روايات

رواية محسنين الغرام الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نعمة حسن

رواية محسنين الغرام الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نعمة حسن

رواية محسنين الغرام الجزء الثاني والثلاثون

رواية محسنين الغرام البارت الثاني والثلاثون

محسنين الغرام
محسنين الغرام

رواية محسنين الغرام الحلقة الثانية والثلاثون

٢ ـ
~ متى تهدأ الرياح ؟! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت عائشة تستلقي على سريرها في المشفى بعد أن أنهت جرعتها للتو وفي انتظار عودة نغم لكي تصطحبها إلى المنزل ..
شاردة .. غارقة حتى أنفها في الكآبة ، والحزن ، وصدى كلماتٍ قاسية يتردد في أذنيها محدثًا دويًا قاتلًا..
ـ انتِ مش أمي ولا عمرك هتكوني !!
تنهدت ، ومدت يدها بتعب تمسح دموعها وهي تتذكر مواجهتها القاسية بنسيم …
ـ استرجاع زمني ـ
بعد أن تم القبض على حسن كانت عائشة بصدد الركض خلفه واللحاق به، ونغم تتبعها دون تردد.. ليستوقفهما فجأة سؤال فريد ، والذي أسكت كل الأصوات حولهم حتى الهواء ..
ـ لو فعلا حسن ابنك .. وهي بتقول خلفت منك توأم .. فين توأم حسن ؟!!
نظر إليه سالم بصمت، ثم زفر بضجر .. وقبل أن ينطق صاح عمر مستشيطًا :
ـ أنا مبقيتش فاهم حاجه.. ما تتكلم وتفهمنا ، حسن مين اللي اخونا ، وفين البنت اللي انت بتقول انها خلفتها منك دي !! هو فيه إيه بالضبط !!
لم يحرك سالم ساكنًا ، بينما ظلت نظراته تتنقل بين أبنائه الثلاثة.. فريد، ونسيم، وعمر ..
إلى أن تحدثت عائشة التي قطعت نحيبها فجأة وقالت بهدوء حاقد :
ـ البنت ماتت !
قطب فريد حاجباه ونظر إلى والده متعجبا وقال باستنكار :
ـ ماتت!! إمتا وازاي ؟؛
لتجيبهم وهي تنظر نحو سالم باتهام :
ـ سالم باشا مكانش عنده وقت يهتم ببنته .. كان كل وقته واهتمامه لولاده الصبيان ولاد الهوانم.. ساب بنته الطفلة اللي عندها خمس سنين تلعب جنب الشباك لوحدها فوقعت ماتت .
نظر الجميع نحوها باستغراب ، وتحدث فريد قائلا بتهكم :
ـ ده بجد ؟! و يا ترى بنته دي كان مربيها تحت الأرض مثلا ؟
ـ تقصد إيه ؟
ـ أقصد إن مفيش أي حاجه من دي حصلت ، والله أنا ابنه بقالي ٣٥ سنه أول مرة أعرف إن كان عندي أخت وماتت !
ونظر إلى والده وصاح غاضبا بنفاذ صبر فقال:
ـ يا ريت سالم باشا يتكرم ويقول أي حاجه بدل ما احنا بنكلم نفسنا كده .. بنت مين دي اللي ماتت وهي عندها خمس سنين ؟!
هنا زفر سالم زفرة صاخبة وقال بهدوء مصوبا نظره نحو عائشة:
ـ البنت مماتتش .
رفعت عائشة حاجبيها بذهول وتمتمت بغير تصديق :
ـ نعم !! مماتتش ؟!
أومأ مؤكدا ثم أشاح بنظره جانبا وقال :
ـ بنتك تبقا نسيم !
تحولت الأعين كلها صوب نسيم ، التي تلقت صفعة جديدة أقوى من كل ما سبق ، وفقدت على أثرها الوعي !
وقفت عائشة تنقل عيناها بين سالم ونسيم .. بينما هو يطالعها بمنتهى الثبات وكأنه لم يقل شيئا .
كانت تفتح فمها وتغلقه كسمكة في الماء ، وكلما وجدت صوتها لتتحدث اختفت الكلمات وتاهت الأحرف على شفتيها .. وأخذت تنظر إلى نسيم بذهول !!
هل تلك الشابة الجميلة .. ابنتها !
بدأت نسيم بالاستجابة لهم بعد أن نثروا العطر أمام أنفها ، وعادت لوعيها من جديد فأخذت تنظر حولها.. تحاول استيعاب شيء ٍما .. هل ما حدث وما قيل قبل قليل .. كان حقيقيا ؟؟
التقت عيناها بعيني عائشة التي كانت تبكي بانهيار، وتساءلت بغير تصديق ، برفض :
ـ أنا … بنتها ؟؟ ازاي !!
تحولت كل الأعين نحوه، ينتظرون إجابته ، ما عدا عائشة التي كانت تعلم علم اليقين أن إجابته ستشعل فتيل الحقد بقلبها ..
ـ أيوة ، عيشة تبقا أمك اللي ولدتك ..
وقبل أن يكمل ، قاطعته عائشة التي ودت إيضاح حقيقة الأمر ، ودت أن تشرح لها أنها لم تكن سوى ضحية، والجاني هو سالم وحده.
ونظرت إلى نسيم وقالت :
ـ من ٣٣ سنه اتجوزت ابوكي .. ولما روحت أقولله إني حامل بان على حقيقته، انسان أناني وظالم ، وقتها جدك أمره يطلقني وقرروا إني هفضل تحت ولايتهم لحد ما أولد وبعدها ياخدوا العيل وأنا أسيب البلد كلها وامشي .. ابوكي موقفش جنبي، اتخلى عني ومفكرش غير في نفسه .. مفكرش إزاي هيحرم أم من ضناها ويفرق بينهم .. هو اللي عمل فيا وفيكي كده من البداية.. ولما وقفت على رجليا وروحتله عشان أخد بنتي وأربيها في حضني كدب عليا وقاللي إنها ماتت ..
قاطعها سالم بكلماتٍ زعزعت ثباتها فقال :
ـ طالما قولتي الحقيقة يبقا قوليها كاملة يا عيشة .. قولي إنك فضلتي الولد على البنت .. سيبتيلي نسيم وداريتي عني وجود حسن .. لو أنا شيطان فانتي مش ملاك بردو ، انتي كمان عملتي نفس اللي عملته وأسوء ..
نظرت إلى نسيم مجددا، هزت رأسها بنفي، تود لو أنها تكذّب كل ما قاله، ولكنها الحقيقة .. كيف يمكنها إنكارها ؟! رأتها تبكي ، وترتجف بطريقة مثيرة للشفقة .. وأخواها يلتفان حولها يحاولان تهدئتها .
اقتربت منها بينما أشارت لها نسيم بعدم الاقتراب ، ونظرت إليه دا بحدة وقالت :
ـ اوعي تقربي مني .. اوعي !
ـ نسيم أنا أمك .. بالرغم من كل اللي حصل بس دي الحقيقة ..
التمعت عيناها بشر ، وتطاير منهما الغضب والحقد وهي تهتف :
ـ انتي مش أمي ، وعمرك ما هتكوني !
ـ عودة للحاضر ـ
طُرق الباب ثم دخلت نغم التي كان من الواضح للأعمى الحالة التي تنتابها، فاقتربت من خالتها وقالت :
ـ معلش يا خالتي اتأخرت عليكي.
مسحت عائشة دمعاتها سريعا ونظرت إليها بوهن وقالت :
ـ مالك يا نغم ؟ انتي معيطة ؟! وبعدين مشوار إيه اللي كنتي فيه ده ؟
ـ بعدين يا خالتي هحكيلك ، التاكسي مستني برة .. يلا نمشي.
ساعدتها لتنهض، ثم خرجتا سويًا من المشفى واستقلتا التاكسي الذي انطلق بهما نحو المنزل .
كانت نغم شاردة ، ربما قبل يوم واحد من الآن لو أنّ أحدٌ سألها عما يعنيه الوداع بالنسبة لها لكانت أجابت أنه مجرد طقسًا روتينيً بحت يفعلونه من هم على وشك الابتعاد والسفر .. ولكن الآن يمكنها الجزم أن الوداع أشبه بأن تبتر بعضًا من كلك ، يشبه أن تنحر قلبك على مرأى من ناظريك .. الوداع لا يتلخص في قلبين يبتعدان وأيادي تلوح ، الوداع أقسى من ذلك.
لم تغفل عائشة عن تلك العَبرات اللاتي تتسابق فوق وجنتيها، مما جعلها تشاركها البكاء وهي تقول :
ـ حاولت أكلم زينب أطمن على نسيم هي اللي كلمتني وقالتلي متتصليش تاني .
نظرت إليها نغم فرأتها تبكي بحسرة، فاقتربت منها وعانقتها بقوة وهي تقول:
ـ متعيطيش يا خالتي انتي تعبانة وكده هتتعبي أكتر ..
ـ أنا اللي تاعبني إنها مش راضية تديني فرصة يا نغم ، مش راضية تسمعني حتى ..
ـ هتسمعك وهتسامحك يا خالتي .. سيبي الأيام تداوي كل حاجه.
ـ أيام إيه يا نغم ، هو أنا لسه هعيش قد إيه ؟! أنا اللي فاضلي في الدنيا مش كتير .. كان نفسي تسامحني وتديني فرصة أعوضها عن أي حاجه من اللي اتحرمت منها قبل ما أموت ، كان نفسي ألحق أشبع منها ..
أسندت نغم رأسها على رأس خالتها وشاركتها البكاء في صمت، فحالها ليس أفضل منها ، والصمت الآن هو الحل المناسب.
بعد قليل.. توقف التاكسي أمام البناية، فنزلت نغم وساعدت خالتها لكي تترجل خارج السيارة، ثم توجهتا للداخل وصعدتا إلى الطابق الموجود به شقتهم بواسطة المصعد .
وما إن خرجتا من المصعد حتى تفاجأت كلا منهما برؤية حسن الذي كان يقف أمام باب الشقة ويضغط زر الجرس .
هرولت عائشه نحوه وعانقته بقوة وانفجرت في نوبة بكاء أعتى من سابقتها ، فما كان منه إلا أن ربت عليها بشوق فطري وأسندها ريثما تفتح نغم الباب .
دخل وهو ممسكٌ بيدها ، فتلك الحالة التي كانت عليها أخبرته أنها قد عادت للتو من تلقي جلسة كيماوي أرهقتها وأنهكت قواها ، ساعدها حتى جلست فوق الأريكة ثم جلس بجوارها فعانقته مجددا بلهفة أكبر وظلت تبكي وهي تقول:
,ـ وحشتني يا حسن، وحشتني يا ضنايا يا حبيبي .
كانت نغم تقف على مقربة منهما، ولكنها انسحبت وقررت أن تترك لهما مساحة كافية للحديث بحرية، إضافة إلى أنها ترغب في الانعزال عن العالم بأسره والبكاء ريثما تخمد تلك النيران المتأججة بقلبها .
كان حسن مطرقًا برأسه أرضا في صمت، ثم نظر إليها وقال بدون مقدمات:
ـ أنا فعلا ابن سالم مرسال ؟! ولا دي كدبة عشان تحمي فريد ؟
دار بينهما صمتًا ثقيلا ، ثم أخيرا عادت بنظراتها إليه وقالت :
ـ انت ابن سالم مرسال .. سالم أبوك الحقيقي .
كان يتوقع أنه بسماع الحقيقة سيشعر بحمل كبير يُرفع عن عاتقه ولكن هذا لم يحدث، بل حدث العكس تماما، فما قالته أثقلهُ أكثر .
تنهد وهو يضغط فكيه بغضب، ثم تساءل بحدة وقال:
ـ و ليه خبيتي عليا السنين دي كلها ؟!
قالت ودمعاتها تسيل على خديها تباعا:
ـ والله العظيم كنت عاوزة أقولك بس كنت بخاف تسيبني و تروح له، فاكر لما كنت بقولك كذا مرة إني عاوزة أحكيلك عن حاجه مهمة ؟
أومأ فتابعت:
ـ كنت ببقى عاوزة أحكيلك الحقيقة بس كنت بخاف ، كنت خايفة أخسرك وأنا مليش غيرك .
اختلط في عينيه مزيجًا مخيفًا من الغضب والشفقة وقال بصوت مظلم:
ـ احكيلي كل حاجه من البداية ، ازاي ده حصل ؟
تنهدت وهي تسترجع ما حدث ، ومرت دقائق طويلة وهي صامتة، انتظرها لتتحدث، ولكن عوضًا عن التحدث شعرت بشيء عالق في حلقها، ذكريات عن غبائها الذي ألقى بها إلى التهلكة والدمار .
ابتلعت ريقها أخيرا وقالت:
ـ زمان وأنا صغيرة كنت بخدم في القصر بتاع أبو سالم.. كان وقتها متجوز بنت عمه ومخلف منها فريد .. حبيت سالم غصب عني ، كنت أول مرة أعرف يعني إيه حب ، والله العظيم ما حبيته عشان فلوس ولا غيره ، حبيت نظرته ليا وابتسامته وكلامه الحلو .. سالم الوحيد اللي قاللي كلمة حلوة وحسسني إني أتحب زيي زي أي واحدة طبيعية ، مكنتش أعرف إنه بيتسلى وإني بالنسبة له نزوة ، وبالذات لما عرض عليا الجواز اطمنت له أكتر وقلت أكيد بيحبني وإلا مكانش هيتجوزني ، وقتها مكانليش أهل ، مفيش غير خالتك بدر وكانت صغيرة، ملقيتش حد يوعيني أو ينصحني، ملقيتش اللي يراجعني.. كنت وقتها بطولي واللي عاوزاه بعمله .. وافقت أتجوز سالم .. ما صدقت ، كنت خلاص حاسة إني لمست النجوم بايديا زي ما بيقولوا ، اتجوزنا شهرين وحملت ، وبعد ما عرف إني حامل اتقلب عليا وبقى واحد تاني ، لجأت لأبوه .. كنت فاكراه هينصفني، أتاري القسوة والأنانية متأصلة جواهم من الكبير للصغير ، جدك قرر اني أفضل في البلد لحد ما أولد وأسلمهم العيل وبعدها أخد أختي وأمشي ، مكانش قدامي حل غير كده .. مكنتش أقدر أهرب وأنا حامل لأنهم كانوا مراقبيني وعينيهم عليا ، قضيت شهور الحمل في البيت ويوم الولادة اتفاجئت اني كنت حامل في توأم !!
ارتعش فكه وغامت عيناه بذهول، وابتلع ريقه ثم أسند رأسه بين كفيه بتشوش وهو يستمع إليها وهي تقول :
ـ وقتها حسيت إن ربنا بيديني فرصة وبيحل لي المشكلة ببساطة، مفكرتش .. اديتهم البنت وخدتك انت .. وقتها أم زينب الخدامة اللي عندهم دلوقتي هي اللي كانت بتولدني لأنها كانت خدامة في قصر عبدالعظيم مرسال.. وهي اللي وقفت جنبي هي وبنتها زينب لأنهم كانوا عارفين اني اتظلمت.. خدوا البنت وخبوا عليهم اني خلفت ولد كمان ، وساعدوني لحد ما خرجت من البلد وانت معايا وبعدها جيت هنا على مصر واتجوزنا أنا ومحمود الله يرحمه وربيناك على أساس انك ابنه .
كان يستمع لما تقوله بذهول، ثم تساءل وقد قطع على نفسه شقاء التفكير :
ـ هو اللي انتي بتقوليه ده بجد ؟
أومأت بأسف وقالت:
ـ أيوة بجد ..
ـ يعني انتي اديتيهم البنت وخدتيني أنا ؟! طب ليه ؟!
ـ طمعت فيك .. مقدرتش أتخلى عنك .
نظر إليها وابتلع ريقه وهو يفكر في كلماتها التي ترددت في ذهنه، ثم قال بنبرة حادة:
ـ مقدرتيش تتخلي عني واتخليتي عن بنتك عادي ؟!
ـ مكانش قدامي حل تاني يا حسن، كنت مجبرة أختار حد منكم ، كان لازم أضحي بحد منكم وأحافظ على التاني.. خفت أخد البنت أندم، كنت بقول لنفسي البنات همهم كبير وهعمل إيه في الدنيا أنا وهي لوحدنا، قلت لما أخدك وتكبر انت اللي هتسندني وتعوضني عن كل الظلم اللي شفته ..
ـ ظلم ؟! أي ظلم اللي بتتكلمي عنه ؟! الظلم ده انتي اللي اختارتيه محدش جبرك عليه ، انتي اللي اتجوزتي سالم وحملتي منه محدش ضربك على إيدك .. الظلم اللي بجد اللي انتي عملتيه فينا ! حرمتيني من أبويا ومن أهلي الحقيقيين ورميتي أختي تعيش مع أم تانية .. احنا اللي اتظلمنا مش انتي .
رمق أحدهما الآخر لدقيقة طويلة، قفز قلبها داخل صدرها بينما تقنع نفسها أن ما تراه في عينيه ليس كرهًا ، ليس منطقيًا أن يشعر تجاهها بذلك الشعور ..
تلعثمت وهي تبحث عن أحرف لتكونها كي تشكل كلمات تبرر بها موقفها، فخرجت أحرفها متقطعة وكلماتها متبعثرة:
ـ أنا .. أنا رُحت له عشان أخد منه البنت قاللي انها ماتت ، كدب عليا وحرمني منها مع إنها عايشة !
ـ وانتي عملتي إيه ؟ ما انتي كمان كدبتي عليه وخبيتي عليه إن ليه ابن بقا راجل طول الباب .. والنبي يمّا متعمليش فيها ضحية وغلبانة لأنه مش لايق عليكي..
اندفع قلبها مصطدمًا بأضلعها، لم تتوقع عنف ردة فعله بتلك الطريقة أبدا، حسنا لقد كانت تخشى لحظة المواجهة تلك لأنها كانت تعرف أنها لن تمر مرور الكرام ولكنها لم تتوقع أبدا ـ ولا في أسوأ كوابيسها ـ أن يحملها هي نتيجة ما حدث !
زفر نفسًا عميقًا بغضب، ثم تساءل بفضول:
ـ أختي تبقى مين ؟ أقصد توأمي .
ـ نسيم.
أجابته بهدوء، فشرد للحظات ، ثم أخفض رأسه و هزه، وهبط كتفاه فيما يشبه الهزيمة فقالت :
ـ والله العظيم كنت عاوزة أحكي لك يا حسن ، بس كل ما كنت بحاول احكيلك تحصل حاجه تمنعني .. أنا عارفة إني غلطانة لأني خبيت عليك موضوع زي ده بس مكانش بايديا .
ـ موضوع زي ده ؟! انتي ليه محسساني إنك كنتي مخبية بنطلون ولا قميص مثلا ؟! انتي عارفة انتي عملتي إيه بأنانيتك ؟! انتي عيشتيني عيشة محدش يستحملها، بسببك أنا طلعت مجرم و رد سجون ، لو كنت كبرت في عيلة وسط أهلي تفتكري كان ده هيبقا حالي ؟! تفتكري مكنتش هبقى زي فريد وعمر اللي الناس بيضربوا ليهم تعظيم سلام ؟! مصعبتش عليكي ولا مرة وانتي شيفاني وحيد ومحروم من كل حاجه ؟ مقولتيش لنفسك أصارحه بالحقيقة وأسيبه هو يقرر عايز إيه ومين ؟! ولا الأنانية كانت عامية عينيكي للدرجة دي ؟
نظرت إليه بغير تصديق وقالت بحسرة تشعبت بكل جوارحها:
ـ ولو كنت سيبتك لأبوك وخدت نسيم بردو كنت هتقول عليا أنانية زي ما هي بتقول دلوقتي ، كنت هتقول اني ضحيت بيك واخترتها هي .
ـ يا ريتك ضحيتي بيا .. على الأقل كان زماني عايش العيشة اللي استاهلها و مكانش ده بقى حالي .
نهض متخذًا سبيله نحو الباب فحاولت اللحاق به ولكنها شعرت برأسها يدور فوق عنقها لذا التزمت بمكانها بعجز، بينما هو خرج وصفق الباب خلفه بضيق چم، وما إن استمعت نغم إلى صوت الباب حتى أسرعت للخارج وجلست بجوار خالتها وهي تحاول تهدئتها ..
ـ شوفتي اللي بيحصللي يا نغم ؟! الاتنين بيلوموني !! نسيم بتقول اني أنانية عشان اختارت حسن وسيبتها لأبوها ، وحسن بيقول إني أنانية لأني سيبت نسيم لأبوها وخليته معايا !! الاتنين شايفين اني ظالمة وجانية وأنانية .. الاتنين كرهوني يا نغم.
غص قلبها ، وشعرت بالشفقة حيالها فأخذت تمسد ذراعها بحنوٍ وهي تقول:
ـ معلش يا خالتي المسألة مسألة وقت وهيفهموا انك كنتي مجبرة تعملي كدا ، هدي نفسك عشان خاطري .
هزت عائشة رأسها برفض وهي تقول:
ـ حسن مش ممكن يسامحني ، ده أكيد اتكلم مع أبوه وملى دماغه نحيتي .. مش هيسمعني ولا هيفهمني .. تلاقيه رايح له دلوقتي.
تنهدت نغم بأسى، فلأول مرة تقف عاجزة أمام خالتها لا تجد ما تقوله، أساسًا الوضع برمته يفوق استيعابها المحدود، لذا التزمت الصمت مجددًا وظلت تقدم إليها الدعم حسبما تستطيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أن عادت چيلان إلى المنزل ومرت بغرفة والدتها قررت أن تعود إلى غرفتها ، وكالعادة.. بمجرد ما إن وطأت قدماها أرض الغرفة حتى شعرت بالضيق يؤطر قلبها، فأسرعت خارج الغرفة ودخلت إلى غرفة چوليا .
كانت كئيبة ، يحيط بها السواد من كل جانب ، ما عدا تلك الصورة المؤطرة الموجودة أعلى الفراش، والتي كانت تحوي صورة چوليا وهي تقف أمام برج خليفة وترتدي ثوبا قصيرا باللون القشدي ، كانت تلك هي التفصيلة الملونة الوحيدة في الغرفة، وكل ما دون ذلك أسود .
دلفت چيلان تجر قدميها ببؤس لا ينتهي ، وتوقفت أمام تلك الصورة وأخذت تطالعها ولم يكن في وسعها إلا أن تبكي ، ككل مرة ..
تلك الفتاة الجميلة، اللطيفة، المفعمة بالحياة ، رحلت وانتزعت معها كل صورة جميلة لها، لم تترك في مخيلتها سوى صورتها الأخيرة.. مسچية على الأرض ، غارقة في دماءها !!
ـ استرجاع زمني ـ
كانت تقف والذهول يزيد عيناها قتامة ، تستمع إلى تلك المفاجآت الكارثية الرهيبة التي جعلت رأسها يدور ، وإذ بها تستمع إلى رنين هاتفها، وما زاد من تعجبها هو اسم شريف الذي ظهر على شاشة الهاتف، فهي لا تتذكر متى كانت آخر مرة يقوم بالاتصال بها فيها .
رفضت المكالمة ولكنه كرر الاتصال ، فانسحبت وخرجت من مقر الشركة تماما بعيدا عن كل الصخب الحالي ، وأجابت الاتصال قائلة بإيجاز :
ـ عاوز إيه يا شريف ؟
فوصلها صوته مرتبكًا، باكيًا ، منهارا ..
ـ چيلان .. تعالي البيت عندي حالا ..
قطبت حاجبيها المنمقان بتعجب وقالت:
ـ البيت عندك ؟! ليه ؟!
همّ بقول شيء ما، ولكن نهنهاته منعته ، فأثار قلقها فقالت:
ـ فيه إيه يا شريف إيه اللي حصل ؟
ـ چوليا .. چوليا انتحرت !!
تيبس جسدها، اتسعت عيناها، وفغرت فاها بصدمة .. سقط هاتفها أرضًا وترنحت خطواتها .. وأخذت تنظر حولها بصدمة وكأنها تدور حول نفسها بلا توقف .
حثت نفسها على الخروج من تلك الصدمة سريعا ..
تحركي چيلان ، بالتأكيد هناك ما في وسعكِ فعله ..
ركضت نحو سيارتها ، استقلتها وتحركت سريعا في طريقها إلى منزل شريف ..
كانت تقود سيارتها على أعلى سرعة ، تلتهم الطريق أمامها وصورة أختها .. صغيرتها .. ترتسم أمام عينيها بوضوح ..
وبالرغم من تلك الحالة البائسة التي كانت تعتريها إلا أن عقلها لم يتوقف عن العمل ، فقامت بالاتصال بالإسعاف ، وأبلغتهم بوجود حالة انتحار تستوجب النقل للمشفى حالا وأبلغتهم بالعنوان .
وبعد مرور نصف ساعة تقريبا كانت قد وصلت إلى منزل شريف، لتتفاجأ بسيارة الشرطة، تجاورها سيارة الإسعاف ، وشريف مكبل اليدين يقودوه نحو سيارة الشرطة ، وفي النهاية.. نقالة طبية.. فوقها چوليا مغطاة بغطاء أبيض ملطخ بالدماء ..
قبضها المنظر لبرهة، فيها تحركت سيارة الإسعاف .. فلم يكن هناك وقتٌ للانهيار حيث أنها استقلت سيارتها من جديد ولحقت بها إلى المشفى .
لم ترغب في إخبار والدتها إلا بعد أن تطمئن على حالتها، كان لديها أملًا أن تنجو ، أن تتمسك بالحياة ولو قليلًا ..
وصلت إلى المشفى، فرأت المسعفين وهم ينقلون چوليا إلى غرفة العمليات ، فأسرعت خلفهم وتوقفت أمام غرفة العمليات ، تضم كفيها أمام فمها وتدعي..
ترجو الله رجاءً صادقا أن يهبها فرصة للنجاة ، فرصة للحياة .
ولكن رجاءها توقف .. ودموعها انحسرت .. وتعلقت عيناها الباكيتان بذلك الرجل الذي غادر غرفة العمليات للتو، و بمنتهى الهدوء، والأسف الروتيني أعلنها .. لقد فارقت الحياة!
ـ عودة للحاضر ـ
استمعت چيلان إلى نداء عمر ، فجففت دموعها سريعا وقالت دون أن تستدير :
ـ نعم يا عمر ؟!
ـ أنا مخنوق ومضايق أوي .. ومش عارف أروح فين ولا أروح لمين ؟! فريد وأهو سافر .. ونسيم مش في حالة تسمح إنها تتكلم مع حد.. و چوليا راحت !!
قالها وهو يمسح دموعه بحسرة، فاقتربت منه چيلان وعانقته بقوة، وانفجرت باكية بالمثل وهي تقول:
ـ بس أنا موجودة يا عمر .. موجودة في كل وقت …
كان في أشد الحاجة للعناق ، فهو يشعر أنه كالغريب ، كالشريد الذي لا يجد مأوى ولا دليل .
ـ چوليا خلاص ماتت يا چيچي ؟! أنا مش قادر أصدق ، أنا ندمان إني مكنتش قريب منها كفاية ، حاسس بتأنيب الضمير، يمكن لو كنت قربت منها واتكلمت معاها كنت قدرت أخفف عنها وأخرجها من الحالة اللي كانت فيها، أنا قصرت في حقها أوي.
ربتت عليه وهي تحاول التخفيف عنه وقالت:
ـ متشيلش نفسك فوق طاقتها يا عمر ، انت مش مقصر لوحدك.. كلنا كنا مقصرين ومشغولين، أنا كمان انشغلت بحياتي ونسيت إنها محتاجاني، كان لازم أكون جنبها وأساعدها.. بس خلاص، الكلام ده مفيش منه فايده دلوقتي.. هي خلاص ماتت ، ربنا يرحمها ويغفر لها .
زفر وهو يمسح دموعه بعد أن أزاح الكثير من تلك الفوضى بداخله وقال:
ـ عرفتي إن شريف سافر ؟!
هزت رأسها بموافقة وقالت :
ـ نادر قاللي النهارده إنه سافر امبارح .. وسمعت كمان إنه صفى شغله اللي هنا وتقريبا كده ناوي يستقر في مدريد ..
احتدت ملامحه وارتسم فوقها الغضب والضيق وأخذ يقول:
ـ الجبان هرب بعد ما اتسبب في موتها، أقسم بالله لو شفته هاقتله .. ولحسن حظه إني مش قادر أسافر دلوقتي كنت رُحت وراه وخنقته بايديا دول .
تنهدت چيلان وهي تحاول تهدئته وقالت:
ـ ده إنسان مريض ميستاهلش إنك تضيع مستقبلك عشانه، كفايه چوليا اللي كانت مريضة بحبه وموتت نفسها بسبب علاقة فاشلة زي دي .
ـ أنا لحد دلوقتي مش قادر أصدق إنها هي اللي انتحرت، مش قادر أقتنع انه واحدة كانت ناجحة وبتحب شغلها وبتحب الحياة زي چوليا تموت نفسها ! وكل ده عشان مين!! عشان شريف !
ـ للأسف دي الحقيقة هي اللي انتحرت والكاميرات وثقت كل حاجه ، يعني مفيش مجال للشك.. چوليا كانت بتعاني يا عمر، اللي مرت بيه من إرهاق وتلاعب نفسي مكانش هين، وكان المفروض تلاقينا جنبها وقتها لكن للأسف كل واحد فينا كان مشغول بحياته ومفيش عنده وقت للتاني ..
ـ طيب والتلاعب النفسي مين كان السبب فيه ؟ مش الحيوان اللي اسمه شريف ؟! المفروض كان يتعاقب مش يبرأوه وكأنه معملش حاجه !
تنهدت وهي تشرح له قائلة :
ـ لأنه فعلاا معملش حاجه يا عمر ، النيابة بتحكم بناءً على أدلة ملموسة قدامها ، ملهاش دخل بالمشاعر والأحاسيس والكلام ده كله ، چوليا عندها ٢٧ سنه يعني لا كانت طفلة ولا قاصر عشان يتهموه باستغلالها ، والدلائل أثبتت إنها انتحرت .. عشان كده مفيش أي حاجه عليه .
زفر عمر بقلة حيلة وقال :
ـ أنا خايف أوي على ماما .. حاسس إن بعد السكوت اللي هي فيه ده هتنفجر فجأة ..
ـ ربنا يستر .. إحنا لازم نفضل جنبها على قد ما نقدر الفترة الجاية، وانت كمان يا عمر حاول تقرب منها وتحسسها بوجودك جنبها أكيد ده هيفرق معاها.
أومأ موافقا ، ثم صمت وتوقفت الأنفاس في صدره وهو يحدق في أرجاء الغرفة الفارغة إلا من الحزن ، وأغمض عينيه مخفيًا دموعه، ثم غادر ..
وقف أمام باب الغرفة يحدق بالغرفتين المقابلتين له ، إحداهما لفريد والأخرى لنسيم ..
الأولى فرغت والثانية يتبقى على فراغها ساعات قليلة ، ومن خلفه غرفة أخرى تركها صاحبها لكي تصفر بها الرياح وكأنها تنذر بنوة عنيفة غير مسبوقة.
لم يتحمل كم الوَحشة التي يشعر بها هنا ، ولم يسعفه قلبه ولم يتناهى إلى عقله صوتًا غير الهروب ..
لذا غادر المنزل مسرعًا، لا يعرف وجهة، ولا يعرف مقصدًا .. كل ما يعرفه أن البقاء دقيقة أخرى في هذا المنزل ستزهق روحه .
***
بعد مرور ست ساعات ..
غادر فريد المطار ، ثم استقل إحدى سيارات الأجرة المصفوفين على جانب الطريق وطلب منه أن يوصله لفندق معين يطل على البحر .
كان ينظر من النافذة المجاورة ، لم يملك خيارا سوى السماح لعينيه بالتحديق في كل مكان بتشوش، كان يراها ويرى ظلها في كل شيء تقع عيناه عليه، ليكتشف في النهاية أنه كان شاردًا في صورتها بخياله، واهبًا إياها كل تركيزه وعاطفته.
بعد ثلاثين دقيقة تقريبا توقفت السيارة أمام الفندق، وترجل فريد حاملا حقيبته ثم دخل الفندق، وقام بحجز غرفة ثم توجه إلى الطابق الموجودة به .
توقف أمام باب الغرفة، وأخذ يرمقها بشك لم يختبره منذ زمن، ثم دخل وأغلق الباب بمرفقه ، ووقف يتأمل الغرفة فغادرته أنفاسًا ثقيلة منزعجة .
وبالرغم من الأرق الذي يشعر به بعد قضاءه خمس ساعات وأكثر في الطائرة فإنه كان لزامًا عليه أن يهيئ تلك الغرفة ويجعلها بيئة آمنة مناسبه له ولوسواسه اللعين .
أخفض حقائبه أرضًا، ثم فتح حقيبته وأخرج منها قفازين طبيين ، ارتداهما إرضاءً لتلك الحاجة الملحة بداخله، وقام بنزع الأغطية من فوق السرير وجمعها بداخل كيس بلاستيكي كبير ، ثم أخرج تلك المفارش والأغطية التي أحضرها برفقته وبدأ بتجهيز السرير ، وبعدها قام بتنظيف الغرفة وتعقيمها بواسطة الكحول الذي أحضره معه من مصر، وبالرغم من أنه يعرف أن ذلك الفندق يهتم بأمور التنظيف والتعقيم جيدا ـ ولهذا السبب بالتحديد اختاره ـ إلا أنه لم يطمئن سوى بعد أن أتم مهمة تنظيف شاقة جدا ..
وبعد أن انتهى ، دخل ليأخذ حماما عميقا ثم خرج منه إلى الفراش فورا .
***
في المساء ..
في تمام التاسعة .
كانت نسيم قد انتهت من تحضير حقيبتها التي وضعت فيها كل أغراضها المهمة، وتحركت لتلقي نظرة أخيرة على طلتها الباهتة التي تفتقر لأي من مظاهر الفرح، حيث أنها لم تتخلى عن ملابسها السوداء، و اكتفت بتبديلها إلى أخرى من نفس اللون .
استمعت إلى طرقات زينب على الباب، فانقبض قلبها أكثر مع كل طرقة، وسمحت لها بالدخول فدخلت زينب ترسم عبوسًا أسودًا على ملامحها وهي تقول:
ـ المأذون وصل .. و العريس كمان .
تلك الكلمة انتزعتها من وجدانها وأخذتها نحو هوةٍ سحيقة ، جعلتها تشعر بتصلب عمودها الفقري وتشنج كل عضلاتها ، بينما أبقت رأسها مصوبًا نحوها وبعد دقائق جاء ردها :
ـ أنا جاهزة .
تقدمت زينب نحوها بضجر، حتى هي تشعر بالسخط نحو ذلك القرار الأرعن الذي لا يحمل في طياته أي منطق، أحضرت تلك العصا الطبية التي تستند إليها نسيم وأعطتها لها وهي تمد يدها إليها لتتلقى ذراعها ..
ساعدتها حتى نصبت طولها، ثم سارت إلى جوارها لكي تساعدها في هبوط الدرج حتى وصلتا إلى غرفة الصالون .
كان التوتر سيد الموقف ، حيث أنها تمكنت بنظرة سريعة أن ترى ذلك التوتر الذي يغشي وجوه الجميع ، بمن فيهم والدها، وزوجها المستقبلي، ونادر الذي سيكون شاهدًا على عقد الزواج ، و عمر الذي كان الضيق وعدم الرضا واضحين عليه بشده.
نظرت ببطء في اتجاهه، لترحب بها عينان حادتان، يحفهما تعبير جاف يُسري القلق في النفس.
فتحت فمها لكن لم تُتح لها الفرصة للتحدث، حيث رأته ينهض من مكانه، ويتوجه نحوها، ثم نظر إلى زينب وأومأ بهدوء وقال:
ـ شكرا ليكي ، خليني أنا أساعدها .
نظرت إليهما زينب بترقب لثوان، ولما لم تجد ردا من نسيم تركت يدها فتولى هو مكان زينب وأمسك بذراعها يساعدها للوصول إلى المقعد الخاص بها بجوار والدها .
رمقته بنظرة مرتبكة فبادرها بابتسامة جعلت ذكرى لعينة من الماضي تومض في رأسها، حيث أنها تأكدت الآن أنه شقيق حازم، لأن كلاهما يملكان نفس الابتسامة .
عاد عاصم إلى مقعده، ونظر إلى المأذون قائلا :
ـ اتفضل يا مولانا .
بدأ المأذون بتحضير أوراق عقد القران ، ثم نظر إلى نسيم التي كانت شاردة وكأنها منفصلة عن واقعهم وقال :
ـ آنسة نسيم .. هل توافقين على زواجك من بشمهندس عاصم عبدالرحمن الدالي زواجًا شرعيًا على سنة الله ورسوله ؟
تفحصتها كل العيون، وصدح ضجيج القلوب عاليًا منذرًا بخوف لم يسبق له مثيل ، حتى قطعت هي ذلك الصمت المهيب المريب وقالت:
ـ أيوة موافقة .
لم يكن من السهل إقناعه، فليس وهي ترتدي تلك الثياب والدموع ترسم هالتين حمراوتين أسفل جفنيها، لذا كرر سؤاله قائلا :
ـ متأكدة إنك لم تتعرضي لأي ضغط من أي نوع ؟!
تنهدت ونظرت إليه وهي توميء بتأكيد وقالت :
ـ أيوة متأكدة .
أومأ ثم تحدث وقال مفتتحًا خطبة النكاح :
ـ إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وسيدنا محمد قال من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج . لذا .. فبكل سرور .. سنعقد قران البشمهندس عاصم على كريمة سالم بيه .. داعين المولى عز وجل أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه ..
ثم نظر إلى عاصم وتابع :
ـ حط إيدك في إيد والد العروسة يا عريس .
كان أمرًا ثقيلا للغاية ، فمنذ أن اتخذ عاصم قراره بالزواج من نسيم وهو يحمل هم تلك اللحظة بالتحديد ، يفكر كيف سيضع يده بيد ملطخة بدماء أخيه !
نظر إلى سالم ، وتبادلا النظرات ، فاحت نظرات الكُره من عينيه ، ولمح في عينيّ سالم نفس الحقيقة ، وربما أكثر قليلا ، والحقيقة الأكبر أن كليهما لا يتشاركان الكُره فحسب، بل ويتشاركان العجز في إخفاءه .
وعلى ما يبدو أن لا أحدا منهما مهتم بإخفائه !
مد عاصم يده أخيرًا في اتجاه سالم الذي أراد أن يتخلص من ذلك الوضع المريب على الفور لذا فإنه شبك قبضته في قبضة عاصم، ثم وضع المأذون قبضته فوق قبضتيهما وقال موجهًا حديثه نحو عاصم:
ـ ردد ورايا .. لقد استخرتُ الله .. أنا عاصم عبد الرحمن الدالي .. وأطلب منك أن تزوجني ابنتك .. الآنسة نسيم سالم مرسال.. البكر الرشيد .. على سنة الله ورسوله وعلى الصداق المسمى بيننا .
ردد عاصم ما قاله المأذون وهو يشعر بشيئا ما يغزو شعوره، شيئا يشعره بالخزي، يشعره بالضيق ..
نظر المأذون إلى سالم وقال :
ـ قول ورايا يا سالم بيه ، وأنا استخرتُ الله وزوجتك موكلتي.. الآنسة نسيم سالم مرسال.. البكر الرشيد.. على سنة الله ورسوله.
أخذ سالم نفسًا عميقًا وزفرهُ ببطء ، و ردد ما قاله المأذون بقلبٍ منصهر ، تباطأت دقاته وكأنه على وشك التوقف حالا .
حينها نزع المأذون قبضته من فوق قبضتيهما وهو يردد:
ـ على بركة الله.. بالرفاه والبنين إن شاء الله.
على الفور نهض عاصم من مقعده، وتوجه نحو نسيم، وقف أمامها ثم مد كفه إليها فتعلقت عيناها به لبرهة، ثم وضعت يدها بيده، ويدها الأخرى تمسك بعصاها الطبية، ثم نهضت وهي تشعر بأن الأرض تميد بها .
غادر المأذون ، وانسحب بعدها نادر، يعقبه عمر الذي لم يطق البقاء بالغرفة لوقت أطول ، وتوقف سالم أمام نسيم ..
حركت نظراتها في المكان، وبدأ الأمر يعتريها، إنها ستغادر بعد قليل، ستغادر بيتها وتنتقل إلى بيت لا تعرفه، ستترك أهلها وتنتقل للعيش مع رجل لا تعرفه ..
هل تسرعت ؟!!!
ذلك كان السؤال الذي طرأ على عقلها وهي ترى تلك النظرة النادمة بعيني والدها، وكم تمنت لو أنها رأت مثل تلك النظرة قبل زمن طويل ، كانت لتتغير الكثير من الأشياء.
اقترب منها سالم ، وتوقف أمامها مباشرةً ، وبدون أن ينظر إلى عاصم تحدث بلهجة آمرة :
ـ سيبنا لوحدنا دقيقتين ..
نظر إليه عاصم نظرو جانبية، ولم يتحرك إلا عندما مالت حدقتي نسيم نحوه فاعتبر أن تلك النظرات رجاء صامت، لذا غادر الغرفة وهو يقول:
ـ يا ريت مش أكتر من دقيقتين لأني مستعجل .
خرج وسحب الباب خلفه، ووقفت نسيم في مواجهة أبيها تنظر إليه بصمت ، لتجده يطالعها بطريقة جعلتها تشفق عليه لحظيًا وقال:
ـ كان نفسي في يوم زي ده أقوللك مبروك !
موجة من الحزن المطلق شقت طريقها إلى جسدها بالكامل، ونظرت إليه وهو يتابع:
ـ بس مش قادر أنطقها وأنا عارف إنك ضحيتي بسعادتك وضحيتي بكل حاجه عشاني ! سامحيني يا نسيم !
شيء يشبه الشعور بالعار جعلها تبصق كلماتها في وجهه بقوة:
ـ أنا مضحيتش بحاجة .. لا بسعادتي ولا بأي شيء تاني ، محدش بيضحي بحاجة ميملكهاش ، و تصحيح كمان ، أنا معملتش كده عشانك .. أنا وافقت أتجوز عاصم الدالي عشاني أنا .. عشان أهرب من السجن بتاعك ، وافقت أتجوزه عشان أنا عاوزة أتجوزه .. و لأول مرة الحياة تديني فرصة للاختيار .. عشان كده كان مستحيل أضيع الفرصة دي.
ظهر الجمود بعينيه ، ربما بداخله حزن يسكن قلبه ولكنه كالعادة يأبى الظهور .. وقبل أن يضيف أي كلمة أخرى كانت قد تركته وسارت نحو الباب .
فتحته في نفس اللحظة التي كان يتقدم فيها عاصم نحو الداخل، فاصطدمت به بطريقة أربكتها وجعلت عصاها تنزلق من يدها، فانحنى والتقط العصا وناولها إياها وهو يمسك بيدها الأخرى ويقول:
ـ جاهزة نمشي ؟
لم تنظر في أي مكان بعيدا عن النقطة التي كانت تحملق بها، خشيت أن تقع عيناها على زينب ، أو عمر ، أو حتى چيلان ، أن تصطدم بأي ركن في المنزل الذي ستفارقه الآن .
أومأت بموافقة وسمحت له أن يقود خطواتها نحو سيارته التي تنتظر في الخارج ، ففتح لها الباب وساعدها حتى اتخذت مقعدها المجاور لمقعده، ثم دار حول السيارة واتخذ مكانه خلف المقود ، وأدار محرك السيارة ثم انطلق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاد الطريق لساعة تقريبا في صمت ، خلال تلك الساعة لم تنطق هي حرفًا واحدًا ، ولم تكلف نفسها عناء النظر إليه ، كانت تشعر بقبضة قلب رهيبة جعلت جسدها كله ككرة ثلج على وشك الذوبان .
بينما هو سمح لعينيه أن تتفقدا وجهها المليح من بين فينةٍ لأخرى .
كان رأسها في حالة فوضى عارمة جعلتها تزفر زفرة مسموعة جذبت انتباهه، فنظر إليها فإذا بها تنظر إليه في نفس اللحظة ، ثم أشاحت بوجهها سريعا وكأن عقربًا قد لدغها .
دخل أحد التجمعات السكنية ، وتوقف بسيارته أمام منزل بطابق واحد ، ثم ترجل من السيارة واستدار نحوها وفتح الباب، مد يده إليها فأمسكت بها مرغمة، ثم ترجلت بمساعدته، وبعدها تقدم نحو المنزل ، فتح الباب وطلب منها الدخول ، ففعلت بقدمين لا تثق بهما بتاتًا ، ولولا تلك العصا التي تدعم خطواتها لتهاوت أرضًا من فرط الخوف والقلق .
نظر إليها بصمت وعيناه لا تنم عن أي شيء ، حدقت فيه لبرهة بنظراتٍ مشتتة ، فقال :
ـ أهلا بيكي في بيتك الجديد.
لم تحرك ساكنا ، فقط ابتلعت ريقها الذي انزلق لاإراديًا من فرط الرهبة، ونظرت إليه وهو يحمل حقيبتها ثم يمسك بيدها ويقودها نحو غرفةٍ ما وهو يقول:
ـ دي اوضتك .. جهزتلك فيها كل حاجه ممكن تحتاجيها .
دخل الغرفة وهي بجواره، ووقفت على عتبة الباب ، عتبة المستقبل المجهول ، لا تعرف ما يخبئه الغد لها ولا تسعى لذلك ، فيكفيها من الآلام ما عاشته حتى أصبحت لا تأمل في شيء سوى أن يمر اليوم بسلام .
أخفض حقيبتها أرضًا، ثم نظر إليها بهدوء وقال:
ـ اتفضلي..
كان لا يزال ممسكًا بيدها ، فنزعت يدها من يده بهدوء وتحاملت على تعبها إلى أن وصلت إلى الأريكة الموضوعة بزاوية الغرفة .
وقف هو أمامها منتظرًا بصمت، ثم تساءل وهو ينظر حوله:
ـ لو شايفه ان الاوضة محتاجة تعديل أو ناقصها حاجه أنا تحت أمرك..
تعجبت لطفه المبالغ فيه ، ونظرت إليه وطالت نظرتها ، تبحث بين ملامحه عن ملامح اشتاقت لها ، ولكنها لم تجد حتى لو واحد بالمئة منها ، وتساءلت بتخبط :
ـ هو انت ليه اتجوزتني ؟! ومتقولش عشان تنتقم من أبويا والكلام ده كله لأنك بالفعل عملت اللي انت عايزُه من زمان .
هز رأسه بهدوء، وأخذ نفسًا عميقًا ثم نظر إليها وقال :
ـ من غير ما تقولي أنا مكنتش هجاوبك الإجابة دي أصلا ، لأني بحب أكون واضح و direct دايما .. أنا فعلاا مطلبتش أتجوزك عشان أنتقم من ابوكي..
صمتت وهي تنصت إليه باهتمام، وهزت رأسها متسائلة فرأته يزفر نفسًا عميقًا أوضح مدى تخبطه، ثم قال :
ـ الحقيقة أنا مكنتش ناوي على جواز .. مكانش في الخطة إني أتجوزك ! أنا حضرت الحفلة يومها وكنت مخطط إني هكشف الحقيقة وهقدم الفيديو للشرطة ومش هتراجع قبل ما أسجنه ، لكن أول ما شوفتك ..
توقف ، هز رأسه، ثم تنهد بصوتٍ عال وأكمل :
ـ أول ما شوفتك كل الخطط اتغيرت ! لقيتني بساوم أبوكي وبقول له يا السجن يا إما أتجوزك ، مكنتش مقرر كده ، بس معرفش ليه لما شوفتك حسيت إني مُشوش ، وكأن عقلي فقد تركيزه والخطة المُحكمة اللي بجهز فيها من سنين اتغيرت وحطيت فجأة خطة بديلة وهي جوازنا .. بصراحة معنديش تفسير مقنع أنا ليه عملت كده بس .. ده اللي حصل .
فاجأها بجوابه، توقعت أنه سيراوغ قليلا ، أو يمتنع عن الإجابة، ولكنها لم تجده سوى صريحًا مباشرًا .. لدرجة أن صراحته تلك أربكتها بشدة .
تنهدت بأسى، نعم قلبها مرتعب وعقلها مشوش، ولكن هناك قوة تبدو أتها تمزق قوقعة الخوف التي غلفت هذا القلب النابض المسكين، تتسرب من خلال الشكوك وترغب في طمسها إذا سمحت بذلك ، تعدها بالراحة والأمان .
صمتت ، ولما رأى صمتها قرر أن يبادر مجددا لذا قال:
ـ بما انك سألتي فأنا كمان عندي سؤال .
هزت رأسها متسائلة بصمت فقال :
ـ ليه وافقتي تتجوزيني ؟!
شيئا ما استقر بين ضلوعها، يشبه قنبلة موقوتة ، جعل داخلها يهتز بقوة . وقبل أن تجيبه تساءل مجددا :
ـ خوف عليه من السجن ؟ ولا لسبب تاني ؟
رغبة مُلحة طرأت عليها لتجيبه بوضوح كما فعل، وبالرغم من أنها تشعر أنها تخالف المنطق إلا أنها لم تجد من قلبها ذلك الإنذار الذي يدق في كل مرة تشعر فيها بالخطر .. لقد أسكت قلبها كل نواقيس الخطر الآن ، وأمرها أن تفتح قلبها وأن يتسع صدرها لتسهب في حديث لا تعلم الطائل منه بعد ، ولكن ما تعلمه جيدا أنها ترغب في الحديث .. وكأن عقدة صمتها قد انحلت الآن فقط ، أمام شخص من المفترض أنه عدوها وعدو عائلتها الذي دمر كل شيء ، ولكنها لا تشعر بالحقد تجاهه .. بل تألفه ، وهذا ما أثار ريبتها !! هل يعقل أن تشعر بالألفة تجاه رجل تعرفت عليه منذ ساعة واحدة ؟!!
أسكتت تلك الأصوات الصارخة برأسها، ثم أخذت بعدها شهيقًا مكتومًا وأجابت :
ـ قبلت أتجوزك عشان أحس إني اخترت حاجة واحدة بإرادتي .. مش خوف عليه من السجن .. لأني عارفة إنه كان هيقدر يخرج منها ببساطة ، تقدر تقول إني حبيت أستغل الفرصة وأغامر ..
ونظرت إليه بعد أن كانت عيناها تدوران في كل مكان ثم قالت:
ـ أنا عمري ما كان قدامي خيارات .. طول عمري بيتفرض عليا كل شيء ، عمري ما قررت قرار واحد يخصني .. عشان كده لما جتلي الفرصة مسكت فيها ..
وتابعت وهي تشعر بالخجل ، بانعدام القيمة ، بالأسى :
ـ مع إني واثقة إنه ما صدق أوافق عشان يتجنب الفضايح والشوشرة .. يعني موافقتي كانت فرصة اتقدمت له على طبق من فضة .
أومأ مؤيدًا، هو يعلم مدى حقارة سالم مرسال ، ويعرف عنها الكثير، لذا لقد طلب الزواج من نسيم وهو متأكد من أنه سيحصل على طلبه بدون عناء ، ولكن ما فاجأه هي موافقة نسيم لأنه توقع أن تكون هي العثرة أمامه .
في تلك اللحظة كانت نسيم تشعر بالارتياح قليلا ، شعرت وكأن شيئا استقر أخيرا في مكانه، بعد أن تحرر جزءًا مما كان مقيدًا بداخلها .
استمع هو لتنهيدتها ، فتنهد بثقل وقال :
ـ لسه في كلام كتير محتاجين نتكلم فيه مع بعض، بس أنا مش حابب أضغط عليكي دلوقتي.. مع الوقت أكيد هنتكلم في كل حاجه ، على العموم لو حبيتي تسأليني عن أي حاجه تأكدي إني هجاوبك بوضوح وصراحة ..
ونهض وهو يقول :
ـ أنا هسيبك ترتاحي دلوقتي..
ونظر في ساعة يده ثم قال :
ـ أنا عندي مشوار دلوقتي وهرجع كمان ساعتين تقريبا ، محتاجه حاجة أجيبهالك معايا وأنا راجع ؟
تنهدت بعدم ارتياح، ثم قالت :
ـ شكرا ..
ـ طيب .. ممكن رقم تليفونك؟ ممكن أحتاج أكلمك وأنا بره .
نظرت إليه بصمت ، ثم أخذت الهاتف الممدود إليها وسجلت به رقم هاتفها ثم أعطته له فأومأ مبتسما وقال :
ـ هرن لك عشان تسيڤي الرقم .. عشان لو احتاجتي أي حاجه وأنا مش موجود تكلميني أو تبعتي مسدچ..
هزت رأسها موافقة فقال :
ـ كده تمام .. عن إذنك .
غادر وتركها في حيرة من أمرها، تنظر حولها بريبة، ذلك المكان بدا بالنسبة لها موحشًا ، وأعاد إلى رأسها ذكريات كانت ظنت أنها لن تتذكرها أبدا ..
وبينما هي في خضم شرودها غارقة استمعت إلى طرقاته على الباب مجددا .. انقبض قلبها بخوف ، وابتلعت لعابها وهي تنظر نحو الباب وتفكر ، لماذا أتى إليها مجددا .. ألم يستأذن وانصرف ، لماذا عاد إليها مجددا ؟
وقفت خلف الباب تمد يدها نحو المقبض بتوتر ، فإذا به يطرق مجددا ففتحت الباب بتردد ونظرت إليه عبر زاوية الباب المنفرجة وقالت :
ـ في حاجة ؟
ـ معلش نسيت أسألك .. مش هتتعشي ؟!
تنهدت براحة قليلا .. ثم هزت رأسها قائلة :
ـ لأ .. مليش نفس ، شكرا .
ـ تمام زي ما تحبي. تصبحي على خير .
أومأت وأغلقت الباب بإحكام ، بالمفتاح ، ثم ارتمت فوق الفراش بتعب إثر حركتها الزائدة اليوم، وشردت بالسقف وهي تفكر .. وتتذكر كل ما مر من أحداث ..
وكأنها خرجت للتو من ماراثون للأحزان ، ومن يعلم ، ربما القادم أسوأ .. ربما يمر عامًا أو عامين وتتفاجأ في النهاية أنها لا تزال تركض في طريق وعر دون وجهة .
أغمضت عيناها وفجأة زحفت صورة والدها إلى مخيلتها، تمنت لو أنها رأت ولو قليلًا من الندم في عينيه، كانت لتقتنع أن ذلك الأسف الذي منحها إياه كان صادقا، ولكنها كالعادة لم تر في عينيه سوى الجمود ، عينين فارغتين من العاطفة ، مملوءتين بالقسوة وحب الذات ..
يطلب منها السماح ، وكيف ستمنحهُ غايته بعد أن بدد في طريقه كل معاني الحياة، وسلبها كل شيء ، كل شيء حرفيا ..
لم تشعر في تلك اللحظة سوى بالأسف على نفسها ، فقد وقعت بين شقي الرحى ، لا هي عاشت مع أم حنونة احتوتها ومنحتها الأمومة كما يجب أن تكون ، ولا مع أب استطاع تعويضها غياب أمها.. دفعت ثمن أنانية أم لم ترغب سوى في الولد .. وثمن جبروت أب لم يرغب فيها لأنها نتاج نزوة عابرة .. وما بين قسوته وأنانيتها ضاعت هي وضاع كل شيء.
مسحت عبراتها وتنفست بهدوء ، وأخذت تنظر في نقطة وهمية بشرود وهي تتساءل .. متى تهدأ الرياح وترسو سفينتها على بر الأمان ؟!
***

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى