رواية محسنين الغرام الفصل الثلاثون 30 بقلم نعمة حسن
رواية محسنين الغرام الجزء الثلاثون
رواية محسنين الغرام البارت الثلاثون

رواية محسنين الغرام الحلقة الثلاثون
ـ ٣٠ ـ
~ الآن … قد زال السحر !! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت تقف وتوليه ظهرها ، تعرفت عليه من نبرة صوته المميزة ومفرداته الفريدة التي لا يشاركه بها أحد..
اضطرب قلبها وزادت دقاته عنفا كلما شعرت به يقترب منها أكثر، إلى أن توقف خلفها تماما وهمس إليها بصوت أجش أصبح يتغلغل داخل ثنايا روحها كلما سمعته :
ـ وحشتيني يا حِتّـه .
أغمضت عينيها بيأس، وهزت رأسها .. ذلك الرجل لا فائدة من محاولة تغييره.
استدارت ونظرت إليه ، فأسرع هو بوضع يديه على قلبه وهو يتصنع التعب ويقول :
ـ أه. قلبي.. بالراحة عليا متبصيليش بعينيكي الحلوة دي ألا أطب ساكت ..
تبسمت رغما عنها ، فطريقته المميزة تلك لا تفشل في خرق كل قوانينها وجعلها تبتسم بسعادة وبرحابة صدر ..
وأخيرا همست باستسلام:
ـ انت كمان وحشتني يا حسن .
جذب يدها فاصطدمت بصدره بقوة، فأخذ ينظر إلى عينيها بقوة وهو يقول :
ـ عينيكي زي ما قال الكتاب .. بحر وأنا فيهم غريق .
اتسعت ابتسامتها أكثر، واندفعت كل المشاعر الحلوة تباعا إلى قلبها، فمال نحوها وقبّل تلك الغمازة بوجنتها ثم قال :
ـ عيون حسن ، و قلب حسن ، ونن عين اللي جابوا حسن .
ارتفعت ضحكتها فضمها أكثر وتنهد وهو يطالع عينيها بحب ويقول بطريقة أذابت قدميها. :
ـ الموج الأزرق في عيناكِ يناديني نحو الأعمق ..
و مال على شفتيها وقبلها قبلةً سحبت الدماء من جسدها ثم توقف وهو يهمس إليها :
ـ إني أغرق !
وتابع قبلته وأكمل :
ـ أغرق !
وختمها وهو ينظر داخل عينيها قائلا :
ـ أغرق .
…..
استمعت إلى طرقات قوية على باب الغرفة، ففتحت عيناها فجأة وأخذت تتطلع حولها لتدرك أن ما رأته للتو لم يكن سوى مناما لا يمت للواقع بصلة..
زفرت ببطء وهي تحاول أن تتمالك أعصابها المثارة بفعل ذلك المنام، ثم ابتلعت ريقها وهي تجيب بصوت متحشرج :
ـ ادخل..
انفرج الباب ودخلت زينب، التي نظرت إليها بهدوء وقالت:
ـ صباح الخير يا چيلان هانم.
تنهدت چيلان بضيق وقالت :
ـ صباح الخير..
ـ نادية هانم بعتتني أصحي حضرتك عشان تفطري نعاها هي وچوليا هانم وعمر بيه ..
أومأت چيلان بهدوء، ثم زفرت نفسًا طويلا وتساءلت بتوجس:
ـ و أنكل سالم ؟!!
كانت زينب بصدد المغادرة، ولكنها التفتت ونظرت إليها باهتمام وقالت:
ـ الباشا راح على العزبة امبارح وبيقول مش هيرجع غير بعد يومين عشان الحفلة ..
قطبت جبينها بتعجب وقالت:
ـ حفلة إيه ؟!
ـ حفلة ذكرى تأسيس الشركة ..
هزت چيلان رأسها بعد أن تذكرت وقالت :
ـ اوكي .. روحي انتي .
همت زينب بالانصراف ، ولكن چيلان استوقفتها مجددا حيث قالت:
ـ زينب ، كنتوا عملتوا إيه في موضوع الحاجات اللي اتسرقت من الخزنة ؟! عندك فكرة ؟!
نظرت إليها زينب بهدوء وقالت :
ـ لا ما احنا لقيناها خلاص .
شحب وجهها ونظرت إليها بذهول وهي تقول :
ـ لقيتوها فين ؟!
حركت زينب كتفيها متصنعة عدم المعرفة وقالت :
ـ مش عارفة فين بالتحديد يا هانم بس اللي أعرفه إن الباشا كلف كذا حد فتشوا في الڤيلا وبعدها قال إنه لقاها في أوضة الكاميرات، تقريبا واحد من الحرس هو اللي كان سارقها .. بس الباشا مقالش مين بالظبط .
ابتلعت چيلان ريقها بارتباك وتوجس، وأومأت وهي تقول :
ـ طيب روحي انتي..
خرجت زينب وأغلقت الباب خلفها، وابتسمت بتشفي وهي تتذكر طلب سالم، عندما طلب منها في نفس اليوم الذي عثرت فيه على المسروقات بغرفة چيلان أن تقول أنه وجدها في غرفة الكاميرات ، ثم تمتمت قائلة :
ـ وقعتك سودا يا بنت نادية هانم الصواف، جنيتي على نفسك يوم ما فكرتي تلعبي بالنار مع سالم مرسال.
في غرفة چيلان.. والتي نهضت من فراشها سريعا ودخلت غرفة الملابس خاصتها وأخذت تبحث وتفتش عن الحقيبة ، وُعقت عندما لم تجدها..
ـ مش معقول ، ازاي ده حصل ؟!
تهاوى جسدها على المقعد الموجود بالزاوية ، وأخذت تتحدث إلى نفسها قائلة :
ـ الشنطة مش موجودة ، معنى كده إنه عرف إنها كانت عندي ومع ذلك قال لقاها مع الأمن !! ده أكيد بيخطط لحاجة..
استمعت إلى طرقات على باب الغرفة ، ومن ثم دخلت چوليا التي نادت باسمها قائلة :
ـ بونچور چيچي ..
حاولت چيلان تمالك أعصابها ، ثم رتبت شعرها سريعا وخرجت وهي تحاول رسم ابتسامة هادئة على محياها وقالت :
ـ صباح الخير يا حبيبتي..
عانقتها چوليا بقوة وقالت :
ـ بجد مش مصدقة إنك أخيرا رجعتي ، متتخيليش حالتنا كانت عاملة ازاي في غيابك .
شددت چيلان من عناقها وهي تقول :
ـ أنا كمان كنت تعبانة جدا.. بس لما رجعت وشوفت بنوتي الحلوة قامت من جديد وبقت أحلى وأقوى اتطمنت ونسيت كل التعب .
ابتسمت چوليا وتنهدت وهي تقول :
ـ عملت كده عشانك.. عشان نصحتيني ووعدتيني هتقفي جنبي..
أومأت چيلان مؤكدة وقالت :
ـ طبعا يا روحي.. أفوق بس من الدربكة اللي حاصلة دي ونبدأ أنا وانتي نستعد عشان نوقف شركتنا على رجليها من تاني وتبقا أقوى من شركات مرسال كلها ..
أومأت چوليا بابتسامة تتسم بالحماس، فربتت چيلان على ذراعها وهي تقول :
ـ بس أنا عندي طلب.. ممكن ؟
ـ طلب إيه ده ؟!
ـ نسيم.
تجهم وجه چوليا في الحال، وتبدلت معالمه، فتابعت چيلان:
ـ نسيم مالهاش أي ذنب في اللي حصل ، انتي وهيا طول عمركم اصحاب واخوات.. نسيم قررت تنتحر لأنها مكانتش عاوزة تتجوز الانسان اللي هي عارفة ومتأكدة انك بتحبيه.. فضلتك انتي عليها وقررت تضحي بحياتها عشان خاطرك .. تفتكري بعد كل ده متستحقش تديها وتدي نفسك فرصة تبدأوا من جديد ؟
همت چوليا بالاجابة، ولكن أختها قاطعتها وقالت :
ـ مش عاوزة إجابة بدون تفكير ، فكري على مهلك.. نسيم هتخرج النهارده بالليل من المستشفى وهترجع على البيت .. أنا شايفة إنها فرصة تروحي دلوقتي تقعدي معاها في المستشفى وتطمنيها .. علشان لما ترجع البيت ترجع وهي متأكدة ومتطمنه ان كل الموجودين هيدعموها .. لازم كلنا نقف جنبها بعد اللي حصل .
تنهدت چوليا وأومأت بموافقة، فعانقتها اختها وطبعت قبلة رقيقة على وجنتها، فغادرت جوليا وهمت جيلان بالاستعداد للنزول لمشاركتهم الفطور ..
ولكن ذلك المنام المجنون الذي رأته ظل عالقًا برأسها، مما جعلها تنفض رأسها باستنكار وهي تنهر نفسها قائلة :
ـ إيه الجنان ده !! مش ممكن طبعا .
وتقدمت نحو الحمام وهي تتمتم بيأس:
ـ مش باقي غير حسن ده كمان اللي أحلم بيه !
***
بعد مشاورات مكثفة مع نفسها قررت العمل بنصيحة أختها، فنسيم كانت ولا زالت وستبقى اختها الثانية التي لا تستطيع التفريط بها ابدا..
بعد الفطور، قررت أن تذهب لتبتاع لها هدية، ثم ذهبت الى المشفى لزيارتها..
كانت تشعر بالتوتر وهي تحاول ترتيب ما ستقوله لها، ولكن كل الكلام قد اختفى عندما رأت سيارة شريف وقد اصطفت أمام المشفى .
نزلت من سيارتها مسرعة، ووقفت أمام السيارة تتحقق منها، وأخذ الغضب يبلغ منها كل مبلغٍ ، فجعلها تتقدم نحو الداخل باندفاع، وقد نست تلك الهدية التي اشترتها لها .
***
كانت نسيم مغمضةً عيناها وهي تشعر بالارهاق والاعياء ، تتذكر ذلك الحوار الذي دار بينها وبين والدها بالأمس ، وإذ بها تستمع إلى طرقات على باب غرفتها، ظنت أنها زينب التي ذهبت لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بمغادرتها المشفى ، ولكنها ذهلت برؤية شريف الذي دخل الغرفة وهو يحمل باقة ورد بيده .
نظرت إليه بفزع وهي تقول :
ـ إنت إيه اللي جابك هنا ؟!
نظر إليها مبتسما بتوتر وهو يقول :
ـ اهدي يا نسيم .. أنا جاي أطمن عليكي مش أكتر .
ـ اخرج بره بدل ما أخليهم يرموك بره بمعرفتهم ..
وضع باقة الورد بجوارها وهو يقول بهدوء مزيف:
ـ لو سمحتي اهدي، أنا مش جاي أضايقك أبدا.. أنا جاي أطمن عليكي..
نظرت إليه بغضب وهتفت بحدة واندفاع:
ـ وانت مين أصلا عشان تطمن عليا ؟! وبعدين دخلت هنا إزاي ؟! وجالك منين الجرأة تيجي لحد هنا برجليك ؟!
ـ أنا عارف إن مفيش حد هنا دلوقتي ، أنا كل يوم كنت باجي وأفضل واقف قدام المستشفى بحاول ألاقي فرصة عشان أدخل وأشوفك لكن مكانتش بتيجي أبدا .. لحد النهارده لما شفت فريد مشي وزينب كمان شفتها خارجة حالا، عشان كده قلت لازم أجي أطمن عليكي وأقوللك حمدالله على سلامتك..
نظرت إليه باحتقار، طالعته من أعلى لأسفل بازدراء، ثم قالت بكره يفوح من كلماتها بقوة :
ـ امشي من هنا دلوقتي حالا بدل ما تلبس نفسك مصيبة .. امشي من هنا مش طايقة أبص في وشك.. أنا بكرهك .
حاول الاقتراب منها وهو يقول :
ـ أرجوكي يا نسيم اديني فرصة، صدقيني أنا بحبك والله العظيم وكل اللي طالبُه منك تديني فرصة بس أثبت لك ده..
ـ انت انسان حقير و زبالة و خاين..
أخذت تبحث عن هاتفها، وهما بالاتصال بفريد واخباره، وهي تقول؛
ـ طالما مش عايز تخرج بالذوق أنا هخليك تخرج بالعافية ..
رفع كفيه أمامه باستسلام وهو يقول بارتباك:
ـ خلاص خلاص هخرج.. متتعصبيش خلاص اهدي..
نظرت إليه بحدة وقالت مشيرة إلى باقة الورد:
ـ خُد الزبالة اللي انت جايبها دي معاك وإياك تفكر توريني وشك ده تاني !
أسرع بالتقاط باقة الورد، ثم غادر الغرفة مسرعا ، وركض في الرواق المؤدي للخروج قبل أن يراه أحدهم، ولكن في طريقه اصطدم بقوة بچوليا التي كانت تدخل المستشفى باندفاع..
نظر إليها بصدمة، لم يتوقع أن يراها هنا والآن.. بينما هي كانت تنظر إليه بغضب واشمئزاز وهي تقول :
ـ بتعمل ايه هنا يا شريف ..
حاول تجاوزها وهو يقول :
ـ مش وقتك يا چوليا ..
وقفت في طريقه مجددا وهي تقول :
ـ لأ وقتي يا شريف.. كنت بتعمل إيه هنا ؟! كنت بتزورها ؟!
نظر إليها في تحد وقح وقال:
ـ أيوة كنت بزورها .. عندك مانع ؟
نظرت إليه في امتعاض وقالت :
ـ انت وقح ..
ـ مفيش مشكله..
ـ أنا بكرهك..
ـ القلوب عند بعضها..
لم تفاجئها وقاحته، فهتفت بغل وغضب:
ـ إنت شيطان ..
ـ وانتي مش ملاك على فكرة.. فكك بقا من الدور اللي انتي عايشة فيه ومصدقاه ده عشان انا زهقت منك .
وتركها وغادر مسرعا، استقل سيارته وانطلق بها، بينما وقفت تتطلع في أثره بقهر لا يمكن وصفه .
تنهدت بنفاذ صبر وعجز، ثم تقدمت رغما عنها إلى غرفة نسيم ، وقفت تلتقط أنفاسها بهدوء ثم طرقت الباب ودخلت ..
تفاجئت نسيم ، ذهلت برؤيتها .. ونطقت بغير تصديق:
ـ چوليا !!
وقفت چوليا تطالعها بمشاعر مختلطة ، مزيج بين الحب والكره، بين الشفقة والتشفي، بين الشوق والبرود، بين اللوم والتسامح ..
ـ واقفة عندك ليه يا چوليا مش هتقربي ؟!
قالتها نسيم متسائلة ، ثم تابعت بعتاب خفي:
ـ طيب مش هتحضنيني وتقوليلي إني وحشتك ؟!
سالت دمعات چوليا ، ووقفت تنظر إليها بتشتت ثم قالت بقسوة:
ـ لأ.. مش هقولك وحشتيني يا نسيم لأني لو قلت كده هبقا بكدب.. وأنا متعودتش أكدب عليكي..
صُدمت نسيم بقولها، وقطبت جببنها بحزن وهي تراها في تلك الحالة التي تنم عن انهيار نفسي حاد .. بينما تابعت چوليا بحدة :
ـ أنا جاية أقوللك إني بكرهك.. لحد ما أموت هفضل أكرهك وأحقد عليكي وأغير منك .. أيوة .. هي دي الحقيقه ، أنا بغير منك لأنه حبك انتي ومحبنيش، لأنه اختارك انتي وباعني.. أنا بحقد عليكي ومش طايقة أشوفك ولا طايقاكي .. يا ريتك مُتِ وارتحت منك .
وغادرت الغرفة مسرعةً ، والمشفى بأكملها ، وتركت نسيم تتطلع في أثرها بذهول وغير تصديق بعد أن قتلتها بسُم كلماتها بالبطيء !!!
***
في بيت فريد..
كانت نغم تجلس بغرفة المعيشة ، تضع حاسوبها على قدميها وهي تتابع ذلك الدرس الذي يقوم المدرس بشرحه عن بعد ، تمعن النظر إليه وتقوم بتدوين كل كلمة يقولها بحماس وشغف.
رن هاتفها برقم فريد، فقامت برفض المكالمة، فعلم أنها الآن تدرس ، لذا فتح الباب ودخل وهو يحاول الحفاظ على جو المنزل الهاديء بما أن صغيرته المجهتدة تدرس .
توجه نحو المطبخ، ثم قام بوضع تلك الأغراض التي أحضرها معه على طاولة المطبخ، وقام بإعداد كأسًا من عصير البرتقال وأخذه إليها، ثم قام بوضعه أمامها فنظرت إليه بابتسامة ممتنة، فبادلها الابتسامة بصمت، وجلس على الأريكة المقابلة إليها ينظر إليها وهي تسهب النظر نحو الحاسوب بتركيز وتدون المعلومات باجتهاد .. فشعر بالفخر يغزو قلبه ويتربع في حناياه .
انتهى الدرس، فأغلقت الحاسوب وهي تثني ظهرها للوراء بتعب وتقول :
ـ ده أنا على ما اتخرج هكون محتاجه أغير عمودي الفقري ده .. معتقدش هيصبر معايا كتير .
ضحك ضحكةً كاملة ثم نظر إليها وقال :
ـ معلش كل حاجه وليها تأثير .. مفيش حاجة بتعدي بالساهل كده .
أومأت مؤكدة، ثم التقطت كأس العصير وارتشفته كله في جرعة واحدة في منتهى العفوية ، فضحك وهو يقول ممازحا :
ـ انتِ قاعدة في صحرا ولا إيه ؟!
ضحكت بدورها وقالت :
ـ لا وانت الصادق.. متحنطة قدام اللاب ده بقالي ساعتين ، والمدرس ده لا يكل ولا يمل .. نازل رغي ساعتين متواصلين لما جابلي صداع.
تنهد يائسا وقال :
ـ شدي حيلك معانا شوية يا نغومة .. لسه مدخلناش على التقيل .
ابتسمت وتلونت وجنتيها بحمرة لذيذة مثلها عندما ناداها بذلك اللقب الناعم ، فأومأت موافقة ثم قالت :
ـ ربنا يستر .
ـ إن شاء الله.. أنا واثق فيكي ، واثق إنك ييجي منك وهتبقي أشطر شطورة في الدنيا..
اتسعت ابتسامتها وتألقت أكثر، وأومأت قائلة :
ـ لو هنجح بس عشان أسمع كلامك الجميل وتشجيعك ليا دايما فانا موافقة .
ـ لأ .. هتنجحي عشان نفسك أولا .. عشان انتي تستحقي تنجحي وتكوني حاجة حلوة جدا..
وتابع بقليل من المشاكسة التي بدأ يكتشف أنه يجيدها بفضلها:
ـ مع انك مش ناقصة حلاوة يعني .
انتقلت الحمرة من وجنتيها إلى أذنيها ، وشعرت بالسخونة تلفح بشرتها بقوة، فأشفق عليها وقرر أن يغير مجرى الحديث فقال :
ـ جبتلك شوكولاتة.
ارتفع حاجبيها في حماس ، وابتسمت بفرح فقال :
ـ و شكولاتة كتير كمان .. عشان تساعدك تركزي وانتي بتدرسي ..
ونهض، ثم سار نحو المطبخ ، فلحقت به كالعلقة وهي تراه يفتح ذلك الصندوق الكبير المتخم بألواح الشوكولاتة من كل الأنواع، فاتسعت عينيها بانبهار وهي تقول:
ـ كل ده علشاني ؟
أومأ مؤكدا وقال :
ـ بس يا ريت كل يوم واحدة بس مش أكتر .. مش عشان نساعدك تركزي نقوم بخرب حاجات تانية ..
أومأت بموافقة ونظرت إليه قائلة بامتنان:
ـ أنا مش عارفة اقولك إيه غير شكرا.. حتى كلمة شكرا بقيت بحسها تافهة أوي قدام كل اللي بتعمله علشاني .
ابتسم قائلا:
ـ يبقا بناقص منها ومتقوليش حاجة خالص.. اتبسطي وانتي ساكتة .
ضحكت وأومأت بصمت، فنظر إليها بجدية وقال:
ـ كنتي هتنسيني أهم حاجه..
نظرت إليه باستفهام، فمد يده بجيب سترته وأخرج منه غلاف يحوي بداخله فرشاة أسنان مثبت بنهايتها دمية من السيليكون ، أعطاها لها وهو يقول بابتسامة:
ـ طالما في شيكولاته يبقا لازم تغسلي سنانك ..
أخذت تنظر إلى الفرشاة بتعجب، ثم نظرت إليه بغير تصديق ، لم تسعها الكلمات لكي تعبر عما تشعر به الآن، وتهدل كتفاها في إحباط لأنها لم تجد ما تريد قوله، ثم نظرت إليه قائلة:
ـ للدرجة دي بتاخد بالك من كل حاجه ؟!
أومأ مؤكدا وقال ببساطة :
ـ مانا قولتلك مش عشان نركز نقوم نخرب حاجات تانية .. اعتبريها دعمًا لشعار معًا ضد التسوس .
نظرت إليه بصمت لثوان، ثم انطلقت ضحكتها بقوة مما جعله يهيم فيها أكثر ، ويُسهب النظر أكثر وأكثر إلى عيناها الضاحكتين، الدافعتين لكل شعور شيء، والقائدتين نحو كل جميل .
هدأت ضحكتها تدريجيا، ثم تنهدت وهي لازالت تنظر إليه نظرة حب خالصة، ثم قالت بابتسامة ناعمة :
ـ هدية مقبولة .
أومأ ثم تنهد وقال :
ـ على فكرة الشكولاته مش هدية ..
هزت رأسها باستفهام مع تقطيبة جبين ناعمة فقال :
ـ دي تعبير عن شُكري وامتناني بعد الكلام اللي قولتيه امبارح ..
أخذت تتذكر الحوار الذي دار بينهما وهما يجلسان على الكورنيش بضيافة العم اكرامي ، فزفرت بهدوء وقالت :
ـ أنا مقولتش حاجة تستحق الشكر ، اللي قولته كان من جوة قلبي فعلا..
وكررت تلك الجملة التي قالتها له بالأمس، والتي جعلته يشعر بالسلام والسكينة اللتان لطالما بحث عنهم:
ـ لو انت بحنيتك وطيبتك والحب اللي مالي قلبك نحية كل اللي حواليك ده ومريض نفسي ، فانا أتمنى ان العالم كله يكون عبارة عن مرضى نفسيين .
تنهد مجددا ولكن تلك المرة كانت تنهيدة طويلة عبرت عن كل ما يعتريه صدره، فنظر إليها مبتسما بامتنان وقال :
ـ هي كلمات ممكن بالنسبة ليكي تبان بسيطة، بس بالنسبة لي فرقت كتيــــــر جدا.. أنا اللي لازم دلوقتي أقوللك شكرا يا نغم .. شكرا لأنك في حياتي ، شكرا لأنك جنبي .
أخفضت عينيها أرضا بحرج وتنحنحت ، فتنحنح بدوره وقال :
ـ طيب بما اني اتطمنت عليكي فأنا همشي .. ومش هعرف أفوت عليكي بالليل لأني مشغول جداا وعندي تحضيرات كتير تخص الحفلة ..
توترت إثر ذكر سيرة الحفل، ولمح هو ذلك التوتر باديًا في عينيها فقال مطمئنا :
ـ مش عايزك تقلقي من حاجه ولا تشيلي هم حاجة.. لو مش عايزة تحضري مفيش أي مشكلة.
ـ لأ هحضر.. متشغلش بالك انت بيا.. أنا مش قلقانة .
أومأ متفهما، ثم قال:
ـ تمام .. أنا همشي دلوقتي وهتابع معاكي بالتليفون.. لو احتاجتي أي حاجة من فضلك قوليلي .
ـ شكرا.. ربنا ميحرمنيش منك.
ابتسم برضا وقال :
ـ ولا يحرمني منك .
وغادر قرير العين، يشعر بالراحة والرضا والسلام يملأ قلبه، استقل سيارته، وانطلق بها نحو الشركة، صف السيارة وترجل ، ودخل المقر، ولم يكن يعلم أن هناك زوج من الأعين الغاضبة الحانقة تترصده، وتتوعده بأشد الهلاك..
***
بعد مرور يومين . وبالتحديد يوم الحفل …
كانت نادية قد انتهت للتو من تبديل ملابسها، فمرت بغرفة چيلان التي أخبرتها أنها ستلحق بها حالا، ثم مرت بغرفة چوليا والتي كانت لازالت تقف أمام المرآة ، تضع اللمسات الأخيرة من زينتها، شملتها ناظية بنظرة تقييمية ثم تساءلت بهدوء :
ـ مش قصير شويتين الـ dress ده ؟! احنا مش رايحين party في night club ..
نظرت إليها چوليا وابتسمت بهدوء ثم قالت :
ـ لأ ما هو أنا فعلا رايحة party بتاعت عيد ميلاد حد صاحبنا ..
قطبت جبينها وتساءلت:
ـ يعني مش جاية معانا ؟!
ـ لأ.. انتي عارفة إني مبقيتش بحب أشوف أنكل سالم ولا برتاح في وجوده ، الأفضل أكون براحتي ..
تنهدت نادية وهي توميء بموافقة، فهي تعرف أن وجود سالم أصبح ضاغطًا للجميع، ففترة بقائه بعيدا عن المنزل تلك كانت أجمل شيء فعله منذ سنوات..
غادرت غرفتها، وتوجهت للخارج، ولحقت بها چيلان، ثم أعقبهم عمر والذي ذهب بسيارته الخاصة..
بعدها خرجت چوليا من غرفتها، توقفت للحظات ترمق باب غرفة نسيم وقلبها يدق بتوتر ، قلبها يلح عليها أن تذهب إليها ، وأن تجلس معها ويتجاذبان أطراف الحديث سويًا، ولكنها في النهاية حسمت أمرها وغادرت، استقلت سيارتها واتجهت نحو ذلك الملهى الليلي الذي يرتاده شريف أحيانًا ..
***
كانت عائشة تقف متأهبة وهي تشاهد سيارة تلو الأخرى تغادر الڤيلا ، فحاولت الاختباء لئلا يراها أحدهم ، ووقفت تترقب خروج سالم، فهي لن تكل ولن تمل ، حتى لو ظلت تنتظره ما تبقى من عمرها، فإذ بها في تلك اللحظة ترى زينب وهي تساعد نسيم التي ستنتقل من مقعدها المتحرك إلى مقعدها في السيارة ، فأسرعت نحوها..
جذبت يدها وأخذت تنظر إليها وهي تقول :
ـ زينب ..
نظرت إليها زينب، واتخذ منها الأمر لحظات حتى تعرفت عليها، فعانقتها بقوة وهي تقول بغير تصديق:
ـ عيشة !! مش معقول !!!
ـ سالم بيه فين يا زينب ؟! لازم أشوفه دلوقتي حالا وأتكلم معاه ضروري ..
نظرت زينب إلى نسيم التي كانت تنظر نحوهما باستغراب ، ثم سحبت يد عائشة وسارت بعيدا عنها بخطوات ونظرت إليها وقالت:
ـ خير يا عيشة عاوزة الباشا ليه ؟؛
ـ في موضوع حياة أو موت يا زينب أبوس ايديكي وصليني بيه ، أنا بقالي كام يوم قاعدة في الشارع ليل مع نهار بستناه ..
لم يخف عن زينب تلك الحالة المزرية التي كانت فيها عائشة، فتنهدت بأسى وهي تقول بقلق :
ـ طيب فهميني في إيه ؟ الباشا مش هنا أصلا بقاله كام يوم في العزبة ولسه يادوب راجع النهارده ومجاش على الڤيلا راح على الشركة..
تمسكت بيدها وأخذت تتوسل إليها وهي تقول:
ـ طيب عشان خاطري قوليلي عنوان الشركة ، أنا لازم أتكلم معاه ضروري يا زينب عشان خاطري بحق العيش والملح اللي بيننا ..
لم تجد زينب بدًا من تلبية رجاءها ، فهما كانتا صديقتان مقربتان في شبابهما، قبل أن تغادر عائشة وتتجه إلى القاهرة ، حيث أن زينب كانت ابنة الخادمة بقصر عبدالعظيم مرسال آنذاك ، وبعد أن توفت والدتها انتقلت مع العائلة إلى القاهرة وتولت دور والدتها كمدبرة للمنزل .
أخبرتها زينب بعنوان الشركة رفقًا بحالتها وهي تقول :
ـ بس عشان خاطري يا عيشة اوعي حد يعرف إني أنا اللي اديتك العنوان ..
أومأت عائشة بموافقة وهي تقول:
ـ متقلقيش..
وغادرت على الفور ، سارت حتى وصلت إلى الطريق الرئيسي ثم استوقفت سيارة أجرة وأبلغته بالعنوان الذي أخبرتها عنه زينب فانطلق ذاهبًا .
في هذة اللحظة كان قلبها يطرق صدرها بإلحاح ، كما لو أن هناك وحشًا يطالب بالخروج، ذلك الوحش لم يكن سوى الحقيقة الرهينة بداخلها التي ترغب في الافراج عنها وتأمل ألا يكون قد فات الأوان .
***
وصل فريد إلى بيته لكي يصطحب نغم إلى الحفل، فكان يقف في انتظارها وهو يمارس طقسًا قهريًا إثر توتره الزائد، فاليوم هو يوم انكشاف الحقائق بالنسبة إليه، وبالرغم من أنه ينتظر تلك اللحظة منذ زمن إلا أنه يشعر الآن أنه غير مستعد لها.
رأى باب غرفتها ينفرج، ثم خرجت منه وهي ترتدي فستانها الأسود اللامع الذي اشتراه لها لكي ترتديه في هذا اليوم ، ثم تقدمت نحوه وهي تنظر إليه بتوتر ، بينما هو كان قد ظهرت ابتسامته وهو يعاين تلك الطلة الحالمة بصمت إلى أن تساءلت هي وقالت:
ـ شكلي حلو ؟!
فأجابها بأن أومأ بهدوء ثم نظر إلى عينيها الكحيلتين وقال بنظرة هائمة:
ـ أحلى واحدة في الدنيا طبعا ..
اضطربت كليًا، وازدادت برودة أطرافها تزامنًا مع انطلاق سرب من الفراشات يحلق حولها وهي تستمع لاعتراف آخر مميز بالحب ..
فهو لا يتوقف عن قول أحبك ولكن بطرقه المستترة، يقولها في كل يوم دون أن ينطقها، يقولها بعينيه، بكلمات غزله الراقي الذي يحافظ على براءتها ونقاء قلبها، يقولها بدعمه ومساندته لها ، يقولها بابتسامة حصرية خاصة بها وحدها..
حتى أنها أدمنت تلك الاعترافات الضمنية المستترة، وأصبحت موقنة أنه يحبها بل ويهيم بها أيضا..
وبالرغم من أنه لم يمنحها اعترافا صريحًا حتى الآن ولكنها ليست حمقاء لتلك الدرجة التي تجعلها تغفل عن كم الحب الذي يشع من عينيه كلما رآها ، حتى أصبحت لا تنتظر منه أن يعترف بحبه صراحةً، يكفي أن تستشعره كل يوم مئة مرة .
سارا سويًا نحو السيارة، فتح لها الباب بكياسة ولباقة معتادة ، فاتخذت مكانها بجواره ، واستدار هو واستقل مقعد السائق، ثم نظر إليها وقال :
ـ جاهزة ؟!
أخذت نفسًا طويلا ثم زفرته ببطء وهي توميء قائلة:
ـ جاهزة .
انطلق بالسيارة في طريقه حيث مقر الشركة الأم ، والمقرر إقامة حفل بساحتها بمناسبة ذكرى تأسيسها الثلاثون .
لاحظ صمتها طوال الطريق، فأدرك جيدًا ما يدور برأسها، لذا توقفت عن القيادة وصف السيارة على جانب الطريق ثم استدار قليلا نحوها ونظر إليها وقال :
ـ اسمعيني يا نغم.. انتي مش مضطرة أبدا تحضري الحفلة دي إذا كنتي قلقانة..
نظرت إليه وحاولت رسم ابتسامة بسيطة على ثغرها ثم قالت:
ـ أنا مش قلقانة أبدا وانت معايا ..
ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيه ثم قال:
ـ أنا أهم حاجه عندي انتِ ، صدقيني لو حاسة نفسك مش عايزة تيجي معايا أنا مفيش عندي أي مشكلة..
وتابع وهو يحاول اقناعها :
ـ أساسًا مفيش حاجه هتتغير لو عرفت العدو الخفي ده أو لو معرفتوش.. زائد إنه ممكن ميحضرش الحفلة أصلا..
نظرت إليه وتولت مهمة اقناعه وهي تقول بتريث:
ـ متحاولش تقنعني بحاجة إنت نفسك مش مقتنع بيها ، لأنك مهتم جدا تعرف مين اللي بيحاول يوقعك وبيدبر لك مكايد من ورا ضهرك .. وأنا خدت عهد على نفسي من أول يوم دخلت فيه الڤيلا إني هساعدك تكشف الإنسان ده وتعرفه على حقيقته.. وما زلت عند كلمتي ..
تنهد بتوتر وأومأ مؤيدًا ما قالت، ثم قال بتوتر أشد :
ـ الكل هيكونوا موجودين .. وأكيد هيعرفوا إنك كنتي عندي لما يشوفونا داخلين مع بعض ..
أومأت بتأكيد فتابع :
ـ مش عايز أوترك بس لازم تكوني مستعدة لأي سؤال .. خصوصا چيلان .. ممكن تحاول تضايقك أو ترخم عليكي.. عايزك تتجاهليها وتتلاشي وجودك معاها قدر الإمكان.. ومع ذلك عاوزك تكوني مستعدة عشان متخليهاش تستفزك أو تضايقك..
أومأت بموافقة فتابع وهو ينظر إليها :
ـ بعد ما الحفلة تخلص على خير في حاجة مأجلها من زمان لازم أقولها لك .. بس هقولها قدام الكل .
ابتلعت ريقها بتوتر وتساءلت بخجل :
ـ حاجة إيه دي ؟!
أخذ نفسًا عميقا وقال :
ـ خليها في وقتها .. أنا دلوقتي مرتب أفكاري عشان متوترش أكتر مانا متوتر .. فخلي كل حاجه في وقتها المحدد لها أفضل .
أومأت وهي تتصنع التفهم بالرغم من أنها بداخلها كانت تلعن صرامته الضاغطة وجديته المفرطة التي تجعله يؤجل مصارحتها بشيء يفوح من عينيه كما يفوح عطره في الأرجاء تماما ..
قاد السيارة في صمت لمدة ثلاثون دقيقة تقريبا حتى وصل أمام مقر الشركة، ثم ترجل منها واستدار نحو نغم التي ترجلت للتو ثم نظر إليها وقال :
ـ يلا بينا ؟
أومأت بموافقة فتنهد وسارا إلى جانب بعضهما البعض حتى دخلا الساحة المخصصة للاحتفال .
***
في تلك اللحظة كان حسن يقف متخفيًا بعيدًا عن أعين أمن الشركة وهو يحاول تأمين المكان الذي سيدخل منه دون أن ينتبهوا عليه، فرأى نغم التي ترجلت من سيارة فريد ودخلا سويًا إلى الشركة..
شعر بالدخان يغادر أذنيه، والنيران تتأجج بقلبه، ولا إراديًا امتدت يده تتحسس ذلك المسدس بجانبه وهو ينظر نحوهما بوعيد .
***
دخل فريد المقر وبرفقته نغم فجذبا جميع الأنظار نحوهما ، و أولها چيلان التي صُعقت برؤية نغم إلى جواره من جديد ، وشعرت بنوبة من الجنون تنتابها لدرجة أن كل شيء قد تلاشى أمامها ولم يعد بمقدورها سوى رؤيتهما إلى جانب بعضهما البعض في مشهد يكفي لجعل النيران تشتعل برأسها وجسدها بالكامل .
تعجب الكل من ظهور نغم مجددا ، نادية، عمر، وحتى سالم الذي تفاجأ بوجودها مع ابنه كل تلك المدة .
الوحيدة التي لم تتفاجأ هي نسيم والتي كانت على علم بوجود نغم بمنزل أخيها، و كانت على تواصل معها بشكل دائم حتى أنهما أصبحتا صديقتان مقربتان ..
ـ مش ممكن !! البنت دي إيه اللي جابها هنا ؟ وبتعمل إيه مع فريد ؟!
تساءلت نادية باستنكار أقرب منه لسؤال فنظرت إليها چيلان وقالت بصوت مسموع متعمدة إيصاله إلى سالم:
ـ فريد بيه واضح إنه كان بيكدب علينا كلنا الفترة اللي فاتت دي كلها.
فأكمل عمر ما قالت حيث أضاف :
ـ بمعنى أصح كان بيشتغلنا كلنا ومقرطسنا .
لم يغفل سالم عن تلك التلميحات من عمر الذي يحاول تنبيهه لأنه فقد سيطرته على فريد، ولكن ما كان يشغله الآن حقا هو السبب وراء اصطحاب فريد لها للحفل ، بالطبع ليس لسبب عبثي ، فهو يعرف كيف يفكر فريد وكيف أنه يضع حسابات لكل خطوة يخطوها، إذًا فظهور نغم اليوم ليس بدون غاية .
اقتربت نغم من نسيم ، وانحنت نحوها حيث كانت تجلس على مقعد متحرك نظرا لوجود صعوبة لديها في الحركة ، ثم عانقتها بقوة وهي تقول:
ـ مبسوطة جدااا إني شوفتك النهارده.. حمدالله على سلامتك.
عانقتها نسيم بود مماثل ثم قالت :
ـ وأنا كمان مبسوطة اني شوفتك يا نغم .
استقامت نغم بعد أن مسدت ذراع نسيم بلطف ، فحانت منها نظرة عابرة شملت هؤلاء الذين يقفون في صف خلف نسيم ، والذين رمقوها كلهم بنظرة يملؤها الاستهجان، فعادت أدراجها ووقفت بجوار فريد.. حيث هنا لا مجال للخوف أو الارتباك .
اكتمل عدد الحضور ، وبدأت فعاليات الحفل حيث قام منسق الحفل بتشغيل شاشة عرض كبيرة احتلت مساحة جدار كامل ، كان يُعرض عليها شريط مسجل يوضح كيف بدأت الشركة وما هي الصعاب التي واجهها سالم مرسال في تأسيسها وما هي الإنجازات التي حققها على مدار ثلاثين عاما.
كانت نغم منشغلة بمتابعة التسجيل المعروض على الشاشة حتى أنها نست الأمر التي تواجدت من أجله اليوم، بينما فريد قد استمع الى رنين هاتفه باسم أيمن، فأجابه قائلا:
ـ أيوة يا أيمن ؟! إنت فين لحد دلوقتي ؟!
ـ فريد بيه.. لو سمحت قابلني حالا عند البوابة.. في ورق مهم خاص بشحنة المعدات البنائية الجديدة لازم يتمضي دلوقتي حالا ..
ـ ورق إيه يا أيمن اللي همضيه دلوقتي ، أنا مش مركز في أي حاجه دلوقتي..
ـ معلش لازم الورق يتمضي ونبعت لهم الرد حالا يا فريد بيه.. المشروع مش متحمل أي تأخير .
تنهد فريد وقال باستسلام:
ـ طيب أنا جايلك .. خليك مكانك .
أنهى الاتصال وتقدم نحو نغم وهو يقول :
ـ نغم.. ثواني وراجع لك..
نظرت إليه بتوتر وتساءلت:
ـ في حاجة ولا إيه ؟
ـ لأ متقلقيش.. حاجة ضرورية محتاجين يراجعوها معايا بس .. مش هتأخر عليكي.
أومأت بموافقة فتحرك متجهًا نحو البوابة حيث كان أيمن في انتظاره..
ـ يعني الورق ضروري يتمضي دلوقتي يا أيمن ؟! ما انت عارف أنا مش بعرف أشتغل عالواقف كده ..
والتقط من يده الملف، أخذ يطالع الأوراق ورقة تلو الأخرى ، وكلما قلب صفحة من الملف بيده شحب وجه أيمن أكثر، ثم اقترب منه وهو يناوله القلم ويقول :
ـ أنا راجعت الورق يا فريد بيه عشان ماخدش من وقت حضرتك كتير ..
أومأ فريد وهو يتفحص الورق بعناية ويقرأ كل سطر فيه بدقة كالمعتاد وقال :
ـ ولو .. لازم أراجع تاني بنفسي .
ابتلع أيمن ريقه بتوتر بالغ وهو يراه يمعن النظر بالأوراق وشعر باقتراب نهايته، ولكن صوت أنثى انبعث من الخلف منادية باسم فريد هو ما أنقذه حيث شتت انتباه فريد عن التركيز في الورق والتدقيق فيه .
رمقها أيمن بنظرة متعجلة حيث لم يمعن النظر بها من فرط توتره ولكنه شعر للوهلة الأولى أنه رآها من قبل ..
نظر فريد خلفه ليجدها تقف في حالة مزرية ، وجهها شاحب اللون وعيناها جاحظتان ، فاضطرب بشدة وشعر بالخوف عليها وهذا ما جعله يوقع على بقية أوراق الملف سريعا دون أن ينظر إلى محتواها، ثم أعطى الملف لأيمن باستعجال وذهب إلى نغم التي كانت على وشك السقوط أرضًا فاقدةً وعيها ..
أخذ أيمن الأوراق وهو يتنهد براحة شديدة، واستقل سيارته سريعا ثم انطلق بها مسرعا، بينما وقف فريد أمام نغم متسائلا بقلق:
ـ مالك يا نغم في إيه ؟!
شعرت بالدوار يلف رأسها، فأسرعت تتمسك بذراع فريد وتستمد منه الدعم، بينما هو كان يحدق في حالتها البائسة تلك بخوف وهو يقول:
ـ اتكلمي.. فيكي إيه ؟!
ـ هو !!
قالتها وهي تتطلع نحو البوابة حيث كان يقف أيمن ، فقطب جبينه متعجبا وهو يتسائل بحيرة :
ـ هو مين ؟!
أشارت بسبابتها حيث كان واقفًا وقالت بصوت خافت مضطرب:
ـ هو .. اللي كان واقف معاك حالا.. هو اللي اتفق معايا قبل كده .
انتشرت أمارات الصدمة على ملامحه ، وبهت لونه وهو يسألها قائلا بدهشة :
ـ تقصدي أيمن ؟!! مش ممكن !! أيمن ده مدير أعمالي …
قاطعته قائلة بتصميم:
ـ هو ده اللي خبطني بعربيته، وهو اللي خدني على شقته واتفق معايا أحضر الحفلة وأعمل اللي عملته .
ضحك ضحكة مبتورة ساخرة وقال:
ـ مش ممكن .. مستحيل أصدق .
نظرت إليه بصدمة، وارتجف جسدها بالكامل، وابتلعت ريقها ثم قالت:
ـ لازم تصدق ، هو ده اللي …
قاطعها وهو يشير اليها بكفه أن تتوقف ومسح على وجهه بضيق شديد وارتباك أشد ثم نظر إليها بتوتر وهو يتجنب النظر إلى عينيها وقال :
ـ متحاوليش يا نغم .. بقولك ده بالذات مش ممكن..
وصاح منفعلا بقوة أفزعتها :
ـ انتي عارفة الشخص اللي بتتهميه ده يبقى مين ؟! ده بقالُه حوالي تمن سنين شغال معايا وهو اللي ماسك شغلي كله .. أيمن ده الشخص الوحيد اللي بثق فيه .. إنتِ أكيد متهيألك أو مختلط عليكي الأمر .
سالت دمعاتها وهي تهز رأسها برفض، هي لا تتوهم، ولم يختلط عليها الأمر، هي لا يمكنها أن تشتبه في شخص أبدا لأن أكثر ما يميزها هو ذاكرتها القوية .
ـ لأ.. أنا مش متهيألي .. صدقني هو ده اللي انت بتدور عليه ، هو ده اللي عاوز يوقعك .
هز رأسه بقوة وإصرار ورفض قاطع، ثم نظر إليها وهو يقول :
ـ مستحيل ، أنا ممكن أصدقك في أي حاجه تقوليها يا نغم ، ممكن أصدق لو قولتيلي إن ابويا نفسه اللي كان عايز يوقعني .. إنما أيمن لأ.. أنا آسف مش مصدقك .
تركها في حالة من الصدمة وتوجه حيث يقف الجميع أمام شاشة العرض، فلحقت به وهي تحث الخطى لكي تواكب خطواته الواسعة وهي تهتف من وراءه وتقول:
ـ لازم تصدقني .. أنا مش بكدب عليك ، ولا بيتهيألي .. أنا فكراه كويس جدا ..
وقف في مكانه وهو ينظر أمامه نحو شاشة العرض وهو يعقد يديه أمامه ويحاول تنظيم أنفاسه الهادرة بينما هي تقف بجواره وهي تحاول اقناعه وهي تقول بإصرار :
ـ فريد.. بص لي .. لازم تصدقني.. أنا مقدرة صدمتك فيه ، بس دي الحقيقة ..
أغمض عينيه بقوة وهو يهز رأسه برفض ويقول :
ـ لو سمحتي يا نغم اسكتي .. اعتبري إن كل اللي قلتيه ده محصلش. وأنا هعتبر إني مسمعتوش..
ـ مش هينفع.. طالما بتدور على الحقيقة يبقى لازم تتقبلها أيًا كانت هي إيه ..
ـ أرجوكي اسكتي..
_ أرجوك انت اسمعني .. هتفت بلوعة ودمعاتها تتدفق تباعًا .
فنظر إليها بقوة وهو يقول بحدة وملامح متجهمة جعلتها تشعر وكأنها ترى أمامها إنسانًا آخرا لا تعرفه.
ـ هو ده بقا المخطط من أوله لآخره مش كده ؟! إنك تلبسيها لأيمن وتشككيني فيه فتبعدي الشكوك عن الشخص الحقيقي .
مرت لحظة صمت طويلة ومربكة ، لم يتنازل أيا منهما عن نظراته تجاه الآخر ، وبالرغم من كم القسوة التي هدرت من كلماته إلا أن عيناها الضحلتان الغبيتان لم تتوقف عن رجاءه والتوسل إليه أن لا يفعل.
ـ فريد.. عشان خاطري متعملش كده !
قالتها في رجاء ، أن لا يهدم آمالها مجددا.. أن لا يقطع ذلك الخيط الرفيع بينهما ، توسلت إليه ألا يخذلها فيكون في خذلانه موتها المحقق.
ولكن صمته المطبق هو ما أكد لها أنها تستجديه عبثا، فهو قد أخذ قراره وانتهى، لقد حكم عليها بالموت من جديد ، ولكن هذه المرة سيكون موتًا حتميًا.. لن يجدي أي شيء نفعًا في إنقاذها منه مهما فعلت .
أغمضت عينيها الباكيتين برجاءٍ خائب، وحاولت تنظيم أنفاسها الثائرة وقد اتخذت قرارا بالانسحاب …
ستغادر ولكن تلك المرة بدون رجعة..
ولكن ما حدث هو منعها، حيث انطفأ الضوء فجأة ، وعمّ الظلام الأرجاء، وجعل حالة من الهرج والمرج تتسيد الأجواء، وفي لحظة.. تم تشغيل شاشة العرض من جديد، مع الإبقاء على الأضواء مطفأة ، فكان الضوء الوحيد الذي ينير الساحة هو ذلك المنبعث من شاشة العرض الكبيرة .
توجهت كل الأنظار نحو الشاشة باستغراب، ما لبث أن ازداد وهو يرون رجل أربعيني يتقدم ويقف أمام شاشة العرض، فجذب جميع الأنظار نحوه نسبةً لأن هيئته مميزة، خاطفة للأعين ..
أخذت الهمهمات تعلو والتساؤلات تتردد، الجميع يستفهمون ولا إجابة سوى عنده هو..
فتحدث أخيرا وأسكت جميع الأفواه التي تثرثر حين قال:
ـ مساء الخير ، طبعا حضراتكم مستغربين مين أنا ! كان نفسي أقولكم إني أشهر من نار على علم لكن للأسف محدش من الموجودين يعرفني.. عشان كده أنا هعرفكم بنفسي .
جال ببصره على جميع الأعين التي تحدق به بتعجب، وتوقف للحظة ينظر إلى نسيم التي تنظر إليه باستغراب.. خاصةً بعدما رأته ينظر إليها بتركيز شديد أثار ريبتها، ثم نظر أمامه مجددا وهو ينظر للجميع قائلا:
ـ أنا بشمهندس عاصم الدالـي .
***
وصلت چوليا إلى الملهى ، صفت سيارتها وترجلت بخيلاء ، ثم دلفت المكان بتوتر ، فهذه هي المرة الأولى التي تأتي فيها إلى هنا منذ زمن طويل ، ومجرد فكرة أن ذلك المكان سيجمعها بشريف والمطلوب منها أن تظهر تماسكها وثباتها فكرة قاسية ومثيرة للأعصاب ..
سارت نحو الطاولة التي يجتمع أصدقاءها حولها، وعيناها الزرقاوتين تبحثان عنه كمن يبحث عن إبرة في كوم قش، وعندما لم تجده تنهدت براحة شديدة، ثم تقدمت من رفاقها، حيتهم ثم جلست بجوارهم ..
لم تغفل عن تلك الأعين التي كانت تستقطع من جسدها ، وهذا ما أشعرها بالزهو اللحظي، ومنحها شعورا لذيذا بأنها لازالت ذات تملك تأثير قوي وساحر .
مسحت المكان بعينين قلقتين، كانت ترغب في رؤيته هنا أو هناك، بالرغم من أنها في داخلها متيقنة أنها لن تمنحه أي اهتمام، وستعاملها وكأنه هو والهواء سواء، ولكنها ترغب في رؤية الشوق بعينيه ..
زفرت وهي تسب غبائها..
تبًا لكِ چوليا، لا زلتِ تظنينه واقعا في غرامك، وأنتِ تعرفين الحقيقة كاملة .. الحقيقة للأسف عكس ما تتمني تمامًا…
جاهدت لكي تخرج من تلك الحالة المشفقة، وحاولت أن تُبقي كل تركيزها على تلك الأجواء الصاخبة وأن تتفاعل معها ، وما ساعدها في ذلك هو رفيقها نائل الذي عرض عليها أن يتشاركا الرقصة القادمة سويًا..
لم تفكر مرتين ، بل نهضت فورا وسارت معه نحو ساحة الرقص وبمجرد ما إن انطلقت الموسيقى مدويةً حتى بدأ اثنينتهم في الرقص بحركات انسجامية حمقاء فوق العادة.
جاهدت خلالها ألا تنظر حولها في كل اتجاه بحثًا عنه، وفجأة، توقفت أنغام تلك الموسيقى الغربية الحمقاء وبرزت أنغام موسيقى تعرفها جيدا..
انتبهت أذناها، وتحفزت كل حواسها للأغنية الصادحة من مكبرات الصوت ، بينما عقلها يعمل ببطء ، من المستحيل ألّا يميز هذا الإيقاع ، كيف لا وهو مرتبط بذكرى مجنونة تشاركت فيها معه جنونًا وجموحًا من نوع آخر ..
ابتلعت ريقها بتوتر ، ودق قلبها بتوتر أكبر وهي تشعر وكأن الهواء يتبخر من حولها ويحل محله عطره الغبي الذي يُسكرها ويُخرس كل نداء بها ..
وفجأة.. وجدتهُ أمامها، يقترب منها وهي تقف كالبلهاء في منتصف ساحة الرقص تماما.. يرتدي قميصا وسروالا باللون الأسود ، وشعره يشاركه رغبته في الجموح، قميصه مفتوح للمنتصف ، تماما كما تفضل أن تراه ..
وقف أمامها فسرق القليل من المتبقي من ثباتها، وشعرت في تلك اللحظة بقدميها ترتجفان وهي تنظر للأعلى، تنظر إلى عينيه الضيقتين المخمورتين ، ثم تحركت مقلتيها للبحث في ملامحه التي لم تغب عن مخيلتها لحظة، وتوقفت على شفتيه التي همست لها بفحيحٍ مغوي :
ـ ارقصي معايا ..
استيقظ جسدها على الإيقاع المألوف ..
وتحفزت كل عضلة به استعدادا لتلك التجربة الجامحة الضةربة بكل منطق عرض الحائط..
أحاط خصرها بذراعه فشعرت بصدمة كهربائية تندفع في كل جسدها من تلك النقطة، شرقت أنفاسها، وشعرت بعبء شيء ثقيل وصلب داخل معدتها..
ابتلعت ريقها بصعوبة، ومالت برأسها للخلف وهي تنظر إلى عينيه ، فرأت بداخلها تحدٍ وسخرية كانت تترقبهما ترقبًا غير مرغوب .
وضعت يدها على صدره، مدركةً صلابته أمام أصابعها، وتركت يدها ترتخي فوق صدره، حينها فقط قربها منه أكثر، تضاءل جسدها أمام جسده .
بعد برهة، كانا يتحركان سويا، تقريبا كل جزء من جسديهما يتلامس ، حركاته هو كانت واثقة وقائدة بينما حركاتها بدت متشنجة ومتوترة تماما ..
زفرت نفسًا وحاولت تحرير ساقيها لتركز على الرقص بدلا من عينيه، ولكي تهديء من انهزام قلبها ووعيها بداخلها ، لكن قُرب جسديهما دق نواقيس الخطر داخل رأسها وجعل التفكير في شيء آخر أمرًا مستحيلا ..
كانا يرقصان، جسديهما يتماوجان ، ينسجمان، يتناغمان، وهذا أمر لا ينبغي عليها هي ـ على الأقل ـ فعله.
موقف لا يجب أن يقع فيه شريف وچوليا اللذان لم يتركا مسبة لبعضهما البعض قبل أيام إلا وألقياها ..
أدارها شريف بحركة سريعة ثم قربها منه مجددا، تسارع قلبها لفعلته بطريقة لا شأن لها بالنزاع القائم بينهما .
بدأ الإيقاع في الانخفاض ببطء ، وتحولت الموسيقى من صاخبة إلى هادئة، بدت مثالية للتمايل ونسيان كل شيء خارج إطار لحنها المفعم بالإثارة..
أغمضت عينيها باستسلام وسمحت لتلك اللحظات الدافئة أن تتسلل إلى قلبها وتستقر في أعمق نقطة فيه..
وأخذت تهديء نفسها.. هذه آخر مرة چوليا .. آخر رقصة.. آخر عناق .. استمتعي بكل شيء وكأنكِ تحصلين عليه للمرة الأخيرة ..
همس بجوار أذنها بطريقة أفقدتها كل ذرة ثبات ، وابتعد للوراء خطوات بسيطة وأخذ يرى تأثيره عليها، فرآها مغمضة عينيها وتوميء باستسلام ..
قادها للخارج، حيث سيارته المصفوفة بمرآب الملهى، وفتح لها الباب فاستقلت مقعد الراكب، بينما هو احتل مقعده سريعا وانطلق متجهًا بها نحو منزله ..
***
ـ أنا بشمهندس عاصم الدالـي..
استوقف الاسم الكثيرين ، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم عن ذلك الاسم ولكن لم يعرفه أحد سوى نسيم التي اصفرّ وجهها وتلبد و كستهُ الغيوم.. وامتدت كلتا يديها تتمسك بيد المقعد الذي تجلس عليه في محاولة بائسة منها لطلب الدعم ..
بينما كان هو قد تابع وقال :
ـ أكيد الإسم مش مألوف بالنسبة لحضراتكم.. أنا عارف . لكن خلينا نشوف الفيديو ده الأول وبعدين هعرفكم بنفسي أكتر .. لكن عندي طلب صغير وده في صالح عيلة مرسال .. يا ريت الحضور يكونوا على قد أفراد العيلة بس .
نظر فريد إلى والده وهز رأسه مستفهمًا فرأى الحيرة بادية على وجهه مما يعني جهله بالأمر مثله ، فنظر إلى عاصم وقال بحدة:
ـ ممكن تخليك direct لو سمحت ، احنا مش فاضيين للسخافة دي .
ابتسم عاصم بثقة، وقال:
ـ صدقني يا فريد بيه السخافة دي هتشكرني عليها بعدين ..
توترت الأجواء كثيرا ، فاضطر فريد للاعتذار من الحضور بحرج بالغ لينسحبوا ولم يبق سوى عائلة سالم فقط، فنظر سالم إليه وقال :
ـ أظن عملنا اللي انت طلبته ، اتفضل بقا قول عايز تقول إيه ؟
أومأ عاصم بهدوء، وأشار إلى الشاشة، فتحركت كل الأنظار من عليه إلى الشاشة مجددا، وظهر بالمقطع الشارع الخلفي لڤيلا سالم ، في البداية كان الشارع خاليًا، ثم ظهرت سيارة وتوقفت، ثم نزل منها شاب ووقف بجوار السيارة وهو ينظر تجاه البوابة قبل أن يباغته ثلاثة رجال ضخام ويقومون بسحبه وتكبيله .
بعد ذلك خرج منصور الحارس الشخصي لسالم من البوابة وتوجه نحوه ووقف أمامه يحادثه للحظات قبل أن تخرج نسيم ، وبعدها ظهر سالم الذي أشار لمنصور فأطلق النار على رأس ذلك الشاب فسقط غارقا في دمائه .
هزت الصدمة أوجه الحاضرين وسحبت الدماء منها، وأولهم كانت نسيم التي كانت ترتجف وهي تنظر إلى الشاشة وجسدها يهتز بطريقة ملحوظة، ومثيرة للشفقة، فجعلت الجميع يركضون نحوها ، فريد ، نغم ، عمر ، چيلان .. الكل هرعوا إليها لينقذوها من تلك الحالة الهستيرية التي انتابتها..
بينما هي كانت لا تحيد بعيناها عن عاصم ولا هو قد حرك ناظريه من عليه ، ثم تحدث وقد اختفت ابتسامته المزيفة وهو يقول بصوت قاس وحاد :
ـ أظن بعد اللي شوفتوه ده بقا عندكم فضول تعرفوا أنا مين ، أنا أخو الشاب اللي اتقتل بدم بارد قدامكم ده ، و زي ما الكل شايفين ، سالم بيه مرسال هو اللي منح الضوء الأخضر للحارس بتاعه عشان يضربه بالنار ، يعني هو القاتل الحقيقي لأخويا .. وأنا دلوقتي راجع.. وبعد تمن سنين ، بقوله عايز حق أخويا يا سالم يا مرسال .
قالها وهو ينظر لسالم بغضب شيطاني يختبأ خلف عينين قاسيتين متوعدتين، ترمقان سالم بنظرات جحيمية وتتوعدانه بالهلاك .
كاد سالم أن يفقد صوابه ، فما رآه الآن كارثة بكل المقاييس ، ونجاتهُ منها غير مضمونة. فوقف ينظر إلى عاصم وعيناه تفيض منها الرهبة ويقطر منها الخوف .
كانت نسيم تشعر بأن قلبها على وشك التوقف، لولا أخويها اللذين أحاط كلا منهما بها من جانب وكانا يحاولان تهدئتها وتخفيف وطأة الموقف عليها .. فيما بقت هي تنظر نحو عاصم بغير تصديق ، ثم سمعته يقول لسالم :
ـ أخويا الوحيد اللي كل ذنبه إن حب بنتك وكان بيتمنى ينتشلها من العذاب اللي انت معيشها فيه، أخويا اللي قتلته انت والحارس بتاعك ودفنتوه في مدافن العيلة عشان تخفي أي أثر لجريمتك .. كنت فاكر إنه مقطوع من شجرة وملوش حد يسأل عليه ، مكنتش تعرف إنه له أخ بيدبر طول السنين دي يوقعك وينتقم منك ويجيب حق أخوه منك إزاي !
ثم تابع وهو يدور بعينيه على كلا من فريد وعمر ويقول :
ـ كنت قادر أنشر الفيديو ده من وقت ما جالي ، أو أقدمه للشرطة وهما يجيبوا لي حق أخويا منك .. لكن اخترت ألعب معاك بطريقتك ، مكنتش بسيب فرصة أقدر أنتقم منك فيها وأضيعها..
ثم نظر إلى عمر وابتسم ساخرا وقال :
ـ أنا اللي ورا فضيحة عمر ..
شحب وجه عمر ، فتجاوزه ونظر إلى فريد وقال :
ـ وأنا كمان اللي اتسببت لك في فضيحة الحفلة يا فريد بيه ..
قطب فريد جبينه بصدمة واستغراب، وحانت منه التفاتة نحو نغم وكأنه أراد أن يثبت لها صحة كلامه، وأن أيمن بريء من تلك التهمة التي ألقته بها.. ففهمت نغم فحوى نظراته وهذا ما آلمها أكثر ..
لينهي عاصم ذلك الجدل المثار بينهما بقوله :
ـ طبعا لولا إيدي اليمين اللي زرعتها في وسطكم السنين دي كلها مكنتش قدرت أعمل أي حاجه من دي ، وبالمناسبة.. أنا اختارت إن ده يكون نوع تاني من أنواع الانتقام ، إنك تدي الثقة لحد ويخونك.. بتوجع أوي مش كده يا فريد بيه ؟!
نظر إليه فريد مستفهما ، وبداخله قلبه ينذره أن هناك عاصفة قوية ستضرب وجدانه بالكامل ، فتابع عاصم وقال بنبرة يملؤها التشفي :
ـ أيمن مثلا .. مدير أعمالك وإيدك اليمين اللي كنت بتثق فيه أكتر ما بتثق في أخوك.. مكنتش تعرف إن هو السلاح اللي بحاربكم بيه وإنه هو اللي بينفذ أوامري وبيساعدني في كل شيء مش كده ؟
أغمض فريد عينيه بندم ، كل ما كان يشغله الآن هو نغم التي كذبها ولم يصدق ما قالته بشأن أيمن .. والآن ذلك الوغد يثبت أنها كانت محقة .. وآخر ما فكر فيه هو خداع أيمن وخيانته له ..
تابع عاصم وهو يرمق الجميع واحدا تلو الآخر ثم ألقى بقنبلته الموقوتة:
ـ وآخر الأوامر دي يا فريد بيه هو انه يمضيك على عقد بيع الشركة بتاعتك وشركة السيد الوالد بما إنك معاك كل الصلاحيات..
جحظت عينا فريد بصدمة ، تلك الصدمة لم تقل عن صدمة سالم الذي انزلق ريقه بتوتر بالغ وشعر أنه على وشك السقوط فاقدا وعيه..
بينما تابع عاصم وهو ينظر إليه وقال :
ـ كل اللي خدته منكم واللي عملته فيكم مش كفاية ، بالنسبة لي مش هقتنع ولا هحس إني رجعت حق أخويا فعلاا إلا في حالة واحدة، إني أشوفك مذلول قدامي انت وكل فرد في عيلتك ، انك تتشرد ومتلاقيش مكان يأويك انت وهما.. انك تترجاني أسيبكم في حالكم بعد اللي ناوي أعمله فيكم..
شعر سالم بالدماء تغادر جسده من شدة الصدمة، بينما تابع عاصم قائلا بابتسامة جانبية ساخرة :
ـ خلاص من النهارده مفيش سالم مرسال ، سالم مرسال ده كان أسطورة وأوعدك وعد رجالة هتتحطم على ايديا.. أولها أهو شركاتكم بقت في ايديا .. بس ده مش كفاية أبدا يا سالم بيه..
و حول نظرته من على سالم إلى نسيم التي كانت تنظر إليه وعي تبكي وقال :
ـ زي ما شركاتك تلزمني.. بنتك كمان تلزمني !
في تلك اللحظة تقدم فريد نحوه مندفعًا بغضب أعمى، ولكن عاصم استوقفه في اللحظة الأخيرة حيث قال :
ـ هتجوزها على سنة الله ورسوله..
ونظر إلى سالم قائلا بجرأة :
ـ أكيد مش هعيش معاها في الحرام مثلا.. وعلى فكرة انتوا مش مخيرين ، إن مكنتش هتجوزها فانا هقدم الفيديو ده للشرطة وهي تحقق في الموضوع بمعرفتها .. ويفتحوا في القديم كله بقا ..
ونظر إلى سالم الذي يقف في موقف لا يحسد عليه بتاتا ثم قال :
ـ إني خيرتك فاختار يا سالم بيه .. تتنازل عن بنتك ؟! ولا عن حريتك ؟!
***
في تلك اللحظة كان حسن قد استدار ووصل إلى البوابة الخلفية للشركة ، وصعد السور حتى تمكن من دخول المقر ، و ها هو يحاول دخول الساحة المُقام بها الحفل ، وما سهّل عليه فعل ذلك هو انطفاء الأضواء بالمقر كله مما جعله يتنقل بحرية إلى أن وصل إلى الساحة ، واستل سلاحه من جنبه ثم وقف يبحث عن نغم ، فوجدها تقف وسط مجموعة، كان من ضمنها فريد ، عمر ، وچيلان .. يلتفون حول شابة تجلس على كرسي متحرك ..
كان من الصعب الوصول إلى نغم ، أو إلى فريد لأنه كان يجثو على ركبتيه أمام تلك الفتاة صاحبة الكرسي، لذا لم يجد أمامه سوى والدهم.. سالم مرسال.. والذي كان يقف موليًا ظهره نحو حسن ، وفي لحظة خاطفة كان حسن قد وقف خلفه، وأحاط رقبته بذراعه بقوة ووضع المسدس في رأسه ..
سادت حالة من الهرج والمرج وتعالت الصرخات ، وأسرع أمن المكان يحاولون السيطرة على حسن ولكنه نظر إلى الجميع قائلا :
ـ اللي هيلمسني هفرتك دماغ الراجل الطاهر ده ..
أشار إليهم سالم لكي يبتعدوا فتوقف كلا منهم مكانه ، ما عدا نغم هي التي أسرعت نحو حسن وهي تصرخ بانهيار وهي تقول :
ـ إيه اللي انت بتعمله ده يا حسن ، سيبه هو ملوش دعوة بأي حاجة ..
أسرع فريد باللحاق بها وهو يجذب يدها ويستوقفها قائلا :
ـ نغم استني هنا ..
ولكنها نزعت يدها من يده بقوة ووقفت تنظر إليه بغضب طفا على نظراتها وهي تقول :
ـ ابعد ايدك عني .. من النهارده خلاص أنا مش عايزة أعرفك تاني ، خلاص يا فريد بيه .. خلصت .
وتقدمت من حسن ووقفت بجواره وهي تنظر إليه برجاء صارخ وتقول:
ـ سيبه يا حسن وخلينا نمشي من هنا .. أنا خلاص همشي معاك وهعملك اللي انت عايزُه بس خلينا نمشي ..
نظر إليها حسن بجمود، كان على وجهه قناعٍ خاوٍ لا يمكن تفسيره، كما لو سُرقت كل مشاعره ، كان ينظر إليها بلا تعبيرات واضحة، بلا ردة فعل ، ثم بدأت ابتسامة ساخرة متهكمة تشق طريقها نحو ثغره وهو يتساءل :
ـ ياااه.. أخيرا يا نغم ! دلوقتي بس بتقوليلي يلا نمشي وموافقة ترجعي معايا ؟! بعد إيه ؟! بعد ما لبست روحي مصيبة وهربان من الشرطة ؟ بذمتك انتِ لسه رجوعك يلزمني في إيه ؟!
قطبت جبينها بتعجب وأخذت تنظر إليه باستغراب، في تلك اللحظة وجدت نفسها تتحرك تلقائيا وجدارا منيعا يقف أمامها ، ذلك الجدار كان جسد فريد الذي حال بينها وبين حسن ..
ـ أيوة كده الكلام يحلى ، أنا أحب أتكلم راجل لراجل ..
تجاوزت نغم فريد ووقفت أمام حسن من جديد وهي تقول. :
ـ حسن كلمني أنا .. أنا خلاص عرفت غلطي يا سيدي وبقوللك أهو أنا كنت غلطانة .. صدقني أنا موافقة أرجع معاك دلوقتي وأقسم بالله ما هفكر أهرب منك تاني ..
طالعها حسن بتهكم، وابتسم ابتسامة سخيفة ساخرة وهو يقول :
ـ للأسف عرفتي غلطتك متأخر يا بنت خالتي ، أنا خلاص مبقاش يفرق معايا ترجعي أو لأ.. أنا كده كده عارف إني هخرج من هنا عالسجن..
و نزع السلاح من رأس سالم ثم صوبه نحو جبهة فريد وهو يقول :
ـ بس قبل ما أدخل السجن اكون عملت اللي أنا عايز أعمله من زمان ..
صرخت نغم بفزع وهي تقف أمام فريد تماما، تحاول حمايته بكل ما تملك من قوة ..
ـ لأ.. اوعى تعمل كده يا حسن عشان خاطري ..
نظر حسن إليها بأسى، ثم إلى فريد الذي ينظر إليه بتحدٍ غير آبهٍ بفوهة المسدس المصوبة نحوه .. ثم عاد بنظره إليها وهو يقول :
ـ خايفه عليه للدرجة دي ؟! بتفديه بروحك ؟!
ـ حسن.. عشان خاطري اعقل ومتضيعش نفسك وتضيعني معاك ، نزل المسدس ده وخلينا نمشي من هنا وأنا أوعدك والله ما حد هيتعرض لك .
حركها فريد بقوة لكي تبتعد من أمامه، ولكنها أبت ، وتسمرت بأرضها تحاول الحول بينهما ، فطالعها حسن وملامحه لا تنم عن الخير ابدا وقال بصوت مرهق :
ـ مش فارقة كتير حد يتعرض لي أو لأ.. أنا كده كده ضايع.. هيجرالي إيه يعني أكتر من اللي جرى ؟!
وحانت منه نظرة نحو كل الموجودين وهو يقول :
ـ أنا مشيت في سكة اللي يروح ميرجعش يا نغم هانم ، يعني سواء رجعتي أو لا كله واحد .
تقدمت منه، ووقفت أمامه مباشرةً تقول:
ـ عشان خاطري يا حسن اوعى تأذيه ..
ـ بتحبيه للدرجة دي ؟
تساءل وهربت من عينه دمعه غادرة فأومأت وهي تجهش ببكاء عنيف مما جعله يهمس بخشونة من بين أسنانه بحديث تفوح منه الكراهية:
ـ لو كنت بكرهه وعاوز أخلّص عليه فانا بعد كلامك ده بقيت بكرهه وعاوز أخلّص عليه وأرمي جتته للكلاب .. انتي بكلامك ده كرهتيني فيه أكتر وإذا كنت متردد أقتله فانا دلوقتي هقتله وأنا مغمض..
وفجأة رأت خالتها تتقدم منها، وهي تصرخ وتنادي باسم حسن مما جذب أنظار وأسماع الجميع لها..
صُعق حسن بوجودها، فنظر خلفه بحذر وهو يصيح مستنكرا :
ـ إيه اللي جايبك ورايا يمّا ؟!
رآها تقف أمامه، تحديدا أمام فريد ، وهي تهز رأسها وتقول:
ـ لو عاوز تموت حد يبقا أنا أولى ، أنا اللي استحق الموت .
أوشك حسن أن يصاب بنوبة من الجنون، وأخذ يطالعها بصدمة وغير تصديق وهو يقول :
ـ إيه الكلام اللي بتقوليه ده يما هو ده وقتك .. ابعدي ومتخلنيش أتجنن ..
ـ مش هبعد يا حسن ، لو في حد يستحق الموت الحد ده هو أنا .. لأني لو كنت اتكلمت من سنين مكانش ده كله حصل ، لكن كنت جبانة وفضلت ساكتة ومخبية عليك الحقيقة اللي كان لازم تعرفها من زمان.. والنتيجة إيه ؟! انت واخوك واقفين قصاد بعض وعاوز تموته ..
قالت ذلك وتحولت عيناها دون وعي إلى وجه سالم الذي شحب فجأة، ثم جذبها مرة أخرى صوت ابنها الذي تساءل بعدم فهم :
ـ إيه التخريف اللي انتي بتقوليه ده ؟! مين اللي يبقى اخو مين ؟!
توقفت عن الكلام، وأطرقت رأسها أرضا في صمت، ثم مسحت دمعاتها وشرعت في الحديث الذي توقفت عنه لسنوات طويلة وهي لازالت مطرقة برأسها أرضا في خزي، غير قادرة على النظر في وجه أيًا منهم..
ـ إنت.. و فريد … انتوا الاتنين اخوات .
نظر كلا من فريد وحسن لبعضهما البعض بصمت واستنكار ، ثم نظر كلا منهما إليها باستفهام ..
أما سالم الذي بدأ عبوسًا كاملا يُرسم على قسماته كان قد بدأ في تذكرها، بالرغم من أنه لم يعرفها للوهلة الأولى بسبب تغير معالم وجهها تماما وجسدها الذي أصبح نحيفًا هزيلا ، ولكنه بعد أن رمقته بتلك الطريقة القاسية استطاع أن يعود معها بالزمن للوراء ..
نظرت عائشة إلى حسن الذي وقف مذهولا ، يحاول استيعاب ذلك الهراء الذي تتفوه به، ثم ابتلعت ريقها بتوجس وهي تقول:
ـ أبوك يا حسن … مش محمود جادالله .. ابوك يبقي سالم مرسال .
سدد حسن نظرته فورا نحو سالم ، في نفس الحين الذي نظر فيه سالم نحوه ، تلاقت أعينهم بذهول ، وعادت إليها مجددا بصمت ، ثم برز صوت حسن قائلا بانفعال وغير تصديق:
ـ والله ؟! أبويا يبقى سالم مرسال ؟!
وفجأة انفجر ضاحكا بكل قوة ، وارتخت قبضته حول المسدس ولكنه تدارك نفسه سريعا وصوبه مجددا نحو رأس فريد وهو يقول :
ـ تمثيلك فاشل يا أم حسن ، كل ده عشان تحميه مني مش كده ؟! للاسف مدخلتش عليا دي ، لا كلتها ولا شربتها .. ولو حتى قولتيلي إيه مش هصدق ..
هزت رأسها بنفي، ونظرت إلى سالم وهي ترجوه قائلةً:
ـ اتكلم يا سالم .. قولله إني كنت مراتك في يوم من الأيام وخلفت منك..
طالعها سالم بصدمة وقال وهو ينظر نظرة عابرة نحو حسن :
ـ خلفتي مني بنت !!
ـ و ولد .
ألقتها بقوة وتابعت:
ـ خلفت توأم ، وخوفي من أبوك خلاني أهرب بالولد وأسيبلك البنت ، الولد ده يبقا حسن .. حسن ابنك وانت أبوه يا سالم .
أخذ سالم يحدق في وجهها، ويستوعب كلماتها التي أعادتهُ إلى هذا اليوم ، جف حلقه من الصدمة ، ونظر تلقائيا إلى حسن الذي ظل ينظر إليه هو الآخر بغير تصديق.. ثم إلى فريد الذي كان ينظر إلى ثلاثتهم بذهول.. وبينما الجميع يتبادلون النظرات المغمورة بالصدمة في صمت دوى صوت سيارة الشرطة قريبا منهم، واقتحم رجالها المكان وفي لحظة كانوا قد تمكنوا من حسن وألقوا القبض عليه ..
لم يستوعب ما حدث، بل ظلت نظراته مصوبة نحو سالم.. يرمقا بعضهما البعض باستفهام .. كلا منهما يغوص داخل عينيّ الآخر ويحاول استخراج إجابة شافية..
ـ إنت أبويا ؟!!!
تساءل حسن والقهر يرسم انعكاس صورته على صفحة وجهه ببراعة، وفيما هو يحدق فيه منتظرا إجابة لم يحصل سوى على دموع متحجرة ملأت عيني سالم ، وصمت مطبق أبلغ من كل عبارات الأسى واليأس..
سحبهُ رجال الشرطة نحو الخارج بعد أن صادروا سلاحه، فتحرك معهم خانعًا، مستسلمًا، ولكن عينيه الغاضبة أبت .. وظلت شريدة، تبحث في وسط أمواج عاتية من الحيرة عن أي شيء يرشدها لبر الأمان .. وهتف أخيرا ، باعثا رسالة قوية لسالم :
ـ حتى لو مفيش عندك إجابة النهارده ، فأكيد بكرة عندك.. هنتقابل تاني .. مسيرنا هنتقابل يا سالم يا مرسال .
***
نزلت چوليا من الفراش الذي تشاركته للتو مع شريف ، و جرت قدماها بهوان وخنوع نحو المرآة ، ثم وقفت أمامها وأخذت تنظر إلى نفسها باحتقار، بازدراء، تراقب آثار عدوانه التي تركها على جسدها باشمئزاز ونفور، وأخذت تجهش بالبكاء وهي تنظر إلى انعكاس أحقر صورة لها على مر حياتها..
تذكرت يوم نعتها بالقط الميت، وأخبرها أنها ستظل خاضعة له مهما حاولت التمرد عليه، وأنه المسيطر الوحيد على مشاعرها، والمالك الأوحد لمشاعرها، وأنها كلما حاولت الهروب من حصاره ستعود إليه طواعية، ودون مجهود منه، لينتهي بها الحال أسيرة لتلك المشاعر الوهمية التي يمن عليها بها .
ابتلعت ذلك الشعور بمرارة، وأخذت تحدق فيه حيث كان نائما على السرير أمامها بأريحية بينما هي تلاطم أمواج من الكراهية والحقد..
وبمنتهى الرضا ، سارت نحو خزانته، فتحتها ، ثم فتحت خزنته السرية واستلت منها سلاحه الخاص ، ووقفت تنظر إليه وهو بيدها يناديها لتنفيذ الأمر الذي يلح عليها منذ زمن .
اقتربت منه، ثم مالت نحوه، وبكل الخلل النفسي الذي تضمره مالت عليه وقبلت خده قبلة أخيرة.. ثم شدت أجزاء المسدس ..
فَزع من نومه في تلك اللحظة، وانتفض من الفراش واقفا على الأرض أمامها وهو ينظر إليها بهلع ويقول :
ـ إيه ، في إيه ؟!
لم تجب ، فنظر إلى المسدس بيدها وجحظت عيناه بصدمة وهو يقول :
ـ ايه الي انتي مسكاه ده يا چوليا ؟! اعقلي يا حبيبتي..
ابتسمت ابتسامة ساخرة ولم تعقب، فنظر إليها وهو يحاول السيطرة على تلك الحالة الجنونية التي تملكتها وهو يقول :
ـ هاتي المسدس يا چوليا .. هاتيه وأنا هعمللك كل اللي انتي عاوزاه ..
أومأت أن لا ، ثم صوبته نحوه فجأة، فتراجع للخلف بخوف وهو يبتلع ريقه بخوف لعين ويقول :
ـ إهدي يا حبيبتي.. اهدي وسيبي المسدس ..
ـ بتحبني يا شريف ؟!
تساءلت فأومأ مؤكدا وهو يرمق السلاح بيدها بفزع وقال :
ـ أكيد يا بيبي بحبك وعمري ما حبيت غيرك ..
ـ كداب ..
ألقتها بقوة وهي تنظر إليه بقرف وازدراء، ثم تابعت وهي تبتعد للخلف وتصوب المسدس نحوه :
ـ إنت كداب ، وحقير ، أنا بكرهك.. و بكره نفسي لأني ضعفت قدامك تاني.. أنا مش قادرة أخف منك.. مش قادرة أتعالج ، مش قادرة أنساك..
ـ چوليا .. أبوس ايديكي هاتي المسدس ده وبطلي جنان ..
تبسمت وهي تنظر له، كم هو قبيح بوجه شيطاني، كم هو مستغل وحقير، كم هو نرجسي ومريض، متلاعب، أناني، استغلالي، مارس عليها كل أنواع المرض والاعتلال النفسي..
لأول مرة تراه على وجهه الحقيقي وكأنه الآن فقط قد زال السحر الذي سحرها به طيلة سنوات شبابها..
تنهدت بيأس، ثم نظرت إليه قائلة:
ـ أنا فعلا مجنونة ، مجنونة لأني مش قادرة أنساك .. مع انك خاين وحيوان وزبالة..
مسح على وجهه بنفاذ صبر وحاول الاقتراب منها فشددت من قبضتها حول المسدس وهي تقول :
ـ اوعى تقرب مني تاني .. خلاص كل اللي بينا لازم ينتهي ودلوقتي حالا… وللأسف مش هينتهي غير بموت حد مننا ..
هز رأسه برفض، بقوة، وصرخ أن لا.. ترجاها ألا تفعل..
ـ لأ.. لأ يا چوليا اوعي تعملي كده !!
ولكنها فعلتها، أطلقت الرصاصة التي خرجت من قلبها لا من فوهة المسدس ، أطلقتها وفرّقت بها بينهما ، نفذت ما كانت تتمنى ، فرّقت بينهما بالقوة .. حيث أن ذلك الجسد الذي تلقاها قد فارق الحياة في التو … !!!!!!!!
***
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)