رواية محسنين الغرام الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم نعمة حسن
رواية محسنين الغرام الجزء الحادي والعشرون
رواية محسنين الغرام البارت الحادي والعشرون

رواية محسنين الغرام الحلقة الحادية والعشرون
ـ ٢١ ـ
~ طلقة نارية! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نسيم انتحرت !!
اختفت كل الألوان من أمامه، وسكنت كل الضوضاء وسكتت كل الأصوات..
صوت واحد كان أبيًا واستطاع الظهور للعلن، صوت ضربات قلب عنيفة.. يعقبه صوت صرخة شق جدار الماضي وعبر للحاضر الأليم.
صرخة طفل في العاشرة فقد أمه .. طفل مسكين رأى أمه غارقة وسط بِركة من الدماء..
مشهد مؤلم لم ولن يُمحى من ذاكرته، وللأسف هذا المشهد المظلم هو آخر لقاء له بها،ط وآخر عهده معها.
” انتحرت ” تلك الكلمة أعادته خمس وعشرون سنة إلى الوراء وجعلته يترنح بين زوايا الماضي الموحشة، وجعلت مذاق الألم الذي تذوقه وقتها يطفو على لسانه الآن من جديد
لم يستوعب ما قالته زينب لأول وهلة، وظل يبحث في قاموس معانِ الكلمة علّه ينجح في فهم ما تقصده، وكأن عقله قد توقف وتفكيره قد شُل فجأة.
ـ فريد.. في إيه ؟!
تساءلت نغم بتوتر وهي تنظر الى عينيه اللتان امتلأتا بالصدمة، وعندما أدركت أنه الآن شاردا في شيئا ما هزته برفق بذراعه وهي تتسائل مجددا:
ـ فريد.. انت كويس ؟!
نظر إليها فجأة، وأخذ ينظر إليها ببلاهة.. فهزت رأسها باستفهام وقالت:
ـ في إيه حصل ؟!
ـ نسيم.. نسيم انتحرت !
هالتها الصدمة، واتسعت عيناها بذهول وهي تردد:
ـ بجد ؟!
هز رأسه كالمغيّب فأدركت أنه الآن تحت تأثير الصدمة التي أخرت ظهور رد فعله، فقالت وهي تهز ذراعه مجددا بقوة لكي يفيق من تلك الصدمة وقالت:
ـ طيب اتحرك حالا.. يلا ارجع ع البيت .. اتحرك.
انتشلتهُ من أعماق صدمته وحازت على انتباهه مجددا لينظر إليها وقد وعى من صدمته أخيرا، ثم مد يده نحو محرك السيارة ثم أدارهُ وانطلق عائدًا نحو الڤيلا على الفور .
قاد على أقصى سرعة، وكانت هي تجلس بجواره تبكي بانهيار وهي تدعو الله أن يلطف بها، ومن فينة لأخرى تنظر نحوه لتجده على نفس الحالة .. الجمود والصدمة يسيطران عليه يرسمان حول ملامحه تعابيرًا مخيفة .
استطاع بعد عشر دقائق أن يصل إلى الڤيلا، وبينما هو يستعد للدخول إلى الڤيلا تفاجأ بسيارة الإسعاف وهي تخرج وصوتها يثير في نفسه اضطرابًا شديدًا .
أكمل طريقه خلف سيارة الإسعاف، وهو بداخله يشعر بأنه على حافة الجنون.. واشتعل الوسواس برأسه فجعل طاقته تنخفض تماما وتصل إلى صفر، ثم تملك منه بطريقة جعلته يخضع لطقس من طقوسه القهرية التي يكون مجبرا عليها، مسلوب الإرادة ، حين يقع تحت ضغط مشابه أو صدمة كبيرة مثل التي يعيشها الآن.
أثار تعجبها، وجعلها تنظر إليه باستغراب، وتفاقم الاستغراب وتحول إلى خوف، وهي ترى شفتيه يتحركان ويصدر عنهما صوت غريب، كأنه يقول شيئا غير مفهوم، أو يعد الأرقام بطريقة عجيبة، وللحظة خُيل لها أنه يتحدث بلغة أجنبية هي لا تفهمها..
وفجأة.. توقفت السيارة بعد أن دعس المكابح بقوة، لدرجة أنها كانت على وشك الاصطدام بلوحة القيادة..
نظرت إليه بتعجب، فرأته يهز رأسه برفض.. وابتلع ريقه بقوة، ثم أردف:
ـ لا.. مش هينفع.
تغضن جبينها وتقابلا حاجبيها كرد فعل طبيعي ناجم عن صدمتها بحالته التي تراها لأول مرة، وازدادت تجعيدة جبينها وهي تراه يغادر السيارة، ثم صفق الباب بقوة وأخذ يتحرك ذهابًا وجيئة ، ويده تضغط على جانبي عقله بتشتت.
نزلت من السيارة فورا واستدارت سريعا حتى وصلت إليه، وتوقفت أمامه وهي تتسائل :
ـ وقفت ليه ؟! يلا خلينا نتحرك ونلحقهم ..
ـ لأ.. مش هنروح.
ازدادت نظراتها ذهولا، وأخذت تحدق به وكأنها ترى أمامها شخصا غريبا عليها، تتعرف عليه لأول مرة، وتلك النظرات الحادة الغاضبة بعينيه هي ما أكدت لها شعورها.. هو ليس في حالة طبيعية أبدا.. وهنا تذكرت ما قاله له سالم عندما نعت فريد شريف بمريض نفسي !!
ابتلعت ريقها بتوجس وقالت:
ـ يعني إيه مش هنروح ؟! نسيم في المستشفى ولازم نلحقها.
ـ لأ.. مش هقدر، مش هقدر أسوق ولا هقدر أتحكم في أعصابي.. زائد إن ممكن نعمل حادثة !! ممكن خمسين حاجة تحصل .
ارتفع حاجبيها بصدمة من منطقه الأخرق !!
ـ ممكن نعمل حادثة ؟! ليه بتقدر البلا قبل وقوعه، سيبها لله وخلينا نمشي.
ـ لاا.. مش قادر. مش هينفع صدقيني.
بدا غريبا بشكلٍ أخافها، وأخذت تحدث نفسها وهي تشعر وكأنها على وشك الإصابة بالجنون هي الأخرى، ومرّنت وجهها لكي يُظهر تعبيرا هادئا وهي تنظر إليه وتقول بإلحاح متزايد:
ـ فريد إنت… إيه اللي انت بتقوله ده؟ أختك في المستشفى ولازم تكون معاها دلوقتي ، يعني إيه مش هتقدر تروح لها؟ إنت ليه بتتصرف بطريقة غريبة كده !!
أغمض عينيه وقد أخرجته من دائرة العقل إلى دائرة الجنون في لحظة، فهدر بها بصوت عنيف وهو يقول:
ـ صح.. أنا كل تصرفاتي غريبة ومريضة لأني إنسان مريض، أنا أصلا مش عارف إنتِ إيه اللي جايبك ورايا، إنتِ عايزة مني إيه بالظبط ؟! حلّي عني بقا كفاية اللي فيا !!
ـ أحلّ عنك ؟!
تساءلت بصدمة من أسلوبه الفظ الذي يعاملها به لأول مرة، فأجابها بما جعل قلبها يتهاوى نحو سابع أرض.
ـ أيوة حلّي عني ومتفضليش عايشة الدور كتير وتحسسيني إن قلبك عليا وعلى أختي أكتر مني، انتي أصلا تعرفيني منين ولا تعرفيها منين عشان تخافي عليها الخوف ده كله ؟! ولا ده تمثيل وتمهيد لخطة جديدة من خططك ؟!
ـ أنا..
ـ انتِ إيه ؟! إنتِ مين أصلا عشان تفضلي جنبي وتتعاملي معايا بالأريحية دي كلها ؟! كل ده عشان بقيت لطيف معاكي شوية وقررت أساعدك ؟ خلاص بقينا صحاب مثلا ؟! في الرايحة والجاية معايا، بتكلميني في أي وقت، بتيجي اوضتي في أي وقت.. هو ده عادي بالنسبة لك ؟ آه نسيت.. إنتي مفيش حاجة بتعمليها عادية اصلا. انتي كل تصرفاتك خارقة للعادة، هنتظر إيه من واحده رمت نفسها على واحد و باسته في وسط مالا يقل عن ١٠٠ شخص، كل ده عشان الفلوس. ومش مستبعد لو كان اتطلب منك تعملي أكتر من كده مكنتيش هتمانعي، ما انتي كل حاجة عندك عادي بقا.
بهتت ملامحها وانقطعت عنها الحياة فجأة، وأخذت تحدق فيه بصدمة شديدة جعلت الدموع تنسكب من عينيها بطريقة لاإرادية عجزت عن إيقافها، وتراجعت للخلف خطوتين وقد انغرس بداخلها نوع نادر جدا من خيبات الأمل جعل ثُقبًا لعينًا يتكون في صدرها وكأنها تلقت للتو طلقة نارية.
تلك الطلقة النارية هي كلماته التي صفعت آمالها بكل بساطة .. تلك الطلقة التي أطلقها على أحلامها البريئة التي كانت على وشك البزوغ فوأدتها ودفنتها في أرضها.
تراجعت للخلف بعيدا عنه.. كما تراجع معها كل شيء.. الأمان، اللهفة، الأمل.. وطاقة نور شحيحة كانت قد تشكلت بقلبها.. الآن فقط أُطفأت وحل محلها الظلام .
نظرت للأمام.. حيث غابت سيارة الإسعاف عن أنظارها، ثم عادت بناظريها للخلف.. حيث يقف هو يمسد شعره بيديه تارة ويمسح على ملامحه تارةً أخرى، ويدور حول نفسه بتشتت وضياع.ثم ينهار ويثور فجأة ويبدأ بركل إطارات السيارة بقوة غاضبة أفزعتها وحثت قدميها على الركض..
ركضت فعلا بعيدا عنه.. شيئا ما راودها وأخافها، حثها على تركه والفرار بعيدا عنه..
ووقف هو يصارع وسواسه، يتمنى لو أنه لمرة يتغلب عليه، كل ما يريده الآن هو فرصة لئلا يخاف، فرصة لكي ينجح في قهره كما يقهره هو كل مرة..
وفجأة وجد نفسه يبكي، عالقًا في المنتصف بين الرغبة في اللحاق بها، والذهاب لاخته، وبين الهواجس التي أكلت قلبه وأدمت روحه.
لم تتوقف عن الركض، واصلت طريقها دون توقف وكأنها تحلم، أو من الممكن أنها تتذكر اللحظات المشابهة التي عاشتها سابقا عندما كانت تركض في طريق مشابه وبمفردها .. ولأول مرة لم تشعر بالخوف، شعور هي نفسها لم تجد له تفسيرا منطقيا.. سوى أنها تهرب من خيبة أملها فيه.. وليس من شيء آخر .
***
توقفت سيارة الإسعاف أمام المشفى وأسرع المسعفون بفتح الباب وحمل السرير النقال الموضوع فوقه نسيم، ثم قاموا بنقلها إلى داخل المشفى حيث غرفة العمليات على الفور.
وفي نفس الوقت توقفت سيارة سالم الذي فتح باب السيارة بقوة وترجل منها مسرعا، ثم لحق بهم إلى الداخل بخطوات واسعة، يتبعه حارسه الشخصي منصور ، وزينب التي أصرت على الذهاب معهم.
وبعدها ظهرت سيارة جيلان التي لحقت بهم على الفور وخلال الطريق لم تتوقف عن الاتصال بفريد وعمر اللذان لم يجب أيًا منهما.
تجمعوا أمام غرفة العمليات والكل في حالة بائسة، وعلى رأسهم سالم الذي بدا وجهه متجهمًا خاليًا من كل التعبيرات عدا الصدمة التي تركت في عينيه نظرة قاسية.
هرع الأطباء وطاقم التمريض إلى غرفة العمليات، ووقفوا هم في انتظار أي خبر من داخل الغرفة، والأمنيات والدعوات تتقاطع مع أنين البكاء والانهيار الصامت.. إلى أن وصل إليهم عامل الاستقبال راغبا في اصطحاب أحدا من أسرة المصابة لاستكمال البيانات المطلوبة، وأهمها.. كيف وقع الحادث ؟! هل محاولة انتحار أم عن طريق الخطأ .
ـ لو سمحتوا حد من أهل المريضة يتفضل معايا عشان نكمل البيانات المطلوبة عشان إدارة المستشفى تبلغ الشرطة .
ذهبت معه چيلان نظرا لأن حالة سالم لا تسمح لأي استجواب نهائي، وفي طريقها التقت بنغم التي دخلت المشفى للتو وهي تلهث، وأنفاسها المتلاحقة تخبرها عن المسافة الطويلة التي قطعتها ركضًا.. ثم توقفت أمام چيلان وسألتها :
ـ نسيم فين ؟!
نظرت إليها چيلان بتفحص للحظات، ونظرت للخارج حيث ممر الدخول وهي تنتظر أن يدخل فريد ولكنها لم تره فقالت:
ـ في الدور الأول.
تخطتها نغم سريعا ولكن سؤال چيلان هو ما استوقفها حيث قالت:
ـ فين فريد ؟!
أصابها السؤال بنغزة شديدة في قلبها، فأغمضت عينيها بألم، ولم تستطع ابتلاع الغصة بحلقها، فهتفت بحدة:
ـ معرفش.
تعجبت چيلان تلك النبرة الحادة، وفي نفس الوقت راقتها، فعلى ما يبدو أن مخطط سالم قد فشل ولا سبيل بينهما لتحقيق ما يسعى إليه.
ـ استرجاع زمني قصير ، تحديدا بعد منتصف الليلة الماضية ـ
كانت چيلان بصدد التوجه إلى حديقة الڤيلا بعدما شعرت بالاختناق بغرفتها وقررت الخروج لشم بعض الهواء ، وإذ بها تخطو نحو الخارج استوقفها صوت سالم النابع من غرفة نغم، فتوقفت وألصقت أذناها بالباب لكي ترهف السمع ، فسمعت كلمات متداخلة كان أبرزها جملة صدمتها وجمدت الدم بعروقها..
” ولو موافقتيش تتجوزي فريد، اعتبري نفسك في السجن ”
وبعدها استمعت لوقع خطواته يقترب من الباب فركضت نحو الخارج سريعا، قبل أن يكتشف وجودها ويعرف أنها استمعت إلى حوارهما الذي من الواضح أنه شديد الأهمية، وعليها أن تعرفه كاملا في أقرب فرصة.
***
كان سالم يجلس على إحدى مقاعد الانتظار بالرواق المؤدي لغرفة العمليات، شاردًا نحو نقطة وهمية، يفكر فيما فعله، وما آلت إليه الأمور ، ولأول مرة يشعر بأنه خائفا.. ولكنه غير قادر على تحديد مصدر ذلك الخوف بالتحديد.
هل هو خائف من خسارة ابنته ؟! هذا أمر لا يقبل الشك.
هل هو خائف من تأنيب الضمير مجددا بعد أن عاش نفس الألم الذي سبق وعاشه حين أنهت ناهد حياتها ؟! هذا أيضا أمر لا يقبل الشك.
يا إلهي.. الأيام تعيد نفسها ولكن بعواقب أسوأ ، والدائرة ها قد دارت عليه مرتين لتمنحه درسًا قاسيًا، وتطبيقًا فعليًا لتلك المقولة التي تقول أن الصفعة التي لا نتعلم منها، نستحقها مرة أخرى .
ولكن.. هل يعقل أن يواجه نفس المصير مجددا؟ أن يفقد ابنته بنفس الطريقة التي فقد بها زوجته والمرأة الوحيدة من بين اللواتي عرفهن التي استطاعت أن تستحوذ ولو على جزء صغير من قلبه !!
لا يظنه قادرًا على ذلك. بالرغم من أنه لا يملك نفس العاطفة التي يمتلكها أي أب، ولكنه يثق أنه لن يتحمل خسارة ابنته، حتى ولو كان يعاملها بقسوة، حتى ولو كان يراها ” بذرة نزوة عابرة ” كما هو مقتنع، ولكنها تبقى ابنته التي مهما سعى لفرض سيطرته وجبروته عليها إلا أنه لن يتحمل فقدانها أبدا .
” يا رب ”
قالها برجاء صادق وهو يسند جبهته بين يديه، ليجذبه فجأة صوت الجلبة التي أحدثها عمر فور وصوله عندما هتف متسائلا:
ـ نسيم مالها؟ إيه اللي حصل ؟!
طالعه سالم بزاوية عينيه، ولم ينطق، فتوجه عمر نحو زينب التي تقف باكيةً وتساءل:
ـ ايه اللي حصل يا زينب؟ يعني ايه نسيم انتحرت حد يفهمني ؟!
ـ ادعيلها يابني.. نسيم محتاجة دعواتنا كلنا دلوقتي.
احتقن وجهه بدماء الخوف والأسى، وأخذ يمسد وجهه وشعره وهو ينظر حوله بضياع ، إلى أن تسائل باستغراب:
ـ فين فريد ؟!
توقفت نغم بمدخل الرواق عندما استمعت إلى نفس السؤال الذي فرت منه بالأسفل، وأخذت تأخذ شهيقا وزفيرا تحاول تهدئة روعها، وتجاهل كل تلك الفوضى التي تحدثها سيرته بداخلها.
تقدمت منهم، وبالتحديد من زينب، واحتضنتها بقوة وانخرطتا سويا في نوبة بكاء تعجب لها سالم وعمر كذلك.. وانضمت إليهم جيلان التي كانت قد انتهت من إملاء عامل الاستقبال بالبيانات المطلوبة وصعدت إليهم مجددا..
أخذوا ثلاثتهم يرمقون نغم بحيرة، لماذا كل ذلك البكاء والانهيار الغير مبرر ؟! هل من أجل نسيم ؟! ولكن لماذا وهي في الأساس لا تعرفها سوى معرفة سطحية جدا !! أم لسبب آخر لا يعرفه أحدا سواها ؟!
قلبت چيلان عينيها بملل وهي تراقب بكاءها وتردد بخفوت:
ـ fake أوي .
كان كلا منهم غارقا في عالم مختلف، ولكنهم جميعا يتعجبون غياب فريد، إلى أن جذبت الممرضة حال خروجها من غرفة العمليات انتباه الجميع حيث هتفت بهم :
ـ الحالة محتاجة نقل دم ضروري.. المتبرع ييجي ورايا حالا.
تقدم سالم، وزينب، وچيلان، ونغم. الوحيد الذي تراجع هو عمر !!
فنظرت الممرضة إلى سالم وقالت:
ـ اتفضل حضرتك ارتاح .. أما حضراتكوا هتتفضلوا معايا هنشوف الفصيلة المطابقة لفصيلة دم المريضة وهناخد منها العينة فورا.
تقدمت كلا من نغم، چيلان وزينب نحو غرفة جانبية خاصة بسحب عينات الدم، وجلست كلا منهما على سرير، وبدأت المختصة بسحب عينة من كلا منهما وفحصها، ثم نظرت نحو نغم وقالت:
ـ انتي اللي هتفضلي معانا لأن فصيلة دمك مطابقة للمريضة، أما حضراتكم اتفضلوا..
حقدت چيلان عليها أكثر، ربما لو كانت هي من نجحت في التبرع لنسيم بالدم لكان ذلك الدم أصبح رابطا بينها وبين فريد، ولكن على ما يبدو أن كل الطرق بين نغم وفريد تتقاطع دون سعي منهم .
أغمضت نغم عينيها وتذكرت تلك اللحظة التي نقلت فيها الدم إلى خالتها حينما تدهورت حالتها في إحدى المرات، ووجدت الدموع تنساب على جانبي خديها، وعلى ما يبدو أن الكون كله قد تآمر لإبكاءها اليوم .
***
كان عمر يقف بالخارج، يحاول الاتصال بفريد الذي لا يجب أيًا من اتصالاته، إلى أن رآه يتقدم منهم مهرولا بهيئة بائسة، والغضب والأسى يُقطران من ملامحه ثم همس إلى عمر بصوت مكسور:
ـ نسيم جرالها ايه ؟
أجابه عمر وهو يحمل في صوته نبرة يملأها الحزن:
ـ هي في العمليات دلوقتي، ادعيلها .
وقف الأخوان بجوار بعضهما البعض، كلا منهما شاردا في أمر ما، وفي مقابلهما يجلس سالم الذي يبدو الانهمام على ملامحه جليًا، وبجواره تقف چيلان التي قامت بإرسال رسالة نصية إلى أختها وأخبرتها فيها بما حدث.
وفي أقصى الرواق تقف زينب، تتضرع إلى الله وترجوه، أن ينقذ تلك المسكينة التي لم ترَ الفرح يومًا.
***
بعد مرور نصف ساعة خرجت نغم من الغرفة الخاصة بسحب الدم، وبمجرد ما إن خرجت هرولت نحوها زينب واحتضنتها بقوة وأخذت تمسح على رأسها بحنان وامتنان ، وذلك العناق هو ما استفز رغبة نغم المُلحة في البكاء وجعلها تنفجر باكيةً بكل قوتها.
لحقت الممرضة بنغم، و ناولتها علبة من العصير المعلب وهي تقول:
ـ اتفضلي اشربي العصير .
تناولته منها نغم وأومأت موافقةً، وإذ بها تتطلع أمامها فتقع عينيها على عيني فريد المذهولتان، حدق أحدهما بالآخر لفترة، حوصرت داخل قلبها الذي بدأ يدق بصوت عال، ترغب في عناقه وتخفيف تلك الآهات المرسومة على وجهه، ترغب في مواساته الآن والربت على قلبه، ترغب في دعمه بكل إمكانياتها البسيطة، ولكن ما منعها شيئا واحدا، أنها تذكرت كلماته التي أشبهت في قسوتها رصاصة أطلقها على قلبها دون رحمة. فأشاحت بعينيها بعيدا عنه وسمحت لدموعها بالانهمار .
لم يكن هو في حال أفضل منها، فمفاجأته بأنها قد تبرعت لاخته بالدم لا تقل عن مفاجأته بخبر الحادث ككل. بل وأشد.
لم يتوقع أن تُقدم نغم على شيء كهذا، وهذا ما جعله يتسائل ، هل ذلك التصرف نابع من قلبها؟ أم لكسب تعاطفه أو تعاطف العائلة؟ أم إثباتا لعدم صحة ما قاله ؟!
ولو كان يعرف نغم بقدر ضئيل فيمكنه الجزم أنها الوحيدة بينهم التي لا تفتعل أيًا من تصرفاتها، وتتعامل كما يُملي عليها قلبها فقط لا غير، حتى أنها لا تستعمل عقلها في كثير من الأحيان.
وللحظة شعر بالندم على ما قاله، وود لو أنه ذهب إليها واعتذر منها عما قاله، في الواقع هو لا يعرف كيف سيبرر الحماقات التي تفوه بها ولكنه يعرف أنها لن تضع عبء التبرير على عاتقه كثيرا وستقبل بالاعتذار برحابة صدر.
جذب انتباهه دخول أحد رجال الشرطة ومعه مساعده، تقدما منهم وبدأ الضابط بالحديث فقال:
ـ مساء الخير ، أولا تمنياتي بالشفاء العاجل للمصابة، ثانيا كنا محتاجين نتكلم مع حد يكون شاهد على الواقعة.
هنا تقدمت زينب التي كانت تبكي وترتجف، فسألها الضابط وأخذ مساعده يدون إجاباتها:
ـ إسمك الرباعي ؟!
ـ زينب السيد محمد والي.
ـ السن ؟
ـ ٥٠ سنة .
ـ إيه هي صلة قرابتك بالمصابة ؟!
ـ أنا المربية بتاعتها من وهي صغيرة وحاليا مدبرة منزل الأسرة .
ـ إيه اللي حصل بالظبط ؟!
بدأت زينب ترتجف وهي تتذكر ما حدث، وانهالت دمعاتها وانفجرت في نوبة بكاء عتيدة منعتها عن الحديث، إلى أن بدأت في الكلام مرة أخرى وهي تسترجع تلك اللحظات قائلة:
ـ أنا كنت بخبط على باب اوضتها ولما مردتش فتحت الباب ودخلت..
وامتنعت عن الحديث وهي تحاول التوقف عن البكاء الذي كان سبيلها في التعبير عن صدمتها وتابعت:
ـ شُفتها وهي بتحدف نفسها من الشباك بس ملحقتهاش، ملحقتش أمنعها..
كانت الصدمة شديدة وقاتلة على الجميع، وبالأخص فريد، عمر، نغم.. لأنهم لأول مرة يعرفون ما حدث بالتفصيل.. لقد ظن فريد أنها ربما حاولت تناول مجموعة من الحبوب كما فعلت سابقا، ولكنه تفاجأ أنها انتهجت نهج والدتهما حين أنهت حياتها.
شعر بقدمه تخونه، ولولا المقعد الموجود خلفه لتهاوى على الأرض، وبدأ يشعر بالصقيع يغلف قلبه ويسري بأطرافه.
صمت الضابط قليلا احترامًا لحالة زينب، ثم تساءل مجددا وقال:
ـ المصابة كانت بكامل صحتها الجسدية والنفسية ؟! ولا كان عندها مشاكل ؟!
حانت من زينب التفاتة نحو سالم الذي لم يظهر على وجهه أي تفسير، وقالت بشبه تردد:
ـ كانت بتتعالج من الاكتئاب من سنين طويلة بس مؤخرا بدأت توقف العلاج وبقت بترفض تاخدُه.
أومأ الضابط متفهما ثم قال وهو ينظر إليهم :ـ حد من حضراتكوا كان موجود وقت الحادثة ؟!
أومأ منصور الذي تحدث لتوّه وقال بنبرة رخيمة يغزوها الأسف:
ـ أنا كنت موجود بطبيعة الحال في مدخل الڤيلا لأني حرس خاص للباشا.. وللأسف شُفت نسيم هانم وهي بتحدف نفسها من شباك الأوضة بس طبعا محدش لحق يمنعها.
أومأ الضابط وهو يزم شفتيه بأسف، ثم قال:
ـ على العموم إحنا هنستنى نطمن على حالتها وبعدين نكمل التحقيق، تقوم بالسلامه إن شاء الله ، عن اذنكم ..
غادر الضابط ومساعده ، فعادت زينب إلى المقعد الذي كانت تجلس عليه، وجلست بجوارها نغم التي أسندت رأسها على كتفها وسمحت لدموعها بالهطول بصمت وهي تتلاشى النظر نحو فريد قدر الإمكان..
مرت ساعتين من الانتظار القاتل والجميع يتأهبون وقلوبهم تقف على أطراف الأصابع من فرط القلق والتوتر، إلى أن انفرج باب غرفة العمليات وخرج الطبيب الذي بدا عليه التعب والإرهاق..
ركضوا جميعهم نحوه بلهفة، وتسائل سالم قائلا بقلق:
ـ إيه الأخبار يا دكتور ؟!
ـ الحمدلله قدرنا نسيطر على النزيف الدماغي بنجاح، دلوقتي هننقلها على العناية المركزة وال ٤٨ ساعة الجايين هما اللي هيحددوا مدى استقرار الحالة .
تسائل فريد بلهفة:
ـ طيب وإصاباتها خفيفة ؟!
ـ في كدمات شديدة بس مش هنقدر نحدد أماكن الكسور والرضوض إلا بعد الأشعة، أهم حاجة دلوقتي نطمن إن النزيف وقف تماما والدم بدأ يوصل الأكسجين للدماغ بالطريقة المطلوبة، وبعدها هنعمل أشعات وفحوصات على كل حاجة ونأمل إن الإصابات تكون طفيفة إن شاء الله ، ادعولها.
***
نزلت عائشة من التاكسي أمام ڤيلا سالم، سارت بجانب الجدار وهي تتلفت حولها كلصة هاربة من الشرطة تخشى القبض عليها، تحيط نصف وجهها بوشاحها مخافة أن يراها سالم ويتعرف عليها.
ووقفت أمام بوابة الڤيلا تتطلع يمينا ويسارا علها ترى نغم، ووجدت نفسها وقد شردت فجأة وعادت بالزمن إلى الوراء..
ـ إلى ما قبل خمسة وعشرون عاما ـ
حين مزق الفراق قلبها وحثها على الذهاب إليه لرؤية ابنتها واستعادتها، يومها كانت على استعداد أن تفعل أي شيء لكي يقبل أن يعيد إليها ابنتها، أي شيء مهما كان .. حتى لو تطلب الأمر أن تعمل كخادمة في المنزل لكي تكون بجوار ابنتها.
وقفت أمام البوابة وأشارت للحارس الذي اقترب منها قائلا:
ـ أؤمري يا حجة ؟!
ـ معلش توصلني بسالم بيه .
ـ خير ؟! عايزة الباشا ليه ؟!
ـ حاجة خصوصي بيني وبينه، قولله عيشة بس وهو هيخرج فورا
نظر إليها الرجل بشك، ثم دس يديه في جيبه وأخرج منه حفنة من المال وأعطاها إليها من بين فتحات الباب الحديدي ، فنظرت إلى المال بيدها بقهر وصدمة وهي تقول:
ـ إيه دول ؟!
قطب جبينه متعجبا، ثم أخرج مبلغا آخر ووضعه بيدها وهو يقول:
ـ أظن كده كفاية أوي، ويلا اتفضلي من هنا مش فاضيين.
ـ إنت فهمت إيه؟ أنا مش جاية أشحت، أنا جاية أشوف..
وصمتت في آخر لحظة، ثم نظرت إليه بعجز يمتزج بالحزن وهي تقول:
ـ أنا عايزة أشوف سالم بيه، قولله عيشة وهو هيوافق يقابلني، أنا مش شحاتة أنا جاية أتكلم معاه في موضوع ضروري.
قاطع حديثها رؤية سالم وهو يخرج بسيارته من الڤيلا فأخذت تنادي بصوت جهور:
ـ سالم.. يا سالم بيه..
نظر إليها سالم وعرف صوتها المميز فورا، وما إن أبصرها حتى ذاب قلبه من فرط الخوف، وأسرع يغادر الفيلا فورا، ثم توقف أمامها بسيارته وهو يقول:
ـ خير، عايزة إيه يا عيشة وجاية لحد بيتي ليه ؟!
ـ جاية أشوف بنتي .. قلبي واكلني عليها .
ـ اركبي.
قالها بقوة فركبت فورا، وتحرك منطلقا بالسيارة محاولا الابتعاد عن البيت قدر الإمكان لئلا يراها أحد برفقته.
وصل بها إلى مكان بعيد، وتوقف بسيارته، وفي هذه اللحظة لم تتوقف عن مراقبة ملامحه التي كانت قريبة منها جدا لأول مرة بعد سنوات فراق طويلة.
ـ عاوزة إيه يا عيشة.؟!
ـ قولتلك عاوزة بنتي!
تنهد مطولا، ثم نطق بتوتر جاهد في حجبه وإخفاؤه:
ـ للأسف يا عيشة اتأخرتي أوي.
نظرت إليه بتوتر، وتساءلت وهي تخشى الإجابة:
ـ يعني إيه إتأخرت ؟! البنت راحت فين؟! وديتها فين يا سالم ؟!
ـ البنت ماتت.
نظرت إليه بصدمة، وجحظت عيناها وهي تحدق فيه بغير تصديق.
ـ ماتت إزاي ؟!
ـ كانت بتلعب ووقعت من شباك اوضتها !!
اتسعت عيناها بقوة أكبر، وانقبض قلبها، وسالت دمعاتها بهيستيريا وأخذت تردد:
ـ لأ. إنت أكيد بتكدب عليا مش كده ؟!
نظر إليها من زاوية عينيه نظرة أرهبتها وقال بحدة:
ـ هي الحاجات دي فيها هزار ؟! إنتي هربانة منك ولا إيه ؟!
امتلأت عيناها بالدموع وأخذت تهز رأسها رافضة أن تقحم تلك الفكرة إلى رأسها، فاستمعت إليه وهو يقول:
ـ أنا عارف إني غلطان لأني كان لازم أبلغك باللي حصل وقتها، لكن أنا عارفك وعارف إنك كنتي هتعملي مشاكل ودوشة، عشان كده قررت أخبي عنك، بصراحة مكنتش متوقع إنك هتفتكري البنت بعد سبع سنين بحالهم.
نظرت إليه نظرة متألمة، نظرة مملوءة بالأسى، وأنفاسها تتلاحق في جنون وهي تقول:
ـ أنا عمري ما نسيتها، مفيش حد بينسى ضناه، أنا مكنتش موافقة على اللي حصل من البداية بس أبوك الله يجحمه هو اللي صمم.
ـ عيشة.. الكلام ده خلاص فات أوانه، اللي حصل حصل وخلاص كل واحد شاف حياته، أنا سمعت كمان إنك خلفتي من محمود جادالله ولد قبل ما يموت..
ابتلعت ريقها بخوف وتساءلت:
ـ عرفت منين ؟!
ـ اللي يسأل ميتوهش، وأنا لحد من فترة قريب كنت مراقب أخبارك وعارف عنك كل حاجة، لحد ما البنت ماتت. قلت خلاص، اللي كان بيربطني بيكي راح، ملوش لزوم أشغل نفسي بيكي تاني.
قالت عائشة في حدة:
ـ مش بعيد تكون إنت اللي موتتها، أنا أصدق إنك تعمل أي حاجة لأنك معندكش قلب ولا ضمير، ولآخر لحظة في حياتي هفضل أدعي عليك ومش هسامحك، ربنا ما يباركلك أبدا يا سالم وينتقم منك ولا يجعلك تعرف طعم الراحة طول ما انت عايش .
** عادت عائشة بذاكرتها للحاضر عندما جذبها صوت الحارس متسائلا بقوة أجفلتها:
ـ نعم يا حاجة جاية عايزة مين ؟!
حينها وجدت نفسها تنطق بدون وعي منها:
ـ عايزة بنتي !
ـ بنتك ؟! وبنتك ايه اللي هيجيبها هنا إن شاء الله ؟!
تسائل الشاب متهكمًا فأجابته وهي تنظر للمبنى أمامها بترقب ولهفة وهي تقول:
ـ نغم بنتي.. عايشة هنا..
ـ يلا يا ست انتي من هنا مش ناقصاكي، مفيش حد هنا بالاسم ده.
صاحت به بصوتٍ غاضب:
ـ أنا متأكدة إنها هنا، يا نغم .. يا نغمممممم..
كانت عائشة تصرخ بأعلى مستويات صوتها، وقد فقدت سيطرتها على نفسها بعد صبر وكتمان طال لسنوات عديدة ، فهتف بها حارس البوابة قائلا ببرود:
ـ اصرخي من هنا لبكرة، مفيش حد جوة.. وحتى لو جوة محدش هيسمعك، وفري صوتك وأعصابك وامشي، مفيش حد اسمه نغم هنا…روحي دوري على بنتك في حتة تانية.
أخذت تنظر إليه باحباط، ثم تراجعت، وعادت أدراجها خالية الوفاض.
لكنها لن تتوانى عن ملاحقتها، ستأتي مجددا، مرة تلو الأخرى ، إلى أن تعرف طريقعا وتستعيدها، لن تفرط فيها كما فرطت في ابنتها ، ولن تسمح لسالم أن يسرقها منها كما سرق ابنتها، يكفي ما أخذه منها إلى الآن.
***
بعد مرور ساعتين..
نزلت چوليا ونادية من السيارة التي نقلتهما من المطار إلى المشفى مباشرةً بعد أن أخبرتهما چيلان بما حدث.
دخلت چوليا التي كانت تركض متجاهلةً آلامها وصحتها البائسة، وتوجهت نحو چيلان التي تعجبت حالتها، حيث أن وجهها كان شاحبا وجسدها هزيل جدا، احتضنتها چوليا بكل قوتها وانفجرت في بكاء مرير، بكاء متراكم منذ أيام طويلة .
بينما توجهت نادية نحو عمر، الذي ركن رأسه على صدرها وانفجر باكيًا بدوره، فأخذت تربت عليه وتواسيه ، فهي أكثر من يعرف ماذا تمثل نسيم بالنسبة إليه. ثم ربتت على كتف فريد بمواساة صادقة، واتجهت بعدها نحو سالم بتردد.. رأته لأول مرة كيف يكون منهزمًا..
جالسًا في مكانه بنفس القوة ونفس الثبات، ولكن عيناه تحكي أبياتًا عن الخوف والتشتت.
جلست بجواره، ثم ربتت على أعلى كتفه وهي تبكي بتأثر وتقول:
ـ إن شاء الله هتقوم بالسلامة.. ربنا معاها .
تنهد سالم تنهيدة شقت صدره إلى نصفين، ونهض، كان ينوي الخروج من المشفى ناشدًا بعض الهواء لأنه الآن على وشك الاختناق. ولكن ظهور شريف أمامه هو ما منعه من ذلك.
دخل شريف مهرولا وعلى ما يبدو أنه كان يبحث عنهم، وما إن رآهم حتى توجه نحوهم على الفور وهو يتسائل بلهفة ظهرت بوضوح على ملامحه:
ـ إيه اللي حصل يا سالم باشا؟ نسيم جرالها إيه ؟!
أول من انتبه إليه كانت چوليا التي كانت تقف بجوار أختها وتسند رأسها إلى كتفها، فاستقامت ونظرت إليه بتعجب، وأخذت تحدق فيه بذهول واستغراب وهي تراه يتساءل عن نسيم بكل تلك اللهفة .
وقبل أن تتقدم منه، وقبل أن يجيبه سالم، كان فريد هو من توجه نحوه بتحفز شديد وباغتهُ بلكمة قوية وهو يقول:
ـ إنت مالك بيها ؟ بتسأل على نسيم ليه عايز منها إيه ؟!
تفاجأ شريف بتلك اللكمة حتى أنه لم ينجح في تفاديها، فسقط أرضا، فانحنى فريد نحوه وهو يجثو فوقه على ركبته ويسدد إليه لكمة قوية أخرى أطاحت بالدماء من أنفه وهو يصرخ به بعنف وقد فاض به الكيل وهو يقول:
ـ نسيم تنساها تماما، تشيلها من دماغك نهائي واياك تكرر طلبك للجواز منها ولا حتى بينك وبين نفسك، انت فاهم ؟! أساسا كل اللي هي فيه ده بسببك.
في تلك الأثناء كان أمن المشفى وبرفقتهم عمر يحاولون فض النزاع بينهم وإبعاد فريد الذي انقض فوقه كالوحش الكاسر وأخذ يفرغ به كل طاقته السلبية والمعاناة التي عاشها طوال اليوم. إلى أن نجحوا في التفريق بينهما واصطحبوا فريد للخارج.
كانت چوليا في تلك اللحظة تحاول تدارك الأمر واستيعاب ما قاله، بعد أن أثار حديث فريد جدلا واسعا بقلبها وأدى إلى تلاطم موجة شديدة من الأوهام برأسها.
شعرت بقدماها ترتجفان، فأمسكت بذراع چيلان بكلتا يديها وهي تحدق في شريف كالبلهاء وهو يقف ممسكا بمنديل يمسح به أنفه، وقادتها قدماها نحوه مغيبةً، بعد أن تجاهلت تحذيرات امها وتساؤلات أختها، ثم توقفت أمامه فنظر إليها متفاجئا بها، وابتلع ريقه بخوف وهو يحدق بالجميع من حوله وهو يتمتم:
ـ چوليا … اعقلي.
نطقت چوليا بهمس يتخلله الضياع:
ـ انت طلبت تتجوز نسيم ؟!
ظهر التوتر جليا على ملامحه وارتجافة فكه.. ثم أومأ وقال:
ـ أيوة .
جزء منها لم يتفاجأ بالأمر، وهو عقلها الذي يدرك جيدا أنه كان سيحاول الارتباط بأي إمرأة غيرها هي.
ولكن قلبها؛ هو من تكسر وظهر صوت تحطمه واضحًا للكل..
لعنت نفسها في تلك اللحظة عدة مرات، لعنت غبائها الذي جعلها تحاول الوصول إليه طيلة يومٍ كامل وهي تعرف وتثق أنه قد حظرها تماما لكي لا تستطيع الوصول إليه.
لعمت غبائها الذي يجعلها تثق به في كل مرة بالرغم من أنها لا تملك ما يجعلها تثق به.
لعنت ضعفها أمامه، وضعف قلبها الخائن أمام نظراته التي كانت تظنها تحتويها.
ثارت ثائرتها، وفجأة انقضت عليه بشراسة وحفرت بمخالبها جرحًا عميقا بوجنتيه وهي تصرخ فيه بقوة إمرأة مجروحة:
ـ انت حيوااااان.. أنا بكرهك.. بكرهك يا شريف، بكرررررهك..
عجت قاعة الانتظار بالفوضى من حولهما، حيث أسرع الأمن نحوهم مجددا، وكذلك عمر ، وجيلان ونادية اللتان تحاولان ابعادها عنه بقوة ولكنها كانت متمسكة بوجهه بأظافرها بقوة وهي تصرخ بهيستيريا ؛
ـ ليه ؟! ليه نسيم ؟! ليه هي بالذات ؟! للدرجة دي بتكرهني وعايز تحطمني؟ عايز تتجوز أقرب واحدة ليا ؟! عايز تموتني بالبطيء ؟!
همست إليها نادية بهلع:
ـ اخرسي يا متخلفة.. اخرسي هتفضحينا..
سقطت أرضا على ركبتيها، وبجوارها عمر وچيلان يحاولان تهدأتها، بينما هي تنظر إليه بلوعة وهي تقول:
ـ أنا اديتك كل حاجه ، باقي إيه مخدتوش مني ؟! أنا بكرهك يا شريف، مش عايزة أعرفك تاني ..
كانت نادية تنقل بصرها بينهما بقلة حيلة، ولأول مرة تقف عاجزة لا تدري كيف ستتصرف في هذا الموقف المخجل، ونظرت إلى شريف وأخذت تدفعه للخلف وهي تقول بلهجة حادة:
ـ امشي من هنا دلوقتي حالا..
نظر إليها بحدة أكبر وقال:
ـ أنا مش هقدر أسيب نسيم وامشي، لازم أفضل هنا لحد ما أتطمن عليها.
نظرت نادية إليه بصدمة، في الواقع لم تتوقع وقاحته أبدا، فهمست إليه وهي تكز على أسنانها بغيظ وتقول:
ـ بقوللك امشي من هنا حالا يا شريف، انت مش شايف چوليا حالتها عامله ازاي!!
زم الآخر شفتيه باستياء ثم قال بهدوء أثار حفيظتها وهو يشدد على احرفه بتأكيد ويقول:
ـ وأنا بقوللك.. مش هقدر امشي وأسيب نسيم في الحالة دي.
أخذت نادية تنظر إليه بصمت، لم تدرِ ما عليها قوله، ولكنها كانت تعي جيدا ما عليها فعله الآن، لذا رفعت كفها وهبطت به فوق وجهه بقوة فاجئته ورسمت الصدمة على ملامحه كما رسمت أصابع يدها الخمسة وشم كف خماسي على وجنته المصونة.
فتمتم متسائلا بذهول:
ـ بتضربيني يا عمتو ؟!
لتجيبه هي بازدراء :
ـ القلم ده أقل بكتير من اللي تستحقه يا خسيس ! امشي من هنا حالا بدل ما والله أقلب الدنيا كلها فوق دماغك وأمسح بيك أرض المستشفى كلها.
أدرك فورا أن چوليا قد ابتلعت قلب أسد وحكت لأمها على علاقتها به، لذا فعمته تعامله بتلك العدائية المفاجئة، فما كان منه إلا أنه تراجع بخوف وارتباك ، وغادر المشفى من باب الخروج الخلفي لئلا يراه فريد ويكمل ما بدأه، ثم أمر عامل المرأب بإحضار سيارته وأخذها وغادر المكان بالكامل .
***
وقفت چوليا تضم اختها بقوة، وبجوارها يقف عمر متحفزا، يلح في سؤاله:
ـ إيه الي بينك وبين شريف بالظبط يا چوليا انطقي ؟!.
حدجته چيلان بغضب وقالت بصوت حاد:
ـ هو ده وقته إنت كمان ؟! بعدين نبقا نتكلم.
اخترقت نادية تلك المساحة الصغيرة الذين يقفون بها، وجذبت ذراع جوليا بقوة وهي تسحبها خلفها بعنف وتسير للخارج، فلحقت چيلان بهما وهي تترجى والدتها لكي تتصرف بلطف وتعامل اختها برفق، فهتفت بها نادية بقوة:
ـ اسكتي انتي يا چيلان، انتي مش فاهمة حاجة.
كانت چيلان تسير خلفهما بخطوات واسعة وهي تحاول انتزاع ذراع جوليا من قبضة أمها وهي تقول:
ـ طيب ممكن بالراحة عليها بس وبعدين نبقا نتفاهم.
وصلت نادية حيث سيارة چيلان، وأمرتها بفتح الباب ففعلت، فألقت چوليا بداخلها بقوة وجلست بجوارها، ثم هتفت بالأخرى قائلة:
ـ خلينا نرجع على البيت حالا.. حالا يا چيلان !
لم تجد چيلان بدًا من الانصياع لأمرها، وركبت خلف المقود وتحركت بهما عائدين إلى الڤيلا.
***
نهض حسن من جوار فيفي وهمّ بالتقاط ملابسه لكي يرتديها، بينما هي مالت نحو درج الكومود المجاور لهت، وسحبت منه علبة سجائرها، وهمت باشعال واحدة وهي تنظر إليه قائلةً برضا:
ـ بقوللك ايه يا أبو علي .
همهم تلك الهمهمة الرجولية التي تثير شغفها وحماسها، فقالت بحماس:
ـ إيه رأيك لو نزود النشاط ؟!
نظر إليها وهو يغلق أزرار قميصه ويقول :
ـ إزاي ؟!
ـ بجانب البرشام يبقا هيروين.. إنت المستفيد على فكرة..
ـ لأ اعملي معروف، أنا النهارده كنت بسلم الواد شريط البرشام وأنا متلبش..
سحبت نفسًا من السيجارة ثم نفثته أمامها بقوة وهي تقول:
ـ مكنتش اعرف إن قلبك خرع أوي كده .
ـ واديكي عرفتي، أنا مش حِمل نومة البُرش تاني، أنا أمي عيانة ومحتاجالي.
تنهدت بقوة وقالت:
ـ متخافش، عاصم بيه ساندنا .
نظر إليها بحدة وهو يغلق سحاب بنطاله:
ـ لا أخاف.. من خاف سلم ! عاصم بيه ساندك انتي مش ساندني أنا.
رفعت حاجبيها بتعجب وقالت:
ـ يووه، بقوللك متخافش، أنا هأمنك متقلقش، وبعدين إنت مش متخيل كل تذكرة هيطلع لك من وراها كام ؟! البودرة مكسبها حلو صدقني وهيخليك تعلى بسرعة.
نظر إليها لدقائق، ثم نفض رأسه برفض وقال:
ـ بقوللك ايه يا فيفي انزلي من على وداني، أنا مش عايز أعلى بسرعة أنا مبسوط كده.. خليني ماشي بقول يا حيطة داريني، كفاية عليا أوي التلت سنين اللي فاتوا .
نهضت من الفراش، واقتربت منه ووقفت خلفه وهي تسند رأسها على ظهره وتقول:
ـ قلقان من إيه بس وأنا معاك ؟!
أطلق ضحكة ساخرة مبتورة وهو يقول:
ـ أهي دي في حد ذاتها حاجة تقلق.
فنظرت إليه بتحفز وقالت؛
ـ والله ؟! تقصد إيه بقا ؟!
أمسك بأطراف أصابعها وقبلها سريعا وهو يقول:
ـ ولا حاجة، أنا همشي بقا لأن الوقت إتأخر.
ـ مش هسيبك تمشي قبل ما نتعشى سوا.
انحنى ينتعل حذاءه وهو يجيبها بايجاز:
ـ مش هينفع، بقالي ليلتين مش بتعشى مع أمي وبدأت تقلق.
وقفت تسحب نفسا تلو الآخر من سيجارتها، وهي تنظر إليه متسائلة:
ـ بتحبها يا حسن ؟!
فأجابها دون أن ينظر إليها:
ـ وفي حد ميحبش أمه ؟! طب ده حتى يبقا ابن حرام.
ـ ونغم ؟! بتحبها .
توقف عما كان يفعله للحظة، كانت قد حصلت خلالها على جوابه، بينما ظهر الاضطراب على ملامحه وهو يقول بحدة:
ـ و ليه السيرة اللي تغم النفس دي ع المسا ؟!
رفعت كتفيها بلا اكتراث وقالت:
ـ عادي، مجرد سؤال .
نهض بعد أن استعد تماما ، واقترب منها وسحب سيجارتها من بين اصبعيها، ثم سحب منها نفسا طويلا وزفره أمام وجهها وهو يقول:
ـ نغم بالنسبة لي صفحة وقفلتها. الجديد كله معاك يا أبيضاني يا حلو انت.
ضحكت ضحكة عالية نابعة عن رضا داخلي، وتطلعت في أثره وهي تقول بابتسامة:
ـ هستناك بكرة .
أومأ وغادر شقتها، ثم استقل دراجته البخارية وعاد بها البيت وهو يمني نفسه أن تكون تلك هي آخر ليلة يقضيها بذلك المنزل المهتريء، عليه أن ينتقل برفقة والدته في الصباح .
***
طوال الطريق لم تتوقف چوليا عن البكاء، كانت الدموع ترسم على محياها خارطة المستقبل المظلم الذي ينتظرها، ولولا أنها تخشى رد فعل والدتها لصرخت بكل قوتها ولعنت نفسها ولعنت كل شيء حولها.
فكرت في فتح باب السيارة المجاور لها وإلقاء نفسها خارج السيارة ربما تفقد حياتها وتنجو من هذا العذاب، ولكن شيئا ما أخافها، فتراجعت.
أحاطت وجهها بكفيها وظلت تنتحب وهي تتذكر اعترافه الدنيء الحقير أنه بكل بساطة أصبح يحب امرأة أخرى، وقتها لم تتوقع أبدا أن تكون تلك الأخرى هي نسيم. ولو كان أخبرها بنفسه حينها لرفضت التصديق..
يا له من وغد حقير أصبح قادرا على جعلها تحتقره في كل لحظة.. وجعلها تحتقر نفسها وضعفها أمامه، وجعلها تحتقر الظروف التي جعلت منها دمية بين يدي شيطان مثله
فهو من أعاد صياغتها، عبث بمبادئها، شكلها كما يُفضل، حوّلها لعجوز بقلبٍ شائخ، وهي لازالت تملك عقل طفلة تفرح إذا أهداها أحدهم وردة، وتحزن إذا انقطع ثوبها، هو من أخرج أسوأ نسخة منها وجعلها محط إحتقار من نفسها قبل الجميع.
هو لعنتها الأبدية التي بقدر ما تحبها تكرهها.. هو من جعلها تصرخ كل يوم..
أحبك.. لذا أرجوك غادرني !
أفاقت على لكزة من يد أمها التي هتفت بها بقوة:
ـ انزلي..
فتحت نادية الباب ونزلت، ووقفت في انتظار چوليا التي أخذت تنظر إليها بتردد ، ففاجئتها أمها حيث جذبت شعرها بين قبضتها بقوة وأخرجتها قسرًا من السيارة ثم سارت وهي تجرها للداخل بقوة متجاهلةً صراخها، ونداءات چيلان لأن تتوقف.
ـ مامي، إيه اللي بتعمليه ده بس، مش معقول الطريقة دي!!
نظرت إليها أمها وهتفت بقسوة ونبرة صارمة لا تقبل الجدال:
ـ چيلان، متتدخيليش انتي !!
كانت چوليا تصرخ وتبكي بقوة، ما أثار ريبة وفزع عاملات المطبخ اللواتي كن يراقبن المشهد من بعيد، ويتعجبن كيف أن نادية هانم تقوم بسحل ابنتها من أمام باب الڤيلا حتى غرفتها، غير آبهة بصراخها واستغاثاتها، ولا بنداءات چيلان التي تطالبها أن لا تفعل.
دخلت نادية غرفة چوليا وألقتها فوق السرير بقوة وأخذت تصفع وتضرب كل ما تطاله من جسدها وهي تقول بغضب هيستيري:
ـ إنتي مش مكفيكي اللي عملتيه رايحة تعملي لنا فضيحة في المستشفى ، و قدام سالم ؟! أعمل فيكي إيه ؟! أموتك وأرتاح منك ؟!
ـ مامي أرجوكي ابعدي عنها كفاية كده..
دفعت نادية چيلان بعيدا عنها بعنف وهي تقول:
ـ ابعدي انتي، الحيوانة السافلة دي لازم تتربى من أول وجديد ، يعني مش كفاية غلطتي معاه وحملتي منه، جاية بكل بجاحة تعترفي قدام الكل في المستشفى ؟!
نالت الصدمة نيلًا وفيرا من چيلان التي اتسعت عيناها بصدمة وذهول، وتسمرت بمكانها وهي تحاول استيعاب ما وقع على مسامعها للتو، بينما نادية تفرغ كل غضبها بابنتها التي تبكي وترتجف بصمت دون أن يبرز صوتها .
ـ ممنوع تخرجي من الاوضة دي نهائي، انتي سمعاني ؟! وخصوصا في وجود سالم، تاكلي وتشربي زي الكلبة هنا في الاوضة ولو مش عاوزة يبقا أحسن يمكن تموتي وأرتاح منك ومن قرفك !
وتركتها وخرجت، وتركت چيلان تحدق بأختها بنفس الذهول، ونفس الصدمة الكاسحة لأي شعور آخر .
***
في المشفى .
كانوا جميعهم قد انتقلوا إلى الرواق المؤدي لغرفة العناية حيث تم نقل نسيم، سالم كان ينظر بشرود نحو الغرفة، وقد تذكر لتوه لحظة من أعتى لحظات الماضي، حين اضطر للكذب على عائشة وأخبرها أن ابنتها قد ماتت، وعندما سألته عن سبب الوفاة أخبرها أنها كانت تلهو ووقعت من نافذة غرفتها.
اقشعر بدنه واضطرب فؤاده ، وبدأت يداه في الارتجاف تلقائيا..
وبداخله كان يساوره ألف خاطر وخاطر، وأولهما أنه هل من الممكن أن يكون قد تنبأ بوفاة ابنته ؟!!!
هو يعرف أن البلاء موكل بالنطق به، ولكنه لم يكن مقتنعا بتلك المقولة تمام الاقتناع ، أو بالأحرى لم يأبه لها ذات يوم، ولكن الآن… الأمر يبدو حقيقيا بطريقة مفزعة !!
أخذ يهز رأسه برفض.. لا. الأمر ليس بهذا السوء . الطبيب قد قال أنهم سيطروا على نزيف المخ وبالتالي ستتحسن حالتها، لا داعي للقلق، ستمر.
كان يصبر نفسه بتلك الكلمات ويمنحها أملا لا يعرف هل سيتحقق أم لا، ولكن كل ما يعرفه الآن أنه نادم على ما فعله بها، هو نادم أشد الندم ويرغب الآن في الاعتذار لها.
لو أنها فقط تمنحه فرصة أخرى !!
لو أنها تتمسك بحياتها وتجعله يغتنم تلك الفرصة ، سيعتذر لها عن كل ما عاشته بسبب، وسيحاول تعويضها عن كل شيء، سيطلب منها الصفح وسيعدها أنه سيكون أبا مختلفا عن ذلك الظالم الذي يعرفونه.. سيخبرها أيضا أنه لن يجبرها على أي شيء مجددا.. فقط لتمنحه فرصة أخيرة وترحمه من ذنبًا آخرا سيقع على عاتقه.
جذب انتباهه ظهور فريد من جديد، يعقبه ظهور الطبيب المشرف على حالة نسيم الذي غادر غرفة العناية للتو ووقف أمامهم قائلا:
ـ بعد إذنكوا الزحمة ملهاش داعي، الحالة مش متحملة أي انتكاسات أو عدوى من أي نوع، عشان كده يا ريت حضراتكوا تتفضلوا وبكرة إن شاء الله تقدروا تيجوا تطمنوا عليها، وإن كان ضروري يبقا كفاية مرافق واحد .
نطقت زينب ونغم في صوتٍ واحد :
ـ أنا هفضل معاها.
نظرت زينب إلى نغم وقالت:
ـ لأ يا بنتي روحي انتي ارتاحي وأنا هخليني هنا. ابقي تعالي معاهم الصبح.
اقتربت منها نغم وهمست بصوت أقرب للبكاء:
ـ عشان خاطري يا خالتي، مش عايزة أرجع البيت أرجوكي.
تعجبت زينب طلبها، ولكن نظرة الرجاء الصارخ في عيني نغم هو ما جعلها تتواجع وتوميء موافقةً ثم قالت:
ـ خلاص خليكي انتي الليلة وأنا بكرة.
أومأت نغم بموافقة، وأومأ سالم كذلك، ثم نظر إلى نغم وظهر الضعف جليا على ملامحه، وفاجئهم جميعا إذ وضع يده على كتف نغم وأردف:
ـ شكرا .
سرت الرهبة في جوفها واقشعر قلبها باضطراب ، وجالت من عينيها نظرة سريعة نحو فريد وعمر اللذان تعجبا حالة والدهما، وما إن التقت عيناها بعينا فريد حتى أسرعت باخفاضهما لكي تتلاشى النظر إليه.
غادر سالم وبجواره عمر الذي كان يشعر برغبة شديدة في إسناد والده ، وربما كان يريد منه هو أن يسنده ويخبره أن تلك الغمة ستمر وتنفرج، ولكن سالم بقى كما هو، بالرغم من انهزامه الداخلي إلا أنه ظل متمسكا بثباته .
لحقت بهما زينب التي كانت تجر قدميها جرًا بتعب وأسى.
وظل فريد يقف في مواجهة نغم التي تأبى النظر إليه ، فكانت ترتكز بعيناها نحو غرفة نسيم، إلى أن سمعته يقول بصوت محبط:
ـ شكرا إنك اتبرعتي لنسيم بالدم .. أنا في الحقيقة مش عارف أشكرك إزاي .
آلمها سماع صوته المحبط، وآلمها وقوفه بجوارها ببساطة بعد تلك السياط اللاذعة التي جلدها بها ، فتحاملت على دموعها وهي تخبره بثبات زائف:
ـ تشكرني إنت ليه ؟! أنا معملتش كده علشانك. أنا عملت كده علشان نسيم بس، لما تقوم بالسلامة تبقا تشكرني بنفسها لو حابة.
زفر بضيق ، هو يعرف أنه كان فظا قاسيا بما يكفي ، ولكنها هي من ضغطت عليه وأخرجت شبحه المظلم الكامن بداخله، فتمتم قائلا:
ـ أنا مش راضي عن وجودك هنا في المستشفى ، ممكن لاقدر الله يحصل أي طارئ ومتعرفيش تتصرفي.. روحي معاهم ارتاحي وأنا هفضل معاها.
نظرت إليه أخيرا، و بقوة ، نظرت بداخل عينيه تماما، ونطقت بحدة أفضت له بمكنونات قلبها:
ـ متشيلش همي أنا واخده على قلة الراحة، أنا هفضل مع نسيم لحد ما تفوق وأطمن عليها، وبعدها همشي .. مش هرجع الڤيلا تاني.
ابتلع ريقه بارتباك متسائلا:
ـ هتمشي على فين ؟!
ـ على أي مكان، بلاد الله واسعة..
ازداد خوفه وارتباكه، ولأول مرة يدرك فعلا أنه يخشى فراقها وأنه بات متعلقا بها إلى هذا الحد.
ـ انتي أكيد بتهرجي !! أكيد مش هتمشي، مش كده ؟!
لمح سخرية الألم في عينيها، وأجابته بمرارة واضحة:
ـ أكيد مش بهرج ، قعدت يوم قعدت سنة كده كده كنت همشي، لكن خلاص خلصت يا فريد بيه.. آن الأوان كل حاجه ترجع لمكانها الطبيعي .. وأنا مكاني مش معاكم.
ظهر الغضب باديا على وجهه وملامحه التي اتقدت بالشر حين قال:
ـ مكانك مع حسن ؟! هترجعي له عشان يضربك ويهينك ويكسرك تاني ؟! هترجعي له عشان يشك فيكي ويتهمك تهم باطلة ويذلك تاني مش كده ؟!
ضحكت ضحكة مبتورة ، سالت على إثرها دموعها، ونطقت بضعف وهي تنظر إليه قائلةً:
ـ مش مهم، حتى لو فضل يطحن فيا سنة كاملة مش هيوجعني ولا يكسرني..
واقتربت منه خطوة ونظرت إلى عينيه البائستان وقالت بصوت أشد بؤسًا:
ـ أنا خلاص اتكسرت بطريقة.. لو حسن عاش عمرين على عمره مش هيعرف يكسرني بنفس الطريقة دي تاني.
هبط قلبه من مكانه بقوة، وهبطت معه قطرة هاربة من عينها قبل أن تستدير عنه وتنظر الى باب غرفة نسيم.
لم يجد ما يقوله، فهو الآن في أبشع حالة نفسية مر بها طوال تاريخه المرضي، وقاد قدميه نحو باب الخروج بالقوة، ثم استقل سيارته وغادر ، متجها نحو بيته. لا طاقة له بالعودة إلى الڤيلا التي شهدت على كل شيء بشع يحدث له منذ ميلاده حتى الآن.
***
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)