روايات

رواية محسنين الغرام الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم نعمة حسن

رواية محسنين الغرام الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم نعمة حسن

رواية محسنين الغرام الجزء الرابع والأربعون

رواية محسنين الغرام البارت الرابع والأربعون

محسنين الغرام
محسنين الغرام

رواية محسنين الغرام الحلقة الرابعة والأربعون

~ خبر عاجل !! ~
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“عاجل | تحطُّم طائرة ركّاب مصرية كانت في طريقها من مدريد إلى القاهرة.. ومصير الركاب لا يزال مجهولًا.”
لم تكمل قراءة الخبر.
عيناها علقتا عند كلمة “مدريد”، وكأن بقية الكلمات اختفت من الوجود.
تجمّدت أنفاسها في صدرها، وانسحب الدم من وجهها دفعة واحدة، شعرت بالاختناق وكأن كل الهواء انسحب من الغرفة.
قلبها هبط في صدرها، وبدأت تقرأ التفاصيل في لهفة هستيرية،:
ـ “لا توجد معلومات مؤكدة عن عدد الضحايا.. البحث لا يزال جاريًا..”
المعلومات كانت ضبابية، وتُسري الرجفة في الجسد أكثر، مما جعلها ترزح تحت وطأة الخوف وهي تحاول تهدئة جسدها الذي أخذ ينتفض بالكامل.. بقوة .
استدعت رقمه سريعا وحاولت الاتصال به، ولكن الهاتف – بطبيعة الحال – كان مغلقًا.
خطت خطوة للوراء، ثم تهاوت فجأة على طرف الأريكة، وهي تُعيد الاتصال كأن شيئًا قد يتغير…
مع أنها كانت تعرف في قرارة نفسها أن الاتصال لا يحمل أي جدوى.
فإن كان قد مات… فالهاتف لن يجيب أبدًا.
وإن كان على قيد الحياة، على متن الطائرة في الجو… فلن يكون الهاتف متاحًا أيضًا.
لكنها لم تستطع أن تتوقف.
كانت تتشبث بالأمل كما يتشبث الغريق بقشة !
انحنت بجسدها للأمام، تمسك رأسها بكلتي يديها، وكأنها تحاول أن تمنع دماغها من الانفجار من فرط التفكير…
لن تتحمل خسارة أخرى !!
لن تتحمل خسارته هو على وجه الخصوص ..
تلك المرة ستكون الضربة قاضية ومميتة !
ليس بعد أن رأت الحياة تنعكس في عينيه..
ليس بعد أن شعرت لأول مرة أن ظهرها ليس مكشوفًا للريح،
أن قلبها يمكنه أن يرتاح ولو للحظة.
ليس بعد أن تلمست بين يديه الأمان بعد سنوات من الخوف..
لن تتحمل فقده أبدًا …
أول ما فكرت فيه هو الاتصال بفريد وإخباره عله يجد حلًا يمكنها من الوصول لأي معلومة عنه ، وبينما هي تحاول كفكفة دموعها التي أعمت عينيها عن رؤية الهاتف، استمعت إلى صوت الباب وقد أُغلق !
نهضت سريعا .. وركضت تجاه الباب لتجده يقف أمامها ..
تسمرت في مكانها للحظة، وأخذت تنظر إليه وهي تشعر وكأنها غارقة في حلم طويل..
لم يعِ عقلها أنها تراه الآن أمامها، وقلبها .. كان قد سبقها إليه ..
خطت نحوه خطوات ثقيلة، مرتجفة، وكأن الأرض تميد بها.
وبدورهِ ….. دنا منها ببطء.. بخطوات رجل قد عاد وفي قلبه شوق العمر كله .
وسرعان ما هرولت إليه وعانقتهُ عناقًا قويًا لم يحظَ به من قبل .. عناقًا نابعًا من خوف الفقد، ومن عذاب الانتظار .
عناقًا كان بمثابة بعث لقلبها بعد موته أبشع ميتة بالرغم من أنها لم تتجاوز الدقيقتين .
ضمها إليه بقوة، أحاط خصرها النحيل بذراعيه وكأنه كان يتوق لتلك اللحظة منذ زمن، وكأنها وطنه بكل ما تعنيه كلمة وطن من معنى ..
حيث أنه اكتشف في عناقها معنى الدفء، والأمان، والسكينة ..
وهي.. كأنها تيبست وهي تحيط عنقه بذراعيها ، تود أن تثبت لقلبها أنه أمامها الآن بعد أن ظنت أنها فقدته للأبد .
لم تنبس بكلمة، فقط ارتجفت وهي تبكي في صمت، فابتعد عنها قليلا وأحاط وجهها بين كفيه ، وأخذ ينظر إلى عينيها وهو يسألها بقلق :
ـ مالك يا نسيم ؟ انتي كويسة ؟!
حاولت النطق ولكن الكلمات غصت بحلقها ووقفت كما الشوكة..
اكتفت بالبكاء… بكاءٍ مكتوم، منهك، وكأنها تحاول إخراج كل الدقائق الجحيمية التي عاشتها بدونه.
أغمضت عينيها بقوة، ثم، ولا إراديًا.. مالت رأسها لتستريح على كفه وقد شعرت أخيرا بالأمان، وكأن لمسة يده وحدها كانت كافية لتوقظ شعور الطمأنينة من سباته العميق .
مرر إبهامه أسفل عينيها يمسح دمعها، ثم قال بنبرة واهنة :
ـ وحشتيني ..
تغلغلت الكلمة إلى قلبها بهدوء، ففتحت عينيها ببطء، ونظرت إليه نظرة طويلة، نظرة مبلّلة بالشوق، مشبعة بالعتاب، مغسولة بالدموع… ثم، دون أن تقول شيئًا، بادرت بعناقه مرة أخرى.
لكن هذه المرة… كان العناق مختلفًا.. كان أعمق، أطول، أشد جنونًا وإلحاحًا.
أخذ ينظر إليها مندهشًا، يده على ظهرها، وعيناه تحاولان فهم سر تلك الحالة…
ما سر هذا الاحتياج العنيف؟
ما سر هذا الانصهار الهادئ؟
ما سر هذه الكتلة الجميلة من المشاعر التي التصقت به بهذا الشكل؟!
وكأنها ليست نسيم التي يعرفها… وكأن الغياب أخرج منها أنثى جديدة.. أنثى تجردت من خجلها الفطري وباتت تعترف بمشاعرها بكل حرية وتعبر عنها بكل شجاعة وإقدام .
فهمس وهو يحتضنها ويده تمسد ظهرها بحنان، وصوته يأتي عميقًا هذه المرة :
ـ متقلقنيش عليكي ، فيكي حاجة ؟!
نطقت أخيرا وهي لا زالت تحتفظ بعناقها الذي أسرى الطمأنينة في نفسها ببطء كما تتسرّب المياه في أرض عطشى، وقالت :
ـ شفت خبر ان في طيارة جاية من مدريد وقعت ومصير الركاب اللي عليها مجهول .. كنت هتجنن ، مقدرتش أتخيل إني ممكن أخسرك ، مكنتش هتحمل خسارتك أبدا يا عاصم !
تنهد ببطء.. وابتسم.
كانت ابتسامة امتنان… امتنان صادق للحظة قرّبته منها، وكشفت ما كانت تخبئه داخلها دون مقاومة.
ثم مرر يده برفق على شعرها، وصوته ناعم وهو يقول:
ـ فعلاً… أول ما خرجت من المطار عرفت بالخبر. الطيارة اللي وقعت كانت قبل رحلتي بساعتين.. أنا كنت حاجز عليها في الأول… بس غيرت رأيي في آخر لحظة.”
توسعت عيناها ببطء، وارتجفت شفتاها، لكنه أكمل:
ـ كنت بفكّر أجي على رحلة أسرع… قلت أشوف شركة طيران تانية يمكن ألاقي مكان.. مكنتش قادر أستنى أكتر… كل اللي كنت عاوزه إني أوصلك في أسرع وقت.”
نظرت إليه بدهشة، بعيون لا تزال تفيض خوفًا لم يبرد بعد، ودت أن تقول شيئا .. أي شيء .. أن تعبّر عن المزيج المعقد بين الذهول والارتياح والامتنان، لكن الكلمات خذلتها، كما لو أن اللغة ضاقت عن وصف ما تشعر به.. فتولى هو ذلك الأمر وقال :
ـ يعني تقدري تقولي كده إن شوقي ليكي أنقذني … !
وابتسم بخفة ، فابتسمت هي الأخرى ابتسامة باكية ، فيها بقايا خوف، ولكن الوجع بها قد تبدد وزال أثره.. فها هي اليد التي كانت تنتظرها عادت لتمسك بها ..
اقترب قليلًا، وعيناه ما تزالان مسمّرتين على وجهها، وكأن ملامحها هي الوجهة الوحيدة التي أرادها بعد هذا الغياب.
بينما هي كانت تقف أمامه قريبة بما يكفي لتسمع أنفاسه… وحين نظرت في عينيه شعرت بشيء لم تفهمه.
نظراته تغيّرت…. كان فيها شيء مختلف، دافئ… لكن مشبع بشيء لم تختبره من قبل.
شيء خافت، لكنه قوي، كأن فيه نداء خفيّ لا تُترجم لغته بالكلمات.
شعرت بجسدها يتوتر دون سبب واضح.. وضربات قلبها تسارعت؛ فنظرت إليه بارتباك، ثم سرعان ما تراجعت خطوة للوراء، كأنها تحاول أن تفسح لنفسها مساحة لفهم ما يحدث داخلها.
ووضعت يدها على صدرها، ثم تنفست بعمق، وقالت بصوت خافت:
ـ الحمد لله .. حمدالله على سلامتك..
ابتسم بخفة .. ورأى في ارتباكها براءة نقية ، فتقدم خطوة صغيرة، ثم بدون مقدمات.. مال نحوها، ومنح جبينها قبلة ممتنة، وقال :
ـ الله يسلمك ..
تلعثمت قليلا، ثم قالت بمحاولة لاستعادة توازنها :
ـ طيب.. على ما تاخد شاور وترتاح أكون عملت الفطار .. إيه رأيك ؟
ابتسم وقد أدرك نبرتها المرتبكة، ورغبتها في الهرب من أمامه، فقال بنبرة منفتحة أكثر :
ـ أكون ممتن جداا الصراحة .
تنفّست براحة، وأومأت سريعًا، ثم هرولت نحو المطبخ كما لو كانت تهرب من ساحة معركة، من تلك النظرات التي لا تعرف لها تفسيرًا… لكنها تعرف تمامًا ما تفعله بقلبها.
أما هو…
فوقف في مكانه ينظر في أثرها، مبتسمًا، يحاول تهدئة ضربات قلبه الجامحة.
يعرف أنها هربت من تلك اللحظة، من خضمّ مشاعر فاضت من عينيه دون سيطرة..
ولم يَلُمها.. فهو يعلم أنها ـ معه هو ـ بدأت تتشكل من جديد .
يدرك أن ارتباكها لم يكن رفضًا، بل كان ارتجافة الوعي الأولى،
التي تصيب امرأةً لم تختبر من الحب سوى صورته الطفولية، ولم تخُض من المشاعر سوى ما يشبه الاحتواء و التعلّق الآمن.
أما الآن، فثمّة شعور مختلف يتسلل إليها، شعور لا يشبه حبّها الأول البريء… بل يشبه انكشافها أمام رجل يراها كما لم يرها أحد.
༺═────────────────═༻
كانت تقف في المطبخ كمن أُلقي بها إلى ساحة حرب دون استعداد مسبق!
تنظر حولها بتيه، لا تعرف ماذا ستفعل، ولا كيف ستبدأ، كل ما تعرفه أنها الآن مضطرة لإعداد فطور مشرًف.
التقطت مريول المطبخ أولا، ارتدتهُ ثم عقدته خلف ظهرها، ومن ثم أخذت تفرك يديها بحماس قلِق..
فتحت الثلاجة ، وأخذت تخرج منها كل ما ظنت أنه يصلح لإعداد الفطور .. البيض، الجبن، شرائح اللحم البارد، المربى..
نظرت إلى ما جمعتهُ على سطح المطبخ برضا غريب، وكأنها تقول لنفسها ” ها أنا ذا.. ربة منزل محترفة ! ”
أمسكت بالمقلاة، ووضعتها على الموقد بحذر، ومن ثم التقطت بيضتين، وكسرت الأولى على طرف المقلاة ـ أو هذا ما كانت تنوي فعله ـ ولكن نصف البيضة سقط فوق سطح الموقد ، والنصف الآخر بداخل المقلاة .
حدقت بالمشهد لثوان، ولكنها لم تيأس، ولم تستسلم ، إذ أمسكت بيضة أخرى وحاولت كسرها، ولكن هذه المرة بحرصٍ شديد، لدرجة أن البيضة لم تنكسر، ظلّت تضغط بخفة، ثم أكثر قليلًا… ثم أكثر، حتى انفجرت البيضة فجأة بين يديها، وتناثر صفارها ما بين المقلاة والموقد .. و الأرض !!!
وقفت تتأمل الكارثة الجديدة بعينين نصف منهزمتين، ولكنها لم تفقد الأمل تماما، حيث كانت تملك من التصميم ما جعلها تكرر المحاولة مرة أخيرة، وكسرت البيضة الثالثة بتركيز عالي، فسقطت أخيرًا في المقلاة بنجاح شبه مبهر .
زفرت أخيرًا براحة ، والتفتت لتضع شرائح الجبن واللحم البارد في أطباق صغيرة بعناية لافتة، وكأنها تحاول أن تعوض كل ما سبق من كوارث خفية بحس جمالي خافت .
ثم التقطت سكينًا صغيرة، وبدأت بتقطيع شرائح الخيار التي لم تتشابه أي شريحة منها مع أختها، ومع ذلك، رصّتهن في الطبق بكل فخر، وأضافت شرائح من الزيتون الأسود على الجانبين وكأنها تزيّن طبقًا فاخرًا.
وبينما هي تخوض تلك المعركة حامية الوطيس، كان عاصم قد جاء ليساعدها، ولكنه توقف عند عتبة الباب متعجبًا، ينظر إلى تلك الفوضى التي أحدثتها ! حيث كانت تقف بين أطباقٍ مبعثرة، وشعرٍ منفلت من كعكته يداعب عينيها فيُربكها أكثر ويعيق حركتها .
ابتسم ابتسامة واسعة لم يستطع إخفاءها.. ثم تقدم خطوة، خطوتين، حتى صار خلفها مباشرة.
لم تنتبه لوجوده إلا حين امتدّت يده برفقٍ شديد، يزيل الخصلات المشاغبة التي انسدلت على وجهها، ثم رفعها إلى أعلى بحركة هادئة، وجمعها في كفّه، ثم فتح أحد الأدراج القريبة وأخرج منه إحدى أعواد الشوسي التي كانت قد وُضعت هناك بالصدفة.. ثم برم شعرها بخفة، وثبّته خلف رأسها بالعصا في حركة بسيطة، ثم مال قليلًا وهو يقول مبتسمًا:
ـ كده أفضل.
توقّفت نسيم عن الحركة تمامًا.
ظلّت واقفة كما هي، لا تلتفت، ولا تجرؤ حتى على التنفس بعمق.
شعرت بأنامله لا تزال قريبة، وحرارة جسده خلفها تملأ المسافة القصيرة بينهما، تسري في ظهرها كتيار دافئ، لا يُخيفها، بل يُربكها بلطافة.
لم تعتد تلك اللمسات، ولم يسبق لها أن شعرت بذلك الكمّ من الاهتمام الهادئ الذي لا يُعلن نفسه، لكنه يحاصرها بلين.
أما هو فتنهد وهو يعود خطوة للوراء، ثم قال مبتسما :
ـ ها.. أساعدك إزاي ؟!
التفتت نسيم تنظر حولها بتشتّت، تبحث عمّا تبقّى من مهام.
ثم قالت وهي ترفع الأطباق بتوتر ظاهر:
ــ أنا تقريبًا خلصت… ممكن تنقل دول ؟!
أومأ عاصم في هدوء، لكن عيناه توقفتا عند المقلاة التي ما زال البيض يرقد فيها بلا حراك.. هي أيضًا لاحظت ذلك، فاقتربت منها بعبوس حائر، وقالت:
ــ هو ليه البيض لسه ما استواش؟!
نظرت إليه فجأة، وكأنها تستنجد بنظرة صامتة، فاقترب منها بخطوات هادئة، ومال نحو الموقد، ثم مدّ يده وأدار زر الغاز، وأشعل النار وهو يتمالك ضحكةً كانت على وشك الانفجار، وقال:
ــ “يمكن… لأنك مشغّلتيش الغاز مثلا ؟”
تجمّدت للحظة، حدقت في اللهب الذي بدأ يتراقص أسفل المقلاة،
ثم وضعت يدها على جبهتها، وقالت بخجل ممتزج بالضحك:
ـ مش ممكن .. أنا فاشلة بجد… طبق بيض مش عارفة أعمله ؟!!
رمقها عاصم بنظرة جانبية، ثم اقترب منها وهو يتفحص ملامح وجهها بجرأة لم تعهدها منه من قبل، وابتسمت عيناه بمشاغبة وقال:
ـ إيه رأيك نعمل deal ؟
قطبت جبينها بتعجب وتساءلت :
ـ ازاي ؟!
فأجابها وهو ينظر بداخل عينيها بتمعن وبثبات دون أن يرف له جفن، وقال:
ـ أطبخ لك كل يوم، بس كل وجبة قصادها حضن زي اللي حصل عند الباب !
اتسعت عيناها، وتجمدت في مكانها، وأشاحت بوجهها مجددًا وقد تخضبت وجنتيها خجلا، وقالت :
ـ لأ طبعا .
ضحك، وأومأ متصنعًا الجدية :
ـ اوكي مفيش مشاكل ، بس يا ريت تحطي في اعتبارك اني من هنا ورايح مش هبقى فاضي أساعدك في المطبخ، ولازم وحتمًا ولابد أرجع من برة ألاقي الأكل جاهز و إلا مش هيحصل كويس .
رمقته بدهشة باسمة، واتسعت ابتسامتها تدريجيًا وهي تقول:
ـ ده استغلال بقى !!
أومأ ضاحكًا وقال بثقة :
ـ اعتبريه استغلال .
أشاحت بوجهها وهي تتجاهل ما قاله بدلال، بالرغم من أن ابتسامتها لم تفارق ثغرها..
وفجأة، قطع الصمت صوت طقطقة مرتفعة من المقلاة، تبعه تصاعد رائحة احتراق خفيفة…
التفت بسرعة نحو الموقد، واتسعت عيناه قائلا :
ــ يا نهار أبيض… البيض!
أسرع يرفع المقلاة عن النار، وهو يلوّح بيده في الهواء محاولًا تخفيف الدخان، بينما في الخلفية قد صدح صوت ضحكتها التي انطلقت بعفوية لذيذة جعلته يحدق فيها مأخوذًا بجمالها ورقة ضحكتها، وقال ضاحكًا، ساخرًا من نفسه:
ـ احنا أسلم حل نفطر بره بعد كده !
༺═────────────────═༻
استيقظ كلًا من عمر وحسن على صوت طرقات على باب الغرفة، فسار حسن نحو الباب بتباطؤ وفتحه فإذا به يرى حمدان يقف أمامه مبتسمًا وهو يقول :
ـ صباح الخير يا حسن بيه ؟
أجابه حسن بصوتٍ علِقت به آثار النوم قائلا :
ـ صباح الخير يا عم حمدان.
ـ الباشا بيستعجلك انت وعمر بيه علشان تسلموا على الضيوف .
ـ ضيوف مين ؟!
ـ الحاج نشأت وولاده، والحاج معروف وولاده، والحاج زين وولاده، والحاج..
قاطعه حسن وهو يتثاءب ويشير بيده مستوقفًا إياه وقال:
ـ خلاص يا عم حمدان روح واحنا جايين وراك..
أومأ حمدان موافقًا، وغادر، فدخل حسن وهو يمد ذراعيه بتكاسل، يوشك على التوجه إلى الحمام… لكن شيء ما جعله يتوقف فجأة.
التفت نحو السرير الآخر، حيث يرقد عمر بملامح ناعسة، عيناه نصف مغمضتين، وأنفاسه متثاقلة.
اقترب منه في فضول، ثم مال عليه قليلًا وهو يحدّق في وجهه، وكأنّه يريد التأكد إن كان نائمًا بعينين مفتوحتين، أو مستيقظًا بعينين مغمضتين..
مدّ يده وهزه بلطف وهو يهمس:
ــ عمر…
لم يتحرك؛ فعاد يهزه من كتفه، بنبرة أعلى قليلًا:
ــ عمر، اصحى…
فجأة فتح عمر عينيه على اتساعهما، وانتفض جالسًا كأن صاعقًا كهربائيًا مسّه، ثم قال بلهفة وارتباك:
ــ إيه، في إيه؟ نرجس ولدت؟!
حدّق فيه حسن بذهول، ثم انفجر ضاحكًا وقال:
ـ نرجس مين ؟!
ـ نرجس الفرس !!
ـ نرجس الفرس؟! انت نايم بتحلم بنرجس الفرس ؟!
نظر عمر حوله، يحاول فهم أين هو، ثم مرر يده على وجهه وقال وقد أدرك أنه قد وعى من ذلك المنام :
ـ ده حلم مهبب ..
ضحك حسن وهو ينظر إليه بتسلية وقال :
ـ قوللي، كنت بتحلم بإيه ؟
نظر إليه عمر وهو يمسح بيديه على وجهه ثم قال:
ـ حلمت يا سيدي ان نرجس بتولد ..
ـ وبعدين ؟
نظر إليه في تهكم واضح وقال:
ـ والباشا قرر إني أنا اللي هولدها !!
اتسعت عينا حسن، وارتفعت ضحكته، وسأله :
ـ و ولّدتها ؟!
ـ فضلت أقول له أنا مش دكتور يقوللي اتصرف !
قهقه حسن عاليًا وتساءل مجددا والتسلية تنفجر من وجهه:
ـ واتصرفت ؟!
ـ هعمل إيه يعني ؟! أسيبها تموت ؟!
ـ وبعدين ؟!
استطرد عمر وهو يضحك رغمًا عنه ::
ـ وبعدين بص للمهر الصغير وقال هسميه سالم على إسمي !
انفجرت الضحكة بينهما كأنها كانت حبيسة منذ زمن وخرجت بلا استئذان، فانحنى عمر إلى الأمام، يكاد يسقط من على السرير من شدة الضحك، ويداه تضربان على فخذيه وهو يلهث بين كل قهقهة وأخرى.
أما حسن، فكان يتكئ على الحائط، وقد أمال رأسه إلى الخلف،
يضحك من قلبه بصوت صافٍ، نقي، بدا كأنه لم يضحك هكذا منذ سنين.
ضحكهما لم يكن مجرد سخرية من حلم عبثي، بل كان أشبه بانفراجة مؤقتة، لحظة صغيرة استعاد فيها كلا منهما شيئًا من ذاته القديمة .
بعد دقائق، كانا قد أنهيا استعداداتهما وغادرا الغرفة، ثم نزلا عبر الممر المؤدي إلى الطابق الأرضي، يتبادلان الحديث بخفة.
وما إن وصلا إلى الاستراحة الخاصة بوالدهما، حتى خفتت نبراتهما تدريجيًا… إذ بدا واضحًا أنهما على مشارف مجلسٍ يضجّ بالهيبة والاحترام.
كانت الاستراحة فسيحة ذات نوافذ عالية مفتوحة على الحديقة، وامتلأ جوّها بصوت الأحاديث المختلطة، روائح القهوة، والتبغ الفاخر .
كان سالم يجلس في صدر المكان، يحيط به حشد من الرجال، الكبار منهم احتفظوا بهويتهم الريفية الأصيلة، يرتدون الجلابيب المكوية بعناية، تعلو رؤوس بعضهم العِمم، ووجوههم مليئة بالتجاعيد التي تحكي عمرًا من الأرض والتقاليد والحكمة.
أما الشباب، فكانت الصورة أكثر تنوّعًا، حيث أن بعضهم لا يزال متمسكًا بالجلباب التراثي، بينما ارتدى آخرون القمصان والسراويل العصرية، وكأنهم يحاولون الموازنة بين إرث آبائهم وهوية زمنهم الجديد.
ما إن لمح سالم ولدَيه، حتى أشار إليهم دون أن يقطع حديثه،
فأفسح بعض الرجال لهم المجال، فتقدما في هدوء ..
ـ في منكم كتير يعرف فريد وعمر ، لكن محدش لسه اتعرف على حسن ..
وتابع وهو ينظر إلى حسن بزهو وقال:
أقدملكم .. حسن مرسال ..
انبجست ابتسامة على وجه حسن لا إراديًا، كأنما وجد في تلك اللحظة البسيطة شيئًا من الاعتراف الضمني بانتمائه الحقيقي لهذا الجمع. ثم استمع إلى صوت والده الرصين يقول بنبرة لا تخلو من فخر:
ــ سلِّم على أعمامك يا حسن.
فنهض فورًا، بخطى واثقة، وراح يمدّ يده لكل رجل في المجلس،
مصافحًا بأدب وتوقير لا تكلّف فيه.. وفي المقابل كانوا يقفون له احترامًا وتوقيرًا .
جلس عمر بهدوء على يسار والده، ظنًّا منه أن الأمر لا يعنيه… لكن نظرة جانبية حادة من سالم كانت كفيلة بتبديد ذلك الظن، ثم تبعتها نبرة حازمة لا تقبل التراخي:
ــ إنت قاعد ليه؟! قوم سلّم على أعمامك إنت كمان.
تجمّد عمر لوهلة، كأن الكلمات باغتته، ثم نهض دون أن ينبس ببنت شفة، وتقدّم ليصافح الرجال، واحدًا تلو الآخر، وفي وجهه خيط من الحرج الصامت، امتزج برغبة دفينة في إثبات حضوره كما يجب.
نظر بعض الرجال إليه نظرة تقدير، وكأنهم يُقيّمون سلوكه كما يُقيّم القوم أصل الفَرس من خطواتها. وما إن عاد إلى مجلسه، حتى أطلق أحد الرجال تعليقًا مازحًا، مغلفًا بالانبهار، بصوت أجش:
ـ بسم الله ماشاء الله ، أدي الرجالة اللي تشرح القلب .
وسط الضحكات الودودة، والمصافحات المتبادلة، وبين كلمات الترحيب التي بدت وكأنها تُقال بحفاوة خالصة… كان حسن يجلس بثبات خارجي، لكن قلبه ينبض بإيقاع متوتر لا يراه أحد.
كان يرى نظرات خاطفة تتحرّك بين الوجوه… نظرات لم تكن عدائية، لكنها لم تكن بريئة أيضًا.. وكأن كل نظرة كانت توجه إليه سؤالا مختلفًا..
من أين ظهر هذا الابن؟ ولمَ لم نراه من قبل ؟
وكأن وجوده المفاجئ وسط هذا الجمع أيقظ فضولهم، وطرح بعقولهم تساؤلات لم يجرؤ أحد على النطق بها .
أما سالم، فكان غارقًا في مجده الآني، مبتسما بعينٍ نصف راضية ونصف متحفّظة، ولم ينبس ببنت شفة، لكن عينيه قالت ما يكفي.
عيناه كانت تنطق بالغرور والتباهي، خاصةً حين جلس وَلَداه على جانبيه، عمر إلى شماله، وحسن إلى يمينه… كأنهما جناحاه، وكأن هيبته قد اكتملت بوجودهما.
أخذ يتلقى النظرات نحوه برحابة صدر لا تخلو من زهوٍ ظاهر، فهو يدرك تمامًا كيف يطالعونه الآن، وكيف تتحرك الغيرة بصمتٍ في عيون الرجال من حوله…
يدرك كيف يتمنّى بعضهم أن يجلس مكانه، أو أن يمتلك أولاده نصف ما يمتلكه هو في هذين الفتيين من قوة حضور، وأناقة، ووقار، وامتدادٍ لاسمٍ لم يخضع قط.
هو لا يحتاج أن يتكلم كثيرًا، يكفيه أن ينظر حوله ويجدهم يُصغون، يراقبونه، يقرؤون تفاصيل وجهه كما تُقرأ صفحة التاريخ.
ذلك هو المجد بالنسبة لسالم مرسال …. أن يبقى اسمه عاليًا، أن يُذكر في المجالس لا بما فعله هو فقط، بل بما يصنعه أبناؤه أيضًا.
يدرك جيدًا أنه يحمل غرورًا متينًا لا ينفصل عن شخصيته، لكنه غرور ليس نابعًا من ثقة بلا حدود، بل من خوف دفين ورغبة مستميتة في السيطرة.
هو يؤمن أن “الاسم” هو كل شيء، وأن قوته الحقيقية تكمن في أن يكون أبًا لرجال يحملون ذلك الاسم بكل ما فيه من ثقل ومسؤولية.
لا يهم إن كان في طريقه لتحقيق هذا الحلم أصبح متسلطًا، أو متصلب الرأي، قاسي !!
لا يهم أن تتمدد تلك الفجوة بينه وبينهم وتتوسع وتتعمق، أن يخافوه أكثر مما يحبّوه، أو يصمتوا أمامه أكثر مما يحاوروه…
كل ما يهمه أن يظل اسمه حاضرًا، أن يبقى مهابًا، أن يُذكَر بتقدير في كل مجلس، وأن يُشار إلى أبنائه بفخر قائلين:
“دول ولاد سالم بيه.”
هو يظن أن تماسك العائلة يُبنى على الصرامة والهيبة، لا على الحب والفهم، ويظن أن العاطفة تُضعف، وأن اللين يهدُّ الأعمدة التي شيدها بالقوة والشقاء .
هذا هو سالم مرسال بكل بساطة .. !
أفاق من شروده عندما استمع الى صوت أحد الرجال وهو يقول متسائلا وقد نهش الفضول رأسه:
ـ والله فرحنا لما شفناك يا حسن بيه ، البلد نورت بقدومك ..
التقط سالم المغزى الخفي من السؤال، ولم يتأخر في الرد، فبادر بكامل هدوئه وثقته، وهو يُلقي بكلماته وكأنه يضع النقاط فوق الحروف، ليس فقط لطمأنة السائل… بل ليحسم كل الأسئلة التي تدور في رؤوس الآخرين، وقال بنبرة واثقة، وبنظرة ثابتة:
ـ حسن بقاله كذا سنة عايش برة مصر ، كان بيدير فرع من فروع الشركة في اليونان .
كانت كلمات سالم تُجمّله، تُصنع له صورة أمام الناس..
لكن حسن… كان يعرف جيدًا أن الصورة مزيفة، هو لا شيء مما حكاه والده ..
وانتبه حين باغتهُ رجلا آخر متسائلا :
ـ بشمهندس فريد ربنا يباركله مبيتأخرش عننا أبدا ، كتير كنا بنطلب منه خدمات لأهل البلد وخصوصا الشباب اللي بينزلوا مصر يشتغلوا ، عمره ما رد لنا طلب .. نتعشم انك انت كمان تراعي مصالح أهل بلدك يا حسن يابني وتكمل اللي بدأه أخوك البشمهندس فريد .
بدا حسن وكأنه تلقّى لكزة غير متوقعة.. وظلّ ساكنًا لبضع ثوانٍ، ثم اعتدل في جلسته، ورسم على وجهه نصف ابتسامة، وقال بنبرة مهذبة لكنها مشوبة بالتيقظ:
ـ أنا تحت أمركم في أي وقت ، ولو إن مهما عملت أكيد مش هعرف أعمل ربع اللي عمله فريد ليكم .. لكن أنا في الخدمة ، اطلبوا اللي تحتاجوه وأنا عنيا ليكم .
كان سالم يطالعه ويهزّ رأسه ببطء، في البداية بدا كأنه مجرد إيماءة عابرة..
لكن عينيه — لمن انتبه جيدًا — تراجعت عنهما حدّة الفخر الجامح،
وحلّ مكانها وميضٌ هادئ… أشبه بالرضا الخفي.
لم يقل شيئًا، كعادته حين يُعجبه أمر لكنه يرفض أن يمنحه أكثر مما يستحق؛ فهو رجلٌ تربّى على ألا يوزّع المدح مجانًا، حتى على أولاده، ولكن في سكوته هذه المرة شيء جديد… وكأن الرد فاجأه، وكأن حسن — ولو للحظة — لامس السقف العالي الذي يضعه سالم له .
ارتفع حاجبه قليلًا، انفرجت شفتاه عن ابتسامة لا تكتمل… لكنها كانت كافية لتعبر عن رضاه، ثم مال بجسده قليلًا، كأنه يحاول أن يُعلن حضوره من جديد، وقال بنبرة عميقة، ثابتة، تُجبر الجميع على الاستماع:
ـ فريد وحسن ميتخيروش عن بعض.. الاتنين دايما ايديهم ممدودة بالخير، وتأكدوا إن حتى لو فريد مشغول الفترة دي ومبقاش يزوركم زي الأول ويساعدكم ففي غيره حسن وعمر .. هما موجودين دايما ومستعدين يساعدوا .
هنا تعالت الصيحات المؤيدة من الرجال حوله :
ـ اللي خلف مماتش يا باشا..
ـ ربنا يبارك فيهم يا سالم باشا..
ـ ونعم التربية يا باشا ..
ـ هو ده سالم مرسال اللي عنيه دايما لأهله ولبلده..
كلمات، وأصوات متداخلة، كلها كانت كافية لبث الغرور والكبرياء أكثر في نفس سالم الذي انتفخ صدره كما لو كان يجلس على عرش لا ينازعه عليه أحد .
༺═────────────────═༻
في المساء ..
كانت نسيم تتمدد على الأريكة لحين عودة عاصم؛ فلقد خرج لينهي بعض المهام الطارئة وأخبرها أنه ستحدث معها حول الكثير بعد عودته .
وها هي تنتظر.. هي أيضا لديها الكثير لتسأل عنه، تود أن تعرف كل شيء عن موضوع سجنه.. والسبب وراء سفره ، وهل هناك ما يخفيه عليه بعد أم لا !!
أخذت تفكر .. لم يستوعب عقلها المشوش ما فعلته ، كيف قامت بتلك الحماقة التي ارتكبتها عندما عانقته حين عاد وكأن روحها قد ردت إليها من جديد .. !
ذلك المشهد لم يفارق خيالها ، وهي لم تسمح له بذلك .. فقررت أن تحتفظ به في مخيلتها أيامًا طويلة لكي لا يتسرب ذلك الدفء الذي حل محل عناقه من بين يديها مرة أخرى.
استمعت إلى الباب وقد أُغلق فاعتدلت بمكانها وهي تحاول أن تنحي حرجها جانبًا وكأن شيئًا لم يكن ، ونظرت نحو الباب لتجده يقبل نحوها مبتسمًا وملامحه تشي بالراحة والاسترخاء .
ـ مساء الخير..
قالها مبتسمًا، فبادلته الابتسامة بدورها وقالت:
ـ مساء النور، إيه الأخبار ؟
اقترب، وجلس بجوارها وهو يزفر بقليل من الانهمام، وأومأ بهدوء وقال :
ـ كله تمام ..
نظرت إليه بشك، وفضول، وقالت:
ـ كان في حاجة مهمة ؟!
نظر إليها بصمت، ثم تنهد وقال:
ـ أنا قررت أحول الشركات لدور أيتام بإسم حازم الله يرحمه .
صمتت قليلا، لم تجد ما تقوله، وكأن الكلمات تجمدت في حلقها.. ودار في صدرها صراعًا صامتًا..
من جهة، كانت تشعر بفرحٌ خفيّ: لأن هذا المكان سيحمل اسم الرجل الذي أحبّته بصِدق، ولأنه يستحق أن يذكره الناس بالخير، وأن يهبونه دعواتهم كل يوم ..
لأن هذا المكان سيضمُّ أطفالًا لن يذوقوا مرارة الفقد كما ذاقتها هي ذات يوم، لأنه سيكون المأوى لأطفال لم تجد ملاذًا سوى الشوارع والطرقات.
ومن جهة ثانية، تشعر بوجع واضح، لأن تلك الشركات ، أو على الأقل الشركة التي أسسها فريد بنفسها ووهبها ماله وجهده ووقته، الآن تنتزع منه إلى الأبد ..
ومن جهة أخرى، تشعر بذنب مُربك، جزء فيها يهمس أن عاصم على حق؛ أن دم أخاه استُبيح بسبب جحود ووحشية والدها.
وجزء اخر يصرخ: وما ذنب اخوتي ؟!
صمتت طويلا حتى سمع تنفسها المضطرب، فلم يشأ أن يتركها في ذلك المفترق طويلا، لذا قال:
ـ دور الأيتام دي هتكون في الظاهر باسم حازم الله يرحمه، لكن في الواقع .. الملكية الحقيقية هتكون ليكي انتي وكل شيء هيكون مثبت في أوراق رسمية إنك انتي المالكة الأصلية سواء للأرض أو المبنى أو الكيان نفسه .
لمح الاستفهام باديًا في عينيها، فقال :
ـ أنا مش عاوز شركات حد ، مش أنا اللي أبني نجاحي على تعب حد.. ولا يلزمني أي شيء خدته منهم ..
وتنهد تنهيدة متعبة ثم قال :
ـ أنا عملت كده عشان أوهم نفسي إن النار اللي جوايا هتهدى .. لكن مفيش فايدة .. مش قادر أنسى ، مش قادر أقول كفاية !
شعرت بالشفقة عليه، بقدر ما شعرت بالخوف منه !
كلامه كان يحمل الوجع، الغضب، الحقد، الحيرة والتخبط.. كلٌ على نحو متساوٍ ..
نظر إليها، وأخرج من جيب سترته الداخلي ملفًا، مدهُ في اتجاهها وهو يقول:
ـ اللي أنا عاوزه منك دلوقتي إنك هتمضي على الأوراق دي، وبكده كل شيء هيكون بإسمك، انتي أحق الناس بملكية الدور دي يا نسيم .
لم تعرف ماذا عليها أن تفعل، هل تقبل؟ أو ترفض !!
أخرج القلم من جيب سترته، ثم أعطاه إليها مبتسما وقال:
ـ يلا متضيعيش وقت، في موضوع تاني هنتكلم فيه .
نجح في إلهاءها عن هذا الأمر، فهي تتحرق فضولا واهتماما لمعرفة كل شيء عن موضوع سجنه ، لذا أخذت القلم وقامت بالتوقيع سريعا، ومن ثم نظرت إليه وقالت:
ـ موضوع إيه ؟!
ابتسم وقال :
ـ قوليلي الأول، انتي قولتيلي امبارح في التليفون إنك عاوزة تحكيلي حاجة ، إيه هي ؟!
وضعت القلم برفق فوق الطاولة المستديرة أمامها، وأخذت تفكر وتحاول صوغ ما تريد قوله.. ثم نظرت إليه أخيرا باستسلام وقالت:
ـ ابدأ انت !
نظر إليها للحظة، متأمّلًا ملامحها المترددة، وطريقتها الخجولة في الانسحاب من لحظة الاعتراف، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، خافتة، وقال بنبرة هادئة، فيها دفء وصدق:
ـ طيب .. هبدأ .
أخذ نفسًا عميقا ثم طرده على مهل وقال :
ـ فاكرة في أول جوازنا لما سألتيني ليه صبرت السنين دي كلها، واشمعنا دلوقتي بس فكرت تاخد حق أخوك ؟
غص حلقها غصّة خانقة، وأومأت أن نعم، بالرغم من أنها باتت تعرف الإجابة، ولكنها كانت تحتاج أن تسمعها منه، بصوته، بوجعه.
أخفض بصره للحظة، وكأن الذكرى نفسها كانت أثقل مما توقع، ثم عاد ينظر إليها وقال بهدوء:
ـ من ١٢ سنة تقريبا كنت لسه يعتبر مبتدأ في عالم الملاكمة، كنت متعاقد مع وكيل هنا في مصر، وبعد سنتين اكتشفت بالصدفه انه كان بيوقع بإسمي على حملات دعائية بدون اذني وبيمضي مكاني ويقبض هو مبالغ مهوله جدا .. وفي المقابل كان اللي باخده منه حرفيا شوية ملاليم .. وكان من البديهي اني لما أعرف انه بيعمل كده أطالب بفسخ العقد. وبالفعل ده اللي حصل.. بعدها بمفيش سافرت أسبانيا و تعاقدت مع وكيل هناك قوي جدا اسمه ” كلاوس رينر ” وبدأ بعدها يجيلي عروض كتير جداا وحققت نجاح كبير .. تقدري تقولي كده إن نجمي لمع في الفترة دي..
ونظر إليها وقال مبتسما :
ـ لحد كده مفهوم ؟!
أومأت بتأكيد فأومأ ثم تنهد وقال :
ـ طبعا كنت مقيم في فندق في مدريد إقامة كاملة على نفقة النادي ، ما علينا .. وقتها اتعرفت على بنت بالصدفة..
وضحك ساخرا ثم قال ؛
ـ أو أنا كنت فاكر انه بالصدفة يعني …
بدأ تركيزها يشتد، ودقاتها تتحفز أكثر لسماع ما هو قادم ، فقال :
ـ بدأنا نتعرف، ويوم بعد يوم قربنا أكتر.. أنا كنت مشدود ليها جداا، طبعا دي كانت أول تجربة ليا يعني فكنت عامل زي اللي ما صدق يعرف واحدة .. ما علينا .
تشنّجت عضلات فكها لا إراديًا، ولم تفهم تحديدًا ما الذي أثار ضيقها في كلماته…
لكن شيء داخلها انقبض، كأنها استشعرت خطرًا من ذكر تلك الغريبة.. فرمشت بعينيها سريعًا، محاولةً طرد تلك الغيمة العابرة…
لكنها لم تستطع تجاهل ذلك الوخز الغريب الذي لسع قلبها للحظة.
ـ مر ست شهور واحنا مع بعض.. وكنت بفكر جديًا أرتبط بيها ، حتى وقتها كلمت حازم عنها ، المهم، بدأت ألاحظ إن أسلوبها اتغير، بقت جريئة جدًا..كل كلامها معايا بقى داخل في سكة تانية خالص..مفيش حوار بيعدي من غير تلميح، من غير إيحاء. وزي ما كنت متوقع… في يوم صارحتني بكل بساطة إن الحب بالنسبة لها، يعني إن يحصل بينّا علاقة.
تلون وجه نسيم بحرج بالغ، وأشاحت بةجهها بعيدا عنه وهي تسأل بخوف يشوبه الحرج :
ـ وعملت كده فعلا ؟!
ضحك، كان ينتظر ذلك السؤال فعلا .. فتنهد بعمق، ثم استدار بهدوء وأسند رأسه فوق فخذيها، مغمضًا عينيه كمن أنهكته الذكرى، وكأن الكلمات أضحت أثقل من أن تُقال، وقال بصوت متهدج، أقرب للهمس:
ـ أكيد لأ يا نسيم ..
أحس بها تزفر زفرة طويلة براحة، بينما هو تابع بمرارة وهو ينظر نحو نقطةٍ وهمية تجمعت بها كل ذكريات الماضي ، ويقول :
ـ حسيت إن في حاجة غلط .. مكنتش مطمن لها ، بدأت أعيد حساباتي وأتراجع خطوة بخطوة ولما حكيت لحاتم الله يرحمه وضحلي الصورة كاملة، قاللي انها ممكن تكون مأجورة من طرف شخصٍ ما علشان تتسبب لي في فضيحة جنسية وبكده تقضي على مستقبلي كله .. وأنا اقتنعت فورا بكلامه وبعدت عنها، ولما هي لقتني ببعد ومش مستجيب للفخ اللي كانت هتوقعني فيه قررت تنصب لي فخ غيره .. علشان كده قدمت بلاغ اني حاولت أتحرش بيها .. بعدها تم استدعائي وحققوا معايا.. ولأن مكانش معاها أدلة تثبت صحة كلامها خرجت بكفالة بعد كام يوم .. لكن الموضوع موقفش لحد هنا .. الرأي العام انقلب عليا.. وبسرعة البرق اتكتب عن البلاغ اللي هي قدمته ضدي، واسمي اتصدر العناوين المهتمة بالرياضة ، وشغلي اتأثر .. الوكيل بتاعي فسخ العقد والرعاة اللي كانوا معايا انسحبوا والدنيا اتقلبت فوق دماغي .. واكتشفت بعدها إنها كانت مأجورة من الوكيل الأولاني اللي قرر يقضي على مستقبلي لأني فسخت العقد معاه وتعاقدت مع وكيل غيره!
زمت نسيم شفتيها بأسى، ولم تجد ما تقطع به مر تلك اللحظة القاسية، فقط استمعت باهتمام وهو يسرد تفاصيل تلك الفترة المأساوية في حياته مستطردًا :
ـ لكي أن تتخيلي بعد ما خسرت كل حاجه بسببها كان رد فعلي هيكون عامل ازاي !!
لم تجب ، فتابع قائلا :
ـ بعد ما نجحت في مخططها اختفت تماما.. وكل يوم كان بيعدي عليا وأنا بخسر شغل وعقود بسببها كنت بحقد عليها أكتر .. للأسف وقتها أنا كنت روحت في سكة مش اللي هي.. سهر وشرب كل يوم .. وكنت خلاص بكتب نهايتي بإيدي.. لحد ما شوفتها بالصدفة ومعاها واحد شمال شبهها .. طبعا مكنتش في وعيي واتخانقت معاهم..
واختتم آخر جزء في حكايته المأساوية بسخرية لا تتناسب مع حجم الألم فيها وقال :
ـ كلمه منه على كلمتين مني طلعت عليه القديم والجديد كله ، كنت بقالي فترة مبلعبش واتغاشمت عليه الصراحة فحصل له كسر في فقرة في العمود الفقري أدت لشلل جزئي .
ساد الصمت لوهلة، وكأن الزمن قد توقف الآن…
كانت تنظر إليه، لكن هذه المرّة بعينٍ أخرى، بعينٍ رأت الألم لا الغضب، وامتدّت يدها نحوه ببطء، مرّرت أصابعها على شعره برفقٍ حنون، وهمست بصوتٍ خافتٍ قائلة :
ـ علشان كده اتسجنت تمن سنين !!
نظر إليها متفاجئًا فأومأت وهي تقول :
ـ أنا أسفة .. أنا دخلت اوضتك وانت مسافر وشفت الملف… !
صمت للحظات ، ثم أومأ وقال :
ـ و ليه مقولتيش ؟!
ـ كنت عاوزة أعرف هتحكيلي ولا هتفضل مخبي !!
تنهد وهو يعتدل ، وجلس في مقابلها، ينظر إليها مباشرةً ويقول:
ـ أكيد كنت هقوللك ، كل الحكايه إني مكنتش حابب أفتح الموضوع غير لما أنهيه تماما.. وسفري المفاجئ لأني قدمت طلب علشان أمسح القضية دي من ملفي الجنائي وكان لازم أحضر جلسة الاستماع بنفسي ..
أومأت بتفهم، ولكن ثمة شعور بعدم الارتياح كان لازال يراودها، فنظرت إليه وقالت بهدوء:
ـ ممكن بلاش تخبي عليا حاجة تاني ؟ ممكن بلاش تسيبني لدماغي أفكر وأقول يا ترى مخبي عليا إيه ! أنا بتعب لو فضلت تحت ضغط طول الوقت.. أعصابي مبقتش متحملة أي ضغط تاني من فضلك يا عاصم !! ممكن ؟!
أومأ موافقا ، وامتدت يده ببطء وضم يدها بين كفيه، وقال بنبرة تحمل ذنبًا خفيًا:
ـ حاضر .. أوعدك مش هخبي عليكي أي حاجه تخصني أنا وانتي !
شعرت بالمراوغة فيما قاله، لكن وقبل أن تستفسر عن نواياه كان قد باغتها قائلا :
ـ طيب.. قبل ما نبدأ صفحة بيضا مع بعض.. ليه خبيتي عليا إني خرجتي قابلتي فريد!
تجمدت ملامحها، وسُحبت أنفاسها إلى صدرها دون وعي،كانت تتوقع أي شيء… إلا هذا السؤال تحديدًا.
رمشت سريعًا، كأنها تحاول استيعاب وقع كلماته، ثم سحبَت يدها من بين كفيه ببطء، وقالت بصوت خافت:
ـ ماكنتش عايزة أضايقك ! وبصراحة لو كنت رفضت كنت بردو هخرج أشوفه ، فمحبيتش يحصل صدام بينا وانت بعيد !
نظر إليها عاصم بعينين لا تخلو من العتاب، لكنه لم يكن غاضبًا…
كان كمن ينظر إلى باب قديم كُتم خلفه الكثير، وأخيرًا فُتح.. أومأ بتفهم، واحترم صراحتها، فقال ؛
ـ مكنتش همنعك، منكرش إني متضايق ، وكنت هتضايق، بس مكنتش همنعك.. انتي مش تابعة لحد .. ولازم قراراتك تاخديها بنفسك ، ميمنعش اني هحاول أساعدك وأوجهك لو شايفك هتغلطي.. لكن مليش الحق أمنعك تشوفي أخوكي.. ! كل الحكاية إني كنت محتاج أعرف، مش علشان أحاسبك، ولا أمنعك، بس علشان أحس إنك مش بتحطيني بره دواير قراراتك.
صمت لحظة، ثم أضاف بنبرة أكثر رقة:
ـ أنا مش عاوز يكون بيني وبينك غير الصراحة، حتى لو الصراحة دي هتوجع لكن لازم نقولها .. ده اللي هيخلينا نكمل وهيساعدنا نستمر .. وأنا عن نفسي .. مهما كان اللي حصل مني عمري ما هخبيه ولا هجمّله .. مش هقول غير الصراحة وبس ! اتفقنا ؟
نظرت إليه نسيم بعينين اختلط فيهما الاعتراف بالخجل، وكأن شيئًا في داخله قد نقر على وتر حساس.. وهمست بصوت واهن:
ـ اتفقنا .
ران الصمت بينهما لثوان، حاول فيها أن يكسر حالة التوتر السائدة بينهما فقال وهو يبتسم بخفة:
ـ بمناسبة قعدة الصراحة دي ..
ابتسمت بدورها فتابع:
ـ انتي فاجئتيني النهارده..
أشاحت بوجهها خجلًا، وقد أدركت تمامًا مغزى كلماته، لكنه لم يترك لها فرصة للهرب، اقترب منها خطوة أخرى، وهمس بنبرة عميقة تقطر صدقًا ودهشة:
ـ آخر حاجة كنت أتوقعها لما أرجع… إنك تستقبليني بالشكل ده.
ارتجف قلبها، واضطربت أنفاسها، وغمرها التوتر من نظراته التي لم تعهدها منه من قبل. ابتلعت ريقها بصعوبة، وقالت بتشتت:
ـ بلاش تدي الموضوع أكبر من حجمه… أنا كنت متوترة جدًا، لما قريت الخبر عقلي توقف، ولما شفتك بخير… مفكرتش. كانت لحظة فرحة وخوف و… تهور مش محسوب.
ابتسم ابتسامة ماكرة، وقال وهو يرفع حاجبه:
ـ انتي بترغي ليه كده؟
ـ نعم؟!
تراجعت خطوة بدهشة، لكنه أعاد الجملة بهدوء أكثر استفزازًا:
ـ بتبرري ليه أصلاً؟! كفاية أول كلمتين… “لحظة تهور” ..
توترت أطرافها، وشعرت بأنه يخترق بتلك النظرات كل دفاعاتها، فاستجمعت ما تبقى من تماسكها، وقالت بصوت خافت:
ـ هي فعلًا كانت لحظة تهور مش أكتر، لو…
كانت ستكمل حديثها وتخبرها أن لو كان انزعج من تهورها فهي تعتذر ، لكنها لم تكمل؛ إذ اقترب منها بخطوة مفاجئة، وأمسك بكتفيها بلطف دون أن يضغط، وقال بجرأة هادئة:
ـ طب لو تسمحيلي… فـ أنا كمان من حقي أتهور.
فاجئها بما قال ، وحبس أنفاسها داخل صدرها عندما رأته ينظر إليها بجدية ، ثم لانت ملامحه وابتسمت عينيه لها بإخلاص لم تنعم به من قبل ..
أسند كفه العريض على ظهرها وهو يقربها إليه ولثم ثغرها بقوة أخذت حدتها تخف بالتدريج إلى أن ابتعد عنها بهدوء ونظر إليها ليجدها ترمقه بنظرات يابسة .
توقف قلبها للحظة، وثانية، وثالثة، حتى توقف الهواء عن السريان في رئتيها أو الخروج منها ، يمكنها القول أن قلبها توقف تماما لدقائق طويلة، تعلق الوقت . فكرت أنها لن تعود مرة أخرى للحياة ..
وحين عاد قلبها للخفقان لم تسترخِ، ببساطة شعرت بعجز عن تحمل طرقات وحشية داخل صدرها بطريقة لم تختبرها من قبل .
رآها على تلك الحالة فانتابه القلق، واقترب منها أكثر وأخذ يدلك عنقها بأصابعه برقة ، ثم هذب شعراتها وأزاحها للخلف وأحاط وجنتيها بكفيه ثم قال :
ـ أنا آسف ليكي لو ضايقتك، بس مش آسف لنفسي لأني اتهورت.
༺═────────────────═༻

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى