رواية محسنين الغرام الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم نعمة حسن
رواية محسنين الغرام الجزء الرابع والثلاثون
رواية محسنين الغرام البارت الرابع والثلاثون

رواية محسنين الغرام الحلقة الرابعة والثلاثون
ـ ٤ ـ
~ آفة الحب.. الخذلان ! ~
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استيقظت نسيم من نومها لتكتشف أنها قد غفت فوق الأريكة في غرفة المعيشة ، فقد ظلت بانتظار عاصم إلى وقت متأخر ولكن النعاس غلبها قبل عودته.. كانت تنتظر عودته لكي يكملا حديثهما الذي ظل عالقًا في منتصفه، لديها فضول جامح لمعرفة الحكاية بأدق تفاصيلها، لديها الكثير من الأسئلة تريد معرفة إجاباتها ، وأهمها.. لماذا تأخر انتقامه ثمان سنوات !!
اعتدلت وأخذت تحرك جسدها ورقبتها برفق بعد أن تشنجت عظامها إثر نومها بوضعية خاطئة لساعات طويلة ، واستندت إلى عصاها ونهضت وهي تنظر إلى تلك الساعة المعلقة فوق الجدار فوجدت أنها تشير إلى العاشرة صباحا..
دخلت غرفتها، أخذت حماما وبدلت ثيابها، وبينما هي تهم بالخروج من الغرفة استمعت إلى صوت الباب وقد صُفق ، فخرجت مستندةً على العصا فإذا بها تراه يقبل عليها متجهمًا وهو يقول :
ـ صباح الخير.
حانت منها التفاتة نحوه ثم نحو غرفته وقالت باستغراب :
ـ هو انت مكنتش نايم هنا ؟
كان استنتاجًا أقرب منه إلى السؤال ، فأومأ وهو يزفر ببطء :
ـ لأ .
نظرت إليه متعجبة ، كانت ترغب في سؤاله عن مكان مبيته بالأمس ولكنها لم ترغب في أن تظهر بمظهر المتطفلة الفضولية التي تتدخل فيما لا يعنيها .
لذا أومأت باقتضاب وانسحبت من أمامه بهدوء وهمّت بالعودة إلى غرفتها ولكنه استوقفها حين قال :
ـ امبارح كنت مرهق وخلصت شغل متأخر ومقدرتش أرجع هنا.. عندي بيت تاني جنب شركتي قضيت فيه الليل..
أومأت بهدوء وتحدثت وهي تشعر بعدم الارتياح فقالت :
ـ مفيش مشاكل، بس كان يُفضل تعرفني إنك مش جاي ، لأني فضلت مستنياك لوقت متأخر .
ـ خير ، كنتي محتاجة حاجة ؟
ـ محتاجة نتكلم .. ألقتها دون تفكير فرأته يزفر ببطء وظهر الضيق في عينيه البنيتين الحادتين وقال :
ـ أكيد هنتكلم ، بس مش دلوقتي ، أنا جيت أطمن عليكي وأبلغك إني كلمتلك دكتورة علاج طبيعي هتمر عليكي مرة كل تلت أيام وهتمشي معاكي لحد ما تتحسني إن شاء الله .
ثم رفع ذلك الكيس بيده وقال وقد لاحت ابتسامة هزيلة على شفتيه ، كما لو أنه رسمها غصبًا وقال :
ـ و جيبتلك فطار .
نظرت إلى الكيس بيده وقالت :
ـ شكرا ، مكانش في داعي تتعب نفسك .
ـ تعبك راحة .. اتفضلي .
تركها وتقدم نحو مائدة الطعام وأخرج تلك الشطائر من الكيس الورقي، ثم أحضر الأطباق وبدأ برص الشطائر بها ..
سحب مقعدها فجلست ثم جلس على الكرسي المجاور وأمسك بشطيرة وبدأ بتناولها في صمت .
بينما هي كانت تنظر نحوه ، كان شاردًا على عكس الأمس ، عيناه مرهقتان، منطفئتان ، يغزوهما الألم من كل جانب .. فأدركت أنه قد مر بشيء ٍ سيء لذا تساءلت بتردد :
ـ في حاجة حصلت ؟
جذبه صوتها من طريق الشرود الذي سار فيه ، فنظر إليها وقال ببساطة مفتعلة :
ـ أبدا ..
لم تستسغ صمته ، ولا غموضه ، وأساسًا لم تستسغ فكرة أنه لم يعد إلى البيت دون أن يخبرها واليوم فاجأها أنه يملك بيتًا آخر كان يعيش فيه ، إذًا لقد اشترى هذا المنزل لها منذ البداية لأنه ينوي أن يعيش كلا منهما ببيت منفصل ..
كانت مشتتة، لا تعرف سبب غضبها بالتحديد ، وكان المثير للضيق والحنق أنها تشعر أنها غارقة وسط دوامة من الألغاز ، تشعر أنها تتعامل مع رجل غامض وهي لا تحب هذا النوع أبدا من الرجال .. ولا تفضل أن تتعامل مع مثل تلك الشخصيات لأنها تستنزف طاقتها وفكرها أكثر ،
لذا قررت أن تبادر ، أن تسأله مجددا عله يجيبها إجابة واضحة تخمد ضجيج الفضول برأسها .
ـ في حاجة جديدة حصلت ضايقتك ؟!
نظر إليها بعد أن كان ينظر بطبقه بصمت، وفهم تلك الحاجة الملحة بعينيها للفهم ، فهي أمامه كالكتاب المفتوح تماما ، يمكنه فهم لغة عينيها بسهولة ، وترجمة نظراتها كما يُشرب الماء ..
والآن يعرف أنها لديها فضول عالي نحوه، لذا تنهد ثم قال :
ـ الحقيقة في خطوة كان المفروض تحصل من زمان بس مكانش فيه فرصة .. وخلاص خدتها الحمد لله.
و مد يده وشرب جرعة من كأس العصير ثم قال وهو ينظر إليها ويتبين ردة فعلها :
ـ أنا نقلت رفات حازم الله يرحمه من المقابر بتاعة عيلة مرسال للمقابر بتاعتنا .
نزلت تلك الكلمات كالصاعقة عليها ، وتجمعت الدموع في عينيها لا إراديا وتركت ما بيدها من طعام.. واتخذ منها الأمر بعض الوقت حتى تغلغل الخبر داخل عقلها الذي كان معطلاً ، ثم أسندت رأسها بين كفيها وأجهشت بالبكاء ..
زفر نفسًا ثقيلا للغاية ، وأكمل كلامه :
ـ الموضوع كان صعب شوية ومقدرتش أتخطاه الصراحة ، لكن أنا متأكد إن كده روحه هتكون مرتاحة .
كانت تبكي ، تتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله ، و دوي الرصاص يخترق أذنيها وقلبها وكأنها تسمعه للتو .. حتى أنها صمّت أذناها بيديها ودفنت رأسها بين يديها أكثر وزادت حدة بكاءها .. فيما هو يحدق فيها بحسرة لا تخف حدتها من قلبه أبدا .. ومد يده نحوها .. كان يريد التربيت عليها و دعمها أو مواساتها ولكنه تراجع.. وسحب يده سريعا وهو يراها ترفع رأسها وتنظر إليه بعينين باكيتين وتقول :
ـ علشان كده مرجعتش امبارح .. مكنتش قادر تشوفني ، لأني بنت الراجل اللي كان السبب في موته .. مش كده ؟.
قطب جبينه متعجبا ، ذُهل لكونها قد فهمت ما دار برأسه وما شعر به فعلا ، واضطرب لكونه يشعر أنه أصبح مكشوفا بهذا القدر أمامها ، وبتلك السرعة ، وبدون أي مجهود يذكر ..
أكثر ما يزعجه هو أن يشعر أن تلك الشفرات من حوله قد تم اختراقها وفكها ، هذا الشيء يزلزله ، يصيبه بالارتباك .. يجعله يشيد من حوله الأسوار من جديد ، وبكل قوة .
تنهد وهو ينظر إليها بتركيز .. وفي نفس اللحظة كانت تنظر نحوه في انتظار تأكيد أو نفي .. ليجيبها هو بما يسمح لبروجه المشيده أن تمتد للأعلى أكثر وتحيط به أكثر وأكثر فتجعله غير قابل للاختراق ..
ـ مش حقيقي ، أنا في العموم لما بحس إني مضايق بحب أكون لوحدي .. وبعدين أنا قولتلك أنا معنديش أي مشاعر سلبية نحيتك ، لأني مش معتبرك أساسا فرد من عيلة مرسال .
صمتت ، سكنت قليلا ، ورفعت كأس الماء وتجرعت منه جرعتين ، ثم نظرت إليه وتساءلت بهدوء :
ـ أنا عاوزة أزوره النهارده ، ينفع ؟
أومأ مؤكدا ببطء وقال :
ـ أكيد ينفع .. زي ما تحبي .
أومأت بهدوء ، ثم مسحت دموعها ونظرت إليه من جديد .. واتتها الفرصة لكي تستفهم منه عما تريد فقالت :
ـ ممكن أعرف إيه السبب اللي خلاك استنيت السنين دي كلها عشان تعمل اللي عملته ؟ و ليه مقدمتش الفيديو للنيابة من أول ما شوفته .. ازاي صبرت على تار أخوك تمن سنين .. و ليه ؟
استند عاصم إلى ظهر المقعد ، واتسعت مقلتاه تدريجيا وهو يسترجع ذلك المشهد اللعين ثم قال مجيبًا سؤالها بطريقة جعلت الأسئلة تتفرع في رأسها أكثر ..
ـ لأني كنت مسافر كندا ومكنتش أقدر أنزل مصر وقت اللي حصل، كان في ظروف مانعاني ، و أول ما الفرصة سمحت نفذت اللي كنت بخطط له ..
كانت طريقته غير مباشرة، ملتوية، تحمل دليلا على أنه لا يريد التوضيح أكثر ، ولكن فضولها لم يتوقف ، و نهمها لمعرفة المزيد لم يكن من السهل السيطرة عليه ، فقالت باستياء واضح :
ـ ممكن تخليك واضح معايا ؟ أنا الأسلوب ده بيتعبني وبيضغطني نفسيا جدا ..
أسند كفيه على المائدة وهو يسقط رأسه للخلف وينظر إلى الأعلى ، وزفر نفسًا مسموعًا ثم قال:
ـ صدقيني أنا مش حابب أضغطك ولا أتعبك .. بس في حاجات لازم الواحد مننا يحتفظ بيها لنفسه ، على الأقل لفترة ..
ونظر إليها وقال بهدوء:
ـ يعني مثلا مش منطقي إني أقولك احكيلي عن حياتك وكل اللي مريتي بيه .. في تفاصيل أكيد مش هتكوني حابة تحكي فيها ، وأنا لازم أحترم ده .. نفس الحكاية ، في تفاصيل أنا مش حابب أحكيها أو أتكلم فيها . ومتقلقيش هي مش خاصة بحازم .. هي خاصة بيا أنا وبس ..
سقطت نظرتها نحو يدها التي تعبث بحافة طبقها ، ثم قالت بخفوت :
ـ سؤال أخير ولازم تقوللي إجابته ..
تفرسها بحدة ، بصبر ، ثم أومأ موافقا .. فنظرت إليه وقالت :
ـ الفيديو.. وصلك إزاي ؟
بدا أنه يفكر في الأمر لفترة طويلة ، و غامت عيناه بذكريات قد تركت أثرها في روحه وكيانه بالكامل ، ثم نظر إليها بدون تعبير وقال :
ـ هحكيلك .
***
وقفت نغم أمام المرآة ، تختار ثيابًا مناسبة ليومها الأول في العمل ، ولكن حالة ملابسها ـ المثيرة للشفقة ـ كانت تجعلها تصرف نظرها عن كل ما تملكه .. فلقد اعتادت الأناقة ، اعتادت لبس الثياب المرتبة النظيفة الغالية، لذا فأصبح كل ما ترتديه الآن مجرد كومة من الملابس البالية .
تنهدت بضيق، وهي تتذكر مظهر العاملات بالصالون، وكيف أنهن يلقن كثيرا بالمكان وفخامته ، ويعكسن صورة مشرفة عنه بمظهرهن الحسن، فوقعت عيناها على تلك الحقيبة التي أحضرتها زينب والتي تحوي ملابسها التي ابتاعها لها سالم ..
وقفت تنظر إليها بتردد، لم تكن ترغب في ارتداء أيًا مما تحتويه تلك الحقيبة ، ولكن أمام قلة حيلتها اضطرت أن تستعين بها .
فتحت الحقيبة ووقفت تتذكر كيف كانت حالتها وهي تشتري تلك الملابس لأول مرة مع زينب، فزفرت بضيق وأخذت تطالع قطعة تلو الأخرى بحيرة إلى أن وقع اختيارها على بلوزة باللون الأخضر وسروال من الجينز الأسود .. ارتدتهما ووقفت أمام المرآة تصفف شعرها .. ثم عادت لتنتقي من بين الأغراض حقيبة يد حيث أن زينب أحضرت لها جميع ما اشتروه لها من قبل .
وبينما هي تبحث عن حقيبة مناسبة لمحت صندوقًا من الكرتون ففتحته لتجد به العديد من زجاجات العطور التي كانت تستعملها ولكن بينهن واحدة هي من أسرت انتباهها ..
أمسكت بها سريعًا وأخذت تنظر إليها بغير تصديق ، ذلك العطر خاص بفريد ، وذلك العطر بالتحديد هو الذي رشت منه يوم اقتحمت غرفة فريد ببيته و أوشى بها فعلم فريد عندما شمه أنها دخلت غرفته وعبثت بأغراضه ..
قربته من أنفها تشمه وسحبت نفسًا عميقًا مهتزًا وهي تغمض عينيها وتغرق في بحر من الحنين المضني.
فكل شيء يتلاشى، يقل، يخف، كل شي بإمكانه أن يغدو كأن لم يكن، لكن الرائحة تبقى أبديّة، ملعونة، عصيّة على النسيان، وتلك الرائحة أثارت ذكريات لا تزال حية بداخلها وجعلتها تتمنى لو أنه بجوارها الآن .. تنظر إليه عن قرب ، تلتقط ابتسامته وعبوسه ..
لو أنه حافظ على حبهما وحماه .. فقط لو !!
ولكنه لم يفعل ، تعرف أنه يحبها ، تثق بذلك ولكنه خذلها و آفة الحب الخذلان .
كانت عائشة تقوم بتحضير الفطور، فنادتها قائلة :
ـ يلا يا نغم عشان تفطري .
انتبهت إلى صوت خالتها، فأعادت زجاجة العطر إلى الحقيبة من جديد وقامت بإغلاقها وهي تقول :
ـ معلش يا خالتي متأخرة .. هصرّف نفسي وآكل أي حاجه متقلقيش.
غادرت الغرفة وهمت بفتح باب الشقة ولكن صوت حسن هو من استوقفها حيث خرج من الحمام للتو وقال :
ـ رايحة فين بدري كده يا نغم ؟
استدارت ببطء .. ونظرت إليه ، فرأته يتفحصها بتمعن أثار ضيقها، فأجابت بحدة :
ـ رايحة الشغل .
اقترب من مائدة الفطور وهو يضع منشفته حول عنقه ثم جلس على المقعد وهو يقول :
ـ شغل إيه ؟
تبًا له ، يحشر أنفه في حياتها من جديد ، يسألها بكل هدوء واستفزاز ، لذا شعرت بنبرة صوتها ترتفع، وكذلك ضغط دمها الذي اندفع نحو صدغها، وهتفت حانقة :
ـ خالتي هتحكيلك لأني اتأخرت ولازم أمشي.
فتحت الباب وخرجت مسرعة قبل أن يستوقفها مجددا ، وربما يقذفها بالصحون من يدري ؟ فهي تعرفه جيدا . عنيد كالثور ، بربري وهمجي .
بينما هو كان يحدق في أثرها بغيظ، ثم نظر إلى أمه وقال :
ـ هو إيه أصله ده ؟! شغل إيه اللي طلع لنا في المقدر جديد ده ؟!
تنهدت وهي تسكب له كوبًا من الشاي بيدٍ مرتجفة وقالت:
ـ كوافير جديد هتشتغل فيه ..
ـ آه .. ما صدقنا خلصنا من وقفتها مع فيفي هتلف تلف وترجع للمجال الوسخ ده تاني…
نظرت إليه أمه بتعجب وقالت :
ـ لا إله إلا الله.. ومالها الشغلانه بتاعة الكوافير بس يبني ما هي شغلانه زي أي شغلانه، وبعدين نغم متعرفش صنعة غيرها، وقالت يعني تسلي نفسها وتجيب مصاريفها .
وصل صوت اعتراضه إلى المدينة المجاورة ، وصفع سطح الطاولة بكفه وهو يقول :
ـ وهو أنا كان انطلب مني حاجة وقلت لا ؟ ده أنا بتمنى انها تأشر بس وتقول نفسي في حاجة وأنا أجيبها لحد عندها ، هي اللي راكبة دماغها وراسها حجر .. وبعدين هي في الكوافير ده مش هتختلط بناس داخلة وناس خارجة ؟ غير ان البنات اللي شغالين في الكوافيرات دول لفين ودايرين وكله بيبهت على كله .
نظرت إليه بضجر ولم يرُقها ما سمعت ، وقالت باقتضاب :
ـ نغم ميتخافش عليها ..
ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة ثم قال متهكمًا :
ـ معاكي حق ، اللي تعمل حوار وتدخل بيت سالم وتعيش فيه وكأنها واحده من البيت وتحب ابنه وترجع تأشط كل حاجه وتطفش تبقا ميتخافش عليها فعلاا ..
أمسك بكأس الشاي ورشف منه رشفةٍ ثم نظر إلى أمه وقال :
ـ وبعدين بالعقل كده .. شغل إيه اللي بتشتغله عشان تجيب مصاريفها ؟ هي مش كوّشت على خزنة سالم باللي فيها ؟
وغمز وهو يتساءل :
ـ راحت فين الفلوس دي بقا ؟
تهدل كتفيها بإحباط وهي تقول :
ـ بردو يا حسن مفيش فايدة فيك ؟ يبني نغم مش وش كده .. وبعدين انت صدقت الحرباية الملونة اللي اسمها چيلان دي ؟! دي أصلا الشر بعينه .. أنا لا صدقتها ولا اشتريت منها كل اللي قالته .
كان يمضغ الطعام ببطء وهو يحاول تمرير ما قالته أمه على عقله، ولكنه لم يقتنع به، فهو يعرف أن نغم يمكنها فعل ذلك بسهولة، فلم لا ؟
ـ و إيه اللي يخليها تفتري عليها ؟ بتغير منها مثلا ؟
تساءل متهكمًا .. فنظرت إليه أمه بعتاب وأجابت بإيجاز :
ـ و ليه لأ ! ربنا وحده العالم باللي في القلوب.
تنهد تنهيدة مستاءة ، ونظر إليها بضجر ، وأكمل طعامه ، ثم سأل مجددا :
ـ هي لسه بتكلم اللي اسمه فريد ده ولا بتقابله ؟
لتجيبه هي ببساطة :
ـ فريد أساسا سافر ..
توقف عن مضغ الطعام ونظر إليها واحتدت نظراته وقال:
ـ مين اللي قالك ؟
نظرت إليه بتوتر وقالت :
ـ هي اللي قالتلي .
طالعها بلومٍ صريح ممزوج بغباءٍ عنيد :
ـ انتي بتسايريها بقا ومقضيينها حكاوي عنه . بدل ما تعقليها !
لتجيبه هي بحدة مماثلة بعد أن فاض بها الكيل من غباءه وإصراره :
ـ و أعقلها ليه ؟ الحب مش بالعافية يابني !
لم تحصل منه سوى على نظرات مملوءة بالغضب والسخط، ثم نهض عن المائدة وهو يغمغم مكملًا حديثه الفج :
ـ صح الحب مش بالعافية.. انتي أدرى !
دخل غرفته وتركها وسط أمواج عاتية من الخزي والخذلان ، وتنهدت حينها وأقرت في نفسها شيئا .. ذلك البؤس لن ينتهي .
دخل غرفته وقام بفتح هاتفه لأول مرة بعد عودته، ثم استدعى رقم فيفي ، وقام بمراسلتها .. ” استنيني في الشقة ، شوية وجاي ”
وارتدى ملابسه، ثم خرج من الغرفة متجهًا نحو الباب وسأل أمه :
ـ الشغل الجديد ده فين ؟
ـ بتسأل ليه ؟
حرك رأسه وضرب كفيه ببعضهما البعض وهو يقول حانقا :
ـ هو السؤال حرام ؟! من باب العلم بالشيء عشان أكون عارف الهانم اللي عاوزة تشتغل وتجيب مصاريفها بتروح فين وتيجي منين وبتتعامل مع مين ، ولا أنا هلهولة في البيت ولا إيه النظام ؟
حكمت عقلها قليلا وتريثت قبل أن تجيب :
ـ متهيألي في الشارع اللي هو ..
وصمتت، فهز رأسه منتظرا إجابتها ، بينما هي تضيق عينيها وتفكر متصنعة النسيان وهي تقول :
ـ في الشارع اللي هو اسمه إيه ده … هي قالتلي اسمه بس أنا ناسياه ..
رفع حاجبيه بحدة وقال ساخرا :
ـ ناسياه ؟ انتي بتحوري عليا يمّا ؟! هو أنا مش عارف إنك كده بتحوري يعني ؟!
زمت شفتيها باستياء وهي تنظر إليه بنفاذ صبر وتقول :
ـ يبني الله لا يسيئك سيب البت في حالها بقا بدل ما تهج تاني ، أنا ما صدقت ربنا هداها ورجعت .. سيبها تشوف حالها وشوف حالك انت كمان هو يعني البنات خلصت من الدنيا مش فاضل غير نغم ؟
استدركت وهو يرشقها بالنظرات المهزومة، الغاضبة أنها قد داست على جروحه وبقسوة ، لكنها تريد أن يتخلص من هوسه وتعلقه بنغم اللذان سببا لها من الأذى ما يكفي ..
فتح الباب وغادر ثم صفق الباب خلفه بقوة ، فأخذت تنظر إلى الأعلى وهي تدعو وتنتحب :
ـ يا رب الهداية من عندك .. يهديك ربنا يا ابن بطني ويحنن قلبك عليا يا نسيم يا بنتي ويكتب لك في كل خطوة سلامة يا نغم يا بنت بدر .
ومسحت بكفيها على وجهها .. أزالت دمعاتها .. وتنهدت تحاول بث الطمأنينة في نفس طغى عليها الحرمان .
***
ـ هحكيلك .
أجبرت نفسها على الهدوء، بالرغم من أن قلبها كان يطرق بقوة، بعنف، وكأنه سيكسر أضلاعها ويخرج ، ونظرت إليه بصمت.. واستمعت لتنهيدته التي افتتح بها حديثه ثم قال :
ـ يوم عيد ميلادك …
شردت .. أعادها للذكرى .. وأخذت تسبح بعقلها وصولا عند ذلك اليوم .. و صوته البائس كان يشبه خلفية موسيقية بائسة تكمل المشهد الأشد بؤسًا على الإطلاق !
ـ حازم كان مقرر إنه يوثق اليوم من أوله ، بدايةً من اللحظة اللي هيشوفك فيها ، عشان كده استعان بصاحب عمره .. أيمن .
نظرت إليه متعجبة فأومأ مؤكدا ما تفكر فيه .. لقد فاجأها قوله أن أيمن كان صديق حازم المقرب .
ـ أيمن طول عمره غاوي تصوير .. بعيدا عن شغله في إدارة الأعمال كان بيصور مناسبات وأفراح صحابه هدية منه ليهم ، والطبيعي إن أيمن كان موجود يومها لأنه كده كده كان هيشهد على عقد جوازكم .. أيمن وحازم وواحد تالت اسمه رشيد كانوا أصحاب جدا .. اتفق حازم مع أيمن ورشيد انهم هيكونوا معاه وقت ما يجيلك البيت ياخدك وبعدها هيتحركوا على المأذون فورا .. وفعلا هو كان بعربيته وهما الاتنين كانوا وراه بعربيتهم وأيمن مدور الكاميرا وبيصور من اللحظة اللي نزل فيها حازم من العربية .. وبعدها أكيد انتي عارفة اللي حصل .. وبالصدفة، أو بالأصح بمشيئة ربنا كل حاجه اتصورت يومها عشان يكون في دليل على اللي حصل .
عبست، وشعرت بشيء ما يضغط على قلبها ويعتصره بقسوة.. وسالت دمعاتها وهي تردد بلا وعي :
ـ كان المفروض هنتجوز .. كان واعدني بحاجات كتير حلوة ، ودايما كان يقوللي وانتي معايا هعوضك عن كل اللي شفتيه وعشتيه .. كنت مستنياه عشان أعيش، عشان أفرح .. أنا اتحرمت منه ومن كل حاجه حلوة بدري أوي .
بدأت تبكي واشتد بكاؤها وهي تتذكر ما حدث بعدها، حيث أنه لم يكتفِ بقتله أمام عينيها .. بل ترك لها ذكرى قاتلة لن تغادر مخيلتها أبدا ..
ـ استرجاع زمني ـ
تركهم مشغولين بدفنه وإخفاء أي أثر للجريمة ، وسحبها إلى سيارته ، جرها من شعرها بكل قسوة وأدخلها السيارة عنوة ، وانطلق متحركًا بسرعة ..
ظنت أنه سيقتلها ويخفي جثتها في مكانٍ ما ، واستسلمت لتلك الفكرة التي باتت مريحة بالنسبة لها أكثر من فكرة العيش بدون حازم ، ولكن كالعادة.. بئس العقل الذي يظن نفسه قادرًا على تخمين خطوة سالم القادمة .
رأته يتوقف أمام مكانٍ ما ، وغادر السيارة وهو يأمرها بالنزول ، فنزلت وهي تنظر حولها بخوف لتقع عيناها على لافتة أوضحت أن هذا المكان مركز خاص بطبيبة نساء !
دخل وهي برفقته ، يمسك بمعصمها بقوة ، وبدون استئذان كان قد اقتحم غرفة الفحص ممسكًا بها كالمذنبة ، ودفعها بقوة نحو سرير الفحص ثم نظر إلى الطبيبة التي وقفت مستنكرةً ما يحدث وقال بلهجةٍ آمرة :
ـ عاوز أكشف عليها ..
ونظر إلى نسيم التي انزوت حول نفسها بخوف وأخذت تنظر نحوه بعينين متسعتين وقال بنظرة يملؤها الخزي :
ـ عاوز أعرف هي لسة بنت ولا لأ !
هاجت الطبيبة وصاحت به منفعلةً :
ـ إيه التخلف اللي بتقوله ده، كلامك ده يعرضك للمساءلة القانونية لو مش عارف .
ـ بلا مساءلة قانونية بلا زفت ، اخلصي واكشفي عليها ..
رفضت وقامت بطرده، فهددها وتوعدها بأشد أنواع الوعيد إن لم تنفذ طلبه سيطالها بطشه وستجد نفسها في الشارع بعد أن يتسبب في إغلاق مركزها ، وأمام تلك الفوضى التي أحدثها وتسبب بها في المركز لم يكن أمام الطبيبة إلا أن ترضخ لرغبته وتقوم بالكشف عليها ..
فنظرت إليه وقالت بحدة:
ـ ممكن بقا تتفضل بره علشان أكشف عليها ؟!
ليجيبها الآخر بفظاظة وصرامة تُهزم دومًا تحت وطأة الجهل :
ـ مش هتحرك من هنا غير وهي معايا ، اتفضلي شوفي شغلك .
أدار ظهره إليهما ، فيما نظرت نسيم إليها وشعرت بروحها تغادر جسدها وتلك الطبيبة التي شُبهت لها بقابض الأرواح تحاول المباعدة بين قدميها بالقوة ، بينما الأخرى تصرخ وتحاول ركلها بكل ما أوتيت من قوة وهي ترجوه، تتوسله أن يتراجع، بل وتقسم له أنها لم تفعل شيئا مشينا .. ولكنه كان كالتمثال ، لا يرى، لا يسمع، لا يتكلم ..
وبعد دقائق طويلة من المعافرة نجح الأمر ، فتنهدت الطبيبة وهي تنظر إلى سالم قائلة :
ـ البنت لسه بِكر متقلقش .
ـ متأكدة ؟
تساءل بشك فصاحت به هاتفة:
ـ ايه اللي متأكدة هو أنا دكتورة نسا ولا مذيعة في التلفزيون !! اتفضل خد بنتك وامشي قبل ما تتسبب لي في مشكلة .
وساعدت نسيم التي لم تتوقف عيناها عن ذرف الدموع ، فنهضت ورتبت ملابسها وخرجت من غرفة الموت تجر قدميها بذل وهوان ..
بينما قام سالم بإخراج رزمة من النقود وألقاها على مكتب الطبيبة بصمت وهمّ بمغادرة الغرفة ولكنها استوقفته قائلة:
ـ يا ريت بعد اللي عملته فيها ده تشوف لها دكتور نفسي ..
وتمتمت بسخط واشمئزاز وهي تنظر إليه:
ـ عالم جاهلة !!
خرجا سويًا من المركز وسارا نحو السيارة ، ركبت بجواره وهي كالمغيبة، جسدًا بلا روح ، لا تستوعب ما مرت به حتى الآن ، وكتمت أنفاسها بخوف حين رأته يستدير نحوها ويسألها بنبرة قابضة:
ـ لما انتي مفرطتيش في شرفك اومال كنتي متمسكة بيه ليه وعاوزة تهربي معاه ؟! عاجبك كده يعني اللي حصل من تحت راسك ؟
أغمضت عينيها وبدأت تئن وتبكي وهي تكتم نحيبها بقوة ليهتف بقوة:
ـ من النهارده إياكي تخرجي من أوضتك ! مش عاوز أشوف وشك تاني .
ـ عودة للحاضر ـ
كانت تبكي و كتفاها يرتجفان ، وجهها يتحول إلى الحُمرة القانية وعيناها تتورمان .. وكلما تذكرت شعورها حينها تشنجت وارتسمت ملامح الذعر على وجهها..
نهض من مقعده ، وقرّبه نحوها حتى بات مجاورًا لها، ثم ـ لا إراديًا ـ تحركت يده على ظهرها في تربيتة ثابتة ، ثم ناولها كأسًا من الماء ورفعه لفمها عندما رأى ارتجافة يدها وساعدها في شربه بالكامل .
كانت تشعر بالحسرة وهي تتذكر شعورها يومها وكيف كانت تشعر وكأنها حشرة ، ولم تفلح في منع الدموع التي جاءت كفيضانٍ جامح جرف أمامه كل شيء .
بينما هو ثابتٌ أمامها، يربت على ظهرها تارة وتارة أخرى يمسح عليه برفق.. يحاول تهدئتها .
في الأساس هو يكره البكاء وبشدة ، ويكره النساء الضعيفات ، ويكره لحظات الانهيار ، ولكنه طيب بشكل فطري ، لا يحب الظلم ، ولا التجبر ، ويميل لا إراديا لأي إنسان مجروح مظلوم ، يأخذ همه على عاتقه، ويتعامل معه بشكل شخصي وكأنها مسألته هو ..
حاول جذب انتباهها إليه حيث رفع وجهها برفق لتنظر إليه بحزن وقال :
ـ اسمعيني يا نسيم..
نظرت إليه ، وحاولت قدر المستطاع تجاهل عدم الراحة التي شعرت بها إثر لمساته المفاجئة لظهرها ، ونظرت إليه لتجده يقول بتحفز :
ـ خلاص كفاية عياط.. عيطنا كتير .. اللي انتي خسرتيه انتي أكتر واحدة عارفة قيمته ، واللي أنا خسرته عارف ومتأكد أرد حقه ازاي .. خسارتنا كبيرة أنا عارف ، حازم لو كان بالنسبة لك طوق النجاة فكان بالنسبة لي كل حاجه في الدنيا .. واللي اتسبب في إني أخسر أخويا أنا مش هتهاون في عذابه .. بس لازم انتي تكوني معايا ، أنا وانتي هدفنا واحد .. ننتقم من سالم .. ولو أنا بفهم في الناس ولو شوية قد كده ..
وأشار بإصبعيه السبابة والإبهام مقربًا بينهما وتابع :
ـ فأنا متأكد إن النظرة اللي في عينيكي دي رغبة في الانتقام ..
نظر بعينيها بقوة ، بينما هي فعلت المثل ، تلاقت نظراتهما وتوهج الغضب بهما وأحدثا شراراتٍ ناقمة ، وتابع :
ـ انتقام لكل حاجه سالم سرقها منك .. مش حازم بس !
بالفعل هو سلب منها الكثير. الكثير والكثير والكثير …
جرّفها من المشاعر ، حرمها من الفرح ومن الضحكة الصافية ، سلبها حقها في العيش بحرية .. سالم هو الكابوس الذي لا ينتهي .
ـ أنا مش هكتفي باللي خدته ، أنا بقوللك عشان أكون واضح ، النار اللي في قلبي مش شوية فلوس ولا شركات اللي هيبردوها .. أنا مش بسامح يا نسيم ، ولا بنسى ، وحق أخويا هاخده كل يوم وكل لحظة ، مش مرة ولا اتنين .. حق أخويا هاخده من النفس اللي سالم بيتنفسه كل يوم ..
تلك العينين الواسعتين ، و هذين الحاجبين الداكنين يشبهان السيفين في حدته فوقهما ، رسما سويًا نظرات مخيفة للغاية .
ـ أنا وانتي أغلى حد عندنا هو حازم الله يرحمه ، دي الحقيقة الثابتة اللي لا يمكن تتغير ، وزي ما متفقين على حبه لازم نتفق على الانتقام ليه ، لأنه مكانش يستاهل أبدا النهاية دي .. حازم عمره ما أذى حد ، وكان كل همه يسعدك .. تفتكري اللي غدر بيه ميستاهلش الغدر وأشد كمان !!
رمشت وبها شيء من الخوف من قوله الأخير ، ولكن تلك النظرات المتحفزة جعلتها توميء بموافقة ، فابتلع ريقه بتحفز أكبر وسألها:
ـ معايا مش كده ؟
أومأت إيماءة مهتزة ، مترددة ، مشتتة ..
بداخلها رغبة ملحة للانتقام ، ولكن لا تعرف مِن مَن بالتحديد ، وكيف ؟
بداخلها رغبة للثوران ، للتمرد ، للانتصار !!
بداخلها بركان خامد مشحون بالحزن، بالفقد، بالقهر ، ويرغب في الانفجار ..
تنهد وقد حصل منها على الضوء الأخضر الذي سيجعله يمضي في طريقه قدمًا دون أن يستمع إلى صوت العقل أو الضمير بعد ذلك .. سينفذ كل الخطط الذي انشغل بوضعها لثمان سنوات ، لديه قائمة طويلة تشمل كل طرق الانتقام الممكنة ، سيجربها كلها ، سيستعمل كل أدواته ووسائله حتى يصل إلى نشوة الكمال .. حتى يشعر أنه قد اكتفى ، أنه حقًا انتقم ، أنه انتصر .
عادت تلك الجروح التي انبجست بعينيه تلتئم من جديد ، وهدأ واستكان ، و ربت على يدها المسنودة فوق سطح المائدة وقال :
ـ متقلقيش من أي حاجة ، أنا معاكي وكل اللي انتي عاوزاه هيحصل ، ولو كنتي بتعتبري فعلا إن حازم الله يرحمه كان سندك فمن النهاردة تقدري تعتبري إن ليكي سند بدل اللي راح ، السند ده اسمه عاصم الدالي .
وتبسم ابتسامة منكسرة ثم أضاف بقليل من المرح:
ـ طبعا فخامة الاسم تكفي .
تبسمت بدورها ، ابتسامة لا حياة فيها .. ولكن بها بعض من الامتنان ، ثم تنهدت بقليل من الراحة وقالت :
ـ شكرا يا عاصم .
أومأ ببشاشة عِوضًا عن رد الشكر ، ثم نهض وقال :
ـ هخلص اتصال مهم على ما تجهزي عشان نمشي ..
أومأت بهدوء ، فدخل غرفته وتركها بالخارج ، تفكر وتتأمل .. حدسها يخبرها أن القادم ليس سهلا .. ولكن على كل حال .. سيكون أفضل !
***
في أثينا .. بمنزل فريد الجديد .
كان قد وصل للتو بعد أن غادر الفندق ، ودخل ثم وضع حقيبته أرضًا ووقف يتأمل المكان براحة نفسية لا بأس بها .
دار في أركانه حتى يتبين نظافته التامة ، ثم فرك يديه ببعضهما بحماس والتقط حقيبته ، فتحها ثم أخرج منها عدة لوحات قام برسمها ..
الأولى كانت فيها نغم بنسختها الحزينة المنكسرة ، فقام بتعليقها على جدار بغرفة المعيشة ، والثانية كانت عبارة عن تجسيد للحلم الذي تشارك فيه هو و نغم تلك القبلة العصية عن الوصف ، فقام بتعليق اللوحة بغرفته وبالتحديد على الجدار المقابل للفراش وبجوارها اللوحة الأخيرة التي رسمها لنغم وهي تجلس على الأرجوحة بالڤيلا .
وقف يطالع اللوحات وهو يتنهد ثم غمغم قائلا بقلة حيلة :
ـ مش ممكن ، بقيت مجنون نغم!
خرج من الغرفة، وسار نحو الأريكة، جلس والتقط حاسوبه من الحقيبة وفتحه، ليتفاجأ وقد وردهُ بريدًا من من أحد أصدقاءه كان مفاده :
” مرحبا فريد، وصلني خبر تصفية شركتك بمصر، لذا أقدم لك عرضًا صادقًا لكي نعمل سويًا ، سنصبح شريكين بارعين، لدينا الكثير لنقدمه معًا . ”
أخذ ينظر إلى البريد لدقائق ويفكر بتمهل، وفي النهاية لم يصل لشيء فأغلق الحاسوب وزفر بملل ..
أسند ظهره إلى ظهر الأريكة وخلل شعره بأصابعه بيأس وانهمام ، لينتبه بعدها إلى اتصال زينب الذي فاجأه تماما ! فأجاب مسرعًا وهو يقول :
ـ ازيك يا زينب !
ـ ازيك يا فريد بيه ، أخبارك إيه ؟
ضحك ببساطة ثم قال :
ـ فريد بيه إيه بقا يا زينب ما خلاص.. أنا حاليا فريد بس ، أخبارك إيه يا زينب ؟ انبسطت جدا لما سمعت صوتك .
اهتز صوتها قليلا وقالت بتأثر :
ـ والله البيت من غيرك انت ونسيم ملوش طعم أبدا ، ومش مصبرني غير عمر .. لولا كده كنت مشيت.
ـ خلي بالك من عمر يا زينب من فضلك ، انتي عارفاه مبيعرفش يعيش من غير كوارث .
ضحكت فضحك بدوره وقال :
ـ بتكلمي نسيم ؟
ـ أيوة بكلمها وبطمن عليها وهي كويسه الحمد لله.
صمت قليلا ثم تساءل باهتمام :
ـ عاملة إيه في حياتها الجديدة ؟
ـ متقلقش يا فريد بيه ، هي بتقول إنها بخير.
تنهد مطولا ، ثم تساءل بصوت يملؤه الحنين :
ـ و نغم ؟ تعرفي عنها حاجه ؟
ـ رحت لها امبارح واديتها هدومها وحاجتها اللي كانت في الاوضه زي ما طلبت مني وقولتلها إن سالم بيه أمرنا نفضي الاوضة عشان توافق تاخدهم ..
ـ عظيم. وهي كويسة ؟ اتكلمتي معاها ؟
ـ مش كتير ، لأن حسن دخل وأنا مشيت .
تغضن جبينه متفاجئا وقال :
ـ هو حسن خرج ؟!!
تنهدت وقالت :
ـ أيوة .
ـ ازاي ده ؟! وعلى أي أساس ؟!
ـ والله يا فريد بيه مش عارفه ، أنا اتفاجئت بيه يومها .
زفر زفرةً غاضبة وقال :
ـ وعايش معاهم دلوقتي ؟ أقصد هو ونغم في نفس البيت ؟..
ـ أكيد .. أصل نغم هتروح فين ؟! بس على العموم متقلقش خالتها معاها .
أطلق ضحكة قصيرة مبتورة ساخرة ، وجود خالتها لن يقيها شر حسن ، فلطالما تواجدت خالتها طيلة تلك السنوات الماضية ، وفي النهاية النتيجة واحدة .
ـ طيب يا زينب ممكن من فضلك تكلميها دايما وتطمني عليها ؟! كل يوم لو تقدري .. وبلغيني فورا لو عرفتي انها محتاجة حاجة أو ناقصها حاجه.. لحد ما أفكر وأشوف هخرجها من بيت حسن ده ازاي .
وعدته بذلك، وأنهت الاتصال وهي تشعر بالحسرة على حاله، وحال نغم، ونسيم، وحسن.. تشعر بالشفقة عليهم بعد أن طالتهم جميعا اليد الباطشة .. يد سالم مرسال.
***
غادر عمر غرفته ومر بغرفة والدته ، دخل وجلس بجوارها حيث كانت تجلس فوق فراشها ممسكةً بالمصحف وتقرأ فيه .
توقفت عن القراءة، ووضعت المصحف بجوارها ونظرت إليه فأمسك بيدها وقبلها وهو يقول :
ـ صباح الخير يا ماما .. عاملة إية النهاردة .
أجابته وهي تمسح على ظهر كفه بهدوء وقالت :
ـ الحمد لله يا حبيبي، رايح فين ؟
تنهد وقال :
ـ والله بفكر أمُر على چيلان في الشركة .. قالتلي إنها ناوية تنزل النهارده فبقول أخد فكرة يعني وأشوف الشركات دي بيتعمل فيها إيه .
إبتسمت لطريقته المرحة وأومأت بهدوء وقالت:
ـ كويس يا حبيبي ، ربنا معاك .
أومأ ثم نظر إليها مجددا وقال بابتسامة عفوية :
ـ أنا مبسوط جدا إني شايفك بتقرأي قرآن على فكرة .. أكيد هيساعدك تبقي أحسن .
ابتسمت وإن كان بداخلها تشعر بالحرج ، فهذه هي المرة الأولى فعلا التي تلجأ فيها لقراءة القرآن ، فربتت على ذراعه وقالت بابتسامة تملؤها الدموع :
ـ ادعيلي يا عمر .. أنا بحاول أتماسك عشان خاطرك انت وچيلان بس حاسة إني مش قادرة ..
اقترب منها ومال نحوها وقبّل جبينها ، ثم ضمها إليه وهو يقول :
ـ لازم تقوي وتقوينا يا ست الكل .. اجمدي كده عشان خاطري أنا وبلاش چيچي .. چيچي ميتخافش عليها ، انما أنا ضايع ومش ناقص خسارة ..
عانقته بحنان وأخذت تمسح على شعره الكثيف كما تفعل دومًا وكأنه لا يزال طفلا ، بينما هو استكان بين ذراعيها وقال بضعف :
ـ أنا محتاجلك تقويني يا ماما .. ومحتاج أعيط ..
أغلقت عيناها بإحكام على دموعها اللعينة ، وربتت على ظهره وقالت :
ـ عيط يا عمر ..
في تلك اللحظة كان سالم قد وصل لتوه إلى الڤيلا بعد عودته من العزبة ، وكان متجهًا نحو غرفته ولكن مشهد عمر ووالدته هو ما استوقفه ، فتوقف ينظر إليهما ، حيث كانت نادية تحتضنه وهو يبكي بين ذراعيها ، بل وتأمره أن يبكي .. وهذا ما أثار سخطه وغضبه فهدر قائلا بحدة :
ـ عمر !!
فزع عمر إثر ندائه الجهوري المفاجيء ، وهبّ واقفًا وهو ينظر إليه ليراه واقفًا عند الباب، ينظر نحوهما بتجهم ثم قال :
ـ انت مش ناوي تسترجل بقا ؟! هو إيه اللي عاوز أعيط ..
ونظر إلى نادية بضيق وصاح منفعلا :
ـ وانتي .. مش ناوية تبطلي خيابة بقا ؟ هو أيه اللي عيط يا عمر ، هتفضلي لحد إمتا تعامليه على إنه عيل صغير .. انتي السبب في فشله وخيابته على فكرة .. مش ناقصني كمان غير إن يبقالي عيّل منسون بيعيط في حضن الستات !
ـ ممكن متزعقش !!!
قالها عمر بانفعال شديد ، وصاح بنبرة صوت عالية :
ـ هو انت كمان مستكتر شوية الدموع اللي بفك بيهم عن نفسي ؟! مش كفايه كل اللي احنا فيه بسببك ؟! فريد ساب البيت بسبب عمايلك ، ونسيم اتجوزت واحد مش عاوزاه بسببك ، وأنا لولا أمي وأختي كنت مشيت لأني خلاص مش طايق أقعد في البيت ده .
نظر إليه سالم بصدمة ألجمت لسانه للحظات ، لم يتوقع رد فعله ولا ما قاله ، لم يتوقع هذا الرد من عمر بالذات !! لذا نطق بحدة غاضبة :
ـ في ستين داهية ، اللي مش عاجبه البيت يتفضل ، الباب يفوت ستين جمل .
نظر إليه عمر واهتزت حدقتاه اللتان غشتهما الدموع ، ثم اقترب منه ببطء ، نادته أمه ألا يفعل ولكنه لم يأبه ، ووقف أمام سالم وقال بنبرة يسيطر عليها الحقد :
ـ تعرف ، بالرغم من اني أول ما عرفت إن حسن يبقا ابنك زعلت عشانه وعلى الظروف اللي عاش فيها .. بس بعدين فرحت له وحسيت قد إيه هو محظوظ إنه ماترباش على إيد واحد زيك ميعرفش يعني إيه رحمة !
ـ واحد زيي يا كلب !
قالها سالم وهو يهبط بكفه فوق وجنة عمر، مانحًا إياه صفعة لا تقل في قسوتها عن المئة جَلدة التي منحه إياها سابقا ، لافظًا مع تلك الصفعة كل غضبه وحنقه وكبته من الأحداث الأخيرة .
وقف عمر يطالعه للحظات، قبل أن ينسحب من الغرفة ويغادر الڤيلا بالكامل ، بينما وقف سالم ينظر نحو نادية التي كانت تنظر إليه بيأسٍ صامت، فهي لن تدخل معه في حوار عقيم لا طائل منه لأنها تعرفه جيدا ، هو من صاغ معنى ” رأس كالحجر ” منذ ولادته ، وهو من وضع قانون القسوة دون تردد .
***
قاد عمر بسيارته على أعلى سرعة وهو يرغب في ارتكاب أي حماقة علها تنجيه من غضبه المحبوس ، ولكنه ركل الفكرة من رأسه في اللحظات الأخيرة . وعندما فشل توقف بسيارته على جانب الطريق ونزل منها ، ثم استند على مقدمتها بكلتا يديه وهو يتنفس بصخب، وأنفاسه تعلو وتهبط بصوت مسموع..
كان بداخله غضبًا شديدًا لا يعرف كيف سيتخلص منه ، بالطبع لن يتصل بفريد مجددا لكي يشكو إليه ما فعله والده ، لن يحمله ضغطًا أكبر مما بداخله ، ولن يتصل بنسيم التي يكفيها ما بها، ولا چيلان لأنه يعرف حجم الوجع الكامن بقلبها، وبينما هو يفكر قفزت صورة حسن إلى عقله ، فقام بالاتصال به وهو لا يعرف السبب، ولا يعرف ماذا سيقول له ..
استمع إلى صوت حسن فقال :
ـ ألو .. أيوة يا حسن ينفع أشوفك ؟
صمت حسن لثوان، ثم تساءل بحدة :
ـ ليه ؟!
ـ معلش عاوز أتكلم معاك .
ـ خير عاوز إيه ؟
زفر عمر بضيق وقال :
ـ لما أشوفك هنتكلم يا حسن ، قوللي مكانك وأنا أجيلك .. أو تجيلي انت اللي يريحك .
ليصله صوت حسن بعد صمت وقال :
ـ ابعتلي عنوانك وأنا أجيلك ..
على الفور قام بمشاركة موقعه مع حسن ، ووقف بمكانه شاردًا، يفكر ويتساءل ولا يهتدي لإجابة .
والسؤال الأهم الذي يشغل باله .. ماذا سيقول لحسن عن سبب مهاتفته بما أنه لا يعرف لم هاتفه ؟!!
***
وصل عاصم أمام مدفن العائلة وصفّ سيارته ، ثم نزل واستدار سريعا ليساعد نسيم فترجلت وهي تحمل باقة ورد كانت قد طلبت منه شراءها في طريقهما . فأمسك بيدها وقاد خطواتها نحو الداخل .
دخلت لتغمرها حالة من الحنين ، والحزن الوفير الذي لا ينتهي . ثم انحنت وهي ترسم على ثغرها ابتسامة واهية ونثرت الورود على القبر ، ووقفا سويًا أمام قبر حازم يقرآن له الفاتحة ، وبعد أن انتهت شعر في رغبتها بالانفراد به ، فانسحب وجلس بسيارته وأخذ يطالعها من بعيد ..
تبكي بحسرة وتنتحب بقوة وكأنها لم تبكِ من قبل ، تلك الحسرة هي التي ستأجج رغبتها في الانتقام ، وتعزز لديها روح الثأر ، تلك الدموع هي من ستقف حائلا بينها وبين الغفران .
رن هاتفه ، فأجاب قائلا :
ـ نعم يا رشيد ؟
ـ لقينا طلبك يا مستر عاصم ، واتكلمت معاها وفهمتها كل حاجه وهي مستنية مكالمة مننا .
ـ تمام .. يومين أكون رتبت الموضوع وأقوللك تكلمها .. مع السلامه.
أنهى عاصم الاتصال وزفر براحة، ثم نظر إلى نسيم التي كانت تسند ظهرها إلى القبر وتبكي دون توقف ، أشاح بوجهه ونظر أمامه وهو يفكر .. هل فعل صوابًا بزواجه منها ؟! وهل سيظل معها فقط لحين إتمام انتقامه من والدها أم أنه سيحتفظ بتلك الزيجة إلى ما لا نهاية ؟!
في الواقع هو لا يملك أي خطط بخصوص زواجه من نسيم ، وهذا هو الأمر الوحيد الذي اتخذه دون تفكير مسبق ، فهو حذر جدا ولا يسير إلى الأمام خطوة إلا بخطة وخطة بديلة ، ولكن هذا الأمر بالتحديد لا يعرف كيف سيسير وإلى أي حد سيصل .
……
كان حسن قد وصل للتو إلى منزل فيفي ، أخرج المفتاح وحاول فتح الباب ولكنه لم يتمكن من فتحه ليستنتج أنها قد قامت بتغيير قفل الباب .
وقف ينظر إلى الباب وبدأ التجهم والعبوس يرتسمان على وجهه بوضوح، ثم قام بالاتصال بها ليصله صوتها الحاد وهي تقول :
ـ نعمين ؟
رفع حاجبه وقال متهكما:
ـ نعمين ؟! لا كفاية نعم واحدة بعد اللي عملتيه ده ، انتي غيرتي الكالون ليه ؟!
ـ بكيفي يا حبيبي ، بمزاجي .. دي شقتي أنا وأنا حرة أغير الكالون أغير الباب كله أنا حرة .
ـ في إيه يا فيفي مالك معووجة كده ليه ؟ طب ده أنا حتى بقالي مدة غايب يعني، يبقا ده الاستقبال اللي تستقبليني بيه ؟
ـ ولا استقبال ولا وداع يا حسن ، من الآخر كده شيل ده من ده يرتاح ده عن ده .. إنت كان قدامك فرصة تاكل الشهد لكن انت اتبطرت وخرجت أسرار شغلنا بره ، وأنا معنديش استعداد أقع وأوقع اللي معايا بسببك ..
ـ اهدي على نفسك كده واصبري ، أسرار إيه اللي خرجتها أنا مش فاهم حاجه.
ـ مش ضروري تفهم ، على العموم اللي بينا انساه ، وبما إن العصمة في ايدي فانا طلقت نفسي منك ومش عاوزة أعرفك تاني ، لأن مش فيفي الشناوي اللي تتقرطس وتتسك على قفاها ويبقالها ضُرة يا حسن يا عقرب .
قطب جبينه متعجبا ، وقبل أن يسألها عن هذا الحديث الذي تهذي به سبقته بقولها :
ـ في كيس زبالة جنب الباب متنساش تاخده وانت ماشي.
وأنهت الاتصال فجأة فأخذ حسن ينظر إلى الهاتف بيده باستغراب، لم يفهم ما قالته ولم يستطع تمريره على عقله دون التفكير به، وما توصل إليه في النهاية أن هناك سوء فهم وربما يكون أحدهم قد اخترع حكاية خيالية وأوهمها بها لكي يقصيه تماما .
أخذ يفكر مطولا إلى أن توصل إلى عدة شكوك وتخمينات، وتنهد بسخط ثم تحرك ليغادر ، وقبل أن ينصرف وقعت عيناه على كيس أسود ، على ما يبدو أنه كيس القمامة الذي ذكرته في حديثها ، ولكن طرف السروال الذي خرج من الكيس هو ما أوشى له عن محتوياته، فأمسك بالكيس وفتحه ليتفاجأ بها وقد وضعت ملابسه كلها بداخل الكيس .
ـ يا بنت الكااالب !!! … تمتم بها ساخطًا حانقًا وقد فارت الدماء بعروقه ، فركل الكيس بقدمه بغضب وانصرف متجهًا نحو العنوان الذي أرسله عمر .
بعد نصف ساعة تقريبا كان قد وصل إليه ، فرأى عمر يستند بظهره إلى سيارته السوداء الفاخرة ويقف في انتظاره .
أقبل عليه وهو يعتلي دراجته البخارية ثم توقف أمامه ، على بعد خطوات منه .. وتنهد ثم قال بنبرة لا تشي بشيء :
ـ خير .. كلمتني ليه ؟
نظر إليه عمر بتفحص ، يشعر بالانتماء إليه .. هناك صِلة بينهما وانجذابًا وتناغمًا لاحظه منذ البداية ، وبالرغم من أن البداية لم تكن مشرفة على الإطلاق ولكنه يشعر بأنه يرغب في الاستجابة لتلك الصلة التي تجمعهما والقبول بها ..
بينما وقف حسن يطالعه عن كثب ، بمنتهي التأمل .. ينظر إليه نظرة شملت كل شيء، بدايةً من شعره الناعم الكثيف المصفف بطريقة تلائم طيشه ورعونته ، مرورا بملابسه الفخمة المميزة ، و وصولا عند تلك السيارة الفارهة التي يزيد ثمنها عن المال الذي أُنفق عليه هو شخصيا طيلة سنوات حياته الثلاثة والثلاثين.
تنحنح عمر بتوتر ، ثم زفر نفسًا طويلا وقال :
ـ عادي .. عاوز أتكلم معاك شوية .
رفع حسن حاجبه وقال بنبرة يسيطر عليها الحنق :
ـ نتكلم في ايه ؟ مفيش بينا كلام .
ليجيبه الآخر بحنق مماثل :
ـ مالك واخد مني موقف ليه ؟! هو مش المفروض إحنا كنا صحاب قبل ما نكون اخوات ؟
كان يطالعه و على وجهه قناعًا خاويًا لا يمكن تفسيره ، كما لو سُرقت كل مشاعره ، ونطق متسائلا بتهكم بالغ :
ـ اخوات !! احنا مش اخوات ولا نيلة ، مفيش منه الكلام ده .
ابتسم عمر ابتسامة سخيفة ساخرة وقال :
ـ انت غريب بجد ، حد عاقل يرفض انه يبقى من عيلة زي عيلة مرسال ؟!
وأكمل بسخرية مبطنة:
ـ. و ان يكون له أب عظيم زي سالم مرسال!!
نزل حسن من فوق دراجته، وجلس عليها بأريحية فأصبح وجهه مقابلا لوجه عمر ، ثم أخرج من جيبه سيجارة وبدأ في تدخينها بيده اليمنى ، ووضع يده اليسرى في جيبه وقال متهكمًا :
ـ العظمة لله وحده يا عمورة ، وهو في أب عظيم بردو يعمل في بنته ضناه اللي أبوك عمله ده ؟! ده لو لقيها في الشارع كان هيكون أحن عليها من كده .. على العموم كل واحد بياخد نصيبه ..
نظر إليه عمر وأخذ يتدبر كلامه ، على ما يبدو قد ألمّ بتاريخ سالم مرسال كاملا وأصبح على علم بكل جبروته، ثم تساءل بنبرة يشوبها السخرية :
ـ وانت مش ناوي تنضم للعيلة بقا عشان تاخد نصيبك انت كمان !
ـ لاا .. أنا كده فل أوي ، بجملة الحرمان ، عشت طول عمري محروم من الفلوس اللي انتوا غرقانين فيها ، ومن الحنية والطبطبة اللي كانت بالنسبة لكم انت واخوك شيء عادي ، مجاتش على اسم العيلة يعني ، بناقص .
نظر إليه عمر متفاجئًا وامتدت يده تلقائيا نحو أثر صفعة والده ثم انفجر ضاحكًا بطريقة أثارت تعجب حسن وقال :
ـ حنية وطبطبة ؟! صدقني يا أبو علي انت مش فايتك كتير .
نظر إليه حسن بعدم تصديق وأخذ يطالعه بصمت إلى أن قال عمر متصنعا التعجب، مشيرا إلى السيجارة بيد حسن :
ـ إيه ده انت بقيت بخيل إمتا ؟! مش هتعزم ؟!
رمقه حسن بهدوء ، ثم هز رأسه نافيًا وقال :
ـ لأ مش هعزم ، أصلي افتقرت وبقيت أشتري سجاير فرط .
أومأ عمر وابتسم ثم قال متعمدا استفزازه :
ـ مممم.. فاهم أنا الجو ده ، هتعملي فيها بقا الأخ الكبير وخايف على صحتي و مصلحتي والكلام ده مش كده ؟!
طالعه حسن بضيق ، بالفعل هو لم يرغب في إعطائه سيجارة لأنه لم يرد تحمل ذنبه بعد أن عرف أنه أخاه ، ولكنه كذلك يرفض الاعتراف بتلك الفكرة من الأساس، لذا أخرج سيجارة من العلبة وأعطاها له وهو يقول بسخط :
ـ لا أخ كبير ولا أخ صغير ، خد سيجارة أهي انت حر في نفسك .
التقط عمر منه السيجارة واستعار قداحته حتى أشعلها ، ثم بدأا كلاهما ينفثان دخان سيجارتيهما بصمت إلى أن قطعه حسن وقال متسائلا :
ـ هو بعيدا عن أي حاجه بس في سؤال عاوز أعرف إجابته… إنت إيه اللي مشاك في السكة الشمال دي ؟! ولا الفلوس كتير ومش عارف تضيعها في إيه ؟!
وسحب نفسًا آخرا وتابع موضحًا :
ـ يعني أنا مثلا لو كنت مكانك .. عندي أب زي أبوك مش مخليني ناقصني حاجه ، واخوات مهتمين بيا ومونسيني .. وعيلة تشرف وفلوس ملهاش آخر .. تفتكر كنت همشي في السكة دي ؟! أصل اللي يلجأ للمخدرات يبقا بيهرب من حاجة مضايقاه و مسوده عيشته ، انت بقا بتهرب من إيه ؟!
ابتسم عمر ابتسامة عكست مدى سخريته وسخطه ، ثم قال وهو يلتهم السيجارة بنهم وينظر حوله بشرود :
ـ طيب ينفع أنا أسألك نفس السؤال ؟ انت بتهرب من إيه ؟! ماهو مش منطقي إن كل واحد اتولد لقى نفسه لوحده ملوش أب ولا اخوات ولا معاه فلوس إنه يمشي في السكة دي يعني ، مش مبرر إنك تبقى بلطجي وتبيع مخدرات .
تنهد حسن تنهيدة متهكمة وقال :
ـ أصلك مجربتش تعيش في الدنيا بطولك وسط بشر عاملين زي الديابة كل واحد فيهم بيفكر ينهش لحم التاني إزاي .. والمثل بيقول اللي يعاشر الديابة ميستحيش يبقا تعلب ..
ثم أضاف بمرح ساخر :
ـ بس أنا كسلت أبقا تعلب فبقيت عقرب .
سمح لضحكة قصيرة أن تغادر شفتيه فضحك عمر بدوره وقال :
ـ صحيح كان عندي فضول أعرف حكاية اسمك ده جت ازاي ؟
تنهد حسن وهو ينظر حوله بشرود ثم قال :
ـ وأنا عندي سبع سنين كنت واقف في ورشة واحد جارنا ميكانيكي ، كنت فهلوي ومش سهل حد يضحك عليا، كنت مدور له المصلحة زي الساعة واللي يحاول يستعبطني وياكل حقي أكل عينيه ، كان دايما يقوللي انت عقرب مولود و سمّك فيك .. اللي يحاول ييجي عليك تلدعه .. ومن هنا سماني حسن العقرب ، وكل الزباين والجيران عرفوني بالاسم ده وبقا اسمي الحركي .
ضحك عمر يائسًا من سخريته لكل شيء ، ثم نظر إلى جانب عنقه المرسوم عليه عقرب وقال :
ـ حلو الوشم ده على فكرة .. واضح إن انت والعقرب بقيتوا عشرة عمر .
أومأ حسن مؤكدا وقال :
ـ العقرب ده كان هدية من مسجون كان معايا في الزنزانة كان بيدق وشم وقرر يسيبلي تذكار قبل ما يخرج .
رفع عمر حاجبيه متعجبا وقال بصدمة:
ـ انت دخلت السجن ؟!
أومأ حسن مؤكدًا وقال :
ـ تلت سنين عالسريع كده وخرجت.
ـ تلت سنين وعالسريع ؟!! ده أنا قعدت اسبوع واحد في الحجز كنت حاسس إني بموت بالبطيء …
طالعهُ حسن وضحك ثم قال وهو يرمي ما تبقى من السيجارة ويدعسه بحذائه :
ـ لا أنا كل أسبوعين تلاته بحب أغير جو أروح أقعدلي يومين في التخشيبة وأخرج .. بقت بيتي التاني .
ـ هو انت دايما كل حاجه بتسخر منها كده ؟
ـ أحسن ما هي اللي تسخر مني ، خليك مفتح .
قالها وهو يغمزه بطريقة مرحة ثم اعتلى دراجته مرة أخرى وقال :
ـ كان بودّي أتكلم معاك أكتر من كده بس للأسف مفيش ورايا حاجه ومستعجل .. يلا أشوفك على خير ومش محتاج أوصيك ، في اي وقت تحتاجني اوعى تكلمني .
هز عمر رأسه يائسًا وهو يضحك ، ثم قال بصوت عال لكي يصل إلى مسامع حسن الذي انطلق بدراجته :
ـ حسن يا مرسال … هنتقابل تاني .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)