رواية مشاعر موقدة الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم فاطيما يوسف
رواية مشاعر موقدة الجزء الثالث والثلاثون
رواية مشاعر موقدة البارت الثالث والثلاثون

رواية مشاعر موقدة الحلقة الثالثة والثلاثون
كانت “ليلى” تجلس على طرف الأريكة وهي تعبث بأطراف وشاحها بخجل ظاهر بينما كان “زيد” مستلقياً إلى جوارها يقرأ شيئاً في هاتفه بدا عليه الانسجام التام حتى قطعت عليه سكونه بصوت خافت أقرب إلى الرجاء
فـقالت وهي تتجنب النظر في عينيه مباشرة :
ـ “زيد” ممكن أطلب منك حاجه؟
1
رفع عينيه عن شاشة الهاتف بهدوء لكنه حين التقت عيناهما بوجهها ارتسمت في عينيه نظرة ارتياب ناعمة فأجابها بصوته الخافت لكنه مشوب بشيء من القلق :
ـ قولي يا “ليلى” عايزه إيه؟
ابتسمت له في محاولة لتهدئة طبول قلبها وغمغمت بعيناي زائغة:
ـ بص “رسلان” هيعمل فرحه الأسبوع الجاي وعزمنا وأكيد انت شفت كارت الدعوة اللي ماما ادته لنا واحنا عندها آخر زيارة وأنا بصراحة عايزة أروح الفرح .
في لحظة تغير كل شيء في وجه “زيد” تحولت ملامحه من الراحة إلى التجهم ومن الصفاء إلى غيوم كثيفة تشبه تلك التي تسبق عاصفة مفاجئة ،
نهض جالساً وهو يضع الهاتف جانباً وقال بنبرة تحمل غصة لم يستطع إخفاءها :
ـ “رسلان”؟ يعني عايزاني أحضر فرح خطيبك السابق؟ وانتِ عارفة ان الواد ده بالذات ما برتاحلهوش فهكون قاعد في الفرح مش طايق نفسي ولا طايقك ولا طايق الناس اللي حواليا ما تحاوليش يا ماما انا لا يمكن انا ولا انتِ نحضر الفرح ده .
1
قالت بتوتر وهي تحاول أن تكون خفيفة الظل لكنها كانت تدرك جيداً أن قلبه قد بدأ يغلي :
ـ يا حبيبي دا زمان انت متأكد أنا بحبك إزاي وبعدين الحوار كله كان اتفاق ما بيننا وانت عارف وكمان “رسلان” ده طيب قوي والله يا زيدو مش شكل ما انت فاهم ولا واخد عنه فكرة غلط .
تهجمت معالمه وهدر بها لأول مرة منذ زواجهم:
ـ وكمان بتقولي عليه طيب قدامي ؟!
احفظي لسانك يا “ليلى” ولو سمحتي ما تقوليش اسمه على لسانك تاني فاهمة ولا لا ؟
1
هزت رأسها بخوف وهي تنكمش بجسدها على حالها من هيئته وغيرته التي تنطلق من عينيه كشرار :
ـ حـ….اضر والله ، بس اهدى كده ما تتعصبش انت عارف انا مش بحبك تتعصب خالص وعارف كمان ان موضوع خطوبتنا ده كان مجرد صورة .
أدار وجهه عنها قليلاً وابتلع ريقه بتوتر وهو يقول بنبرة حاول أن يُظهر فيها الاتزان :
ـ عارف بس مش قادر أنسى إن الواد ده خلاني أعيش أيام صعبة أوي كل لما أفتكره أفتكر خوفك البعيد عني أفتكر وجعك أفتكر إني كنت واقف بعيد مش عارف ألمسك ولا أضمنك حتى تكوني ليا ولا كنت عارف اطمن قلبي انك هتكوني ليا ولا لا عايزه بعد المأساه دي كلها نروح فرحه ؟
اقتربت منه ببطء وجلست أمامه على ركبتيها ووضعت كفيها على يديه ونظرت له بعينين تتوسلان حنانه :
ـ طب بصلي كده في عنيا ،مش شايف نفسك؟ مش شايف الراجل اللي أنا اخترته من قلبي؟ أنا طلبت علشان ما ينفعش أطنش دعوه فرح وجده اللي جابها لحد الباب عند ماما ووصاها ان انا احضر انا وانت، بس والله يا “زيد” ماليش أي نفس لأي حاجه هناك من غيرك .
ظل ينظر إليها قليلاً بصمت ثم زفر نفسًا عميقًا وقال :
ـ طب وانا؟ انا مشاعري تتعامل معاها كأنها مالهاش تمن؟ أنا غيران يا “ليلى” وغيرتي مش ضعف ده لأنك غالية ومش بقدر أتحمل أي حاجه تفتكرني إنك كنتي لحد تاني .
أطرقت رأسها في خجل ثم عادت ترفعه وعلى وجهها ابتسامة شقية وقالت :
ـ طب نعمل اتفاق؟ نروح الفرح نص ساعة بس.. وأوعدك إن لولا هتبقى بين ايديك مش حوالين حد غيرك وهتقول لك شبيك لبيك.
ظل ينظر إليها مترددًا ثم قال وقد بدأ وجهه يلين حينما رأى دلالها ويبدو أنها تعلمت من مكر حواء :
ـ وانا لي طلب بقى لو وافقت ؟
قالت بحماس :
ـ عيوني ليك قول طلبك وانا عليا السمع والطاعة زيدو قلبي .
اقترب منها وهمس بمكر :
ـ انا عايزك تدلعيني النهاردة وتروقي عليا ، تعيشي معايا ليلة مفيش زيها وتعملي لي حاجة ما حصلتش .
سألته بارتباك لطيف عن مقصده الماكر وهي ترى نظراته التي تعبث بمنحنياتها :
ـ يعني ايه؟
قال وهو يبتسم ويضمها إليه بحنان:
ـ يعني ترقصي لي وتدلعيني ، انا عايز حبة دلع من اللي اتمنع .
شهقت بخجل وقالت وهي تضحك :
ـ أرقص؟! أنا؟ ده أنا ما جربتش أرقص قبل كده في حياتي ، مبعرفش أصلا ولا بعرف بيعملوه ازاي ولا بيجيبوا القدره الغريبه في تحريك جسمهم بالطريقة دي ما جربتش قبل كده والله حاجة شكل دي صدقني .
أجابها بهمس وهو يغمز لها بشقاوة اعتاد عليها معها وهي صفر في المائة من أفعاله الماكرة معها :
ـ وأنا عايز أكون أول حاجة في كل حاجة ليكي أول حضن وأول بسمة وأول رقصة كمان
تصدقي كمان يا لولو احلى حاجة فيكي ان كل حاجة بيور ، يعني بمعنى أصح عرض اول والحوارات دي بتخليني سلطان زماني وانا قائد سفينة الملكة شهرياري الجميلة “لولا” .
قالت وهي تخبئ وجهها في صدره من شدة خجلها :
ـ طيب والله هحاول علشانك بس أوعدني إنك ما تضحكش عليا لأني والله العظيم أول مرة أعملها .
جذبها من خصرها وقال :
ـ أضحك؟ ده انا هدوب حرفيًا من جمالك وانت بترقصي حتى لو وقعتِ على الأرض كفاية إني شايف الغزال بيتمايل قدامي بخفة ورشاقة على أنغام المزمار .
ضحكت وضحك معها ثم قالت :
ـ خلاص اتفقنا.. نروح الفرح نص ساعه بس.. وأدلّعك الليلة دي لحد ما تقول كفاية.
نظر في عينيها نظرة حب صافية وقال :
ـ ومش هقول كفاية يا “ليلى” لأنك دايمًا بالنسبة لي مش كفاية انتِ كتير ومشبع ومفيش زيك .
ابتسمت له ثم أسندت رأسها على صدره وقد سكتا لبعض الوقت لا يسمعان سوى دقات قلبيهما ،
كان القمر قد بدأ يصعد إلى السماء في رقة كأنه ينصت لموعد جديد بين قلبين تعلّقا ببعضهما حبًا وسلامًا وكان البحر في مكان بعيد يُسمع له خرير كأنه يغار من تلك السكينة التي يعيشها “زيد” و”ليلى”
وقبل أن يغلقا الحديث هتفت “ليلى” في همس ناعم :
ـ بحبك يا “زيد” فوق ما تتخيل .
فأجابها وهو يقبل يدها بلطف :
ـ وانا بحبك يا بنت القلب اللي اختار بجد .
وانتهى الحديث بينهما لكن الليلة بدأت تنسج ملامحها على وعد برقصة وسهرة لا تُنسى قبل موعد فرح لم يعد له معنى في قلب “ليلى” .
*********
خرج “رسلان” من السيارة بخطوات مترددة، لا خوفًا، بل لفرط الترقب، كأن قلبه يستعد لاستقبال لحظة تفوق الوصف، كانت عيناه تتنقلان بين زوايا الشارع، ثم توقفت عند باب الصالون الكبير، حيث كانت اللحظة المنتظرة تتشكّل خلف الجدران ،
دخل المكان، والأنوار تتلألأ حوله، لكنه لم يرَ شيئًا، إذ لم يكن عقله منشغلًا إلا بصورة واحدة هي ، وحين خرجت “دعاء”، توقف الزمن ،لم يخطُ نحوها، بل تجمّدت قدماه، وكأن الأرض أشفقت عليه من فرط الدهشة ، كانت تتقدم نحوه كأميرة خرجت من الأساطير، ترتدي فستانًا ملكيًا يتهادى خلفها بذيل طويل مرصع بالورد الأبيض واللؤلؤ اللامع، وعيناها تحملان حياءً ناعمًا ولمعة سحرية تعكس لحظة لا تُنسى ،
شهق “رسلان” دون أن يشعر، ثم ابتسم، ووضع يده على صدره متأثرًا، وقال:
ـ هو أنا… هو أنا كنت فاكرك حلوة؟! لا والله… اللي قدامي دي مش شبه أي حاجة، دي مش بنت، دي ملاك نازل مخصوص ليا من السما!
ضحكت “دعاء”، وخفضت عينيها خجلًا وهي تقول:
ـ يا عم سيبك، أنت كده هتخليني أعيط والماكياچ يبوظ مش هنبتديها كده من اولها نظرات وهمسات وغمزات .
اقترب منها بهدوء، يمد يده كأنما يلمس حلمًا، وقال وهو يتأمل ملامحها:
ـ طب ما تعيطي، لو الدموع دي من الفرح، عيطي… ده أجمل يوم في عمري، ولا اقول لك مش عايز ولا دمعة من عيونك تغيب عني.
سارا معًا نحو السيارة، بخطى ناعمة تشبه الموسيقى. كانت “دعاء” تمسك بذيل فستانها، لكنه سبقها بلطف وانحنى يمسكه بيديه، قائلاً:
ـ لا لا، أنا شغال Boy فساتين النهاردة الملكة ما تمدش إيدها لحاجة النهاردة “دعا” للدلع وبس .
ركبا السيارة، وفي الطريق إلى جلسة التصوير، كانت نظرات “رسلان” تتسلل نحوها في كل لحظة، ثم همس وهو مغمور بالحب:
ـ أنا مش هفوق النهاردة… كل شوية أبص لك ألاقيكِ أجمل، والله يا “دعاء”، أنا حاسس إني بعيش حلم من اللي ما ينفعش أصحى منه.
ضحكت “دعاء” برقة وقالت:
ـ وأهو حلم واتحقق يا “رسلان”، بقى لنا، وبقى رسمي كمان يا أجمل حاجة حصلت لي يا نبض قلب “دعاء” .
عندما وصلا إلى المكان المُعد للجلسة، كان الغروب يلوّن السماء بظلالٍ وردية هادئة، والنسيم يحمل في طيّاته سلامًا مريحًا، كأن الكون كله يحتفل بحبهما ،اصطفّت الكاميرات، وضبط المصور زواياه استعدادًا للتصوير ،
فجأة، التفتت “دعاء” نحوه بعينين لامعتين وقالت:
ـ إيه رأيك نعمل تيك توك؟ بس مش أي حاجة، نعمل مشهد “فاتن حمامة” وهي بتقول لعمر الشريف: أنا مش بعرف أقول كلام زي بتوع السيما.
ضحك “رسلان” بحماس طفولي وقال:
ـ يا بنتي دي حاجة قديمة قوي! بس يلا بينا، نعيش الجو على الآخر.
بدأ التصوير، و”دعاء” تؤدي الدور ببراعة ممزوجة بالخجل والضحك:
ـ أني ما نعرفش نقول كلام حلو زي بتوع السيما ؟
= عرفتِ السيما كمان ورحتيها؟
1
ـ رحتها والبنت اللي في السيما قالت للواد اللي بتحبه ياريتني كنت حتة منك ، ساكنة جوة قلبك وروحك كلام فارغ لكن لذيذ .
انتهى تصوير المقطع وحقاً كانت “دعاء” تجيد إلقائه ببراعة وهيئة تذوب القلوب بها نظراً لدلالها وهي تلقى المقطع ،
فــاقترب منها “رسلان”، ناظرًا في عينيها بشوق وقال:
ـ وأنا كمان على فكرة بقول لك نفسي اكون حتة منك وروحي ساكنة كلك بس كل ما بشوفك، بحس إن الدنيا كلها سكتت، وكل اللي جوا قلبي بقى صادق وبيتكلم من غير ما أفكر.
ضحكت “دعاء” وارتبكت، ثم نظرت إليه وهمست:
ـ طب قولي إنك بتحبني كتييير بحب أسمعها منك قووي .
أخذ يدها، ووضعها على قلبه قائلاً:
ـ أنا بحبك أكتر من أي كلمة ممكن تتقال أنا بحبك بحضنك، بنَفَسي، بدقة قلبي.
نظرت إليه بخجل ثم ضحكت “دعاء” بحيوية وهي تشيد بإلقائهم على ذاك المقطع:
ـ بجد برافو علينا! ده أكيد هيجيب مشاهدات نار!
ابتسم “رسلان” وهو يقترب منها:
ـ ولا المشاهدات تفرق، طول ما انتِ بتضحكي كده، أنا كسبان.
سكتت لبرهة، ثم قالت بخفة ظلها المعهودة:
ـ طب نفسي أعمل تيك توك تاني، بس على أغنية “نسيت الدنيا وجريت عليه”… أنا فعلاً نسيت الدنيا كلها وجريت عليك، نفسي أعمله بجد.
1
ابتسم لها، ومد يده مشيرًا للمكان:
ـ طب أنا هقف هناك، وإنتِ اجري، بس خلي بالك من الفستان.
رفعت فستانها قليلًا بيديها حتى لا يعوق حركتها، ثم نظرت له من بعيد، وقالت:
ـ جاهز؟
ـ من زمان، يلا!
بدأت الأغنية تتسلل من الهاتف، ومع أول نغمة، اندفعت “دعاء” تجري نحوه، بخفة وعفوية، تجرُّ معها ذيل فستانها الطويل، حجابها الطويل يتمايل خلفها مع النسيم كانت تركض نحوه كأنها طفلة، كأنها الحياة تركض نحو من تحب ،
فتح “رسلان” ذراعيه لها على اتساعهما، وفي عينيه لمعة انتظار، وابتسامة حب صادق، ثم قال بصوت يعلو على الموسيقى:
ـ تعالى لي، يا فرح عمري!
وحين وصلت، ارتمت في أحضانه كمن عاد إلى وطنه، فضمها بشدة، وكأن اللحظة تحتمل الكون بأكمله بين ذراعيه.
همس في أذنها:
ـ نسيت الدنيا؟ أنا نسيت الدنيا والدنيا كلها، يوم ما حبيتك.
ردّت عليه وهي ما زالت بين حضنه:
ـ وأنا عمري ما حسيت إني عايشة غير لما جريت عليك.
وسكنت الأحضان باشتياق على كلمات الغنوة “لقينا روحنا على بحر شوق فضلنا نشرب ودوبنا دوب ونعيش سوا في عمري كله ليلة ليلة ، ليلة .
انتهوا من التصوير وذهبوا إلى القاعة وابتدت مراسم الزفاف ذاك الحفل الأسطوري والجميع في انتظارهم ، تقدم منهم الجد وفي عينيه سعادة تكفي العالم أجمع فحفيده الأقرب لقلبه بل صاحب وخليل عمره يزُفُّ عروسه اليوم ،
فقد كانت القاعة تفيض بألوان الفرح. الثريات تتلألأ فوق الرؤوس، وكأن النجوم قررت أن تهبط لتحتفل مع الجميع، زينة الورود البيضاء والوردية تملأ الأركان، والموسيقى تنساب في المكان كأنها تهمس في أذن كل قلب بأن اليوم يوم الحُب ،
وسط القاعة، كانت “دعاء” تلمع كأمنية تحققت، فستانها الملكي يُطوّقها كضوء نازل من السماء، وابتسامتها تنير كل من يراها ، بجوارها كان “رسلان” يقف بثقة، مرتديًا بدلة سوداء أنيقة، وعينيه لا تغادرها كأنه ما زال لا يصدق أنها له.
بدأ صوت الزغاريد يعلو، يتصاعد مع ضربات الطبول، وبدأ الحضور يلتفون حول العروسين، يصفقون ويضحكون، وقلوبهم ترقص قبل أقدامهم ،اقترب “رسلان” منها وهو يمد يده ويقول:
ـ إيه؟ مش هنرقص؟ انا عايز نولـ.ـعها ونخربها النهاردة يا حبيبي الليلة ليلتنا واحنا ما صدقنا ربنا فرجها علينا وتمت .
ضحكت “دعاء” وقالت وهي تتحرك بعشوائية بفستانها الملكي :
ـ sure ، يا روحي انا مستنية اليوم ده زيك بالظبط وطبعا نرقص ونغني ونتجنن كمان في ليله عمرنا ربنا يخليك ليا يا روحي .
أخذ يدها برقة، وسحبهـا بخفة وسط الدائرة، وهما يضحكان من قلبهم، يلفّوا مع بعض وسط هتافات أصحابهم وأهلهم:
ـ بالرفاه والبنين يا حبايبنا ،ربنا يسعدكم ويهنيكم ، ويتمم فرحتكم على خير ويبعد عنكم العين يا حبايب .
كانت الموسيقى الشعبية تشتعل من حولهم، والكل يرقص بمرح أصدقائه بجانبهم والعائلة معهم وأولاد خالته، وحتى خالته نفسها دخلت ترقص بجانبهم وهي تقول:
ـ قمرين الله يحميكم يا حبايبي فرحتكم وليلتكم زي العسل ربنا يتمم عليكم بخير .
“دعاء” رفعت عينيها لـ”رسلان” وقالت:
ـ مبسوطة قوي ما كنتش متخيلة ان فرحنا هيبقى مليان ناس كده بجد لحظات الفرح دي هتفضل محفورة جوايا .
ـ دي محفورة جوايا قبل ما تحصل، أنا كنت شايفها بعنيا كل يوم من وأنا في المستشفى.
ـ وأنا كنت بستناها من وأنا طفلة، بس ماكنتش أعرف إنك انت اللي هستناها علشانك.
ضحك وهو يدور بيها على الموسيقى:
ـ طب تعالي نكتبها برقصة رقصة ما تتكررش.
وبالفعل، تحولت الموسيقى لصوت ناعم، نغمات هادئة تُعلن بداية رقصة “السلو”.
الأضواء خفتت قليلًا، وكأن كل شيء استعد لأن يصغي لحبهما. تقدّم “رسلان”، ومدّ يده نحوها، كأنه يدعوها لحلم آخر داخل الحلم ،
أخذ يدها بهدوء، ووضعها على صدره، ثم وضع يده الثانية خلف ظهرها، واقترب منها.
همس في أذنها:
ـ مش هسيبك حتى لو خلصت الأغنية، هنكمل نرقص طول العمر يا أجمل عيون في الكون أنا شفتهم .
ردت بصوت ناعم:
ـ وأنا مش عايزة الأغنية تخلص ولا عايزة اللحظة دي تمشي.
بدأت خطواتهم تتمايل بهدوء، خطوة بخطوة، كأن الزمن نفسه قرر أن يبطئ ليرقص معهم ، كانت عيونهم تتلاقى، لا كلام، فقط أنفاسهم تتحدث، ولمسة أيديهم تُخبر بما مرّوا به من انتظار ووجع، وما ينتظرهم من حب وسلام،
في تلك اللحظة، لم يكن في القاعة مَن لا يشعر بشيء ،حتى الواقفون بعيدًا كانوا يتنهدون دون أن يدروا، كأنهم يرون مشهدًا من فيلم لا يُنسى ،
همست “دعاء”:
ـ كنت دايمًا بدعي ربنا، لما يكتب لي فرحة، تكون وسط قلوب بتحبني بجد وهاهي.
رد “رسلان” وهو يبتسم:
ـ وكنت بدعي أرقص معاكي رقصة تكون أول وآخر رقصة في حياتي وهاهي.
ثم سحبها قليلاً، وأدارها حول نفسها، فعاد ذيل فستانها ليلتف في دائرة ساحرة، قبل أن تعود بين ذراعيه، فتضع رأسها على كتفه وتغلق عينيها، وكأنها تقول ؛هذا مكاني.
ظل الحضور يصفق بهدوء، بعضهم يدمع، وبعضهم يبتسم، والبعض يهمس بدعوات خافتة بالسعادة الأبدية.
وعندما انتهت الأغنية، لم يتحرك “رسلان”، بل تمسّك بها أكثر وقال:
ـ الأغنية خلصت بس أنا مش عايز أسيبك ولا حابب انك تبعدي عني.
ضحكت “دعاء” وهمست:
ـ وأنا عمري ما هبعد يا روحي هفضل جنبك على طول الله.
فصفق الجميع، وانطلقت الزغاريد، وغرق المكان من جديد في موجة من التصفيق والمباركات أما هما، فكانا لا يسمعان إلا صوت قلبيهما.
اقترب “زيد” هو و “ليلى” على مضض منه إلى الجد فابتسم لهم ببشاشة وسعادة لتبارك له “ليلى” بابتسامة عريضة زينت ثغرها :
ـ مبروك يا جدو فرحت قوي لحفيدك ربنا يتمم فرحته على خير والفرح جميل وعروسته زي القمر ما شاء الله ربنا يبارك لهم يا رب .
رد مباركتها بوجه فرِحٍ للغاية وسعيداً لوجودها:
ـ الله يبارك فيك يا بنتي ويبارك في جوزك وفي بيتك والله ما في اجمل منك يا “ليلى” يا بنتي ولا طيبة قلبك ما انتِ اخت “رسلان” لازم تفرحي لي .
هنا نطق “زيد” الواقف كالتمثال أمامه وهو يبارك له بوجهٍ تزينه الابتسامة الهادئة التي لا تنم عن شيء :
ـ الله يخليك يا حاج تسلم وربنا يتمم لكم على خير، نستأذن احنا بقى والف مبروك .
وقف الجد احتراما لهم كي يودعهم:
ـ الله يبارك فيك يا حبيبي وتشرفنا بوجودك وحضورك معانا النهاردة وربنا يبارك لك في بيتك وحياتك يا رب .
تبادلوا الابتسامات ثم مد “زيد” يده لـ”ليلى” وانصرفوا وبعدما خرجوا من القاعة وركبوا السيارة نظر “زيد” اليها وهو ينطق بمكر :
ـ اظن انا وفيت بوعدي وجيت معاكي الفرح انتِ كمان بقى هتوفي بوعدك ونعمل اللي اتفقنا عليه تماموز يا لولا؟
استدعت الإنكار لتسأله بملامح تملؤها الخديعة عن مقصده مما جعله التفت اليها بصدره وهو ينظر اليها بشك :
ـ معلش يعني احنا اتفقنا على ايه اصل انا مش فاكرة صراحة .
رفع حاجبه بمكر :
ـ لا يا حبيبتي ما فيناش من كده انا ما يتعملش معايا الجلاشة وما تعمليش نفسك مش فاهمك علشان انا عارف انك مش بتنسي وعارف كويس انك فاكرة كل حاجة وفاكرة اتفقنا فهتلفي وتدوري وتضحكي على “زيد” ده بعدك يا ماما انا البابا يا حبيبتي .
ابتسمت بنفس مكره ثم ضربت على جبينها وهي تصطنع التذكر :
ـ اه الشرط اللي انت اشترطته عليا وانا قلت لك انا ما ليش في الحاجات دي ما انت عارف بقى يا زيدو الحاجه اللي انا ما بعرفش اعملها بتطلع وحشة مني واحنا رحنا الفرح وخلاص .
عـ.ـض شفتيه السفلى وأمسك أصابع يدها وهو يفركها بين يديه مما جعلها تأوهت بنعومة وهو يؤكد عليها :
ـ طب اعملي حسابك بقى ان انا مش متنازل عن حقي والمؤمنون عند شروطهم وانت هتنفذي وعدك والا هتبقى ليله مش معديه النهارده يا “ليلى” يا بنت شهيرة .
توجعت من تدليكه الموجع لأصابعها وهي تحاول نزع يدها منه :
ـ أه ، بس يا “زيد” انت بتوجعني على فكرة سيب ايدي وبعدين نتفاهم من غير حوار النظرات المرعبك واللمسات المتعبة بتاعتك دي ونحاول نتناقش زي اي زوجين متحضرين وندرس ابعاد الموضوع خليك عاقل يا زيدو .
حرك رأسه برفض وهو ينطق بتصميم لما يريده :
ـ ولا ندرس ولا نتناقش ولا ابعاد ولا تحضر ولا يحزنون انا ما ليش في التحضر يا ماما انا زوج قاسي اوامره زي سي السيد بالظبط ولعلمك بقى انا مش متنازل عن حقي ولازم توفي بوعدك معايا يا اما كده يا اما هضطر استخدم أسلوب التعـ.ــذيب والتهذيب والإصلاح معاكي كنوع من انواع رد الحقوق وانتِ مش هتقدري على الحوارات دي خالص يا “لولا” فارجعي من الآخر يا ماما عن مكرك ده علشان مش هيجي معايا سكة خالص .
ـ الله هو انت هتعمل زي العيال الصغيرة لما تقفش في لعبه ما تسيبهاش ابدا ؟
ـ ايوه يا بابا انا بعمل زي العيال الصغيرة انا اصلا عيل يا ستي ويلا بقى علشان لينا بيتي يلمنا بدل خناقات العربيات دي اللي ما تليقش علينا خالص وطول الطريق دوريها في دماغك كده وهيحصل يعني هيحصل .
1
********
توقفت السيارة أمام العمارة الهادئة، حيث يقيم العروسان، وكان “رسلان” لا يكف عن التحديق في عروسه كأنه لا يصدق أنها أصبحت ملكه أخيرًا.
ترجل من السيارة أولًا، ثم التفّ إليها، فتح الباب، وانحنى أمامها بيده الممدودة وابتسامة لم تغب عن وجهه منذ اللحظة الأولى وأمسك يدها برقة، وقبل أن تطأ الأرض، قال بخفة عاشق:
ـ لا لا لا، بلاش تنزلي، النهاردة فيه قانون جديد أول ما توصل العروسة بيتها، لازم العريس يشيلها بنفسه.
ابتسمت “دعاء” بخجل وحرج وقالت:
ـ “رسلان” بلاش تكسفني، الناس ماشية في الشارع.
اقترب منها دون أن يرد، ورفعها بذراعيه بحماس وقوة، كما لو أنه يحمل العالم بين يديه، ثم جرى بها إلى مدخل العمارة وهو يضحك ضحكة خفيفة:
ـ ما الناس تتفرج، دي ملكة، وأنا شبيك لبيك بين ايديها ،أنا النهاردة كسبت الجايزة الكبرى مش هخبي فرحتي.
لم تتكلم، فقط خبأت وجهها في عنقه، وابتسامتها تتسع كأن قلبها لا يتسع للفرح ،
صعد بها السلالم بخفة، وكأنه لا يشعر بوزنها بل بثقل السنين التي انتظرها ليعيش هذه اللحظة ثم فتح باب الشقة برجله، ودخل بها وهو ما زال يحملها، ثم أغلق الباب بكتفه، واستدار في منتصف الصالة، وهو يضمها إليه أكثر، وكأنّه يخشى أن تُسلب منه،
ثم قال بصوت دافئ وهو ينظر في عينيها:
ـ ده بيتنا أول لحظة هنا، أنا عايزها تبقى ذكرى ما تتنسيش، عايزك تحسي إنك وصلتي لمكانك، لحضنك، لأمانك.
نزل بها إلى الأرض ببطء، لكنه لم يتركها، بل جذبها إلى صدره بقوة، وطوّقها بذراعيه، وكأنّه يحميها من العالم كله ثم دفن وجهه في رقبتها وتنفس بعمق كأنّ أنفاسه تستكين فقط بالقرب منها وهمس لها بصوت منخفض، أقرب إلى الرجفة:
ـ أنا كنت بعيش كل يوم علشان اللحظة دي، كنت بقاوم الوجع، وبحارب الوحدة، وبداري الغُصّة، بس النهاردة أنا معاكِ، خلاص، أنا اتخلقت من جديد.
رفعت “دعاء” وجهها إليه ببطء، وابتسامتها تلمع في الضوء الناعم، وقالت بصوت خافت:
ـ وأنا كنت بحلم بالمكان ده، بالموقف ده، بيك أنت، يا أغلى من الحلم.
أمسك وجهها بكفّيه، يتأمل تفاصيلها ببطء، وكأنه يقرأ كتاب عمره كله، ثم مرر أنامله على وجنتها بلين، وقال:
ـ تعرفي يا “دعا” إنتي حلوة قوي، ما كنتش عارف إن الجمال ليه ريحة بس ريحتك دي حاجة تانية، دي ريحة الأمان.
ـ طب وقلبي؟ حسيته؟
ـ قلبك؟ ده أنا حافظ دقاته من قبل ما ألمسك، كنت بسمعه من بعيد، والنهاردة أخيرًا، في حضني.
ضمها من خصرها، وبدأ يلف بها في المكان، خطوة بخطوة، وهو يقول:
ـ دي أوضتنا، وده البيت اللي هيمتلئ بضحكتك، بصوتك، بريحتك.
ـ وأنا، عمري كله هيتقفل على البيت ده، أنا ماعنديش حاجة تانية أتمناها.
سحبها من يدها، وأدخلها إلى الغرفة، كانت الإضاءة خافتة، والستائر نصف مغلقة، والورد متناثر على السرير، وكأنّه يتنفس هو الآخر باسمها تقدم منها ببطء، ثم أمسك بكفيها وقال:
ـ تعالي، اقعدي جنبي مش علشان تتعبي، بس علشان أعرف إنك لسه معايا، ولسه بتتنفسي جنبي.
جلست على طرف السرير، فنزل على ركبتيه أمامها، ووضع رأسه على فخذها، وقال:
ـ أنا محتاج اللحظة دي تعوّضني عن كل لحظة كنت فيها لوحدي، عن كل مرة كنت بنده عليكِ ومفيش صوت بيرد بس دلوقتي إنتِ هنا.
أخذ يدها، وقبّلها قبلة طويلة، ثم رفع عينيه وقال:
ـ أنا بحبك يا “دعاء” مش حب عادي، ده حب اتخلق علشانك، وفضل مستنّيكِ وأنا مش ناوي أسيبه ولا ثانية.
أمالت رأسها نحوه، ومسحت على شعره بلطف وهمست:
ـ وأنا بحبك يا “رسلان”، من قبل ما أشوفك، كنت بحب اللي هيجي يطبطب عليّ، يضمني كده، ويقولي إني مش لوحدي.
رفع نفسه، وقبّل جبينها بحنان، ثم جلس بجوارها، ووضع ذراعه خلف ظهرها، وسحبها إلى صدره، وقال:
ـ أول ليلة لينا مش عايز فيها غير إنك تبقي جنبي، نرسم بكرة سوا، نحلم، ونعيشه.
نظرت إليه، وابتسمت، ثم وضعت يدها على قلبه وقالت:
ـ وإحنا نبتدي الحلم من هنا من دقة قلبك.
ثم جذبها من يدها وأوقفها على أمامه وجذب وجهها بين يديه وقبل جبينها بحالمية ثم طلب منها :
ـ يلا يا حبيبي نبدا ليلتنا بالصلاة علشان ربنا يبارك لنا في حياتنا .
كان السكون يملأ المكان بعد أن فرغا من الصلاة، وخفّت أنفاسهما تباعًا، حتى لم يعد يُسمع إلا خفق قلبيهما وهما يجلسان جنبًا إلى جنب على طرف السرير ،
بقي “رسلان” للحظات لا يتحرك، عيناه تتأملان “دعاء” في صمتٍ، وفي قلبه امتنان كبير، وكأنّ كل ما انتظره قد جاءه أخيرًا، لا كما حلم، بل كما دعا ،
ثم قال بصوت منخفض، فيه رجفة العاشق وبساطة الصادق:
ـ إنتِ عارفة؟ أنا مش مستعجل على أي حاجة كفاية عليّ إنك جنبي، وإنك لابسة الأبيض ده في بيتي، واسمك بقى على اسمي،
ثم أرجع خصلتها الشاردة على عينيها خلف أذنها وهو يلتصق بها أكثر:
ـ عايز بس أفضل أبص لك كدة وأتأمل في ملامحك البريئة عن قرب مني .
نظرت إليه، فابتسمت في خجل، ونزلت بعينيها إلى الأرض ،لم ترد، فقط وضعت كفّها على صدرها، كأنها تهدئ دقات قلبها التي خرجت عن السيطرة ،
اقترب منها قليلًا، ونظر إليها، وقال برقة وهو يقترب منها :
ـ عايز أقولك إني كنت محتاج الحضن ده بقاله سنين ، عايز قربك ، عايز حنانك يا “دعا”.
أومأت برأسها بهدوء، وبنفس الخجل الذي يسكن وجنتيها، ثم همست:
ـ قرب بس خليك طيب معايا، أنا قلبي بيرتعش.
ابتسم ابتسامة مطمئنة، كأنّه يحلف لقلبها أن لا خوف بعد اليوم ثم مدّ يده إليها، ورفع طرحة خفيفة كانت لا تزال تغطي شعرها، فأزاحها برقة، كمن يزيح الغيم عن قمم الجبال ليكشف جمالها المستتر ،
ثم قال بصوت مبحوح، يحمل الدفء كله:
ـ إنتِ جميلة قوي يا “دعاء”، جميلة بروحك وخجلك، وحتى رعشة إيدك دي أغلى عندي من كل حاجة.
اقترب أكثر، دون استعجال، دون رهبة، فقط برغبة حقيقية في أن يكونا معًا، زوجين طاهرين في أول ليلة قدرهما ،
ضمّ كفها بكفّه، وقبّله بخفة، ثم وضعه على صدره، وقال:
ـ حطي إيدك هنا هو ده بيتك، المكان اللي هتعيشي فيه دايمًا، جوه قلبي.
ابتسمت وهي تهمس:
ـ أنا كنت بدعي اللحظة دي تيجي تيجي بحلال، وبأمان، وبكلمة ربنا زي ما بديناها النهاردة.
ضمها إلى صدره، دون تكلّف، دون استعجال، فقط احتوى كتفيها بذراعيه، وجعل رأسها يسكن عند رقبته، وقال:
ـ تعالي نامي جوا حضني ما فيش أي حاجة تانية مطلوبة دلوقتي غير إنك تحسي بالأمان، وإنك عروستي، ومراتي، ونور بيتي.
تنهدت وهي تقول:
ـ أول مرة في حياتي أحس إني صغيرة ومطمّنة كده إحساس إني مش لوحدي وإنك جنبي.
مرر يده على ظهرها برفق، وهو يهمس:
ـ ومش هتكوني لوحدك تاني لا في يوم برد، ولا وجع، ولا حتى خوف، طول ما أنا معاكِ، إنتِ في حضن الدنيا.
ثم أمال وجهها بخفة، ونظر إلى عينيها، وهمس:
ـ ممكن آخد أول حضن بجد؟ حضن البداية، اللي يثبت إني بقيت ليكِ؟
هزّت رأسها بهدوء، فضمها إلى صدره بقوة، فيها الشوق كله، والحنين كله، والدفء كله ،
نامت بين ذراعيه لأول مرة، وقد أدركت أن هذا هو ما كانت تبحث عنه دائمًا أن تكون لواحد، بكلها، بكل قلبها، دون خوف، ودون أن تشعر بأنها وحدها في هذا العالم.
وسكن الليل على أنفاس هادئة، دافئة، لحبيبين بدأا الرحلة.
***********
مرّ عامان كاملان، تبدّلت خلالهما ملامح الحياة في بيت “نادر” لكنّ ما بقي ثابتًا هو الصمت المشوب بالغل، والأسرار التي تنمو في الظلّ كأورام خبيثة، كان “نادر” يجلس في الصالة الفسيحة التي كتبها باسم “نوجا” قبل عامين، بعدما وقّع بيده ما صاغته هي بدهاء على أنه خطوة حب، وكانت في الحقيقة خطة استيلاء ،
لم يكن “نادر” يعلم في حينها أنّه بيده قد سلّمها مفاتيح الطمأنينة المطلقة، وأنه سيأتي عليه اليوم الذي يُطرد فيه من بيته، إن فكّر فقط أن يستعيد حقه، كان قد عرف منذ أشهر الحقيقة كاملة ،رسالة واحدة وصلت إلى هاتفه من رقم مجهول، تحتوي صورًا ومقاطع تثبت ماضي “نوجا” الذي كانت تُخفيه بمهارة، صُدم في البداية، ثم تماسك، وقرّر أن يراقبها، حتى اكتملت لديه الصورة،
رغم ذلك، لم يكن الطلاق قرارًا سهلاً فالشقة باسمها، والعودة عن التنازل مستحيلة وكلما واجهها، قابلته بابتسامة ساخرة وسلوك متماسك، كأنها تقول له «انتهى زمن الرجولة، وأنت الآن في قبضتي» لم يكن أمامه سوى الانتظار، حتى وجد أنّ وجوده بجوارها عبءٌ يثقل روحه ويكسر ما تبقى من كرامته،
وفي يوم قائظ من أيام يوليو، قرر أن يواجهها للمرة الأخيرة لكنّه لم يأتِ وحده هذه المرة دخل إلى الشقة ومعه والدته، تلك المرأة التي لم تكن أقل قسوة منه، بل كانت اليد التي ساعدته في ظُلم زوجته الأولى ،
وقفت “نوجا” وسط الصالة، ترتدي فستانًا منزليًا فخمًا، وشعرها مربوط بعناية، وعطرها يملأ المكان بثقة. نظرت إلى “نادر” ثم إلى والدته وقالت بصوت ثابت:
ـ أهو ده وقته؟ مالك داخل ساكت كده؟ وجايب وراك الست المصونة دي ليه؟
قال “نادر” من بين أسنانه:
ـ جيت أخلص المهزلة دي يا “نوجا” مكاتب جيت أقولك إنك خلاص لعبتي لعبتك وسحبتيني في سكة كنت فاكر نفسي فيها راجل وطلعت مجرد عيل بيلعب في ملعب أكبر منه.
قالت والدته وهي تنظر إلى “نوجا” باشمئزاز:
ـ إحنا ساكتين لك كتير أوي يا بيت إحنا شاكين فيكِ من أول يوم لكن قلنا معلش يمكن الزمن يعلمك الأدب بس طلعتي بلا أصل ولا تربية طلعتي قذرة قووي هئ يا “نوجا” مكاتب .
1
ضحكت “نوجا” ضحكة عالية ثم قالت:
ـ أصل؟ تربية؟ هو إنتي فكراني هسكت لك عالكلام ده؟ إنتي جاية تشتمي في بيتي؟ الشقة دي باسمي يا حماتي العزيزة مش فاكرة؟ ولا نسيتي ابنك العزيز هو اللي مضى بإيده .
قال نادر بصوت متهدج:
ـ أنا غلطت لما صدقتك وغلطت أكتر لما ظلمت “نور” وطلقتها علشان كنت بفكر إني أبدأ من جديد بس الظاهر ربنا عايز يوريني إن اللي يظلم لازم يشرب من نفس الكاس .
قالت “نوجا” وهي تقترب منه خطوة بخطوة:
ـ ربنا فعلاً كبير وبيجيب حق المظلوم، “نور” اللي كسرتوها وشوهتوها وخدتوا منها كل حاجه، أهي رجعت كرامتها فيا أنا، ولما تحبوا تتكلموا عن الشرف اتكلموا عن نفسكم الأول .
همّت أم “نادر” أن تقترب منها وتصفعها، ولكن “نوجا” أمسكت بيدها بقوة، دفعتها دفعة قوية حتى ارتطمت بالكنبة وسقطت أرضًا :
قومي يا ست أم “نادر” قبل ما أوريكي أنا مين أنا مش “نور” اللي كنتوا بتكسروا فيها وبتسكت أهو أنا هنا وهخلي كل قرايبكم يعرفوا مين اللي ابنكم اتجوزها ويشوفوا صوركم وانتم بتجروا ورايا وبلففكم كعب داير على المحاكم وهعيد تربيتكم من أول وجديد.
صرخت الأم من الأرض:
“نادر” شوف مراتك بتعمل إيه! هتقـ.ـتلني دي ؟
وقف “نادر” مذهولًا، ينظر إلى المشهد كأنّه لا يعرف من المرأة التي أمامه اقترب ببطء وقال:
ـ إنتي فاكرة إنك بكده كسبتي؟ أنا هطلقك حالًا وهتردّي لي الشقة وورقها وتغوري في ستين داهية يابت إنتي .
قالت “نوجا” بثقة تامة:
ـ طلقني يا روحي بس الشقة مش هتشوفها وعايزة مؤخر صداقي كمان ربع مليون جنيه مكتوب في العقد مش كده؟ ولو ما دفعتوش، أهو المحضر جاهز .
انفـ.ـجر “نادر” غضبًا، وانهال عليها ضـ.ـربًا، لم يترك لها فرصة للحركة ،ضـ.ـربها على وجهها حتى تورم، وعلى ذراعيها حتى كادت أن تصرخ من الألم ،
لكن “نوجا” لم تصرخ، بل بعد أن انتهى، رفعت وجهها المتورم ونظرت إليه بعينين دامعتين وقالت:
ـ أهو كده خلّيتني أجيب الشرطة على باب بيتك، هوريك يعني إيه تضـ.ــربني، أنت مش فاكر إن الزمن ده زمنكم .
خرجت “نوجا” من الشقة وهي تصـ.ـرخ وتبكي، لفت أنظار الجيران، وتجمّع حولهم عدد كبير منهم، شاهدوا وجهها المنتفخ وآثار الضـ.ـرب على يديها وكانت واحدة من الجارات قالت:
ـ في إيه يا نوجا؟
أجابتها وهي تدعي تدعي البكاء:
ـ جوزي ضـ.ـربني هو وحماتي ومرمطوني علشان رفضت أتنازل عن الشقة ومؤخري وأنا هروّح على القسم دلوقتي وأعمله محضر، وربنا موجود .
وبالفعل ذهبت “نوجا” إلى قسم الشرطة، وقدمت بلاغًا ضد نادر بتهمة التعدي عليها بالضـ.ـرب المبرح، وقدّمت التقرير الطبي والإثباتات فـتحرّك رجال الشرطة على الفور، وتم استدعاء “نادر” للتحقيق ،
وأمام المحقق، لم يكن “نادر” يملك حيلة قالت له “نوجا” بحضور الجميع:
ـ ضـ.ـربني يا باشا هو وامه وبهدلوني وورموني انا عايزه حق منهم يا باشا دول كانوا هيموتوني والناس في العمارة شاهدين عليهم علشان عايز ياخد شقتي مني اللي انا اشتريتها علشان اتجوزه فيها وافطروا عليا هو وامه بالجامد .
نظر إليها “نادر” شاحب الوجه، مذهولًا، وكأنّه يرى أول مرة حجم الخراب الذي صنعه بيديه، فهم أخيرًا أن من يزرع الظلم لا يحصد غير الخسارة، وفي تلك الليلة، أُودع “نادر” في الحبس على ذمة التحقيق، بينما جلست “نوجا” في بيتها، تنظر من الشباك، تتنفس هواء الليل وتشعر أن كرامتها قد عادت، حتى ولو بثمن مرتفع ،
أما أم “نادر” فقد عادت إلى بيتها تبكي ابنها، وتندب حظها، بعدما ساعدته على ظلم امرأة كانت تستحق الاحترام، فاكتشفت متأخرة أن الله لا يترك المظلوم مهما طال الزمن ،
وهكذا، كان السقوط مدوّيًا، والحساب عسيرًا، والعدالة وإن تأخرت، فإنها لا تُخطئ طريقها أبدًا .
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مشاعر موقدة)