رواية محسنين الغرام الفصل السادس عشر 16 بقلم نعمة حسن
رواية محسنين الغرام الجزء السادس عشر
رواية محسنين الغرام البارت السادس عشر

رواية محسنين الغرام الحلقة السادسة عشر
ـ١٦ـ لعبـــة بازل !!
ــــــــــــــــ
ـ قوليلي بقا، حكايتك إيه يا نغم ؟!
نظرت إليه بعينين مصدومتين، وتعلقت عينيها بخاصته وكأنها تجمدت وفقدت الإحساس، بينما أنفاسها المتلاحقة المضطربة تتردد بصدرها بعنف، هل ما سمعته الآن حقيقة فعلا؟! هل قال نغم؟!
ـ انتِ مش اسمك نغم بردو ؟!
حسنًا لقد قرا أفكارها مجددا وأجابها على سؤالها فيما هي تحدق فيه بعينين متسعتين، ثم أسندت كأس العصير على الطاولة ونظرت إليه مجددا وهي تبتلع ريقها بتوجس.
ـ يا ريت زي ما أنا بتكلم معاكي بطريقة مباشرة تكلميني دوغري انتِ كمان وتقوليلي كل حاجه بصراحة، انتِ مين وحكايتك إيه؟!
أخذت تتلمس حافة الكأس المستديرة بسبابتها وهي تنظم أنفاسها، ثم رفعت رأسها إليه، فتحت فمها وأغلقته مجددا، وأخيرا أطلقت تنهيدة حارة ثم قالت:
ـ عرفت إسمي منين ؟!
زم شفتيه ببساطة وأردف وهو ينظر إليها بثبات:
ـ الموضوع أسهل مما تتخيلي، لازم تكوني عارفة إني لو عايز لحاجة هوصلها بأي طريقة، والأهم من إني عرفت إسمك منين هو انك توضحيلي كل حاجة.
وأردف وهو يحذرها مشيرا بسبابته:
ـ بصراحة تامة.
أرسل تحذيره موجة من موجات الذعر اندفعت عبر جسدها، وجمدت الدم في عروقها، وأمام تلك السطوة والهيمنة لم تجد إلا أن ترضخ لتحذيره، ستخبره كل شيء بصراحة تامة.
ـ عايز تعرف إيه بالظبط؟
قالتها بتلعثم وهي تخفض عينيها وتنظر نحو الكأس بشرود فتساءل بصبر:
ـ أول وأهم حاجة.. يوم الحفلة..
صمتت و حدقت به بصدمة جديدة، وشعرت بأوصالها تتشنج والبرد يسري بها. هي لم تتوقع أنه قد عرف أنها من كانت بالحفل، لقد ظنت أنه سيسأل عن سبب ادعائها فقدان الذاكرة وحسب!
بينما هو ينظر إليها ويراقب انفعالاتها بصبر وبداخله بركان يغلي، ثم تساءل قائلا:
ـ كنتي مفكرة إني كل ده مش عارفِك مش كدة؟ لسوء حظك اني عارف من يوم الحادثة .
ظهر التفاجؤ على معالمها الحسناء، وظلت تنظر إليه بصمت إلى أن قال:
ـ احكيلي كل حاجه بالتفصيل، مين اللي أمرك تعملي بكده، شغالة لحساب مين؟!
ـ مش لحساب حد.
قالتها بهدوء فأصغى إليها بانتباه، فبدأت تسترجع كل ما حدث منذ اللحظة التي هربت فيها من بيت خالتها، وهي تنظر في نقطة وهمية بشرود وتقول:
ـ اللي حصل كله كان بالصدفة، الشخص اللي اتفق معايا إني أعمل كدة هو كمان خبطني بعربيته وفُقت لقيت نفسي في بيته..
قاطعها ساخرا:
ـ واضح إنك بتمشي ترمي روحك قدام العربيات.
همست وعينيها تلمعان بالقهر:
ـ قدري اللي بيرميني مش أنا اللي برمي نفسي.
في الواقع هو غير مستعد إطلاقا للتعاطف مع أي شخص الآن وخاصةً هي، وتلك الدموع اللعينة التي تحاول خداعه بها لن تنطلي عليه مهما حدث.
ـ وبعدين كملي.. ؟
تنهدت مطولا ثم استرسلت بحزن:
ـ بعدها قاللي إني ظهرت قدامه في الوقت المناسب وإنه عايز يتفق معايا إتفاق لأنه عاوزني في خدمة إنسانية زي ما قال.
ضيق عينيه بتركيز وهو يستمع إليها بإنصات فنظرت إليه وقالت:
ـ طلب مني أشوه صورتك وأتسبب لك في مشكلة يوم الحفلة عشان يخسرك مقابل نص مليون جنيه، وقاللي إنك بتستغل البنات اليتامى اللي عندك في الملجأ في حاجات مش ولا بُد.
ضيق بين حاجبيه بتعجب واستياء ، بينما هي تسترسل بندم:
ـ بصراحة صدقت، كنت عاوزة أساعد في إني أعمل حاجة صح لما أكشف واحد بالأخلاق دي وأحمي البنات من شره، وفي نفس الوقت كنت محتاجة الفلوس.
أعجبته صراحتها، وتأكد أنه سيصل معها لنقاط متقدمة بما أنها لم تنكر أنها فعلت ذلك من أجل المال، ثم حك جانب فمه بإبهامه بحيرة وهو يسألها:
ـ وبعدين ؟!
ـ وبعد ما عملت اللي اتفقنا عليه ضحك عليا واتفق مع سواق تبعُه يرميني في طريق صحراوي مقطوع..
ـ مكان ما حصلت الحادثة مش كدة ؟!
هزت رأسها مؤكدة وقالت:
ـ على نفس الطريق بس قبل مكان الحادثة بشوية لأني جريت مسافة طويلة .
زفر بخفة وهو يستعد للإجابة التي ستغير الكثير من مجريات الأمور وقال متسائلا:
ـ مين الشخص ده؟! اسمه إيه؟
رفعت كتفيها بعدم معرفة وقالت:
ـ مش عارفة.
ظهر الضيق باديًا على وجهه وهو يقول:
ـ يعني إيه مش عارفة؟!
نظرت إليه وعينيها تعكس دموعًا نادمة وقالت:
ـ معرفوش، لا قاللي إسمه ولا عرفني أي معلومة عنه، بس هو حضر الحفلة لأنه طلب مني لو شوفته أعمل كأني مش شايفاه ولا عارفاه.
قطب جبينه بتعجب، وصدى كلماتها يتردد في رأسه ويجعل حيرته تشتد، تقول أنه كان متواجدا في الحفل! إذا هو شخص معروف من قِبله، ومقرب كذلك لأنه لم يدعُ لحفل الافتتاح سوى المقربين وممولي المشروع والمتبرعين، واحتمال أن يكون أحد الممولين أو المتبرعين احتمالَا بعيدَا جدا، لأنه يعرفهم جميعهم معرفة عميقة وعلى علاقة طيبة بهم وبينهم ومنافع متبادلة كثيرة فلمَ سيحاولون تشويه صورته أو أذيته أو السعي لخسارته كما تقول!!
ـ شكلُه إيه ؟!
رأى عينيها تميل نحو اليسار، وبصفته خبير جيد ومطلع نهم على علم لغة الجسد فيمكنه الجزم الآن أنها تتذكر وصفه فعلا وستقول الحق:
ـ طويل..
أوأ بهدوء فتابعت:
ـ كان لابس لبس شيك وغالي، عندُه دقن خفيفة، عنيه ضيقة، وشعره منعكش شوية مش مترتب.
قطب جبينه وهو يحاول تجسيد ذلك الوصف برأسه عله يستطيع استنتاج صاحبه، ثم نظر إليها متسائلا:
ـ لو شُفتيه تعرفيه؟
أومأت بقوة وأردفت:
ـ أكيد هعرفه.
حسنا.. هذا مؤشر جيد على أنها محتالة متعاونة، وربما قد يكون مخطئا وتكون قد تسعى لتضليله.
أخرج هاتفه وبدأ بالبحث في صور الحفل ثم نهض ونقل مقعده إلى قربها ووضع الهاتف أمامهما وهو يتنقل بين الصور ونظر إليها قائلا:
ـ قوليلي لو صورته من ضمن الصور دي .
هزت رأسها بموافقة، فبدأ بالانتقال من صورة لأخرى، في المقدمة كانت صورة والده، يليها صورة عمر، وبعدها عشر صور لعشر موظفين يعملون بشركته، يليهم صور لرجال أعمال كانوا موجودين بالحفل.
ثم نظر إليها وقال:
ـ ولا واحد في دول ؟!
هزت رأسها بنفي، فظل يحدق بها بشك للحظات ثم قال:
ـ متأكدة ؟!
ـ أيوة متأكدة، ولا حد فيهم.
هز رأسه بتفهم، ثم بحث بهاتفه مرة أخرى وأحضر حساب شريف عبر تطبيق الفيسبوك وأشار إليها قائلا:
ـ ركزي كويس، ده ؟؟
نظرت بصورة شريف لحوالي دقيقة كاملة ثم هزت رأسها بالنفي وقالت:
ـ لأ، مش ده بردو .
رفع حاجبه وأخذ يحك ذقنه بأنامله باستياء واضح، ونظراته توحي أنه لا يصدقها، فشعرت بخوفها يزداد وقالت:
ـ أقسم بالله مش بكدب عليك، بس ولا واحد فيهم هو الراجل اللي اتفق معايا.
زفر بضجر وهو يهز رأسه قائلا:
ـ طيب، البيت اللي كنتي فيه ده كان فين؟!
أربكها سؤاله مجددا وخشت أن يظن جهلها كذبًا أو مراوغة، فهمست قائلة:
ـ مش عارفة.
زفر مجددا باستياء أشد، وزم شفتيه بضيق واضح وقال:
ـ إحنا اتفقنا إنك هتكوني صريحة، صدقيني كدبك ده مش في مصلحتك أبدا، أنا ممكن أخليكي تعترفي بالحقيقة غصب عنك بس أنا لحد الآن متفهم وصبور ، فيا ريت تساعديني إني أفضل متفهم وصبور للآخر وخليكي دوغري معايا.
سقطت من عينيها دمعة لتشق طريقها عبر خدها وتصل إلى شفتيها، وأخذت تتفقد نظراته المتفحصة إياها باهتمام وهي تقول:
ـ والله العظيم مش بكدب عليك، أنا فعلا مش عارفة المكان اللي كنت فيه فين، أنا فُقت لقيت نفسي في شقته، اتكلمنا وقفل عليا الباب ونزل، جه تاني يوم ومعاه واحدة كوافيرة ساعدتني وبعدها نزلت لقيت تاكسي قدام العمارة خدني وصلني لحد باب الدار بتاعتك وبعدها عملت اللي طلبه مني ومشيت..
ظل يرمقها بصمتٍ مطبق، وتذكر ما فعلته يومها، عندما أمسكت بتلابيب سترته وقبّلته قبلةً غادرة، ثم غادر شفتيه زفيرًا صاخبًا وأخذ ينظر أمامه نحو نقطةٍ ما بتجهم، وتمتم بأنفاس مكتومة:
ـ هو اللي طلب منك ده بالتحديد ، ولا انتِ اللي عملتي كده من نفسك؟
تخضب وجهها بالخجل، وأخفضت عينيها لاإراديًا وهي تقول:
ـ هو اللي قاللي أعمل كده.
كان منتبهًا إليها بشدة، حيث أنه لاحظ التغير الطفيف في نبرة صوتها، وارتجافة شفتيها التي من المؤكد تنم عن التوتر ، فحمحم بهدوء، ثم عاد يتساءل ؛
ـ كنتي هتعملي إيه بالفلوس؟
رآها تبتسم، بالتأكيد هذه ليست ابتسامة سعيدة، لذا الاحتمال الأرجح أنها ابتسامة مصحوبة بخيبة أمل، وهذا بالفعل ما رآه في عينيها عندما رمشت وهي ترفع حدقتيها لأعلى تحاول وقف تلك الدموع المنهمرة منهما، ثم قالت:
ـ حاجات كتير كنت بفكر أعملها، أولها إني كان نفسي أعالج خالتي..
حسنًا.. هو يصدقها الآن تماما، لقد سمع كلامها مع صديقتها وعلم بمرض خالتها وعلى ما يبدو أنها مرتبطة بها بشدة، فليس من الغريب أن تفكر في أمر كهذا من أجل المال لكي تعالجها به.
ـ وإيه تاني ؟!
نظرت إليه ، تفرست عينيه تبحث عن شيئٍ ما، ذلك الشيء هو نظرة التصديق، هل يصدقها أم يشكك بكلامها، ولكنها لم تحصل على إجابة ، حيث أن ملامحه كانت مغلفة بالبرود فمنعت أي انعكاس قد يصدر عنها، فاسترسلت بهدوء حذر:
ـ كنت هشوف أي مكان أقعد فيه ، سواء إيجار أو تمليك على حسب الفلوس ما كانت هتكفي.
تنهد وأخذ يهز قدميه بعصبية وانفعال وتوتر حاد، بداخله الكثير من الأسئلة تعيث برأسه فسادا وتجعله على شفا جرف من الجنون. ثم نظر إليها وتساءل بحدة:
ـ ليه كدبتي وقولتي إنك مش فاكرة حاجة ؟!
تهدلت تعابير وجهها بإجهاد، فما يحدث حقا كثير عليها، وذلك الاستجواب الذي لم يكن في الحسبان أبدا أرهقها واستنزف قواها بالكامل.
مدت يدها وأزالت آثار دموعها، ثم شبكت ذراعيها أمام صدرها وكأنها تحمي نفسها من هجوم نظراته القاسية، وأجابت :
ـ لأني خُفت منك.. مثلت إني مش فاكرة أي حاجة عشان أحمي نفسي من مواجهتك وعشان أهرب من اللي عملته يوم الحفلة، خفت لو اتعرف أنا مين تبلغ عني أو تحاول تأذيني بأي طريقة ، وفي نفس الوقت لأني مكانش عندي مكان أروحله، كنت مفكرة إني لما أقول فقدت الذاكرة ده هيديني الفرصة أفضل في المستشفى فترة لحد ما ألاقي مكان أروحه أو أقرر هعمل إيه. مكنتش أتخيل إني هاجي أقعد معاكم في الڤيلا.
خطر على باله حديثها مع صديقتها عن المدعو حسن الذي يتوعدها حال عودتها، لذا تساءل بطريقة غير مباشرة يحاول الوصول إلى إجابة على سؤاله بدون أن يكشف لها أنه يراقب هاتفها فقال:
ـ ملكيش مكان تروحيه ليه؟ فين أهلك؟ وخالتك ؟؟
لكنها لم تجب الإجابة المطلوبة حيث نطقت بصوت منكسر خال من الروح:
ـ مقدرش أرجع عند خالتي.. لأني يوم ما الراجل ده خبطني بعربيته أنا أصلا كنت هربانة من بيت خالتي.
ضيق عينيه باستفهام وهز رأسه قائلا:
ـ ليه؟
تذكرت ما كان حسن بصدد فعله، اقتحامه لغرفتها وهي نائمة، وترويعها، ومحاولة الاعتداء عليها، هروبها من البيت في وقت متأخر جدا وكم المخاطر التي هددتها يومها، فلم تجد نفسها إلا وهي تبكي، تبكي بصوت مسموع وقد ذهبت كل ذرة تحمل كانت تملكها مع الريح، بكت نغم كما لم تبكِ من قبل وقد تجمعت كل ذكرياتها المريرة أمامها الآن. سؤاله هذا كان بمثابة صفعة قوية على قلبها، صفعة أفرغت كل الدموع التي حبستها طيلة الأيام الماضية، وكل الهموم التي أخفتها بقلبها والآن فقط انهارت.
تنهد مجددا وللحظة شعر بالأسى حيالها، فحرك عبوة المناديل الموضوعة على الطاولة نحوها بصمت، ثم أشار إلى النادل مجددا وقال:
ـ شيل البرتقان وهات لمون لو سمحت.
التقطت هي منديلا من العلبة وجففت به وجهها بعد أن كفكفت دموعها أخيرا، ثم مدت أناملها المرتجفة ورفعت كأس الماء وتجرعت منه جرعتين وأعادته مكانه من جديد، وقالت بصوت مضطرب:
ـ أنا عارفة إني غلطت في اللي عملته وكنت أنانية لما وافقت أعمل حاجة زي دي عشان الفلوس، وعارفة إني اكيد سببت لك مشاكل كتير، ومش هدافع عن نفسي ولا أقولك إني كنت مضطرة لأني عارفة إن ده مش مبرر، بس كل اللي عايزاك تتأكد منه إني قولتلك كل حاجه بصراحة ومكدبتش عليك في حرف.
وصل النادل ومعه كأسًا من عصير الليمون ، وضعه أمامها فشكره فريد ثم أسند ذراعيه المتقاطعين على الطاولة أمامه مجددا وهو يقول:
ـ اشربي اللمون.
رفعت الكأس وشربت منه جرعة ثم أعادته مكانه وهي تتلاشى النظر نحوه فسمعته يقول بصوت صارم جاد:
ـ وأنا عايز أصدقك .
نظرت إليه مجددا وتفرس كلا منهما بعين الآخر بتفحص فتابع قائلا:
ـ عايز أصدق إنك ضحية ظروف صعبة، وانك اتضحك عليكي وعملتي اللي عملتيه بدون تفكير..
أومأت وقد لاح الأمل بعينيها واستمعت إليه بتركيز وهو يقول:
ـ بس في المقابل إنتِ لازم تثبتي حسن نواياكي، لازم تثبتي إنك فعلا كنتي ضحية وتحاولي تصلحي اللي عملتيه.
قطبت جبينها بعدم فهم، فأراح هو ظهره إلى ظهر المقعد ومسح على وجهه بضيق، ثم أخرج زجاجة الكحول من جيبه ورش على يديه وفركهما ببعضهما، ثم نظر إليها وقال:
ـ انتي الوحيدة اللي هتقدري توصليني للشخص المجهول اللي بيحاول يوقعني، عشان كده لازم تفضلي معايا.
لم يظهر عليها الفهم بعد فقال مفسرا:
ـ في حفلة هتتعمل قريب بمناسبة ذكرى تأسيس الشركة والحفلة دي هيكون موجود فيها ناس كتير واحتمال كبير جدا إن نفس الشخص ده يكون موجود.
أومأت بتركيز فتابع:
ـ طبعا مهمتك انك تعرفيني عليه فورا لو شفتيه في الحفلة.
أومأت بموافقة فقال:
ـ طبعا مفيش أي حد من اللي في الڤيلا يعرف انك البنت بتاعة الحفلة، ولازم يفضلوا مش عارفين إنك هي، ولازم كمان محدش يعرف إني قعدت معاكي واتكلمنا وخدنا وادينا.
هزت رأسها مجددا بطاعة فاستطرد قائلا:
ـ أما بقا بالنسبة لموضوع إنك فاقدة الذاكرة فالمفروض ننهي اللعبة السخيفة دي بس بالتدريج، يعني هتبدئي تقولي إنك بتفتكري حاجات .. مرة افتكرتي اسمك ومرة افتكرتي عيلتك.. وطبعا مش هتجيبي سيرة خالتك ، هتقولي انك ملكيش حد خالص عشان يكون مبرر لانك تفضلي في الڤيلا.
ابتلعت الشوكة التي تكونت في حلقها، وتفادته بنظراتها، ثم حولتها لتستقر نحو نقطة وهمية وقالت:
ـ هو أنا لحد إمتا هفضل عايشة معاكوا ؟!
زم شفتيه ببساطة وأردف:
ـ مش هتمشي قبل ما أوصل للشخص اللي بدور عليه، وصدقيني لو أثبتي كفاءتك وساعدتيني أوصله أنا كمان هساعدك وهأمن لك مكان تقعدي فيه لو مش عايزة ترجعي بيت خالتك.
اهتزت ابتسامتها بامتنان وقالت:
ـ شكرا.
ـ أهم حاجة بلاش أي خطوة مش مدروسة منك ، توجيهاتك هتاخديها مني أنا وبس، متتصرفيش من دماغك أبدا، اتفقنا ؟
هزت رأسها بموافقة ثم قالت متسائلة بانشغال:
ـ طيب ممكن أسأل سؤال ؟
ـ اسألي.
ـ هما ممكن اللي في الڤيلا.. أقصد أهلك يعني، يكونوا هما كمان عارفين إني مش ناسية وإن دي كدبة ؟!
ـ متقلقيش، أنا بنفسي اللي خليت الدكتور يكتب التقرير بتاع أشعة المخ ومستحيل يعرفوا إنه مزور ، كلهم فاكرين إنك فعلا ناسية .. بس الأكيد إنهم مستنيينك تبدأي تفتكري ، عشان كده هنعمل زي ما بقوللك، هتعرفيهم عليكي بالتدريج.
تنهدت وهي توميء بموافقة، فتنهد مثلها وقال:
ـ عايزك تعرفي حاجة.. أنا مستحيل أدي إنسان فرصة تانية أبدا. الفرصة اللي قدامك دي لو استغلتيها وأثبتي إنك تستحقي الثقة فعلا أنا هساعدك وعندي استعداد وقتها أحميكي من أي حد ممكن يتعرضلك.
ذهب تفكيرها لحسن فورا ، ثم نظرت إليه وهو يستطرد ويقول بنظرة حادة:
ـ أما بقا لو خلتيني أندم إني اديتك فرصة ووثقت فيكي صدقيني تبقي فتحتي على نفسك أبواب جهنم.
بالرغم من شعورها بالذعر من تهديده إلا أنه أثار شيئا من الطمأنينة في قلبها، على الأقل هي تثق أنها لن تكون طرفا في أي مخطط ضده أبدا وأنها لن تكرر فعلتها الحمقاء مرة أخرى ، فأومأت بنبرة واثقة وقالت:
ـ أوعدك إنك مش هتندم .
زفر متثاقلا وقال:
ـ هنشوف.
ثم نهض عن المقعد فنهضت مثله، وسارت بجواره بصمت حتى وصلا إلى السيارة، فتح لها الباب ودار حول السيارة ليتجه نحو الباب الآخر، ثم فتحه وجلس خلف المقود، وانطلق عائدا نحو الڤيلا.
ظلا صامتيْن طوال الطريق، فلقد استنفذ الحوار الذي دار بينهما كل طاقتهما وقوتهما، كان هو شاردا يسترجع إجاباتها، وشيئا ما يخبره أنه قد تسرع في منحها الثقة مجددا، ثم يعود هاجسا آخر يخبره أنها فعلا صادقة وأنه محق في قراره، بينما هي كانت تجلس بجواره هائمة في عالم آخر، إلى أن رأت معالم الطريق إلى الڤيلا قد وضحت ، فانتبهت على صوته عندما قال:
ـ الباشا أكيد هيسألك عملتي إيه؟! هتقوليله إننا عملنا أشعة جديدة على المخ وفي انتظار النتيجة. اتفقنا ؟
ـ حاضر.
توقف أمام باب الڤيلا ففتحت الباب ونزلت، دخلت وهي تشعر بالخوف والترقب، فيما عاد هو أدراجه متجهًا نحو مقر الشركة .
***
دخلت نغم وهي تنظر حولها بذعر ، تتمنى لو بإمكانها
الهرب من هذا البيت الذي يشبه بيت الأشباح ، ووعدًا منها لن تنظر خلفها مجددا. ستهرب لآخر نقطة يمكنها الوصول إليها لكي لا يعثرووا عليها مجددا.
زفرت بضيق ثم توجهت نحو الأرجوحة التي جلست عليها بالأمس، وقررت أن تنفرد بنفسها للحظات.
أسندت ظهرها إلى ظهر الأرجوحة، وأخذت تتحرك عليها بخفة وهي تسترجع حديثها مع فريد ، وتفكر كيف ستثبت له أنها جديرة بالثقة فعلا وأنها لا تشكل خطرًا عليه أو على عائلته، وتنهدت وقبل أن تلتقط الشهيق التالي شعرت بالفزع يقطع شرودها عندما وجدت شخصا يدفعها للأمام بحركة مفاجئة فنظرت خلفها بخوف لتجد عمر واقفًا وعلى وجهه ابتسامة عريضة وهو يقول:
ـ إيه ده انتِ اتخضيتي؟ أنا كان قصدي أهزر معاكي مش أكتر.
نهضت ويدها تضغط قلبها الذي كاد أن يتوقف من الخوف، ثم نظرت إليه وقالت:
ـ حصل خير ، عن إذنك.
همت بالتحرك من أمامه ولكنه كان أسرع منها حيث جذب ذراعها وهو يقول:
ـ استني، خلينا نتكلم شوية مالك خايفة ليه كده؟
ابتلعت ريقها بخوف فعلي ونزعت ذراعها من قبضته وهي تنظر إليه باستغراب وقالت باستهجان :
ـ وأنا هخاف ليه؟
رفع كتفيه جهلاً وقال:
ـ مش عارف ، بس حاسس إنك بتتجاهليني أو مش عايزة تتكلمي معايا.
ـ لا أبدا، كل الحكاية إني تعبانة ومحتاجة أرتاح، عن إذنك.
تركته وهرولت بعيدا عنه قبل أن يستوقفها مجددا، وفي طريقها تلاقت مع چيلان التي رمقتها بخرزتين متأججتين بالضيق، فتجاهلتها نغم ودخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب، ثم أسندت ظهرها عليه وهي تتنهد بإرهاق وتقول؛
ـ عيلة ما يعلم بيها إلا ربنا !
***
كان عمر لايزال في مكانه بجوار الأرجوحة، يتحدث في هاتفه إلى صديقه عاصم ويقول:
ـ تمام هنتقابل كمان ساعة، ولا أقوللك خليها كمان ساعتين يكون الباشا خرج.. ماشي متقلقش أنا عامل حسابي في الفلوس ومجهز كل حاجة.. يلا سلام دلوقتي.
أنهى عمر الاتصال فورا عندما رأى چيلان تتقدم منه، ثم وضع الهاتف بجيبه ونظر إليها مبتسما وقال:
ـ إيه القمر ده، أنا بجد محظوظ إني أخ لتلت وردات زيكوا..
ـ كنت واقف مع البتاعة دي بتعمل إيه يا عمر ؟!
ألقتها جيلان بحدة أثارت ضيقه ورهبته، فقال وهو يحاول الحفاظ على ابتسامته:
ـ قصدك البنت ٍ ؟؟
ابتسمت ابتسامة ساخرة ونظرت إليه وأقرت بشيءٍ:
ـ ضيفة؟ يا بابا إحنا اللي هنبقا ضيوف قريب أوي وهي هتبقى صاحبة البيت، إنت مش شايفها داخلة خارجة على راحتها ولا همها، دي بتقعد معانا على السفرة وكأنها معرفة سنين، والمصيبة كمان إن أنكل سالم بيعاملها بمنتهى الود واللطافة ، لدرجة إنه طلب منها تخرج مع فريد، بذمتك مين فينا اللي ضيف؟
ـ انتِ مكبرة الموضوع أوي يا چيچي.
رفعت حاجبيها في شبه اعتراض وقالت:
ـ أصلك إنت اللي تافه وبتاخد كل الأمور باستهتار أوي يا عمر.
زم شفتيه بضيق وأخذ يحك ذقنه بأنامله بحرج فقالت:
ـ يا ريت تفوق لنفسك وتعرف إنت مين وابن مين، وبلاش تبقا مهزأ بالطريقة دي قدام أي بنت تشوفها، وخصوصا لو بنت بالمستوى ده!
رفع حاجبه وأردف بحنق:
ـ طب وانتِ عرفتي مستواها منين؟ البنت فاقدة الذاكرة بسببي على فكرة ومع ذلك تنازلت عن حقها يعني عملت معايا جِميل..
أطلقت تنهيدة مستاءة وأردفت بثقة:
ـ أهو الجِميل ده بقا بالتحديد أكتر حاجه مخلياني شاكة فيها، وياريت بلاش تنخدع بالبراءة والوداعة اللي هي بتتعمد تظهرهم قدامنا دول، البنت دي وراها حكاية كبيرة أوي محدش يعرفها.
ظهر عدم الاكتراث على ملامحه ، فنظرت هي بساعة يدها ونظرت إليه قائلة:
ـ أنا إتأخرت ولازم أمشي، واعمل حسابك من أول الاسبوع إنت معايا في الشركة .
رفع كتفيه للأعلى باحتجاج وهو يقول:
ـ لااا اعملي معروف أنا بره الليلة دي كلها، أنا لا دماغي زي دماغكم ولا بطيق جو المال والأعمال ده خااللص ..
رفعت حاجبها بضيق وهتفت بانفعال:
ـ قصدك إيه؟ قصدك إنك هتفضل تافه كده ملكش لزمة ؟ في حين إن كل اخواتك ناجحين، سواء فريد أو أنا أو چوليا !!
ـ أنا مليش دعوة بيكم ، ربنا يوفقكم كمان وكمان بعيد عني، أنا لا ليا خلق أبقا رجل أعمال وأعيش عمري كله أمضي عقود وأوقع على صفقات، ولا أنا بتاع بيزنس ومشاريع وهري فاضي ، أنا فري لانسر عايش لراحتي وسعادتي وسلامي النفسي وبسسس.
رمشت مرات عديدة باستياء ثم قالت:
ـ خليك تافه وفاشل ، خسارة فيك الكلام أصلا.
وتركته وانصرفت فزفر بضيق ونزق وهو يغمغم :
ـ نادية الصواف لايت .. مش معقولة بجد .
***
كان حسن يجلس شاردًا ، ينظر نحو طاقة النور التي تتسرب من النافذة الحديدية العلوية بجدار الزنزانة، يتذكر مشاهد من طفولته، ومن شبابه، ومقتطفات من الثلاث سنوات اللاتي قضاهن بالسجن بعد أن وشت به نغم.
نغم حبيبته التي لا يستطيع نسيانها أو الحقد عليها حتى بالرغم من قسوتها عليه وهجرانها له، وكلما حاول أن ينزعها من قلبه يجدها كالمخدر تسري بعروقه وتتسرب إلى آخر عمق لديه . فيصبح انتشالها من داخله مستحيلا، وتصبح أي محاولة للفرار من عشقها محاولة محكوم عليها بالفشل.
مسح دموعه وهو يتذكر تلك الليلة التي أفزعها فيها وما نتج عنها كان هروبها من بين يديه، ثم مسح على وجهه بحزن وهو يردد:
ـ هلاقيكي يا نغم حتى لو هربتي مني تحت سابع أرض.
انفرج الباب ، ودخل العسكري الذي نادى قائلا:
ـ حسن جادالله.
هب واقفًا على الفور وهو يقول:
ـ أيوة أنا..
ـ تعالى كلم حضرة الظابط..
خرج حسن من الزنزانة وهو يدعو الله بسره ألا يعود إليها مجددا، وأن تكون تلك اللحظة هي آخر عهده معها، توجه إلى مكتب الضابط ليتفاجأ بالسيدة فيفي تجلس على المقعد وخلفها فتاة استطاع حسن أن يتذكرها جيدا، فقد رآها في المرة التي ذهب فيها إلى الصالون.
دعاه الضابط للتقدم ففعل، ثم وقف يطالعها بنظرات يتطاير منها شرر الجحيم الساكن عينيه، وانتبه للضابط حين قال:
ـ الست فيفي تنازلت هي والانسة رؤى عن المحضر اللي عملوه ضدك يا حسن، إيه رأيك؟ أظن واجب عليك تشكرهم لأنهم تنازلوا وتتراضوا على بعض بكلمتين وتحلوا مشاكلكم بهدوء .
التقط حسن الرسالة بوضوح، فنظر إلى عيني فيفي الغارقتان في مراقبته وقال:
ـ ألف شكر يا ست فيفي، مردودالك إن شاء الله.
نهضت فيفي من على المقعد وتقدمت من الضابط وصافحته وهي تقول:
ـ متشكرة ليك يا عاصم بيه ، ومتنساش تبلغ تحياتي للمدام .
أومأ عاصم موافقا وقال:
ـ يوصل يا مدام فيفي، مع السلامه.
غادرت فيفي وهي تنظر لحسن بتركيز، بينما هو يرمقها بتوعد مستتر، ثم نظر إلى الضابط الذي قال:
ـ يلا يا حسن كفارة، اتكل انت على الله ، ونصيحة مني بلاش تزعل فيفي هانم مرة تانية أصل زعلها وحش زي ما انت شايف.
أومأ حسن بقهر مدفون وتمتم باقتضاب:
ـ اللي تؤمر بيه يا باشا، عن اذنك.
غادر حسن بعد إنهاء إجراءات الخروج، وغادر القسم ليجد فيفي تقف بسيارتها في الجوار وتنظر نحوه من خلف نظارتها التي تخفي جزءًا كبيرًا من وجهها، فاتجه نحوها، فتح الباب وركب على المقعد المجاور لها بصمت، وظل لدقيقتين ينظر أمامه بسكون تام إلى أن تحرك في اتجاهها ونظر إليها أخيرا وقال:
ـ عايزة مني إيه يا مدام فيفي؟
خلعت فيفي نظارتها، ونظرت للفتاة التي تجلس على المقعد الخلفي وأشارت لها فخرجت من السيارة، ثم نظرت الى حسن مجددا وقالت بثبات:
ـ عاوزاك إنت يا حسن !
ضحك ضحكة قصيرة ساخرة متهكمة، ثم انفجر ضاحكًا للحظات وأخذ يضرب كفا بكف ثم قال:
ـ بقا كل المرمطة دي والجري ورا بعض في الاقسام والفيلم الهندي ده كله عشان عاوزاني ؟! طب ما كنتي جبتيهالي على بلاطة من الأول خالص ورستيني على الليلة كلها بدل اللف والدوران ده .
ـ اعمل لك إيه، انت اللي دماغك ناشفة، قولتلك نشتغل سوا قولتلي سيبيني أفكر، وبعدين قلت مش مستعد، وأنا متعودتش أتحايل على حد كتير، طول عمري بمد إيدي في بؤ الأسد وأخطف منه اللي أنا عايزاه ..
هز رأسه ، ثم أسند مرفقه إلى حافة النافذة المجاورة له وقال باستهجان:
ـ وطبعا الحوار ده كله كارت ارهاب عشان أنفذ اللي انتي عايزاه من غير لوكلوك كتير مش كده.
أومأت بعينيها بثقة وأردفت:
ـ أصلي فهمتك من أول نظرة، عنيد ودماغك ناشفة ، وأنا حبيت أجيب من الآخر عشان نقصر على بعض.
زم شفتيه بضيق وأخذ يفكر، ثم نظر إليها وقال:
ـ هاتي من الآخر.
ـ نتجوز !
طالعها متفاجئا ، ثم انفجر ضاحكًا مرة أخرى وقال:
ـ نتجوز ؟! وأنا اللي ظنيت فيكي ظن سوء وفكرتك شمال !
تنهدت وأخذت تطرق بأظافرها المطلية باللون الأحمر على عجلة القيادة، ثم قالت:
ـ إتفاقنا مش هيكون جواز وبس، هيشمل حاجات تانية هتعرفها بعدين.
أومأ بتفهم، هو كان يتوقع ذلك منذ البداية أساسًا، فبالطبع هي لن تخترع كل ذلك الفيلم الهابط لكي تحظى به كزوج فقط!
ـ بس أنا لا مؤاخذة مبشتريش سمك في ميا، هتقولي كل حاجه عالدوغري دلوقتي وتفهميني التيتة كلها من أولها لآخرها تمام، إنما شغل حاوريني يا كيكا ده أنا مبحبوش.
تنهدت ونظرت إليه بثبات ينافي قلقها وقالت:
ـ محتاجاك في شغل.
ـ زي ؟!
تنهدت مطولا قبل أن تردف بصوت مضطرب وقلق:
ـ تهريب .
أخذ يهز رأسه مرارًا وهو يهمهم باستنتاج :
ـ آااااه.. هي الحكاية كده بقا !
أومأت بموافقة فنظر إليها وقال:
ـ واشمعنا أنا لامؤاخذة اللي شفتيني في الحوار ده؟ ده أنا حتى سوابق ومشموم .
ـ بس حِرِك .. وأنا بحب الرجالة الحِركة المدقدقة، وأظن انت عارف إن الشغلانة دي محتاجة قلب ميت وحد فهلوي وبتاع سوق، إلى جانب إنه يكون حد موثوق وأمان وضامنين إنه قلبه عالمصلحة.
أخذ يهز قدميه بتوتر وتحفز ثم قال:
ـ ولو رفضت ؟
نظرت أمامها وركزت ناظريها على مبنى قسم الشرطة، فنظر حيث تشير وقال:
ـ اممم.. أنا يظهر دخلت عش الدبابير برجليا وقضي الأمر .
ـ صدقني مش هتندم يا حسن ، أنا عندي استعداد أغرقك فلوس من ساسك لراسك، ولو أثبت كفائتك هتبقى الريس وفوق الكل، كل ما أملك هيكون تحت رجليك بس انت تهاودني.
تنهد بيأس وأخذ يطرق بأنامله على فخذه للحظات ، ثم نظر إليها وقال:
ـ موافق، بس بشرط.
ـ أؤمر..
ـ مليون جنية تحت حساب ..
ـ موافقة.
قالتها قولا واحدا، فنظر إليها متعجبا فقالت :
ـ ده عربون محبة يا حسن، وانت غالي على قلبي أوي.
اشتد فكه بحماس، وأخذ يرسم ويخطط من أجل المليون، فانتزعته هي من أفكاره حين قالت:
ـ بس خليك فاكر أهم حاجة ، زي ما قولت إنت دخلت عش الدبابير بس متخافش احنا دبابير طيبين، لكن لو فكرت تنكشنا أو تلعب معانا يبقا تستحمل لدعتنا، ماهو مش انت بس اللي بتلدع يا حسن يا عقرب.
ظهرت على شفتيه ابتسامة واثقة، ثم فتح الباب المجاور له وهو يلقي إليها قائلا:
ـ بس خلي بالك العقرب لدعته والقبر !
نزل وصفق الباب، فهتفت هي بصوت عالٍ :
ـ بكرة الساعة ٨ بالليل، نكتب الكتاب وتستلم المليون! على اتصال يا أبو علي.
مال حسن ونظر إليها مجددا من نافذة السيارة وقال:
ـ أستلم المليون ٨ ، ٨ وخمسة أبقا بتاعك .
وغمزها بثبات وغادر، بينما هي تنهدت تنهيدة طويلة متوترة، وأدارت محرك السيارة وانطلقت في طريقها برضا بعد أن فلحت في إقناعه أخيرا .
***
كانت عائشة تجلس بغرفتها، تمسك بألبوم صور مهترئ، تتفحصه وهي تبكي وتلمس الصور بتوق لملامسة ولقاء أصحابها الذين فارقوها، في أول صورة كانت تضم أختها بدر والدة نغم، تتعانقان والابتسامة على وجهيهما تغني عن كل كلام العالم، فتاتين بسيطتين ترتديان ملابسا بسيطة ولكنهما سعيدتان ومرتاحتان للغاية، وخلفهما رمزًا من رموز الظلم في البلدة، قصر عائلة مرسال، الذي أخذت تتفحصه عائشة وقد ظهر الحزن والغضب على ملامحها وظلت تبكي وهي تتمتم:
ـ حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا سالم يا مرسال، أشوف فيك يوم .
مسحت دموعها وانتقلت للصورة التالية، حيث تقف وسط مساحة خضراء واسعة وبجوارها رفيقتها ” ملكة مرسال ” شقيقة سالم التي توفت في طفولتها جراء قسوة وجهل وتسلط والدها ، أطبقت عائشة جفنيها على دموعها بقهر وهي تتمتم:
ـ ربنا يرحمك يا ملكة، روحتي للي أحن منهم ، ربنا نجدك من عيلة كلها سم وسواد .
في الصورة التالية كانت قد قفزت بالزمن قفزة كبيرة ، حيث كانت صورتها هي ومحمود جادالله وهما يحملان حسن الذي كان رضيعا آنذاك..
تنهدت تنهيدة حارقة وهي تتذكر كواليس زواجها من محمود، الذي كان يعمل كغفير لقصر مرسال حينها ، والذي أصبح زوجها فيما بعد بأمر من عبدالعظيم مرسال الطاغية الأكبر ..
وأغمضت عينيها وأسندتها على ظهر الفراش وسبحت بعيدا وهي تتذكر..
ـ استرجاع زمني ـ
تقف صاغرةً ، رأسها مطأطئًا بانكسار وخزي، ويديها متدليتين بإحباط ، وأمامها يقف العمدة عبدالعظيم بهيلمانه المهلك وسطوته النافذة، عاقدا يديه خلف ظهره ومطرقا رأسه في تأني ، ينظر في أمر تلك الفتاة التي تقسم أنها زوجة ابنه وأنها الآن تحمل في أحشائها طفلا منه، وأنها على استعداد لفعل أي شيء مقابل أن يعترف بابنه ومن ثم فليذهب إلى الجحيم حتى !
نظر عبدالعظيم إلى ابنه سالم الذي يقف بجواره نظرة جانبية بعينين ثاقبتين، ثم تساءل بهدوء :
ـ الكلام اللي عيشه بتقوله ده حقيقي؟
نظرت عائشة إلى سالم وترجته بعينيها أن يقول الحق، فأطرق برأسه في خجل ثم قال بتوتر :
ـ أيوة..
ـ انت متجوزها فعلا ؟!
تنهد سالم وأجاب باتهمام:
ـ أيوة..
زم عبدالعظيم شفتيه في استياء وضجر، ثم تساءل باهتمام:
ـ جواز حقيقي ولا أي كلام ؟
ـ الشيخ طه اللي كتب الكتاب وزين ورؤوف عمال الإسطبل كانوا شهود .
أومأت عائشة بأمل وهي تستمع إليه وهو يلقي بالحقيقة على مسامع والده، ثم نظر إليها وقال:
ـ بس أنا مبقيتش عايزها خلاص ، أنا اتسرعت لما اتجوزتها ومكنتش عارف إن الأمور هتوصل لكدة..
رمقه والده بنظرات أخرسته تماما، ثم نظر إلى عائشة التي ترمق سالم بضياع وقال:
ـ اسمعي ، الغلط كله عندك انتي من البداية لأنك بصيتي لفوق أوي، عشان كده انتي اللي تستحملي، أول هام محدش في البلد نهائي يعرف بقصتك دي، انتي هتفضلي في بيتكم متخرجيش منه لحد ما تولدي وتبلغينا إنك ولدتي عشان ناخد العيل، ومن هنا لحد ما تولدي متقلقيش مصاريفك كلها هتجيلك لحد عندك .
ـ تاخدوا العيل ؟!
قالتها باستنكار وغير تصديق، وأخذت تحدق بهما في صمت مليء بالفوضى فيما نطق عبدالعظيم قائلا:
ـ أومال عاوزانا نسيبهولك؟ ده لحمنا ودمنا إزاي نفرط فيه؟
حينها اقترب سالم من والده وهمس إليه مستغربا:
ـ طيب وناهد يا باشا ؟!
فأشار إليه والده بكفه مقاطعًا إياه وقال:
ـ متشيلش هم ناهد، سيبها عليا.
وعاد بعينيه نحو عائشة التي تتجرع مرارة الذل والقهر مرغمةً وقال:
ـ بعد ما تولدي هتسيبي الشرقية كلها وتمشي، روحي أي بلد تانية، انزلي مصر لو أمكن.. ومش عايزك ترجعي هنا تاني .
ـ إيه الظلم ده!! بقا أنا جاية أستنجد بيك عشان تعقل ابنك وتقولله يعترف بجوازه مني وبابنه اللي أنا حامل فيه تقوم تقوللي هناخد منك العيل وتسيبي البلد وتمشي ؟! هو ده العدل في رأيك؟
نظر إليها نظرة تملؤها الحدة ثم قال:
ـ اومال انتي مفكرة إني هقولله اعلن جوازك منها وخليها راس براس مع مراتك مثلا ؟!
ـ أنا كمان مراته !!
ضحك ضحكة وصل صداها لآخر أرجاء القصر وقال بصرامة مخيفة يعقبها نظرة مخيفة:
ـ انتي فاكرة عشان كتب عليكي عند مأذون وقضى معاكي ليلة ولا ليلتين كده خلاص بقيتي مراته ؟! انتي ناسية هو متجوز مين؟ متجوز ست الستات كلهم ناهد مرسال.. تفتكري إن ينفع بعد ما يتجوز ناهد يتجوزك انتي بعدها؟ يتجوز مجرد خدامة لا راحت ولا جت؟
سقط كتفيها بانهزام، وأطرقت رأسها أرضًا وهي تفكر، كيف تنجو من قبضة أولئك الطغاة المتسلطين الذين يحتقرون شأن من هم أقل منهم ويظنون أنهم يمتلكون مصائر الناس كلها بين أيديهم الباطشة .
فيما أكمل هو بحزم قائلا:
ـ حسك عينك حد يعرف بالموضوع ده وخصوصا ناهد هانم، وزي ما قولتلك هتلزمي بيتك لحد ما تولدي، وام زينب بنفسها اللي هتيجي تشقر عليكي وتوصلك احتياجاتك كل شهر . أظن كده بقا عدانا العيب !
مسحت دموعها بانكسار وقالت:
ـ بس أنا معرفش حد في مصر انا واختي، هنروح لمين ولا هنعيش مع مين؟
ـ متقلقيش أنا هتصرف.
وبعد أن طلقها عبدالعظيم من سالم وقع الاختيار على الغفير محمود جادالله لكي يتزوجها ومن ثم يصطحبها هي وشقيقتها إلى مصر شريطة ألا يعودوا إلى هنا مجددا.
مرت الأشهر التسعة وكأنها سنوات لا تعد ولا تحصى ، انتظرت فيها عائشة كل يوم وكل دقيقة ودعت الله أن تحدث معجزة لكي تحتفظ بابنها ، لتأتيها المعجزة الفعلية إذ اكتشفت أنها حامل بتوأم، فقررت التنازل عن الفتاة وأخفت أمر حسن لأنها تعرف أن عبدالعظيم إذا علم بشأنه فلن يتنازل عنه أبدا، لذا أعطتهم الفتاة وغادرت البلدة من فورها ومعها ابنها حسن وزوجها وشقيقتها بدر.
***
ـ عودة للحاضر ـ
ابتسمت عائشة ابتسامة مهزوزة وهي تمسح دموعها وأخذت تتمتم بقهر:
ـ الله يرحمك يا محمود، استحملت عشاني كتير ووقفت جمبي في عز ما اتخلى عني الراجل اللي حبيته واللي كنت فاكراه عوض ربنا ليا ، أتاري انت العوض اللي بجد يا محمود، ألف رحمة ونور عليك.
مسحت دموعها ، وفجأة استمعت لصوت الباب فنهضت مسرعة، فتحت الباب وما إن فتحته ورأت حسن حتى أجهشت في نوبة بكاء قاسية، ضمها حسن إلى صدره وتأوه بإرهاق وهو يقبل أعلى رأسها ويقول:
ـ وحشتيني يا ام حسن.
ـ انت اللي وحشتني يا حسن، وحشتني أوي يا ضنايا.
ورجعت خطوة للوراء وأخذت تنظر إليه بتفحص ولهفة وهي تقول:
ـ إنت كويس ؟ عملوا فيك إيه الكلاب دول ؟
ابتسم بتعب و إحباط ، وقال وهو يتقدم نحو الداخل:
ـ ولا أي حاجه ، أنا قدامك أهو زي الفل..
ـ اومال كانوا واخدينك ليه؟ عاوزين منك إيه؟
ـ تشابه أسماء زي ما قولتلك والحمدلله جت بسيطة.
بدا عليها الاقتناع قليلا، ثم ربتت على ظهره وهي تقول:
ـ طيب ادخل خد دش على ما احضر لك لقمة تاكلها.
ـ لا ياما، أنا جعان نوم، هاخد دش وأنام وخلي الأكل بعدين.
ثم نظر إليها باهتمام وقال؛
ـ قوليلي صح، خدتي الجرعة بتاعتك ولا طنشتي؟
مسدت ذراعه بحنان وقالت:
ـ متقلقش على أمك يا حسن، أنا متمسكة بالحياة عشانك يابني، مش عاوزة أسيبك لوحدك.
ـ ربنا ميحرمنيش منك ياما.. أنا هستحمى وأنام، لما أصحا نتكلم.
أومأت بتأكيد، فهذا بالفعل ما تنوي فعله، ستتحدث معه عن كل شيء، لن تتوانى عن إخباره بالحقيقة مجددا، ستخبره عن سلسال عائلته بالكامل، وتطلب منه أن يبحث عنهم ويطالب بحقه فيهم وفي كل ما يملكون كفرد من العائلة .
وهم مجبرون أن يقبلوا به، شاءوا أم أبوا، هو ابن العائلة ومن صلب سالم مرسال بكل الأدلة القطعية ، وله الحق أن يملك كل ما يملكونه ويتمتع بجميع المزايا التي يتمتعون بها.
ولى أوان الظلم ، ولى أوان الخواف، ستعيد كل شيء إلى نصابه الصحيح، فهي على يقين بأن الحياة التي نحياها عبارة عن لعبة بازل ، قد تتناثر قطعها وقد تختلط مع أخرى، قد تناسبها وقد لا، ولكن في النهاية ، مصير تلك القطع أن تعود إلى مكانها الصحيح.
***
في المساء..
كان فريد قد أنهى أشغاله ويتجه الآن نحو مركز الطبيب النفسي رؤوف خلف ، الطبيب الوحيد المطلع على تاريخ عائلته المرضي، حيث أن والدته كانت تلجأ إليه مرات متقطعة ولكنه كان على علم بحالتها كاملة، ومن بعدها أصبح هو من يشرف على حالة نسيم بعد خروجها من دار الأيتام وتعرضها لأزمة نفسية ، والآن .. لقد حان دوره.
كان قد أخذ ميعادا مسبقا لذا قادته السكرتيرة إلى غرفة الطبيب فورا.
دخل وهو يشعر بالتوتر، يشعر بالضيق والتحفز والرهبة.. في الواقع هو إنسان كتوم ومتحفظ جدا، ولا يحب الإفصاح عما بداخله لأي شخص، وفكرة أنه سيجلس أمام الطبيب ويبدأ بالحديث عن مرضه ومشكلاته بكل هدوء فكرة تثير ضيقه وانزعاجه.
دخل فرحب به الدكتور رؤوف ودعاهُ للجلوس وهو يقول بابتسامة بشوشة:
ـ أهلا وسهلا يا فريد بيه، إزي الحال ؟
تنهد فريد تنهيدة طويلة ثم زفرها دفعة واحدة وقال:
ـ الحمد لله.
ابتسم الطبيب باتساع، وقال بود:
ـ الحمد لله ، طمني.. الآنسة نسيم وصلت لفين دلوقتي ؟!
تنهد فريد باستياء وقال:
ـ زي ما هي، النوبات بتجيلها على فترات متباعدة زي ما حضرتك قولت.
أومأ رؤوف بتفهم وقال:
ـ ده طبيعي، لأن المشكلة الأساسية لاتزال قائمة.
هز فريد رأسه بتأييد، فهو يعرف أن لعنة نسيم هي والدها فعلا ، ومن الصعب أن تبرأ من علتها وهي تتواجد معه في نفس المنزل وترضخ لجبروته وقهره كل يوم.
ـ أتمنى لها الشفا من كل قلبي.
نظر إليه فريد مبتسما ابتسامة بسيطة وقال:
ـ متشكر يا دكتور..
قابل الدكتور ابتسامته بابتسامة مماثلة ثم قال بهدوء:
ـ قوللي يا فريد.. حابب تتكلم عن إيه، حاسس إنك عاوز تحكي ؟
أخذ فريد يحرك نظراته يمينًا ويسارًا بعشوائية ، ثم زفر زفرةً مستاءة وقال :
ـ حاسس إني تايه !
ونظر إلى الطبيب وتابع:
ـ مليان حاجات كلها فوضى، كأن في ناس قاعدة في دماغي، ناس مختلفة ، غريبة، كل حد منهم بيشدني لاتجاه غير التاني، جوايا أفكار كتير غلط.. أنا عارف إنها غلط وعارف إنها مش طبيعية، بس مش قادر أقف قصادها وأمنعها .. وبلاقيني غصب عني بتجاوب معاها .. أنا عارف إن ده مرض وعارف من زمان إني مريض بالوسواس القهري بس معنديش إرادة إني أتعالج، حاسس إني طبيعي وإن شخصيتي كده كاملة ، وأوقات بحس إني مش مريض وإن تصرفاتي دي هي الصح والطبيعي واللي المفروض تحصل.. حضرتك فاهمني ؟
أومأ الطبيب بثقة وقال:
ـ أكيد فاهمك.
سحب فريد نفسًا عميقا واستطرد قائلا بضعف قليلا ما يسمح له بالظهور:
ـ أنا تعبان.. أنا حاسس إني كل حاجة وعكسها، حاسس إني بالرغم من نجاحي في شغلي وإني قدرت أكون مستقبلي بس فاشل في إني أكوّن حياة مستقرة، مش قادر أتعايش بصورة طبيعية ، بخاف من كل حاجه خوف غير مبرر، بخاف أتعب شوية تعب صغيرين ، بخاف حد من أهلي يتعب أو يتأذي بأي شكل، بخاف من الموت، من الحب، من الجواز، من الفشل، بخاف من كل حاجه.
وزفر مجددا بإرهاق شديد واسترسل:
ـ أنا عارف إن كل دي وساوس مش منطقية، بس مش قادر أتجاهلها، حاولت كتير أدرب نفسي على التجاهل بس مش عارف، أنا عايش في جحيم !!
كان الطبيب ينصت إليه باهتمام، ويدون بعض الملاحظات بدفتره، ثم ينظر إليه مجددا بانتباه وهو يتابع:
ـ أنا محبط جدا ، مش راضي عن نفسي أغلب الوقت، وكل حاجه بعملها ببالغ فيها وبردو ببقا مش راضي عنها وحاسس إنها ناقصة ومش بالشكل المطلوب ، بقيت بشوف الكل حواليا كتل متحركة من الجراثيم والأمراض، مش قادر أتواصل مع حد بشكل طبيعي، ولو حصل وتعمدت أغصب نفسي بلاقينى برجع لنقطة الصفر من تاني وأبدأ العذاب من أول وجديد.
ـ حاولت تتعالج قبل كده يا فريد ؟! حاولت تتكلم مع دكتور ، أو استشاري نفسي ؟
ـ مرة من عشر سنين أعتقد.. ومكانش في أي نتيجة، وبعدها أهملت فكرة العلاج تماما.. حاسس إنها تحصيل حاصل.
فابتسم الآخر متسائلا:
ـ طيب وإيه اللي خلاك تيجي النهارده وتتكلم معايا، حاسس إيه اللي اتغير ؟
مط فريد شفتيه بضيق، وأخذ ينظر في نقطة ثابتة أمامه وكأنه يتخيل شيئا ما، ثم خرجت من فمه الكلمات بسلاسة وقال:
ـ حاسس إن عمري بيضيع على حاجه مش قادر أوقفها.. عمري بيضيع وأنا كل شغلي الشاغل أرتب اللوحات بشكل أفقي، أو أتأكد قفلت الباب ولا لأ، ده أنا ممكن أوصل الشركة وأرجع تاني البيت أتأكد ، يومي كله ممكن يخلص وأنا عمال أعدل الحاجات حواليا بشكل مريح ، وقتي وجهدي بيضيعوا في حاجات تافهة ومش منطقية مش قادر معملهاش، ولو صممت أتجاهلها بحس إني متوتر وقلقان ومش على بعضي..
وتنهد واسترسل:
ـ مش قادر أستمتع بأي حاجة .. مش قادر حتى أتخيل حياتي فيما بعد شكلها عامل إزاي.. مش قادر أفتح قلبي لحد مع إني محتاج ده.. محتاج يكون في حد برتاح له جمبي ، محتاج أطمن للناس وأثق فيهم من غير ما يجيلي خمسين هاجس إنهم بيضحكوا عليا أو بيستغلوني..
ثم نظر إلى الطبيب وأقر بنبرة مهزومة:
ـ نفسي أعيش حياتي بشكل طبيعي زي أي حد .. من غير ما أفضل أحسب لكل حاجة بعملها ، نفسي أتصرف بشكل عفوي مع الناس القريبين مني، نفسي يكون عندي قابلية التعاطي مع الناس من غير ما تهاجمني أفكار مريبة ومؤذية..
ـ زي إيه الأفكار دي مثلا ؟!
زم شفتيه بضيق وقطب جبينه وهو ينظر أمامه بشرود وقال:
ـ إني ممكن أأذي اللي قدامي أو هو يأذيني، يعني حصل في مرة كنت في اجتماع مع شركا مهمين واضطريت ألغي الاجتماع فجأة لأني تخيلت إننا هنختلف على بعض البنود وبعدها هيحصل مشادة وممكن توصل لان حد يتطاول بالضرب على التاني، عارف إنها فكرة غريبة ومرضية، وعارف إنها أبعد ما تكون عن الواقع بس مش قادر مفكرش فيها.
وزفر وهو ينظر إليه بشكوى وقال:
ـ أنا تعبان جدا يا دكتور.
كانت هذه تتمة الحوار، فأدرك الطبيب أن حالته قد وصلت ذروتها وأن الوسواس قد تمكن منه بشكل قاهر وضاغط، فأخذ الطبيب نفسًا عميقًا وقال:
ـ قوللي يا فريد علاقتك بالعيلة عاملة إزاي؟
ـ شبه منعدمة ! مفيش تواصل غير للضرورة، مفيش تلامس أو احتكاك نهائي، حتى اخواتي لو اضطريت أسلم عليهم أو أحضنهم بجري أخد شاور وأفضل أعقم في نفسي كأنهم عندهم عدوى.
ـ ووالدك ؟!
تنهد تنهيدة حارة ، وزم شفتيه بعدم اكتراث وقال:
ـ عادي !! موجود زي مش موجود . مفيش بيننا الود الكافي أو الترابط القوي اللي مفروض يكون بين أب وابنه، يمكن لأنه هو اللي حط مسافات وحواجز بيننا من الأول، بس مع ذلك رأيه في المقدمة بالنسبه لي، لما بنجح أو بقرر أنجح ده بيكون عشان أثبت له هو أول حد إني ناجح، ولو أخفقت في حاجه ببقا مترقب احتجاجه وانفعاله وتوبيخه وشايل هم ده.. مع إنه كشخص لا يعني لي ولكن رأيه فيا مهم جدا.
أومأ الطبيب بتفهم ثم قال:
ـ بص يا فريد، أنا شايف قدامي شخص اتعرض لضغوطات كتير وصعوبات ونمط تربية معين اتسبب في إنه بقا طول الوقت في حالة دفاع .. طول الوقت عاوز يثبت إنه كامل ومثالي.. عشان يحطم الصورة الناقصة في عين الآخرين، وخليني أقوللك إن الآخرين دول متمثلين في شخص واحد.. اللي هو والدك !
أومأ فريد بموافقة وأردف:
ـ بالظبط، أنا عايز أثبت له إني مش فاشل ولا زي قلتي ولا عديم النفع زي ما دايما بيقول..
ـ وده اللي خلاك فريسة سهلة للوسواس القهري.. إنت تعرف الوسواس والهواجس القهرية دي عامله زي إيه ؟ زي بركان بيغلي جوة علبة مثلا وعليها غطا .. العلبة هنا اللي هي العقل. . فلو أنا بعرض نفسي لصراعات بسبب النمط اللي أنا عايش بيه والضغوط الواقعة عليا من الظروف والأشخاص الل حواليا فانا كده كأني بضعف الغطا المحكم حوالين العلبة دي، ومع الوقت وزيادة الضغوط وردات الفعل العنيفة بيزيد ضعف الغطا ده لحد ما بلاقيه فجأة انفجر والبركان اللي كان محبوس ثار وانطلق وتوغل جوايا بطريقة من الصعب تجاوزها أو التخلص منها.. فالحل هنا إيه؟! أعظم حل هو التجاهل.. إنك تحاول وتدرب نفسك مرة واتنين وعشرة لحد ما تلاقي نفسك بتنجح في إنك تتجاهل الوساوس دي، التجاهل عدو الوسواس زي ما بنقول، لأنه لو لقاك مش مهتم أو بطلت تتأثر بيه مرة بعد مرة الوساوس هتقل.
ـ جربت أعمل كده ولقيت النتيجة عكسية تماما..
ـ لأن العلاج مش سلوكي بس.. العلاج السلوكي لوحده مش كفاية في درجة الوسواس اللي عندك لأنك للأسف واصل لمرحلة متقدمة جدا وبعيدة جدا، عشان كده في المرحلة دي العلاج الدوائي مهم بنسبة ٥٠ ٪ والعلاج السلوكي بيكمله بنسبة ٥٠ ٪ تانيين..
وبدأ يكتب شيئا ما أمامه وهو يقول:
ـ عشان كده أول حاجة هنعملها إننا هناخد دوا يكمل مادة السيروتونين الناقصة في المخ.. لأن نقص هرومون السيروتونين هو اللي بيخلي الإنسان بيئة خصبة لنمو القلق والتوتر والاكتئاب والإرهاق المزمن.. فاحنا محتاجين نرجع الهرمون ده لمستواه الطبيعي الأول، إلى جانب بقا التجاهل قدر الإمكان زي ما قولتلك، وإنك تحاول تشغل نفسك بأي طريقة يعني متقعدش لوحدك كتير… حاول تنخرط في أي نشاط إضافي أو تعمل حاجه جديده ، تقعد تتكلم مع ناس بتحبهم وتشاركهم حاجات بيحبوها، غير نمط حياتك من غير ما تضغط نفسك .. أهم حاجة تبقا بتعمل كل حاجه وانت مرتاح لأن الضغوط هي وقود الوسواس .
أطلق تنهيدة راحة نسبية وهو يشعر بأنه قد أفضى كثيرا مما يعتري صدره وقد أصبح أخف الآن، فنظر إليه الطبيب مبتسما وقال :
ـ متقلقش كل حاجه بتخف مع الوقت، أهم حاجة خليك هادي وابعد عن الضغوط قدر الإمكان ..
هز رأسه موافقا ثم قال
ـ تحب تضيف حاجة تانية؟ حاسس إنك محتاج تقول حاجه ؟
ـ لأ انا مرهق جدا ومش قادر أتكلم أكتر من كدة.
ـ تمام.. النهارده كفاية كده والزيارة الجاية إن شاء الله هنتكلم عن بُعد تاني من أبعاد الوسواس وتأثيره عليك شكله إيه ، وأنا أفضل ميعاد الزيارة الجاية انت اللي تحدده.. سواء بكرة أو بعد شهر، لازم تكون جاي ومحتاج تتكلم وعاوز تفضفض .. مش مجرد زيارة لدكتور، اتفقنا ؟!
أومأ فريد موافقا ونهض وقال:
ـ أنا متشكر جدا يا دكتور رؤوف.. أرهقتك معايا..
ـ متشكر على إيه يا ابني ..ده شغلي وبعدين أنا نفسي أساعدك بأي طريقة ممكنة انت عارف إن والدتك الله يرحمها كانت غالية عليا جدا ..
أومأ فريد مؤيدا وقال:
ـ الله يرحمها.. متشكر لحضرتك مرة تانية، عن إذنك.
خرج فريد من عيادة الطبيب واستقل سيارته وهو يشعر ببارقة أمل تتجه نحوه، طالما أن هناك فرصة إذا هو لايزال بعيدا عن خط النهاية الذي كان يوهم نفسه دائما أنه قد اقترب منه وانطلق في طريقه نحو الڤيلا عازمًا المحاولة البدء من جديد.
***
خرجت نغم من الغرفة بعد أن حبست نفسها بداخلها لما يقرب من أربع ساعات، كانت تتجول بداخل الغرفة كالعصفور المسجون في قفص، إلى أن استسلمت وقررت أن تخرج للحديقة وتجلس على الأرجوحة عل الحظ يكون حليفها ولا يقاطع خلوتها أحدا.
وفي طريقها للخارج استمعت إلى صوت صخب مكتوم نابع من المطبخ، فقادها فضولها إلى هناك، وفتحت الباب ودخلت لتجد عاملات المطبخ الثلاثة ومعهن زينب، يجتمعون في دائرة وأمامهم قالب كيك ويغنون بابتهاج.
انتفضن فور رؤيتها ثم تنهدت زينب بريبة وهي تقول:
ـ هو انتِ؟ خضيتينا..
أطلت نغم برأسها من بين زاوية الباب المنفرج وهي تقول:
ـ ايه ده انتوا بتحتفلوا بعيد ميلاد مين ؟ عيد ميلادك انتي يا خالتي؟
نظرت الفتيات لبعضهن البعض بتعجب وضحكن بخفوت، بينما ابتسمت زينب بحرج وهي تقول:
ـ أيوة.. البنات الله يسامحهم صمموا يعملوا لي عيد ميلاد ويحتفلوا بيا، بالرغم من إني حاولت أقنعهم إني مبقتش صغيرة على الكلام ده بس مفيش فايدة..
دخلت نغم والحماس يعلو قسماتها، وانضمت لجمعتهم المستديرة وهي تقول:
ـ ينفع أحتفل معاكم ؟!
ـ طبعا ينفع.. ثواني هجيبلك طبق.
وبالفعل أحضرت لها إحداهن طبقا ووضعته أمامها، ثم بدأن بالغناء لزينب من جديد ونغم تشاركهن ثم انحنت ونفخت في شمعة تحمل رقم خمسين فأخذن يصفقن لها بحماس فأشارت لهن قائلة:
ـ بشويش يا بنات، صوتنا لو خرج برة هتبقى كارثة.
وكالعادة اشتعل فتيل فضول نغم فتساءلت باستغراب قائلة:
ـ ليه يعني؟ هو هنا حرام حد يحتفل بعيد ميلاده ولا ايه ؟!
زمت زينب شفتيها باستياء وقالت:
ـ أوامر الباشا بقا هنعمل إيه ! على العموم أنا متشكرة جدا ليكم يا بنات على شعوركم الجميل ده نحيتي.
عانقتها كلا منهن بود وتمنت لها عامًا جديدًا سعيدًا، ثم عانقتها نغم بقوة وقبلت وجنتيها بحب صادق وهي تقول:
ـ كل سنه وانتي طيبه يا خالتي زينب ، ربنا ميحرمناش منك.
ابتسمت زينب ولمعت الدموع بعينيها وهي تقول:
ـ ولا منكم يا بنات.. يلا.. خدنا أكتر من وقتنا.. ناكل الكيك وبعدين نجهز العشا بقا لأن الباشا على وصول.
بدأت زينب بتقطيع قالب الكيك ثم وضعت لكلا منهن قطعة في طبقها، وتبقت آخر قطعة فقالت :
ـ دي بقا من نصيب نسيم هانم ، أنا عارفة إنها بتحب كيك الشيكولاته جدا.
نطقت نغم بحماس شديد وقالت:
ـ ينفع أنا أوديها لها على ما تجهزوا العشا ؟! بالله عليكي يا خالتي عشان خاطري.
زمت زينب شفتيها باستياء طفيف وقالت:
ـ مش عارفه مسموح ولا لأ يا بنتي ….
فأضافت نغم وهي تحاول إقناعها وقالت:
ـ هو أنا يعني طالعة أفجر نفسي في اوضتها ؟! ده أنا هوديلها الكيك وأنزل، بالله عليكي يا خالتي عايزة أشوف الڤيلا من فوق شكلها عامل إزاي.
تنهدت الأخرى باستسلام وقالت:
ـ أمري إلى الله، اتفضلي وديها وانزلي بسرعة، أوضتها تاني أوضة عالشمال .
أومأت نغم بحماس شديد وهي تحمل طبق الكيك، ثم خرجت من المطبخ وبينما هي بصدد التوجه نحو الدرج اصطدمت بقوة بفريد الذي دخل للتو والتصق الطبق بقميصه الأبيض فوشمت قطعة الكعك بقعة سوداء مثلثة عليه ..
جحظت عيناها بذهول وفغرت فاها بصدمة وهي تتمتم بأحرف متقطعة:
ـ أنا.. أنا آسفة جدا مخدتش بالي..
وفي حركة خاطفة كانت قد التقطت منديلا من جيبها واقتربت منه لكي تنظف تلك البقعة وهي تردد بخوف:
ـ أنا أسفة والله معلش سامحني.. أنا مش عارفة أنا عملت كده إزاي
أخذت تمسح بالمنديل على القميص وهي تكرر اعتذارها مرارا وتكرارا دون توقف إلى أن أوقفها هو قائلا بحدة وهو يبتعد خطوة للوراء ويقول:
ـ بتعملي ايه انتي !
رفعت عينيها عن القميص ونظرت إليه وهي تقول بتوتر:
ـ بحاول أنضفه قبل ما يبقع !
نظر إليها للحظات، تفحص نظراتها المرتابة وبريق عينيها النَهم ولأول مرة يجد نفسه غير قادر على الانسحاب من أمام شخص وكأنه قد تسمر بالأرض..
ابتلعت ريقها بتوجس من نظراته المبهمة وابتعدت للخلف بالتدريج وهي لا زالت تنظر إليه بترقب، إلى أن رأته ينظر إلى القميص باستياء، ثم زفر بحنق وتخطاها متوجهًا نحو الأعلى .
أغمضت عينيها وزفرت مطولا وهي تقول:
ـ إيه اللي أنا بعمله ده بس.
وعادت إلى المطبخ سريعا، وضعت الطبق وأسرعت بالهرب نحو غرفتها مجددا .
بينما دخل هو غرفته ومنها إلى الحمام، خلع القميص فورا ثم ألقاه بصندوق الملابس المتسخة ووقف يطالع انعكاس صورته بالمرآة وهو يتذكر عينيها ونظراتهمت اللتين تبوحان بالكثير، وأنفاسها التي لفحت صدره وأثارت الضجيج فيه.
تلك الفتاة تجعله يختبر أشياءً تسكن عمقًا بعيدا في قلبه لم يستطع ترجمتها أبدا، إلا عندما أثارتها هذه الملعونة بغير قصدٍ منها وجعلته يتوق لتجربتها مرات عديدة.
زفر بقوة ثم انحنى وأغدق رأسه بالماء البارد عله يُخمد تلك الأفكار المتأججة به، سيتخطاها، حتما سيتخطاها، وليس لأنها صاحبة أول قبلة هذا سيجعله يصبح مولعًا بها.. لا …
كنتِ وستبقين في نظري محتالة فقط لا غير ، ولا عزاء لعينيكِ الجميلتين يا نغم .
***
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)