رواية محسنين الغرام الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم نعمة حسن
رواية محسنين الغرام الجزء الخامس والأربعون
رواية محسنين الغرام البارت الخامس والأربعون

رواية محسنين الغرام الحلقة الخامسة والأربعون
~يا عزيزي كلنا بيادق!! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نسيــــم … هو أنا هفضل واقف ورا الباب كده كتير !! طيب افتحي وخلينا نتكلم !!
لم يصله ردها سوى بعد دقيقتين، حينها كان صوتها متهدجًا يشوبه البكاء :
ـ عاصم لو سمحت أنا مش طايقاك دلوقتي! روح على اوضتك .
ـ أروح على اوضتي ؟! طيب إيه رأيك بقا إني مش هنام غير في الأوضة دي النهارده!! افتحي يا نسيم وبلاش شغل عيال صغيرة .
ـ مش هفتح ! والله ما هفتح لو فضلت طول الليل واقف ورا الباب .. امشي ومتخلنيش أكرهك أكتر من كده .
كان حديثها ممزوجًا بالبكاء، مما أثار عاصفة جنونه وجعله يهتف بانفعال:
ـ تكرهيني ؟!
رددها باستنكار شديد، وأخذ يرغي ويزبد وقد أثارت كلمتها جدلا واسعا في قلبه، فتحدث بصوت خافت وهو يقول بدون إبداء أي رد فعل :
ـ نسيم ابعدي من ورا الباب…
استمع إليها تتسائل باستفهام :
ـ ليه ؟!
ـ نسيم ابعدي بقوللك …
بالفعل ابتعدت، فارتد عاصم خطوة للخلف، ونظر إلى الباب وكأنه عدوّ يجسّد كل المسافة بينه وبينها، ثم فجأة، ركله بقوة، فكسره دفعة واحدة، واقتحم الداخل .
نظرت إليه نسيم في ذهول وهي تقف بجوار سريرها، وتراجعت إلى الخلف خطوتين فسقطت فوق الفراش، أخذت تطالعه بخوف وهو يتقدّم نحوها بنظرات مشتعلة كالمجنون، ويقول :
ـ بتكرهيني ها … ؟؟
نهضت، وحاولت الابتعاد عنه ولكنه أمسك بذراعيها يمنعها من الحركة، وهو ينظر إليها بشر يفيض من عينيه، قائلا :
ـ بتكرهيني ؟! ردي عليا .. بتكرهيني ؟!
توترت نظراتها وحاولت أن تقطع ذلك التواصل البصري اللعين بينهما وهي تقول بتخبط:
ـ مقولتش إني بكرهك..
ـ قُلتِ.. قُلتِ امشي ومتخلنيش أكرهك أكتر من كده.. معنى كلامك انك already كرهاني ومش عاوزه الكُره ده يزيد.
أغمضت عينيها ببطء وفتحتهما مجددا، ابتلعت ريقها بارتباك وهي تقول:
ـ مش بالظبط..
ـ اومال إيه ؟!
قالها وهو يضغط على ذراعها بحدة خافتة، فنظرت إليه بغضب وقالت:
ـ هو فيه إيه بالظبط؟! هو تحقيق ولا إيه ؟! وبعدين إيه الهمجية دي؟ إزاي تكسر باب الاوضة بالشكل ده ؟
حاولت الفرار مجددا، ولكنه ثبتها بيديه وكأنه دقها في أرضها، وأجبرها على النظر إليه حين قال بلهجة حادة، صارمة:
ـ ممكن أكسر البيت كله باللي فيه لو سمعتك بتقولي الكلمة دي تاني.. متقوليش كلام انتي مش قده .
ارتفع حاجبيها بعناد أنثوي حاد، ورمقته تمامًا كما يفعل، العين في العين.. والأنفاس مضطربة، والقلب… بداخله بركان يغلي !
ـ أنا قد كلامي يا عاصم وبلاش استفزاز !
لان صوته، وهدأت حدته،.وارتخت عيناه لا إراديًا، ناظرًا نحو شفتيها اللتان ترتعشان بخفوت، وقال :
ـ كدابة ، لو بتكرهيني مكنتيش تجري عليا وتحضنيني بالشكل ده.
عاد إلى عينيها، فرآها تنظر بعيدا لئلا تواجهه بنظراتها، فتابع:
ـ هتخسري إيه لو اعترفتي انك حبيتيني يا نسيم ؟!
رأى عينيها تتسعان بدهشة، وتساءلت وكأنه رماها بذنبٍ عظيم :
ـ حبيتك ؟! انت أكيد اتجننت ! هو انت ناسي إحنا اتجوزنا ليه أصلا ؟! ناسي إنت نفسك اتجوزتني ليه وإزاي ؟! ناسي إنت عملت في اخواتي إيه ؟! ناسي إنت أخو مين ؟!
بدأت الصدمة تفترش ملامحه، والغضب يطرق صدره كوحشٍ ضارٍ، بينما هي تابعت وهي تبكي وتقول :
ـ مهما حصل، ومهما قربنا من بعض، إياك تنسى إنك أخو حازم ! حازم هو الإنسان الوحيد اللي حبيته وهفضل أحبه لحد ما أموت !
تجمّد عاصم في مكانه، وكأن كلماتها صفعت قلبه بقوة غاشمة، تقلّصت ملامحه في لحظة، تلاشت النظرة العاشقة، واحتلّت ملامحه قسوة يشوبها وجع عميق، وجع لا يعلن عن نفسه إلا على استحياء… لكنه حاضر، نابض.
ارتخت قبضتيه حول ذراعيها، وسحب يديه عنها تمامًا، ولكنه ظل واقفًا في مكانه، أمامها مباشرةً، يرمقها بنظرة طويلة، وكأنها المرة الأولى التي يراها فيها بهذا الوجه… وجه لا يحمل له سوى الاتهام والنبذ.
زفر بقوة، وأشاح بوجهه عنها للحظة، ثم عاد ينظر في عينيها قائلًا بنبرةٍ مخنوقة، ثابتة في ظاهرها، مهزوزة في أعماقها:
ـ واللي حصل من شوية؟ والكلام اللي قُلناه؟ والغيرة اللي في صوتك وانتي بتسأليني إذا كان حصل بيني وبينها حاجة ولا لأ؟ العياط الهستيري ده كان إيه ؟ وكلامك انك مش هتقدري تتحملي خسارتي؟!
توقف عن الحديث للحظة، وزفر بتخبط وضيق، ومسح على وجهه بنفاذ صبر، ثم أمسك برسغها بقوة وقال:
ـ بلاش كل ده، ليه لما قربت منك حسيت إنك بتحبيني، أي راجل في الدنيا بيقدر يميز إذا كانت مراته حابة قُربه ليها ولا لأ.. وأنا متأكد إنك عاوزاني أقرب لك زي ما أنا متأكد إنك واقفة قدامي دلوقتي.
انسابت دموعها بقلة حيلة، فأمسك بكلتا يديها مجددًا وهو يهزها برفق متسائلا بنفاذ صبر:
ـ بتهربي من مشاعرك ليــــه؟ مصممة تكدّبي احساسك بيا ليـــــــــــــــه !!
ارتجف جسدها بين يديه، وكأن كلماته نبشت كل ما كانت تحاول دفنه في أعماقها، ارتعشت شفتاها وهي تهمس بصوت مخنوق، أقرب للبكاء منه للكلام:
ـ عاصم أنا كده بخون حبي لحازم ، أرجوك افهمني !
تجرد وجهه من الملامح لوهلة، ثم ضحك ضحكة قصيرة ساخرة وهو يحاول استيعاب ما قالته، ثم قال :
ـ بتخوني حبك لحازم ؟!
أومأت فازداد وجعه، تفاقم غضبه وبلغ ذروته..
ولكنه لن يكون عاصم إن لم يظهر عكس ما يضمره، فهو يعرف جيدا أن إظهار غضبه وانفعاله لن يكون إنصافًا في حقها، يعرف جيدا أنها لازالت حبيسة الماضي، لم تتخلص منه بعد، ولن تتخلص منه بين ليلة وضحاها..
يعلم أن ما قدمه إليها حازم من حنان واحتواء وعطف هو ما يحول بينهم الآن .. هي لن تستطيع تجاوزه بسهولة طالما أنها لم ترَ منه سوء أبدًا، وستظل تعتبر أي مشاعر حب جديدة بمثابة خيانة لمشاعرها القديمة، بل وستعتبرها خيانة لشخصه أيضًا ..
بعد أن هدأ وتمالك أعصابه، رجع خطوة للوراء ونظر إليها وقال:
ـ تمام .. أنا متفهم كويس إنك مش قادرة تفهمي اللي جواكي ولا قادرة ترتبي مشاعرك ، ومش بلومك.. ولا مستني منك أي حاجه..
التفت ليغادر الغرفة، ولكنه توقف وأضاف :
ـ أنا آسف إني كنت … ‘ همجي ‘ بالشكل ده معاكي !
استعار وصفها له، وكأنه يضع خطًا أحمرًا تحت إحدى كلماتها القاسية، وغادر غرفتها متجهًا إلى غرفته، أبدل ثيابه ثم غادر المنزل على الفور .
༺═────────────────═༻
وقفت نغم أمام المكتبة تبحث عن كتابًا لتقرأه وهي في فراشها قبل أن تنام، وبعد رحلة بحث طويلة بين الأرفف استقر خيارها على رواية مترجمة للعربية تحمل اسم ‘ محكمة الأشواك والورود ‘ ، جذبها الاسم كثيرًا، لذا قررت أن تبدأ بها، وبالفعل أخذتها ودخلت غرفتها، تمددت فوق فراشها وبدأت بقراءتها..
كانت تقرأ في صمت، غارقة في عالمٍ آخر… عالم تتطاير فيه الفراشات، تلتحم فيه المشاعر وتنبض فيه الحروف.
أخذتها الكلمات، وراحت تتنقل من صفحة للثانية، ثم للعاشرة، ثم الواحدة بعد المائة..
تثائبت، وارتخى جفنيها طلبًا للنوم، ولكنها لم تكن لتتخلى عن جرعة الرومانسية الممزوجة بالغموض تلك أبدًا..
وفجأة، توقفت عند جملةٍ لم تستطع تجاوزها.
عادت تقرأها، مرة… واثنتين… وثلاثًا.
دق قلبها فجأة، وأخذت تتأملها، ثم وبدون تردد، أمسكت بهاتفها لتتصل بفريد، فإذ بها تجده يباغتها باتصاله، ابتسمت، وتألقت ابتسامتها أكثر عندما أجابت الاتصال ووجدته يقول :
ـ نغمغم حبيبتي عاملة إيه ؟!
ضحكت بخفة، وأجابته :
ـ نغمغم كانت لسه هتكلمك ..
ـ ممممم.. يبقى وفيتي بوعدك وعملتي كيكة الشوكولاته اللي ليا عندك مش كده ؟
ـ الحقيقة لأ ..
ـ كنت عارف انه لأ على فكرة .. يعوض عليا ربنا .
ضحكت فقال :
ـ إيه رأيك طيب بكرة أعزمك أنا على كيك شوكولاته حلو زيك كده ؟!
زفرت بخفة، ثم قالت:
ـ ماشي.. اتفقنا .. على العموم أنا كلمتك علشان أقولك حاجة ..
وصمتت وهي تقضم أظافرها بخجل، بينما هو قد قال:
ـ قولي يا حبيبتي.. أنا سامعك .
ازداد خجلها واتسعت ابتسامتها بشكل هيستيري، وقالت:
ـ في رواية بقرأها اسمها ‘ محكمة الأشواك والورود ‘ ..
أومأ وقال :
ـ أيوة عارفها.. مالها ؟
صمتت لحظة ثم قالت :
ـ في جملة عجبتني جداا فيها في صفحة رقم 101 ، السطر التاني..
قطب جبينه متعجبًا، ثم نهض على الفور وخرج من غرفته متجها نحو المكتبة، والتقط الرواية من الرف الخاص بالروايات التي كان قد أعدها لها سابقًا حين انتقلت للعيش بمنزله، وفتح الرواية مسرعًا، أحضر الصفحة الواحدة بعد المائة، السطر الثاني..
وبدأ يقرأ بصوت مسموع :
ـ ” أحبكَ كما أنتَ، بكل ما فيكَ، وليس هناك ذرة منكَ لا أحبها بكل ما أملك من روح.”
توقف فريد أمام الاقتباس للحظة، ونبض قلبه بحب عنيف، ثم تنهد تنهيدة مسموعة، وكأن عشقه لها بات أكبر من الكتمان، أو السيطرة عليه، وقال بفقدان صبر :
ـ نغم.. أنا عاوز أتجوزك بالكتير أوي بعد بكره ..
ابتسمت ابتسامة ناعمة، حالمة، عاشقة، وقالت:
ـ هانت يا فريد، لما تخلص موضوع شركة اليونان نبدأ نجهز للفرح .
صمت لوهلة، وكأنه استلهم من حديثها شيئا هاما فقال:
ـ نغم، إيه رأيك نعمل فرحنا هناك ؟!
ـ هناك فين ؟ في اليونان ؟
ـ أيوة، تخيلي معايا كده حفلة على البحر وفيها الناس اللي بيحبونا بس..
صمتت، فسألها :
ـ تخيلتي ولا لسه ؟
ـ بصراحة مش عارفه ، بس أنا طول عمري من وأنا لسة صغيرة كان نفسي أعمل فرح كبير.. وأعزم ناس كتير حتى لو مش عارفاهم.. وألبس فستان له ديل طويــــــــــل جدااا..
استمعت إلى ضحكاته، ثم قال بهدوء:
ـ حاضر يا روحي.. هنعمل فرح، كبيــــر، وهنعزم ناس كتيـــــــر، وهخلي أشطر مصمم أزياء يصمم لك فستان له ديل طويــــــل جدا .. أحلامك أوامر يا نغم هانم .
وتابع ضاحكا :
ـ مع ان الديل الطويل معاكي انتي بالذات خطر بس ماشي.. ربنا يستر .
ضحكت بدورها ثم قالت بحماس:
ـ وبعد ما نخلص الفرح نسافر اليونان نقضي شهر العسل هناك..
ـ نغومة انتي لو عاوزة تقضي شهر العسل في كوكب تاني أنا مستعد يا حبيبتي ، نتجوز الأول بس وهنلف العالم كله سوا إن شاء الله.
ـ إن شاء الله، أنا هقفل يلا، تصبح على خير.
ـ طول ما انتي معايا يبقى الجاي كله خير بإذن الله.. يلا يا حبيبي مع السلامه.
أنهت نغم الاتصال، واحتضنت دميتها، أغمضت عينيها، وراحت تتخيل نفسها، ترتدي فستانًا بذيلٌ طويل، ورجلها الفريد يمسك بيدها ويقود خطواتها نحو ساحة الرقص، يتشاركان رقصتهم الأولى، والحضور من حولهما يصفقون لهما ويشاركونهم لحظات لن تُمحى من الذاكرة أبدًا .
༺═────────────────═༻
كان حسن يتقلب فوق الفراش كمن يفترش الجمر من أسفله، لا يواتيه النعاس فينام، ولا يرحمه الليل بسكونه. تتزاحم الأفكار في رأسه كأسراب الغربان، ناعقة، مشؤومة، لا تدعه يهنأ بلحظة صفاء.
كلما أغمض عينيه، انفتحت داخله نوافذ من وجع، كأن ذاكرته تأبى أن تهادنه ولو لقليل..
مدّ ذراعه نحو الوسادة علّها تمنحه بعض الطمأنينة، لكن حتى ملامسها باتت كأنها صخور، وكأن كل ما حوله يبدو متآمرًا عليه هذه الليلة.
نهض مستسلمًا، ألقى نظرة على أخيه الذي يرقد في الفراش كالميت، وابتسم ساخرًا وهو يتذكره حين أخبره أنه لا يهنأ بالنوم هنا أبدا..
غادر الغرفة ، ووقف في الردهة محتارًا، ينظر نحو أبواب الغرف المغلقة التي لم يسعه عدّها، ثم نزل الدرج المؤدي لباب الخروج، وغادر السرايا متجهًا نحو الاستراحة، ولكن قدماه ساقته نحو الإسطبل .. لماذا ؟! حقًا لا يدري !
كان المكان يغطّ في صمتٍ ثقيل، لا يُسمع فيه سوى حفيف الأشجار، وصوت صرصور ليل عنيد يتحدى السكون.
دفع البوابة الخشبية، ثم دخل، ليستقبله شعور دافئ لا يعرف مصدره، ولكنه أحس بأن هذا المكان بالتحديد.. يحمل له الأمان
وقف بجوار ‘ نرجس ‘ مرر يده فوق عنقها فاقتربت منه بهدوء، فابتسم بخفة وهو يهمس قائلا :
ـ مش قولتلك شكلي هحبك يا نرجس!
مد يده نحو جيبه ليخرج علبة سجائره، ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما أدرك فداحة ما كان بصدد فعله..
نظر إلى الجوار، حيث تجمعت كومة من التبن، فجلس فوقها مستندا بظهره للباب الخشبي من خلفه، وأسند رأسه وأغمض عينيه بإرهاق شديد ، وراح يحدثها :
ـ تفتكري يا نرجس إني ممكن في يوم أجي وأعيش هنا معاكي.. قصدي معاكم ؟! بصراحة أنا مش عارف ، بين نارين .. نار اني عاجبني المكان هنا ومش عاوز أسيبك انتي واخواتك .. ونار اني عاوز أعيش مع اخواتي..
فتح عينيه ببطء، وابتسم ابتسامة شاحبة وهو يستطرد بمرارة خانقة :
ـ اخواتي مين ؟! مفيش غير عمر الغلبان اللي ماشي في ديلي زي ما أكون خلفته ونسيته ! مش عارف عاجبُه فيا إيه ده !!
وتنهد بثقل واستطرد متسائلا :
ـ إنما نسيم.. و فريد !! شكلها كده مفيش فايدة .
صهلت نرجس، وكأنها تتفاعل معه وتحدثه، فنظر إليها حسن مبتسمًا وقال :
ـ بس أنا مش لازم أيئس ، أنا لازم أثبت لهم إني شاري قربهم ، لازم يعرفوا اني مستعد أبيع الدنيا كلها عشانهم .. لازم يعرفوا كمان إني مش جاي أحاشرهم في ورث ولا غيره ، أنا كل اللي عاوزُه يبقالي أهل ، بذمتك انتي يا نرجس مش ده أبسط حقوقي؟
صهلت ثانية، فنهض ووقف أمامها، وأخذ يمسح على عنقها بحنان، فمالت بعنقها للأمام حتى لامست كتفه، وكأنها تعانقه، مما أذهله وجعله يمسح على شعرها مرارًا وهو يهمس مبتسمًا :
ـ أصيلة يا نرجس !
استمع إلى وقع أقدام يقترب منه ، فالتفت فإذ به يرى والده وهو يقترب منه حتى وقف أمامه وقال :
ـ مساء الخير يا حسن .
ـ مساء النور .
قالها حسن برفقة إيماءة صغيرة، فقال الآخر :
ـ شكلك اتعلقت بالمكان هنا .. !
نظر حسن نحو نرجس وهو يمرر يده على ظهرها برفق ويقول:
ـ مش قصة اتعلقت بالمكان .. كل الحكاية إن الواحد ساعات بيحب يحكي اللي جاي على باله، من غير ما حد يحكم عليه أو يقاطعه .. بيبقى عايز يتكلم وبس ، وهو مش شايل هم نظرة اللي قدامه هتكون عاملة ازاي .
لم يُبدِ سالم ردة فعل للحظة، ثم أومأ متفهمًا وقال:
ـ طيب ما تجرب تحكي معايا وأنا هسمعك من غير ما أحكم عليك ولا أقاطعك ..
نظر إليه حسن لوهلة، ثم ضحك ضحكة مبتورة والتفت ثانيةً نحو الخيول المتراصة بجوار بعضها، وأخذ نفسًا عميقا ثم قال :
ـ ليه قُلت إني كنت مسافر ؟! ليه مقولتش الحقيقة ؟!
ونظر إليه مباشرةً وتابع بنبرة مريرة :
ـ هي الحقيقة تعر للدرجة دي ؟!
لم يجب سالم على الفور، ظل صامتًا لحين انتهاء حسن الذي… وعلى ما يبدو أنه يحمل بداخله الكثير… وتنهد أخيرا ثم قال :
ـ أحيانًا بيكون الأفضل منقولش الحقيقة يا حسن، لأنها لو اتقالت مش هتضر غير صاحبها .
انتفض حسن، واشتعلت عيناه بالغضب الممزوج بالقهر وهو يقول:
ـ وأنا راضي بالضرر !! أمي الله يرحمها معملتش حاجة غلط ولا جابتني من الحرام عشان أتعر منها وأنكرها !!
وتابع بلومٍ قاسٍ :
ـ لما انت شايف إنها متشرفش، اتجوزتها ليه ؟!
أخفض سالم عينيه للحظة فيما يشبه الندم، وتمتم بعجز :
ـ اللي فات مات يا حسن !
حدق حسن في والده برفض، وهتف بانفجار مكتوم :
ـ لأ.. اللي فات مماتش ، اللي فات واقف قدامك أهو ، رافع عينيه في عينيك ومش عارف يرفع عينيه في الناس .. اوعى تكون فاكر إنك باللي قلته النهارده رفعت عني الحرج ، بالعكس..
رفع يده وأشار بأصبعيه، مقرّبًا بينهما بإيماءة ضيّقة تُجسّد صِغرًا مهينًا، ثم قال بصوتٍ متهدّج، كأنما ينتزع الكلمات من قلبه:
ـ انت خليتني قد كده !!
نظر إليه سالم متعجبًا، حاجباه مرفوعان، وملامحه مشدوهة، وقال:
ـ أنا ؟! وأنا لما أقول قدام الناس إنك كنت مسافر منعًا للدخول في تفاصيل ملهاش داعي أبقى كده بقلل منك ؟!
كان يظن أن التبرير كاف، أن الحجة منطقية، ولكن حسن لم يحتج إلى أكثر من لحظة واحدة ليمزّق ذلك المنطق إلى أشلاء.
رفع يده وأشار نحو صدره، وصوته خرج عميقًا، حادًا وهو يقول:
ـ أنا مش بتكلم عن الناس ! تغور الناس .. يولعوا !! أنا بتكلم عن نفسي!! انت خليتني صغير قدام نفسي ، حطيتني قدام الحقيقة اللي مفيش مفر منها ، إني مهما رُحت ولا جيت هفضل ابن الخدامة اللي مينفعش حد يعرف ان سالم باشا بجلالة قدره كان متجوزها ومخلف منها عيّلين !!
طالعهُ سالم، وقد تكدرت ملامحه، حاول أن يهدأ، لكنه لم يستطع أن يُخفي ضيقه، ولا دفاعه المستميت عن قراراته القديمة، فقال بصوت مرفوع:
ـ أنا عملت كده لمصلحتك ، الناس مبتحترمش الضعيف ولا بتعمل له قيمة ، وأهل البلد لو عرفوا إنك ابن عيشة سيرتنا هتبقى على كل لسان ، وابقى قابلني لو حد عاملك بنفس الاحترام والتقدير اللي بتتعامل بيهم دلوقتي !
رفع حسن صوته فجأة، بنبرة اختلط فيها الذهول بالقهر، وعيناه تتسعان بشراسة من فرط الغضب:
ـ ليه ؟! هي عيشة دي يهودية ؟! مش ست زي أي ست خلقها ربنا ؟! إيه يعني فقيرة ولا كانت خدامة عندكم ؟! أكم رجالة بيتجوزوا ستات مش من نفس مستواهم !! وبعدين ما هي واحدة منهم، من البلد .. ما هي الناس هنا كلها حالها واحد …
كان صوته يعلو مع كل كلمة، يقطر غضبًا، لا يطلب تفسيرًا بقدر ما يفتح جرحًا قديمًا ظلّ ينزف في صمت.
ثم توقف لحظة، وأشار نحو سالم باتهام مباشر وقال :
ـ المشكلة مش في الناس، المشكلة فيك انت! انت اللي شايفها عيبة يكون عندك إبن من الخدامة ، الخدامة اللي انت اتجوزتها في السر من ورا مراتك وضحكت عليها وعشمتها وبعد ما خدت غرضك منها خلاص بح …
وصفق بيديه بعصبية :.
ـ دورها انتهى لحد هنا وييجي غيرها ..
ارتجف صدره من فرط الانفعال، وكأن دموعه على وشك أن تفيض، لكنه ظلّ واقفًا، لا ينكسر، ينظر إلى سالم كأن النظرة وحدها محكمة، والحكم قد صدر.
ـ أنا مش هنكر أمي يا سالم باشا .. يا أعيش وأنا ابن سالم وعيشة ، يا بلاها خالص !!
وحين اقترب من بوابة الخروج، لمح الغفير العجوز “حمدان” جالسًا عند عتبة السور، مستندًا بمرفقه إلى ركبته، يحتسي الشاي في صمت ، توقّف حسن للحظة، ثم قال :
ـ بقوللك يا عم حمدان ..
نهض الآخر على الفور وهو يقول باحترام :
ـ أمرك يا حسن بيه ..
ـ المدافن من أي اتجاه ؟!
نظر إليه حمدان، وسأله متعجبًا.:
ـ المدافن ؟!!!
أومأ حسن مؤكدًا، فتابع حمدان :
ـ عاوز تروح المدافن دلوقتي ؟!
هز رأسه بتأكيد فقال الآخر :
ـ لأ يا حسن بيه مينفعش ، الدنيا ليل زي ما انت شايف وسكة المدافن مقطوعة، وبعدين الطريق هناك مش أمان أبدا ، قطاع طرق وشمامين وبلطجية ..
واقترب منه وهو يهمس بخفوت مضطرب :
ـ وبعدين بيقولوا اللي بيزور المدافن بالليل بيتأذي .. بسم الله الحفيظ.
غادرت فمه ابتسامة قصيرة ساخرة، ثم أومأ فبادره حمدان :
ـ إيه رأيك تقعد ونشرب الشاي سوا وعلى زي الفجر نروح نصلي سوا وأدلك على الطريق ، أهو يبقا الصبح شقشق والسكة بقت ونس !
رآه حسن اقتراحًا مناسبًا، وجلس إلى جوار حمدان دون أن ينبس بكلمة.
صبّ له حمدان الشاي في كوبٍ صغيرٍ ، وأعطاه له وهو يقول :
ـ قوللي يا حسن بيه !
نظر إليه حسن نظرة جانبية وقال :
ـ وأقول لك يا حسن بيه ليه ؟!
نظر إليه حمدان متفاجئّا، ثم انفجر ضاحكًا وكأنه لم يضحك منذ زمن، وقال :
ـ الله يقل همك يا حسن بيه، والله أنا من أول ما شفتك وأنا قلت إنك غير فريد بيه وعمر بيه.. تحس إنك واحد مننا كده وملكش في المنظرة والفشخرة !! يعني الواحد يحس وهو قاعد معاك كده إن البساط أحمدي .
لم يُعلّق حسن على كلمات حمدان فورًا، فقط ظلّ ينظر إليه نظرة مطوّلة، كأنّه يفتّش عن إجابة، وتسلّل شعور خفيف بالريبة إلى صدره، ثم تحوّل إلى تساؤل مضطرب، ظلّ يتردّد بداخله دون أن ينطقه: هل سبب تلك النظرة أن البساطة فطرية فيه؟ أم مفروضة؟ هل يشعر الآخرون بأنه “واحد منهم” لأنه قريب… أم لأنه لا يليق بأن يكون من غيرهم ؟!
أخرجه من شروده تساؤل حمدان الذي قال بإصرار :
ـ مقولتليش يا حسن بيه.. ألّا انت عمرك ما زرت البلد هنا ليه ؟! أنا اتفاجئت لما شُفتك مع الباشا، ولما عرفت إنك ابنه استغربت !!
شرد حسن، لم يجد ما يقوله، هل سيكرر نفس الكذبة التي اختلقها والده؟! أم سيهرب منها؟ وهل هو شجاع بدرجة كافية لكي يقول الحقيقة التي كان يناشد والده قبل قليل بقولها؟!
وبينما رأسه بين شقّي الرحى، تدور الأفكار وتعتصره المشاعر، بين خوفٍ من انكشافه، وخزيٍ من اعترافٍ متأخر، بدا كطفلٍ ضلّ الطريق، إلى أن استمع الى آذان الفجر يصدح معلنًا عن بداية جديدة، حينها انشغل حمدان عن سؤاله، ونهض وقال :
ـ بينا الأول نصلي يا حسن بيه ، وبعدين نكمل كلامنا .
~~~~~~~~~~~
غادر حسن المسجد وهو يشعر بالسكينة تغمره، فتلك هي المرة الثالثة أو الرابعة على الأكثر التي يدخل فيها مسجد على مدار سنوات حياته الثلاثة والثلاثين .
وصف له حمدان الطريق إلى المقابر ، فسار مستأنسًا بنور الصباح حتى وصل ، أخذ يمر بين شواهد القبور، حتى وصل إلى مدافن عائلة كارم ، عائلة والدته، جدته وجده وبقية أفراد العائلة ، وقف وقرأ الفاتحة بصوتٍ خافت مشوب بالرجفة، ثم جلس أرضًا وأسند ظهره إلى القبر ، وقال
ـ الله يرحمك يا جدي انت وستي، ويرحم أمي ويرحم أموات المسلمين جميعا .. أمي كانت بتقول انكم كنتوا غلابة أوي ، عشتوا غلبانين ومتوا غلبانين .. لما كانت بتحكيلي عنكم وأنا صغير كنت بقولها نفسي أزور قبرهم وأقرأ لهم الفاتحة ، كانت تسكت والدموع تخنقها وتقوللي يا ريت ينفع ..
أسند رأسه للخلف وأغمض عينيه وهو يقبض على دمعاتٍ بدأن يهددن بالانهمار وتابع :
ـ و أهو نفع يا عيشة ، مين كان يصدق أجي هنا وأقعد قدام قبرهم وأقرأ لهم الفاتحة ، يا ريتك كنتي موجودة دلوقتي يما، كانت زيارتك ليهم هتفرحك أوي ! لكن معلش.. من هنا ورايح إن شاء الله أوصل اللي انقطع، ومش هيعدي أسبوع غير لما أجي وأزورهم وأخرج صدقة عنهم وعنك يا عيشة .. الله يرحمكم جميعا.
قبل أن يغادر قام بوضع كل ما بجيبه من مال في صندوق الصدقة الموجود بالجوار، وعاد أدراجه وهو يشعر وكأنما ولد من جديد.
دخل القصر، وسار نحو الاستراحة، جلس وأرخى عضلاته وراح يتأمل حاله، كيف سيترك ذلك المكان بعد الانتماء الغريب الذي شعر به هنا ؟! وكيف له أن يبقى هنا وينعزل عن اخوته ؟! إنه الآن بين المطرقة والسندان ، بين خيارين يرى كلا منهما محببًا لقلبه .
انتفض إذا وجد يد ترتكز فوق كتفه، والتفت ليجده عمر الذي لا زالت آثار النوم باديةً عليه، وعلى صوته حين قال:
ـ كنت فين يا أبو علي ؟
زفر حسن وأجابه بهدوء:
ـ رحت صليت مع حمدان وبعدها رحت المقابر زُرت عيلة أمي الله يرحمهم جميعا .
نظر إليه عمر بهدوء ، وابتسم بود قائلا :
ـ الله يرحمهم ، تعيش وتترحم يا حبيبي .
نظر إليه حسن مبتسما، ثم نهض وسار ليجلس بجواره ، ووضع ذراعه فوق كتف عمر وهو يقول بسعادة غامرة:
ـ حبيب أخوك يا عمورة ، بصراحة ياض انت مش عارف ، انت أخو چيلان ازاي !
في تلك اللحظة كان سالم يقف خلفهم، فمن المعتاد أن يراقب شروق الشمس وهو جالس في استراحته الخاصة ، ولكنه حين أتى وجدهما يجلسان ويتجاذبان أطراف الحديث بود خالص، مما أسعده سعادةً لا مثيل لها .
ضحك عمر وقال :
ـ چيلان واخدة من ماما كتير، أنا دايما بقول عليها نادية الصواف لايت، بس صدقني لو اتعاملت معاها وقربت منها هتعرف قد إيه هي لطيفة.
رفع حسن حاجبه بشك، وتمتم مستنكرًا :
ـ لا .. المثل بيقول يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز منك عسل ، أنا كده فل أوي.. صباح الخير يا جاري انت في حالك وأنا في حالي .. أنا كل اللي عاوزه منك حاجة واحدة .
ـ أؤمرني.. عنيا طبعا ..
ـ تقرب بيني وبين نسيم !
توقف عمر عند طلبه قليلا، ثم زفر بضيق شديد وأخذ يحك جبهته بانزعاج واضح، ثم قال :
ـ نسيم…!! حسن أنا مقصر مع نسيم أوي، المفروض أحاول أكلمها أو أشوفها وأطمن عليها، أنا تقريبا من يوم ما اتجوزت معرفش عنها حاجه ، والمرة الوحيدة اللي شفتها فيها بعد جوازها من عاصم الزفت ده كانت يوم وفاة والدتك .
تذكر حسن يومها ، عندما حضرت نسيم العزاء بملابس وردية، وأغمض عينيه بإرهاق وضيق يعصفان به، ثم زفر وقال :
ـ أمي الله يرحمها وصتني أقرب منها، ومن غير وصية كمان أنا نفسي حابب إني أكلمها، وأتعرف عليها.. ونقرب من بعض، مينفعش نسيبها لوحدها كده !!
أومأ سالم بصمت يملؤه الرضا والفخر ، فحسن في كل مرة يبهره أكثر، إنه يحاول جاهدًا لكي يوطد علاقته باخوته، وهذا بكل تأكيد في مصلحة العائلة !
أومأ عمر مؤكدًا وقال مع نزعة ندم تعتريه :
ـ معاك حق جدا، أنا كمان شوية هرن لها وأطمن عليها، وأظبط معاها ميعاد علشان نتقابل كلنا ..
اتسعت ابتسامته وهو يقول بحماس:
ـ إيه رأيك ؟! أنا وانت ونسيم وكمان فريد ونغم ..
توقف حسن عند ذكر نغم ، مالت شفتيه بابتسامة يغزوها الحنين وقال :
ـ نغم !
شعر عمر برغبة ملحة في السؤال، لذا قال مترددًا :
ـ حسن.. هو انت فعلا كنت بتحب نغم ؟!
نظر إليه حسن متعجبا، وقال :
ـ كنت ؟! هو مين أصلا اللي قال لك الكلام ده ؟!
فأجابه عمر بصدق عفوي:
ـ لما انت خطفت چيلاان !! هي وقتها قالت إنك خطفتها مقابل إن فريد يرجعلك نغم !
ضحك حسن ساخرًا من حماقة وسخف ما فعل، وأومأ مؤكدًا وقال:
ـ أيوة يا عمر ، أنا كنت بحب نغم .
ـ كنت ولا زلت ؟! ولا كنت بس ؟!!
تساءل عمر بفضول واهتمام كبير، بينما تحفز سالم بشدة لسماع إجابة ابنه .
نظر حسن إلى عمر وكأنه يقيس صدق الإجابة التي سيجيبه بها، وقال :
ـ مش عارف يا عمر ، أكدب عليك لو قلت لك إني لو شفتها دلوقتي قلبي مش هيتهز ، أكدب عليك لو قلت لك إني وأنا بتكلم عليها مش حاسس إنها وحشاني ونفسي أشوفها ، أكدب عليك لو قلت لك إني لو شفتها جنب فريد مش هحقد عليه وهغير منه لأنه قدر يحببها فيه وأنا لأ .. نغم بالنسبة لي مش بنت خالتي بس يا عمر ، دي عُمر بحاله ..
وابتسم وهو يشرد بعينيه متأملا ما كان :
ـ نغم دي أنا اللي مربيها ، خالتي الله يرحمها ماتت وهي بتولدها، وجوز خالتي مات في حادثة قطر ونغم عندها سنتين ، ومن وقتها وهي معانا .. متعرفش غيرنا ، كبرت قدامي ، لعبت وضحكت وبكت وصرخت قدامي .. كنت مسؤول عنها وشايف نفسي طول الوقت إني الراجل بتاعها وهي مسؤولة مني واني أولى واحد بيها.
وقف سالم ساكنًا، كأن الزمن توقف عند تلك الكلمات التي خرجت من فم ابنه. تسللت الصدمة إلى أعماقه ببطء، وتلوّنت ملامحه بين الحيرة والخوف، وتداخلت بينهما موجات من الغضب والحزن.
الوضع لا ينذر بالخير أبدًا .. لا بد من تدخله ، لن يقف متفرجًا وولديه يتنازعان ويختصمان ويتحولان لأعداء بسبب فتاة لا تسوى بضعة قروش من وجهة نظره !!
انسحب وقد شعر بضغطه وقد ارتفع، وعاد أدراجه نحو الغرفة..
بينما ظل الأخوان يتحدثان، عمر يرمقه بشفقة، والآخر يقول بصوت مثقلا بالأسى:
ـ بس بعدين.. لما اتأكدت إنها بتحب فريد بجد مش قصة فلوس ولا لمجرد انها تهرب من عيشتنا .. بدأت أفكر بعقلي ، لقيتني غلطان .مش هنكر إني جنيت عليها كتير ، ظلمتها ووصلتها إنها كرهتني ، أنا معترف إني أذيتها.. مش كل حب ينفع يتقال عليه حب، واللي نغم شافته مني عمره ما كان ينفع يتفسر على انه حب، على عكس اللي عمله فريد علشانها .. فريد عرف يحسسها بالأمان اللي عمرها ما حست معايا ، لدرجة انه بقا كل عيلتها ..
طالعهُ عمر بنظرة يصرخ منها الوجع ممزوجًا بخوف قاتل، وقال :
ـ حسن.. انت ممكن تأذي فريد ؟!
ضحك حسن بخفة، ونظر إليه وهو يحاول إخفاء وجعه الذي مرره إليه سؤاله ، وقال :
ـ متقلقش يا عمر ، أنا مش بس عندي استعداد أشيل حب نغم من قلبي عشان خاطر فريد !! أنا عندي استعداد أشيل قلبي نفسه وأرميه بنفس راضية علشانكم .
على الفور عانقهُ عمر ، عناقًا صادقًا مشبعًا بحب أخوي فطري صادق، ربت حسن بيده على ظهر عمر بسعادة وهو يقول :
ـ ياض انتوا اخواتي .. وكل حاجه في الدنيا تتعوض إلا الأخ .
ابتعدا بعد لحظات، ونظر إليه عمر بعينين يترقرق فيهما الدمع، وأخذ يمسح الدموع التي تجمعت في زاويتي عينيه وهو يقول مازحًا، مفسدًا وطأة الموقف :
ـ ربنا يستر وميكونش أبوك شافنا، دي هربانة منه وممكن يظن فينا ظن سوء .. أصل انت متعرفش.. احنا الأحضان عندنا في العيلة عيب ، إذا كان لما شافني حاضن أمي سمعني قصيدة أد كده .. اومال لو شافنا أنا وانت واخدين بعض حضن مطارات هيعمل إيه ؟! والله ليقيم علينا الحد !
كتم حسن ضحكته بصعوبة وقال بجدية :
ـ والله انتوا ظالمين أبونا ده ، هو صحيح من برة يبان قاسي لكن من جواه فيه حنية مستخبية !
طالعه عمر باستنكار وهتف منفعلا :
ـ وسيادته مخبيها لمين ؟! هو ناوي يخلف تاني ؟! وهيفضل مخبيها لحد ما إمتا مش فاهم ؟! الواحد مننا بقا طول الباب ومشافش منه يوم يحكي عليه ، أنا مش عارف ده لما يموت هنفتكر له إيه ؟! ضرب واتضربنا ! قسوة وشبعانين منه قسوة ، ظلم وطول عمره ظالم الأحياء والأموات .. عقد نفسية والحمدلله كلنا معقدين ، البيه الكبير موسوس وعنده استعداد يقطع ايديه لو سلم على حد بيها، بيستحمى ٢٢ مرة في اليوم عشان يعرف بس يخرج يواجه العالم ويشوف شغله، والبنت الحيلة اللي مفروض تكون دلوعة أبوها كان بيعامل منصور السواق بحب عنها، وأنا والحمدلله طالع صايع ومش نافع في حاجة خالص .. بذمتك انت بعد كل اللي احنا فيه ده يبقى لزمتها إيه الحنية المستخبية ؟!
كان حسن يستمع إليه باهتمام، بداخله صراع محتدم بين الحقائق التي لا يريد مواجهتها والمشاعر التي ترفض أن تهدأ. عيناه تائهتان بين السؤال والجواب، وكأن كل كلمة من عمر تمزق جزءًا من حقيقة يحاول تجاهلها، أو تجميلها !
ـ بس .. هو مش جاحد للدرجة دي ، يمكن انتوا اللي مش قادرين تفهموه .
نظر إليه عمر وابتسم ابتسامة ساخرة وقال :
ـ حسن.. بلاش تتغر في وش الطيبة والحنان اللي بيلبسه قدامك ده، ده فخ يا معلم .
ضحك حسن بدوره وقال :
ـ فخ ازاي يعني ؟!
ـ فخ بيجيب رجليك بيه يا برو ، سالم مرسال مصلحته فوق الجميع ، فوق ولاده ذات نفسهم ، هو ومن بعده الطوفان ، وطول ما هو عامل فيها حمل وديع قدامك تأكد انه عاوز منك حاجة ، وبمجرد ما يحققها خلاص.. انت كده كارت واتحرق !!
وتابع وهو يبسط ذراعيه بطريقة مسرحية ويقول ساخرًا :
ـ يا عزيزي كلنا بيادق في إيده .. وهو الملك اللي بيحركنا على كيفه .
صمت حسن، وأخذ يحدق في الفراغ وهو يحاول استيعاب ما قاله عمر، فلاحظ عمر شروده فقال :
ـ اتفاجئت مش كده ؟! كان عندك أمل تلاقي فيه حاجة حلوة تعوضك غيابه عنك كل السنين دي، شفت بقا إني كان معايا حق لما قلت لك قبل كده إنك مش فايتك كتير .. !
تنهد حسن تنهيدة متعبة ثم قال:
ـ لأ يا عمر .. كان فايتني كتير ، كفاية قعدتنا سوا دلوقتي ، كفاية إني بقالي اخوات ، حتى لو هو مش حنين، وحتى لو مش موجود خالص بس انتوا موجودين ودي عندي بالدنيا .
ابتسم عمر، فما قاله حسن يشعره بالمسؤولية تجاهه، ولأول مرة سيكون مسؤولا عن أحد لا العكس ، سدد لكمة خفيفة نحو عضد حسن وهو يقول مبتسما:
ـ طب بقولك ايه بقى، ما تيجي ناخد لفة في البلد قبل ما الناس تصحى ؟!
أومأ حسن موافقا، وقال مرحبًا بالاقتراح :
ـ يلا بينا .
༺═────────────────═༻
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)