له بقى احتياج؟
أنا يا “ماما” راجل بحب مراتي وبحب أقعد معاها وأنبسط أنا وهي، وبعدين “رُقى” جميلـة خالص، وإنتِ اللي بتفتري عليها.
قلبت “حنين” عينيها بدلال، كأنها تستعيد طاقتها شيئًا فشيئًا، ثم رمقته بنظرةٍ لا تخلو من الغيرة والمرح :
ـ آه، قول كده بقى، إن إنت هتيجي في صف بنتك حبيبتك، ومش هتيجي في صف “حنينك” اللي مدلعاك آخر دلع، طب لعلمك بقى، مش هروّق عليك النهاردة، ولا هبسطك، ولا هديك اللي إنت عايزه بمزاج.
تسلل إليه إحساس ظريف بالانتصار، فضحك من أعماقه، وتقدم منها وهو يمد يده نحوها بحركة مسرحية:
ـ هو إنتِ تقدري أصلًا؟ عيب يا “ماما”، أنا مجرّد ما أبص لعيونك بس بتدوخي، وبتروحي معايا للعالم بتاعي، وبمشيكـي فيه زي عروسة الماريونت كده، ده إنتِ بتبقي دايبـة بين إيديا، بس بصراحـة إنت بطل ما يهزك ريح.
توارت “حنين” خلف الغطاء في محاولةٍ خجولة لإخفاء حمرة خديها، وضحكت بخفوت كأنها استسلمت له :
ـ بس بقى يا “هاشم”، علشان بتكسف، هو إنت مش هتبطل طريقتك دي؟
أومأ برأسه في رضا، وتكشّف وجهه عن ابتسامةٍ لم تخلُ من شوقٍ صادق :
ـ بتتكسفي مين يا “ماما”؟ إحنا خلاص بقى، معانا “رُقى”، يعني مرحلة الكسوف دي عديناهـا وخلصناهـا، أنا عايزك بقى توريني النهاردة ليلة كده رايقـة، إنتِ بقالك أسبوع غايبة عني، وأنا الكلام ده ما ينفعش معايا خالص، وإنتِ عارفـة، ها، وإنتِ عارفـة.
سكن صوت “حنين” للحظة، ثم خرج ناعمًا كما النسيم، وقد حمل معه دفءًا طالما خبأته:
ـ إنت كمان على فكرة وحشتني، وقوي كمان، إنت عوّدتني على حضنك، وخلّيتني أدمنت أنفاسك يا “هاشم”.
اقترب منها بخطى بطيئة، عينيه تحكيان ألف قصة، وبصوتٍ مبحوح من الاشتياق همس:
ـ قلب “هاشم”! أنا بقول إيه بقى؟ نلغي العشا ده خالص، والغدا كمان، وبعدها يحلها الحلال، وتعالي في حضن حبيبك قبل ما “روكا” تصحى وتبقى هادمـة اللذات ومفرّقـة الجماعات.
رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة، وأجابت وهي تضحك من قلبها أخيرًا:
ـ واو! دلوقتي ما بقيتش جعان يا حضرة الشيف؟
ضحك وهو يفتح ذراعيه لها، وكأنه يعلن الهزيمة الطوعية :
ـ أنا جعان حاجة تانيـة خالص، من نوع تاني خالص، أنا جاي لك وأنا معبّي على الآخر يا “حنيني”، وعايزك تطفّي أشواق الشيف اللي قرب ينفجر من كتر ما هو عطشان لحضنك.
نظرت إليه بعينين مليئتين بالعشق، وهمست كمن وجد دفئه الضائع :
ـ ده أنا من عيوني لأبو “رُقى” الغالي، إحنا نقدر على بعدك يا حبي.
ضمها إليه أكثر، وقال بنبرة رجلٍ يحلم بأمانٍ عائلي متكامل وهو يشتم رائحة شعرها المحبب إلى قلبه :
ـ طب يالا بقى، نجيب أخ لـ”رُقى”، شيف صغنون كده، يمشي جنب باباه، ويبقى لك راجل يقف قصاد أبو “رُقى” لما يزعلك.
غمزت بعينيها في دلالٍ أربكه، ثم همست بإغواء الطفلة المدللة :
ـ بس أبو “رُقى” حبيبي، وحبيبي عمره ما يزعل “حنينـه” أبدًا.
وهمس أخيرًا، كمن ذاب في حبها:
ـ لا يا “حنينـي” براحة عليا، أنا كده هدوب، أنا مش قدك يا بطل.
*********
كانت السماء ممتدة كأمنية لا تنتهي وزرقتها تعانق زرقة البحر في لوحة واحدة من صنع الرحمن وكان الهواء يراقص حجاب “ليلى” بينما كانت تستند إلى كتف “زيد” فوق سطح اليخت الراسي بهدوء وسط مياه فيروزية تبتهج بمرور طيف حبهما ،
كان “زيد” يجلس خلفها وقد أحاط خصرها بذراعيه ودفن وجهه في عنقها يستنشق عبيرها ويبتسم كأن رائحتها وحدها كانت كفيلة بأن تنسيه كل ما مر من تعب في سنين الانتظار ثم قال بصوت دافئ ينزلق إلى قلبها كهمسة حب:
ـ انتي واخده قلبي بضحكتك يا “ليلى” عارفة يعني ايه اشوف الضحكة دي اول ما اصحى كل يوم دي لوحدها كفيلة تخليني احارب العالم كله .
أمالت رأسها عليه أكثر وهمست بخجل يشبه موج البحر حين يلمس الرمل للمرة الأولى:
ـ انا اللي مبقتش اعرف الدنيا من غيرك يا “زيد” وجودك جنبي حاسه كأن كل حاجة كانت ناقصاني بقت كاملة.
مرر أنامله برقة على يدها التي تتشابك بأصابعه وقال هامسًا:
ـ ده انا حتى صوتك لما بتنادي لي فيه راحة مش طبيعية كأن قلبي بيهدى لما بسمع اسمي منك.
نظرت له بعينيها الواسعتين التي كان البحر يغار منهما ثم ابتسمت وقالت:
ـ وانا بحس انك حضني الحقيقي اللي ما فيهوش خوف ولا حيرة ولا وجع بحس اني بين ايديك بنت تانية بتعرف تحب من غير ما تستخبى .
قبل يدها برقة ثم قال:
ـ عارفه ليه خدتك هنا على اليخت علشان البحر مفيهوش حدود زينا احنا بالظبط حبنا ملوش نهاية ولا حدود ولا سقف ده بحر وانتِ الموج اللي بيرقص فيه.
ضحكت بخجل ومسحت على شعره وقالت:
ـ انت مجنون اوي يا “زيد” بس حلو جنانك وانا مبسوطة اوي اوي انك في حياتي.
مرر يده على ظهرها برقة ثم ضمها إليه اكتر وقال بصوت هادي:
ـ كل يوم بيعدي وانا شايفك جمبي بحس اني انسان جديد بحس اني لسه بتعلم يعني ايه احب بصدق ويعني ايه اخاف على حد اكتر من نفسي.
ردت عليه بصوت أشبه بالهمس لكنه ممتلئ بالحب:
ـ وانا كل مرة بسمع منك كلمة حلوة بحس ان قلبي بيطير من مكانه بحس اني صغيرة في حضنك وبكبر من جديد.
أخذ نفسًا عميقًا وكأنه يتنفسها ثم هتف وهو ينظر لعينيها:
ـ بحبك يا “ليلى” بحبك بعدد دقات قلبي بعدد كل موجة في البحر ده بعدد كل لحظة كنت مستنيكي فيها.
انحنت عليه وقبلت خده في رقه وهمست:
ـ وانا بحبك يا “زيد” حب مليان امتنان وامان حب عمري ما حسيت بيه قبل كده ولا هحسه لحد غيرك.
كانت المراكب الصغيرة تمر من بعيد تصفر كأنها تشاركهما هذه السكينة التي ملأت الأفق كانت السماء قد بدأت تزينها ألوان الغروب المبهرة بينما طيور النورس تدور في حلقات هادئة فوق رؤوسهما ،
أحاط “زيد” خصرها أكثر وهمس في أذنها :
ـ تتجوزيني من تاني يا “ليلى” على مركب في نص البحر وبلاش شهود ولا معازيم ونعيد يومنا من تاني أصله كان عاجبني قووي وخصوصاً نهايته كانت أسطورة .
ضحكت وهي ترد عليه بنفس طريقته الدعابية:
ـ اتجوزك الف مره يا “زيد” طول ما انت في حضني أنا أحب أي حاجة وكل حاجة منك .
مر الوقت بهدوء حتى أسدل المساء ستاره على تلك اللحظة وبدأت الأضواء الخافتة تضيء سطح اليخت مثل نجوم صغيرة تحوم حولهما ،مد “زيد” يده وسحب “ليلى” إلى وسط المركب ثم قال :
ـ تعالي نرقص سلو تاني ونعيش كأن الفرح لسه ما خلصش أنا عايز أستغل كل وقت نقضيه مع بعض وكل لحظة قرب تبقي ساكنة حضني .
وضعت يدها في يده واستندت إلى صدره بطمأنينة بينما الموسيقى الخافتة تنساب حولهما كأنها نابعة من دقات قلبيهما الراقصين ،اقترب “زيد” من “ليلى” أكثر وبدأت ملامح وجهها تتسلل إلى قلبه كأنها مزيج من الحلم والحقيقة كانت تضيء في عينيه كالقمر حين يكتمل وكان هو لا يراها إلا بعين العاشق الذي وجد كل ما يبحث عنه في تلك الملامح ،
مال برأسه ببطء إلى جبينها يقبّله بشغف خافت ثم همس بشيء لم تسمعه لكن قلبها التقطه قبل أن يدرك عقلها ما قال ثم اقترب أكثر ليضع قبلة رقيقة على وجنتها جعلت عينيها تلمع بالدموع من فرط السعادة ،
انسجم جسدهما مع أنغام الموسيقى في رقصة سلو بطيئة كانت أقدامهما تتحرك ببطء لكن القلوب كانت تلهث من فرط القرب كانت اللحظة مكتملة مثل لوحة رسمت بعناية ولم ينقصها شيء سوى أن يتوقف الزمن عندها إلى الأبد .
******
كانت تلك المرأة تجلس على مقعدها الوثير، تتصفح صفحات المجلة ببرودٍ لافت، لا أثر لعاطفةٍ في ملامحها الجامدة، وكأن قلبها صُنع من صخرٍ لا يعرف اللين، وحين دخل “ابنها” الغائب، الذي أنهكته الأيام شوقًا واحتياجًا لحضن أمه، لم تلتفت نحوه، لم تتزحزح قيد أنملة، بل اكتفت برفع عينيها إليه بنظرةٍ خالية من الحنان، ثم هزّت كتفيها بلا مبالاة، وابتسمت بسخريةٍ جافة، قبل أن تعود بعينيها إلى المجلة وكأن شيئًا لم يكن، قائلة في نفسها ‘ها هو قد عاد، مكسورًا كما توقعت، ليذوق من كأس الحياة ما استحقه’ ثم قالت بصوت ممتلئ بالشماتة:
حمد لله على السلامة يا “رسلـان” يا ترى عقلت ولا لسه وشلت الموضوع اللي في دماغك ده؟ أظن بعد ما مر سنتين أنا لسه عند رأيي، الموضوع ده مش هيتم .
كان قلب “رسلـان” يعتصر ألمًا، لم يكن الطريق إلى بيت والدته سهلًا عليه، كأن كل خطوة فيه تسحب من روحه ذرة أمل، وكان الأمل في نظرتها الأولى إليه، لكن كلماتها جاءت كطعنة باردة في قلب مشتعل:
ـ انتِ ليه بتعملي فيا كده يا “ماما”؟
ليه بتحطميني بالشكل ده؟
ليه مش عايزاني أتجوز اللي أنا بحبها لمجرد شكليات ما تهمنيش أصلًا؟
بدت ملامح “نعمات” جامدة، عيناها لا ترى سوى ما تعتقد أنه الصواب، وكأن مشاعر ابنها لا تعنيها، تحدثت بثقة خالية من الرحمة، ونبرة تفضح قسوة جاثمة على قلبها:
ـ علشان أنا شايفة الصح وعارفة مصلحتك فين. انت مجرد شوية مشاعر تافهين بيحركوك، لكن لما تدخل القفص ده برجليك هتعرف إن انت كنت صيدة سهلة بالنسبة لهم. وأنا لسه عند رأيي وموقفي من الجوازة دي.
اهتز جسد الجد، وكان الغضب في عينيه كالبرق في سماء شتوية، لم يكن يحتمل جحود ابنته، فصرخ فيها بقلب الأب الذي شهد كيف ربى حفيده دونها، وكيف سقا قلبه حنانًا كانت هي غائبة عنه:
ـ انتِ إيه يا بنت؟!
انتِ إيه قلبك الجاحد ده ؟
مش محترمة إن أنا “أبوكي” وإنك بتتكلمي عن أختك اللي هي عمرها ما طمعت فيكِ ولا عمرها بصيت لكِ من الأساس؟
انتِ مريضة يا “نعمات” بمرض الكبرياء اللي خسرك الناس اللي بيحبوكي ومش شايفين من وراكِ أي مصلحة، مريضة بمرض المنظرة الكذابة اللي خلتك شايفة إن شوية المنافقين اللي حواليكِ هم اللي يستحقوا إنهم يكونوا حبايبك؟
وقف الجد يهدأ قليلًا ثم تنفس بعمق، يده تمسك عصاه وكأنها تمسك عمرًا طويلًا من الحكمة، صوته خرج هذه المرة ناصحًا يفيض وجعًا على ابنته الضالة:
ـ أنا “أبوكي” وبنصحك نصيحة لوجه الله السلطة زايلة يا “بنتي” والمال بيروح وييجي، واللي ملمومين حواليكي وعمالين يمجدوا فيكِ علشان منصب جوزك، لو حصل له حاجة في يوم من الأيام ما حدش فيهم هيشيلك في زنقتك، ولا حد فيهم هيبص لكِ من الأساس ، فوقي يا “بنتي” واعرفي اللي بيحبوكي بجد من قلبهم، واللي مجرد طمعانين في منصب ولا جاه زي ما انتِ ما بتقولي لابنك.
لم تهتز “نعمات” رغم نصائح والدها، بل رفعت رأسها بعناد قديم، عيناها لم تعودا تعرفان معنى العطف، قالتها ببرود وقناعة مزيفة:
ـ أظن أنا حرة يا “بابا” في اللي أنا أختاره لابني ،أنا حرة أجوزه على كيفي، وأنا مش موافقة على بنت أختي، أنا مش عايزاها ليه، ما فيش تكافؤ اجتماعي ما بينا، وأظن ده سبب كافي للرفض.
تدخل الجد مجددًا، وقد بان عليه الإرهاق، وجهه يشبه جبلاً طاعنًا في الصبر، لكن لا يزال يملك من العزم ما يدفعه لحماية مستقبل حفيده:
ـ أنا عارف إن أنا مش هاخد معاكي لا حق ولا باطل، بس أنا جيت لك النهارده أنا و”رسلـان” علشان ابنك يشوفك ويبر بيكي انتِ و”أبوك”، لكن الظاهر إنك ما بقيتيش محتاجاه.
زفرت “نعمات” بسخرية، ثم أطلقت سهمًا جديدًا صوب قلب ابنها، وكأنها تتلذذ برؤية وجعه، تخلت عنه بكل ما أوتيت من قسوة:
ـ ابني؟ ابني مين؟ اللي سابني وراح عاش مكان بعيد عني سنتين كاملين وبيضغط عليا؟ ابني مين اللي يعوق أمه وما يسمعش كلامها؟ أنا ما ليش ابن اسمه “رسلـان”.
ارتعشت شفتا “رسلـان”، شعر أن الحياة تنسحب من صدره، وأن لا أم له في الوجود، كان قلبه متشظيًا، وانفجرت الكلمات من بين شقوقه المحطمة:
ـ بقى كده يا “أمي”؟ حتى بنوتي بتتخلي عنها؟ وبتتخلي عني؟!
كنت متخيل إنك أول ما تشوفيني دلوقتي داخل عليكِ تاخذيني بالأحضان، كنت متخيل إني واحشك، وإن إحساس الأمومة هيجرك ناحيتي وهيقول لكِ؛احضنيه ده محتاج حضن منكِ، طبطبي على قلبه ووافقي على راحته، ده محتاج منكِ احتواء .
ثم هز كتفيه بيأس، وبكى بعينيه، لكنه ابتلع دموعه بكبرياء موجوع، وقال بصوت متهدج، كأنما يحمل قبر قلبه على كتفيه:
ـ أنا طلعت غلطان يا “ماما”، أنا حاسس إن أنا يتيم، حاسس إن ابن عم “عاطف” حارس الفيلا بتاعتنا أحسن مني، لأن “باباه” و”مامته” دايمًا بيحضنوه وبيطبطبوا عليه شكرًا يا “أمي”، أنا ماشي وسايب لكِ المكان خالص.
انتفض الجد واقفًا، غلبه الأسى، عيناه تقدحان نيرانًا من غضب إلهي، وكأنما يستنجد بالسماء أن تصحو ابنته، فتحت عينيها على ما ارتكبت من ذنوب:
ـ حرام عليكي يا “شيخة” اللي انتِ بتعمليه في ابنك ده ،حرام عليكي جمودية القلب اللي فيكي دي ،ده إنتي اللي ربنا قال عليكي ، “وقست قلوبهم”، وقال عليكي برده: “ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك” والله يا “نعمات” يا “بنتي”، لربنا هيحاسبك على كل اللي انتِ بتعمليه، وهيديكي درس هتفوقي منه على كابوس مر، عمرك ما شفتيه ولا عشتيه في حياتك.
رفعت “نعمات” حاجبيها استهزاء، وكأنها ترفض أن ترى في المرآة صورتها الحقيقية، وتكلمت بعناد يغطي ضعفًا في قلبها لم تعد تعرف كيف تعبّر عنه:
ـ والله بقى يا “بابا”، أنا حرة في قراري وفي تربيتي لابني أنا شايفة إن دي مصلحته، وطالما أنا شايفة إن دي مصلحته يبقى ربنا عمره ما هيضرني أبدًا.
نظر الجد إلى “رسلـان” الذي هرول بقلب مكسور من أمامهم ثم وقف يستجمع آخر ما تبقى من كرامة العائلة، وقالها بصرامة من عاش طويلًا وشهد خراب البيوت يبدأ من كلمة :
ـ طب تمام يا “بنت أبوكي”، اعملي حسابك إن “رسلـان” هيتجوز “دعاء”، وده القرار النهائي ، مش هنعمل لكِ اعتبار تاني ولا هنستنى أكتر من كده، ويكون في معلومك إن روحتي ناحية أختك تاني، ولا هددتيها، ولا استخدمتي أسلوب الضغط الغير شريف اللي مش عارف اتعلمتيه فين، ده أنا اللي هقف لك يا “نعمات”، وأنا اللي هطلع على مواقع التواصل الاجتماعي بتاعتكم وهخلي الدنيا كلها تتفرج عليكِ، الحاجة الوحيدة اللي انتِ ما بتحبيهاش أنا حذرتك، وقد أُعذر من أنذر ،كفاية البهدلة اللي بهدلتِها لهم قبل كده، وكفاية إنك وزيتي جوزك يخلي جوزها يترفد من الشغل أنا نبهتك وخلاص.
تبدلت ملامح “نعمات” فجأة، وظهر في نبرتها اضطراب لم تعرفه منذ زمن، وهي ترى زوجها يدخل عليهم بوجه شاحب وعرق يتصبب من جبينه فنظر ابيها أيضاً واندهش من حالته ليسأله بقلق حقيقي :
ـ إيه ده يا “أبو رسلـان”؟ مالك يا “ابني”؟ شكلك غريب قوي وبتنهج كده ليه؟
رفع “أبو رسلـان” نظره بصعوبة، وكأن جبلًا على صدره، ونطق الكلمات ببطء شديد يقطع السكون:
ـ أنا اتنحيت من الوزارة يا “نعمات” خلاص، المنصب اللي كنتِ بتتباهي وتتفاخري بيه، نحّوني عنه، وشايفين إني ما بقيتش مناسب ليه.
انقبض قلب “نعمات” فجأة، كأنها طُعنت في كبريائها، واهتزت خطواتها وهي تحاول أن تستوعب الفاجعة، نطقت كلماتها بذهولٍ أقرب للصدمة:
ـ إزاي ده يحصل؟
هو مش قلت لي من كذا يوم إن التعديل الوزاري هيحصل، وإنهم طمنوك إنك من ضمن الوزراء الجدد، إزاي ده يحصل؟
رفع “أبو رسلـان” يده في الهواء وكأنه يسلم قدره لسماء عليا، وقالها بصوت خفيض فيه مرارة الاعتراف المتأخر:
ـ ده الطبيعي اللي بيحصل مع السلطة يا “نعمات” بس انتِ من زمان وانتِ شايفة إني ملكت الكرسي، وإني هفضل متبت فيه وهرجع الموظف العادي بمرتبه العادي، علشان ترتبي حياتك بعد كده على حياتنا الجديدة في المعيشة، وخصوصًا إنك ما كنتيش بتعملي حساب للزمن، ودايمًا كنتِ خرباها في المصاريف، وكنتِ رافضة إن إحنا نعمل أي بيزنس بجانب الوزارة، وتقولي المنظر العام مش لطيف.
في لحظة مشؤومة، انقلب الهدوء إلى صراخ في الشارع، وسمعت خطوات متسارعة تصرخ بألم وفزع، جاء الخادم مهرولًا يصرخ بخوف ملهوف :
ـ الحق يا “سعادة البيت”، الحقي يا “ست هانم” “البيه الصغير عربية شاططته وهو خارج بيجري، والناس كلها ملمومة عليه، الحقي، “رسلـان بيه” غايب عن الوعي، والدم بينزف من كل حتة فيه .
توقفت أنفاس “الجد” للحظة، وكأن الزمن قد انكمش في صدره، لم يصدق أذنيه حين سمع الخبر، ارتج جسده، وتهاوت عصاه من يده، وصرخ صرخة كأنها خرجت من أعماق قلبه المنهك، فقد ربّى “رسلـان” كابنه، وعاش لأجله، فكيف يطاوله الموت فجأة بهذا الشكل البشع؟ أما “الأم”، فقد تسمرت مكانها، عيناها اتسعتا ذهولًا، وتجمد الدم في عروقها، لم تجد دمعة واحدة تسعفها، فالفجعة أكبر من البكاء، وما زادها ألمًا أن “الزوج” جلس صامتًا، كأن الحياة فقدت معناها، وكأنهم جميعًا سقطوا في حفرة لا قرار لها.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مشاعر موقدة)