رواية محسنين الغرام الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نعمة حسن
رواية محسنين الغرام الجزء التاسع والعشرون
رواية محسنين الغرام البارت التاسع والعشرون

رواية محسنين الغرام الحلقة التاسعة والعشرون
ـ ٢٩ ـ
~ نافذة على القلب! ~
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقف الضابط ومساعده أمام سالم الذي كان بانتظارهم أمام سيارته .. وبجوارهما چيلان التي هرول عمر نحوها وعانقها عناقا حارا، فانزوت بين ذراعيه وظلت تبكي بطريقة هو لأول مراة يراها ، فالمعروف والمألوف أن چيلان لا تُبدي انهيارها أبدا، ودائما تظهر مظهر الواثقة حتى ولو كانت تخفي عكس ذلك، ولكنها الآن انفجرت في حضن أخيها وأجهشت بالبكاء ، إذًا الأمر يستحق .
نظر إليها الضابط وقال :
ـ حمدالله على سلامتك يا آنسة چيلان ،أنا آسف ، واضح إنك تعبانة ومرهقة لكن لازم نتكلم معاكي شوية ونعرف شوية تفاصيل.. عشان كده هتتفضلي معانا ناخد منك شوية أجوبة وبعدها تتفضلي تروحي .
أومأت بموافقة، فاستقل الضابط سيارته بينما توجه كلا من سالم وعمر وچيلان الى السيارة وتحرك كلا منهم نحو مديرية الأمن.
***
كانت عائشة لازالت تبكي بانهيار وهي تحاول تمالك أعصابها بعدما اقتحمت الشرطة الشقة وقاموا بقليها رأسًا على عقب بحثًا عن حسن ..
أسقطت رأسها بين يديها وظلت تبكي وهي تضرب بكلتا يديها جانب رأسها وتقول :
ـ أدي أخرة السكوت يا عيشة.. أدي ابنك هو اللي هيحاسب على المشاريب ، كان هيجرا إيه لو من البداية عرف كل حاجه..
وتوقفت عن النحيب وهي تقول بقوة :
ـ بس خلاص.. مبقاش ييجي منه السكوت.. أنا هتكلم ، أنا سكت كتير ومش هسكت تاني ، يمين بالله ما هسكت المرة دي ، هدور على حسن وأقولله كل حاجه.. وإن ملقيتوش هروح لأبوه وأقولله ينجده..
نهضت والتقطت عبائتها سريعا ووشاحها، ارتدتهما على عجالة وتوجهت نحو الباب .. وفي طريقها توقفت أمام المرآة وأخذت تنظر لنغسها وكأنها تواجه حقيقتها البشعة لأول مرة وهي تقول :
ـ كفاية أنانية بقا .. كفاية حرام عليكي.. كنتي خايفه يسيبك وتخسريه ، ما هو كده كده هتخسريه.. دلوقتي جه دورك لازم تتصرفي.. اعملي أي حاجه قبل ما يضيع حرام عليكي.. اتكلمي وقولي للدنيا كلها انه له ضهر .. زي ما كنتي السبب إنه يتلطم ويبقى واحد مجرم لازم تقفي جنبه .. هيسيبك ؟! مش مهم.. المهم ميضيعش.. كفاياكي أنانية يا عيشة.. زي ما عاش في الوحل ٣٣ سنة على الأقل اديله فرصة يعيش العيشة اللي يستحقها اللي باقي من شبابه .
وفتحت الباب وقد قررت أن لا تراجع ولا استسلام.. ستكشف كل المسكوت عنه ، ستخبر الكون بأكمله بحقيقة حسن.. ستذهب وتطلب المساعدة من والده لكي ينقذه من تلك الكارثة التي حلت به.
***
وصلوا إلى المديرية ، فدخل الضابط والبقية خلفه ، فأسرعت نهال نحو سالم بمجرد أن رأته ووقفت أمامه وهي تقول :
ـ جرا إيه يا باشا ، ده مكانش اتفاقنا ، أنا قلت كل اللي أعرفه والمفروض أمشي ، ممكن أفهم أنا موجودة هنا ليه ؟
أجابها سالم بايجاز :
ـ إجراءات قانونية ، متقلقيش شوية وهتمشي .
وتجاوزها ودخل إلى مكتب الضابط وبرفقته چيلان وعمر ، فأشار الضابط لسالم وچيلان بالجلوس وهو يقول :
ـ اتفضل يا سالم باشا ، اتفضلي يا آنسة چيلان .
جلس كلا منهما ، فوضع سالم ساقا فوق الأخرى ، وأسند مرفقة إلى مكتب الضابط ، بينما كانت چيلان تجلس أمامه وهي تشعر بالقلق والتوتر..
طلب لها الضابط عصير الليمون ، ثم بدأ حديثه وهو ينظر إليها باهتمام ويقول :
ـ مبدئياً يا آنسة چيلان ، أنا آسف في السؤال اللي هسأله لكن ده سؤال ضروري.. هل المجرم المدعو حسن العقرب حاول يعتدي عليكي بأي شكل ؟!
أومأت أن لا وقالت :
ـ لا أبدا محصلش..
ـ متأكدة ؟! لا بالسب ولا بالضرب ولا بالترويع حتى ؟!
أومأت مؤكدة وقالت :
ـ أيوة طبعا متأكدة وأنا هحاول أخبي أو أنكر ليه ؟! بس مفيش حاجه من دي حصلت ، بالعكس والدته كانت بتحاول تعاملني بتهذيب ولطافة طول الوقت ..
ـ تقدري تقوليلي إيه الهدف من ورا اختطافك ؟! عندك فكرة ؟!
لم ترغب في ذكر سيرة نغم خشية من أن تساعد بطريقة غير مباشرة في البحث عنها والعثور عليها ، لذا أجابت باقتضاب :
ـ لأ أبدا معنديش فكرة ، أعتقد ممكن عشان يساوم أهلي على فلوس مثلا..
ـ بس لو خاطفك عشان يساومهم أو يبتزهم زي ما بتقولي، ليه محاولش مثلا يتواصل معاهم أو يطلب منهم فلوس ؟! أكيد في هدف تاني .
مطت شفتيها مدعية عدم المعرفة وقالت :
ـ الحقيقة مش عارفة .. أنا بخمن مش أكتر .
هز رأسه متفهما ثم قال :
ـ طيب هل كان في علاقة بينك أو بين حد من العيلة وبين حسن ده ؟
حانت منها نظرة هادئة نحو عمر الذي يقف أمامها ويشير إليها بعينيه بتحذير فقالت بهدوء :
ـ طبعا لأ. إيه هتكون صلتنا بواحد مجرم زي ده ؟
ـ يعني كانت أول مرة تشوفيه وقت ما خطفك مش كده ؟؛
ـ مظبوط .
ـ ممكن تحكي لنا إيه الي حصل يومها بالظبط ؟!
ارتجفت وهي تسترجع تلك اللحظات العصيبة التي عاشتها يومها وقالت :
ـ أنا كنت سايقة وفجأة في عربية قطعت عليا الطريق، ونزل منها حسن بس كان مخبي وشه.. He was masked وبعدين فتح باب عربيتي ورش بنج تقريبا وبعدها فقدت الوعي فورا .. لما فقت كنت في بيته .. بعدها هو ومامته كانوا بيحاولوا معايا إني آكل بس كنت رافضة .. البنج فضل تأثيره معايا حوالي يومين كاملين وكنت دايخه طول الوقت .. بس ده كل اللي حصل ..
ـ طيب مسمعتيش أي كلام بينه وبين والدته .. يعني مقدرتيش تفهمي منهم إيه هو الدافع ورا خطفك ؟!
ـ لأ مسمعتش حاجة للأسف .. كنت في اوضة لوحدي ومقفول عليا الباب ..
تنهد الضابط ثم قال :
ـ تمام.. على العموم حمدالله على سلامتك مرة تانية ، نتمنى إن نفسيتك تتحسن في أسرع وقت إن شاء الله وتقدري تتجاوزي الأزمة دي بسرعة .
هزت رأسها بهدوء وقالت :
ـ ميرسي ..
فنظر إلى سالم وقال :
ـ طبعا المحضر مش هيتقفل طالما المجرم متقبضش عليه ، لكن أوعد حضرتك إننا هنجيبه في أقرب وقت لأنه أساسا له أكتر من سابقة .. وأكيد هنوافي حضرتك بآخر التطورات ..
أومأ سالم متفهمًا ، ثم نهض وقال وهو يمد يده ليصافحه:
ـ تمام يا حضرة الظابط ربنا معاكم ويبارك جهودكم .. عن إذنك .
غادر ثلاثتهم المكتب ، فيما ظل الضابط زين يرمق چيلان باعجاب إلى أن اختفت من أمامه ..
كانت نهال تنتظر بالخارج وهي تهز قدميها بتوتر وانفعال ، واندفعت صوب سالم وهي تقول:
ـ هو انت هتمشي يا باشا وانا هفضل هنا ولا إيه ؟!
ـ لا متقلقيش .. هياخدوا أقوالك وتمشي ..
نظرت إليه بارتياب وقالت. :
ـ طيب والفلوس ؟!
ـ أه أه طبعا.. انتي بس خلصي جوه وعدي عليا في الڤيلا هتاخدي حقك وزيادة.. بس زي ما اتفقنا ، الكلام على القد .
أومأت نهال بحماس وهي تقول :
ـ متقلقش يا باشا .. الكلام على القد.
اصطحبها العسكري إلى مكتب الضابط ، بينما كان سالم قد غادر ليقترب منه عمر متسائلا :
ـ هو حضرتك ناوي تديها الفلوس بجد ؟!
فأجابه سالم بثقة وهو يستقل السيارة :
ـ ليه هي فلوس حرام عشان أبعزق فيها شمال ويمين ؟!
وتابع وهو ينظر إلى چيلان بالمرآة ويقول :
ـ مش كفاية الفلوس اللي مسروقة من الخزنة ؟ هو مال سايب ؟
اهتزت حدقتي چيلان بتوتر ، وإن كانت تعرف سالم ولو بقدر بسيط فيمكنها الجزم أن نظرته تلك ليس مجرد نظرة عابرة ، بل هي رسالة مبطنة موجهة إليها خصيصا..
ابتلعت ريقها بتوتر وأشاحت بعينيها بعيدا عن عينيه اللتين تتفرسانها بدهاء يكبر معه كلما تقدم في العمر .
ضمها إليه عمر وهو يقول مبتسما :
ـ حمدالله على سلامتك حبيبتي ، انتي كويسة ؟! المختل ده أذاكي ؟
هزت چيلان رأسها أن لا.. ثم قالت:
ـ لا متقلقش أنا كويسة جدا قدامك أهو ، مامي عاملة إيه و جوليا؟
ـ ماما مش كويسة، بس لما تشوفك أكيد هتتحسن .. و چوليا زعلانة جدا علشانك .. كلنا زعلانين علشانك .
ودت لو سألته عن فريد ، هل هو أيضا قلق مثلهم أم أنه لم يتأثر قط ؟! ولكن شعورها بالتعب والإرهاق الآن قد فاق الحدود، وأسندت رأسها على ظهر الكرسي وأغمضت عينيها وهي تتخيل كيف سيكون استقبال والدتها وشقيقتها اللتين اشتاقتهما للغاية ..
***
وقفت نهال أمام الضابط وهي تفرك يديها ببعضهما بخوف، بينما هو يطالعها من أعلى لأسفل بتفحص وهو يقول. :
ـ قوليلي بقا يا نهال .. عرفتي منين إن اللي خطف چيلان هو حسن العقرب .
ـ مانا قلت لحضرتك يا باشا إني كنت قاعدة عندهم ..
ـ وعرفتي منين عنوان ڤيلا أهل چيلان ؟! انتي ليكي علاقة بيهم ؟!
_ أكيد لا.. بس سمعتها وهي بتتكلم مع حسن وعرفت إن سالم بيه يبقا جوز أمها وسألت عن عنوانهم لحد ما وصلت واللي يسأل ميتوهش. .
أومأ وقال:
ـ تتوقعي حسن العقرب خطفها ليه ؟!
ـ العلم عند الله يا حضرة الظابط ، حسن مش سهل ومحدش يقدر يتوقعه ..
ـ تقدري تخمني هو ممكن يكون فين دلوقتي ؟! إيه المكان اللي ممكن يلجأ له ؟
أخذت تفكر للحظات ثم نظرت إليه وقالت :
ـ عند مراته يا باشا .. حسن متجوز واحدة اسمها فيفي الشناوي عندها بيوتي سنتر كبير في العمرانية .. أكيد هيستخبى عندها أو هيحاول يروح لها .
هز رأسه بتفهم وقال :
ـ طيب ، على العموم انتي شغلك خلص لحد هنا .. اتفضلي امضي على أقوالك وامشي
أسرعت بالتوقيع على أقوالها ثم غادرت مسرعة، واستوقفت سيارة أجرة وقصدتها للذهاب إلى منزل سالم وهي تمني نفسها بالحصول على المكافأة التي ستفتح أمامها بابًا جديدًا للعيش بعيدًا عن حسن وكل من على شاكلته .
***
وقفت نغم أمام غرفة المرسم بتردد ، لا تعرف هل تتقدم أم تتراجع، ولكنها قررت في النهاية أن تكمل رحلة استكشاف خبايا ذلك المنزل الغامض كصاحبه ، فتقدمت وهي تنظر حولها بانبهار ، ترمق اللوحات التي رسمها فريد و وقع باسمه أسفلها باعجاب بالغ، وتقف أمام كل لوحة تتفحصها بدقة وتحاول فهم خباياها، ولكن ما أثار تساؤلاتها بحق ، لماذا يطغى اللون الأسود على أغلب لوحاته ؟! ما هذا الرجل الكئيب ؟!
تخطت ظلمة لوحاته وصولا عند لوحة تبدو رومانسية وحالمة للغاية ، رسم فيها رجلا تجاوره فتاة تسند رأسها على كتفه ، بالطبع هي لا تعرف أن تلك اللوحة هي تجسيد واقعي للمنام الذي رآه وكانت تشاركه فيه ، عندما تبادلا تلك القبلة في اللاوعي ، ولكنها شعرت أن تلك اللوحة تخصها بطريقةٍ ما ، ولا تعرف ما سبب ذلك الشعور الغريب .
ولكن ما أكد لها شعورها فعلا هو رؤيتها لتلك اللوحة المُعلقة بعيدا وكأنه يخفيها عن الأنظار.
تلك اللوحة كانت لها هي ، لا مجال للشك أو الالتباس ، لا يمكنها أن تخطيء ملامحها التي رسمها ببراعة ، إنها هي بكل تفاصيلها.. وجهها الرقيق وملامحها البريئة وعينيها الحزينتين اللتين أبدع في رسمهما وتجسيد الحزن فيهما ..
وقفت أمام اللوحة تتأملها وهي تتساءل، متى رسمها ؟! ولماذا ؟! وما الذي كان يدور برأسه عندما كان يرسمها ؟! وهل هو مهتم بها لذلك الحد الذي جعله يرسمها بتلك الدقة والتفاني ؟
دق قلبها بطريقة جنونية وهي تتهادى إلى الإجابة الصحيحة ، لا يوجد رجل يرسم امرأة إلا لكونه مهتما بها بقدر كبير ..
عقلها لا يحاول التشبث بالاحتمال الآخر وهو أنه يحبها لأنها تخشى التعلق بخيط ضعيف قد يكون في نهايته هلاكها..
لذا من الأفضل أن تسمي هذا اهتماما إلى أن يثبت العكس..
أو إلى أن يرشدها إلى الإجابة الصحيحة ويرحم قلبها من ذلك التيه.
خرجت من المرسم وعادت إلى غرفتها سريعا وهي تتعثر في كل شيء حولها من فرط التشتت والارتباك ، ودخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها تحاول الهروب من حصار رائحته التي تحيط بها من كل جانب وتضغط على أعصابها وقلبها أكثر.. لتكتشف الاكتشاف اللعين في النهاية.. تلك الرائحة مصدرها الوحيد… هي نفسها.
جحظت عينيها وهي ترفع كفيها إلى أنفها وتشتم مزيج العطور الذي صنعته على راحتيّ يديها وأخذت تنهر نفسها بشدة:
ـ يا غبية يا نغم .. يا غبية !! دلوقتي لو شم ريحة برفانه دي فيا هيعرف إني دخلت اوضته !!
دخلت إلى الحمام فورا وأخذت تغسل يديها مرات ومرات ولكن الرائحة لا تزول أبدا ، فأدركت أنها لا بد أن تأخذ حماما عميقا علها تختفي ..
أغلقت باب غرفتها وجهزت ملابسها ودخلت إلى الحمام فورا..
ـــــــــ
كان فريد في طريقه إلى نغم ، لقد ألغى بعض أعمال اليوم لكي يمر بها ويساعدها في التعامل مع الحاسوب لكي يعدها لبدء الدراسة عليه .. ومن بعدها سيذهبان إلى المشفى لرؤية نسيم بعد أن اتفق مع زينب أن تخبره فور أن يغادر الجميع ..
رن هاتفه برقم عمر ، تجاهله لأول مرتين ، ولكنه أجاب في الثالثة قائلا بهدوء :
ـ خير يا عمر ؟
فوصله صوت عمر قائلا بابتهاج شديد:
ـ فريد ، چيچي رجعت .
توقف عن القيادة للحظة وتساءل:
ـ فعلا ؟!
ـ أيوة.. إحنا داخلين الڤيلا أهو ، لما تيجي هحكيلك .
فتساءل الآخر بفضول قائلا :
ـ لأ لما اجي إيه إنت لازم تحكيلي حالا .. كانت فين ورجعت ازاي ؟
ظهر التردد على صوت عمر ولكنه أجاب :
ـ نهال صاحبة نغم …
جذب كل اهتمام فريد الذي تساءل بتعجب وحيرة :
ـ مالها ؟!!
ـ هي اللي جت هنا وبلغتنا إن ابن خالة نغم كان خاطفها .
أصابت الدهشة فريد الذي تساءل بغير تصديق :
ـ حسن ؟!!
تصمع الآخر عدم معرفته بالاسم وقال بهدوء مصطنع :
ـ تقريبا أه اسمه كده.
ـ وبعدين ؟! … تساءل بقلق .
ـ للأسف مقدروش يقبضوا عليه .. مكانش موجود بس هيمسكوه أكيد .
تنهد فريد بيأس وقال :
ـ اوكي يا عمر .. هكلمك تاني.
وأنهى الاتصال ، كان قد وصل إلى الكومباوند فقام بالاتصال بنغم لكي يخبرها أنه قد وصل ولكنها لم تجب ، كرر الاتصال مرات عديدة ولكنها كذلك لم تجب ، وقف أمام باب منزله يطالع الباب بحيرة وقلق ، بالتأكيد لم تخرج دون اخباره ، وبالتأكيد ليست نائمة.
فتح الباب ودخل وهو يناديها وعينيه تمسح الأرجاء بحثًا عنها ، لم يجدها بغرفة المعيشة ، فتوقف ينظر نحو غرفتها مترددا.. ولكن شيئا ما قد جذب انتباهه.. رائحة عطره التي تفوح في المكان بقوة .. في الواقع هي ليست رائحة عطره.. وإنما عطوره ..
دخل غرفته وبنظرة واحدة استطاع أن يتبين أنها قد دخلت غرفته وعبثت بقنائن عطره .. وهذا ما فسر له سبب انتشار الرائحة في المنزل بهذه الطريقة.
ابتسم وهو يهز رأسه يائسًا .. إنه الفضول سمة النساء ..
فضولية ولكنها ستظل ألذ فضولية رآها من بين جنس حواء .
أغلق باب الغرفة وناداها مجددا دون أن يدخل الغرفة ، طرق باب غرفتها ولكنه لم يجد رد .. وهذا ما أشعره بالخوف فقرر فتح الباب ليصله فورا صوت رذاذ الماء المنبعث من الداخل ، فتجهم وجهه فجأة وأغلق الباب مسرعًا وركض نحو باب الشقة .. فتح الباب وغادر ثم استقل سيارته وانتظر بها وقد قرر ألا يخبرها أنه قد دخل المنزل لئلا يشعرها بالحرج .
***
كانت نادية لازالت ممددة فوق الفراش وچوليا بجوارها تحاول دعمها بكلمات تعرف أنها لن تجدي نفعا ، وفجأة رأت چوليا أمها وهي تنظر نحو الباب بصدمة فاستدارت ونظرت حيث تعلقت عينا والدتها لتصاب بالصدمة مثلها وهي تهتف بغير تصديق:
ـ چيلان !!!!
أسرعت نحوها على الفور وتعانق الأختين عناقا حارا مليء بالدموع الحارة والقبلات ، بينما نهضت نادية وتحاملت على شعورها بالألم والوهن، ثم عانقت چيلان بقوة وهي تقول :
ـ يا حبيبة مامي .. يا قلبي يا چيچي رديتي فيا الروح..
أجهشت چيلان باكيةً مرة أخرى بين أحضان والدتها وأختها وعمر الذي انضم إليهن وأحاطهن بذراعه وهو يقول :
ـ خلاص كفاية عياط انتوا التلاتة .. انتوا استهلكتوا نص مخزون مصر الاحتياطي من الدموع في أقصر مدة زمنية بجد .
ضمت نادية بناتها بقوة ، ودت لو أن أجسامهن تلاحمت وصارت واحدا ، لو أنها تخبهئما بداخلها فلا يمسهما أي بشر بسوء ،..
ـ طيب وأنا مليش نصيب يعني من الحضن الثلاثي ده ؟
جذبت كلا من أختيه ذراعيه نحوهن وتعانقا عناقا وطيدًا ، صادقًا ، نابعا من القلب ، كلا منهم يحتاجه وبشدة .
فرّق تلك اللحظة دخول سالم الذي حمحم ثم وقف يطالع ابنه بضيق وقال مشيرا إلى التصاقه الشديد بأمه وأختيه :
ـ جرا إيه يا عمر ! طيب چيلان وكانت مخطوفة ، انت بقا حاشر نفسك وسطهم ليه كدا ؟!
شعر عمر بالضيق الشديد لأنه والده يستكثر عليه حتى العناق، فهذا في عرف سالم مرسال مرفوض، وكأن كونه رجل فهذا ينفي عنه حاجته لعناق أمه وشقيقاته..
وقف سالم أمامهم وقال بهدوء:
ـ حمدالله على سلامتك يا چيلان ..
ـ الله يسلمك يا أنكل سالم.. متشكرة جدا .
أومأ وقال:
ـ والدتك وچوليا كانوا قلقانين جدا عليكي .. لكن أنا كنت عند رأيي.. إنك ميتخافش عليكي .
ألقى بالكلمة الأخيرة مبتسما في اتزان، ولكن چيلان أدركت أن تلك الابتسامة تخفي وراءها الكثير، فابتسمت بدورها وقالت :
ـ ثقة أتمنى أكون على قدرها يا أنكل سالم .
ـ بالتأكيد.
قالها سالم ثم تابع :
ـ على العموم أنا هستأذن لأني رايح عند نسيم ، خدوا راحتكم ..
وغادر الغرفة ، بينما نظرت إليهما چوليا وهي تقول بحنق :
ـ أنا بجد مبقيتش طايقاه ولا طايقة البيت اللي فيه ، بقيت كل ما بشوفه بيضغط على أعصابي .
نظرت إليها چيلان ومسدت ذراعيها بحنان وهي تقول :
ـ وحشتيني يا حبيبتي..وانتي كمان يا مامي وحشتيني جدا ..
ضمتها نادية مجددا وهي تقول:
ـ انتي اللي وحشتينا يا حبيبتي.. اقعدي بقا واحكيلنا كل حاجه.. إيه الي حصل بالظبط .
تنهدت بتعب وهي تقول :
ـ معلش يا ماما عمر هيحكي لك كل حاجه أنا تعبانة جدا وعاوزة أخد شاور وأنام.. بعدين نتكلم .
وغادرت إلى غرفتها سريعا ، وفور أن دخلت أغلقت الباب خلفها جيدا ودخلت إلى غرفة ملابسها وأخذت تبحث عن تلك الحقيبة التي كانت تخفي فيها محتويات خزنة سالم ولكنها فوجئت بأنها غير موجودة ..
لعنت تحت أنفاسها وهي تكمم فمها بيدها وتكتم شهقة كادت أن تنفلت ، الآن تأكدت أن كل تلك النظرات التي كان يرميها بها سالم ليست عبثا ، وإنما لأنه يعرف أنها هي من سرقت خزنته ..
رفعت يدها إلى رأسها بتوتر وهي تفكر مليًا، كيف ستنفي تلك التهمة عنها وماذا ستقول ؟!
يبدو أنها أقحمت نفسها في فخ لا طاقة لها به ، ونسيَت أنها تجابه سالم مرسال بنفسه .. حيث أن ذكائها كله لا يكفي للخروج من أزمة واحدة قد يضعها بها .
***
وصلت عائشة أمام ڤيلا سالم ووقفت أمام البوابة وأخذت تطرق الباب بقوة ، فاستقبلها حارس البوابة الذي تذكرها وقال :
ـ انتي تاني ؟؟ هو انتي مش جيتي هنا قبل كده ؟؟
أومأت وهي تتعلق بيديه وتنظر إليه باستجداء وهي تبكي وتقول:
ـ بالله عليك يا ابني تساعدني أنا واقعة في عرضك.. أنا لازم أقابل سالم بيه ..
ـ سالم بيه مش موجود ..
أجهشت في البكاء أكثر وكادت لتنحني على يديه وتقبلها برجاء:
ـ أبوس ايدك لازم أقابله.. الموضوع موضوع حياة أو موت.. لازم اتكلم معاه ضروري..
شعر الشاب بالشفقة تجاهها وقال:
ـ يا ستي والله الباشا مش موجود .. لسه خارج حالا بعربيته ..
ـ راح فين وأنا هروحله حتى لو آخر بلاد المسلمين..
زم شفتيه بأسف وقال :
ـ يا ست بالله عليكي مينفعش كده .. انتي كده بتضريني في شغلي ، معلش امشي ..
ابتعدت عنه وهي تهتف بغضب ولوعة :
ـ أنا مش همشي ، أنا هفضل قاعدة كده لحد ما يرجع.. لازم يعرف كل حاجه.. خلاص مش هسكت تاني ..
ـ يا حجة اللي بتعمليه ده ممنوع .. مينفعش تقعدي هنا قدام البوابة .. لو سمحتي امشي متخليناش نتعامل معاكي بالقوة ..
لم تجد بدًا من الانصياع لأمره، فسارت بعيدا عن البوابة وجلست على أحد الأرصفة المجاورة لكي يتسنى لها رؤيته عند عودته وقد قررت أنها لن تتراجع أيًا كان ما سيحدث .. ولّى زمن الصمت .
***
خرجت نغم من الحمام أخيرا وهي تشمشم بأنفها في محاولة منها للتحقق ما إذا كانت رائحة عطر فريد لا زالت عالقة بها أم لا .. ووقفت أمام المرآة تصفف شعرها وترش من العطر الخاص بها الذي اشتراه لها علها تساعد في إزالة تلك الرائحة الملعونة التي لا تفارقها .
انتبهت على رنين هاتفها باسم فريد فأجابت قائلة :
ـ ألو ..
ـ أيوة يا نغم .. بكلمك عشان أقوللك إني واقف برة ..
انتابها الحرج لكونه انتظر كل ذلك الوقت وقالت :
ـ معلش أنا آسفة مشوفتش التليفون ..
ـ ولا يهمك.. يلا أنا داخل .
أنهى الاتصال وترجل من سيارته ثم فتح الباب ودخل ، فوجدها تخرج من غرفتها وتقبل نحوه بابتسامة ، فابتسم وقال:
ـ أخبارك إيه ؟
ـ الحمد لله.. صوتك ماله ؟
قطب جبينه ، لم يتوقع أن تعرف ما يراوده من قلق عن طريق نبرة صوته ، لذا توجه نحو غرفة المعيشة ، وضع حقيبة الحاسوب الخاص بها على الطاولة ، ثم جلس وأشار لها بالجلوس فجلست على المقعد المقابل له ، وأخذت تنظر إليه فرأته يتنهد بضيق واضح ثم قال:
ـ چيلان رجعت .
شعت عينيها حماسا وقالت :
ـ بجد ؟ طب الحمد لله.. فرحت علشانها .
أومأ وقال وهو ينظر إليها :
ـ اللي كان خاطفها.. هو حسن .
تجمد الدم بعروقها وأخذت تنظر إليه بصدمة ، وأحست في تلك اللحظة بالرجفة تسرى في أطرافها ..
رأى شحوب وجهها وتلك الحالة المزرية التي تملكتها، فنهض من مكانه وجلس بجوارها ، ثم نظر إليها وقال:
ـ مش عاوزك تتخضي بالشكل ده..
سألته وهي تحاول تمالك أعصابها:
ـ مسكوه ؟؟
تنهد بضيق وقال:
ـ للأسف لسه .. بس ده هيحصل هيحصل متقلقيش..
ازداد خوفها، وشحب وجهها أكثر ، فأمسك بيديها اللتين ترتجفان وضمهما بين يديه وهو ينظر إليها ويقول :
ـ نغم.. متخافيش ما أنا موجود ، أنا لا يمكن أسمح لحد يأذيكي حتى لو كان مين ..
ـ حسن مش هيسكت.. حسن زمانه دلوقتي شبه المجنون وأكيد مش هيسكت ..
تنهد بيأس ، هو يعرف أنها محقة ، فهو الآن أشد خطرا من أي وقت مضى، ولكنه لم يكن ليبثها خوفه وشكوكه، فقال محاولا طمأنتها :
ـ مش هيقدر يعملك حاجة متقلقيش..
نظرت إليه وانفجرت فيه صارخةً وهي تقول:
ـ ازاي مقلقش ، انت متعرفش حسن زيي عشان تقوللي متقلقيش ، حسن ممكن يعمل أي حاجه تخطر على بال أي حد ، حسن مبيفكرش قبل ما ينفذ ، حتى لو كان بيحبني زي ما بيقول زي ده ميمنعش إنه ممكن يتجنن ويعمل اي حاجه لو شافني ، حسن اللي قطع لسان واحد عشان بس قال له انت ابن حرام هو نفسه حسن اللي كان هيتسبب في موت واحد عشان اتقدملي هو نفسه حسن اللي خطف چيلان والله أعلم لو مكانش الشرطة وصلت لها كان هيعمل فيها إيه ،،
واضافت وهي تبكي باستسلام أمامه :
ـ هو نفسه حسن اللي ممكن يعمل أي حاجه عشان هو دايما مش شايف غير نفسه وغير اللي هو عايز يعمله وبس ..
لم يفلح في تجاهل نداء قلبه أن يزيل دمعاتها تلك، فمد يده ومسح أسفل عينيها بأنامله ثم قال:
ـ هرجع وأقوللك متقلقيش وانتي معايا.. صدقيني أنا مستعد أفديكي بعمري ولا إني أسمح إن حد يأذيكي أبدا ..
يقولون أن لذة الاعتراف بالحب تكمن فى الطريقة، وأن الرجل يملك قلب المرأة إذا استطاع أن يكون مميزًا حين يعترف بحبه ، وأن أقرب طرق الاعتراف بالحب لقلب المرأة هي.. المستترة ، التي تحمل في طياتها الكثير والكثير.. التي تلمس شغاف قلبها وتجعلها تتوقف عندها..
وللحق هو بارع في ذلك ، فهو يمنحها في كل يوم مئات الاعترافات بمختلف الأساليب ، ولكنه اليوم قد تفوق على نفسه .. فتلك الكلمات كانت أحلى وأدفء ما سمعت ..
نظرت بتوتر في اتجاهه، التقت نظراتهما، تلك العينان الدافئتان اللتان تعثران عليها دومًا وتنتشلها من ضيق خوفها إلى رحابة أمانه تلاقت بعيناها الباكيتان اللتان ترحوه رجاءًا صامتا ألا يغادر كونها الصغير أبدا .. أن يبقى لأنها لا ترغب في إنسان يشغل حيز وجودها غيره ..
وعى من شروده بها عندما شعر بتسارع دقات قلبه نظرا لتقاربهما، فتراجع خطوة للوراء وهو يحمحم ويقول:
ـ إنتِ هنا في أمان متقلقيش .. أفراد الأمن هنا على أعلى كفاءة ، وطول ما انتي هنا تأكدي إنه مش هيعرف يوصلك.. متخافيش من حاجة .
أومأت بموافقة فتابع:
ـ كمان أنا شايف إن هنا أفضل.. بعيد عن دوشة الڤيلا والأجواء المتوترة هناك.. إضافة إلى انها فرصة تكتشفي نفسك من جديد.. تدرسي بتركيز .. تقرأي كتب في وقت فراغك.. ولا إيه رأيك ؟
هزت رأسها بتأييد فتابع:
ـ وبعدين أنا هفوت عليكي كل يوم وهتابع معاكي بالتليفون يعني مش هتكوني لوحدك أوي يعني .
تنهدت وهي تنظر إليه بامتنان وقالت :
ـ أنا بجد مش عارفه من غيرك كنت هعمل ايه !
ابتسم وقال وهو ينهض
ـ ولا أي حاجه يا ستي .. أكيد ربنا كان هيسخرلك حد غيري يقف جنبك ويساعدك بردو.. على العموم أنا كنت ناوي أعلمك شوية حاجات في اللابتوب بس الكلام خدنا ولازم أمشي عشان راجع الشركة وبعدين عندي مشوار مهم ..
ـ هتروح لنسيم مش كده ؟!
ـ لأ.
نظرت إليه باستفهام ، ولمع الفضول في عينيها فضحك وقال:
ـ متتكسفيش تسألي أنا عارف إنك هتموتي وتسأليني ..
ضحكت بخفة وقالت:
ـ معلش أصل أنا فضولية شوية..
زم شفتيه في خط مستقيم بطريقة مضحكة وهو يقول :
ـ ما أنا عرفت..
قطبت جبينها وتساءلت:
ـ و عرفت ازاي بقا ؟
فأشار بحاجبيه ناحية غرفته وهو يقول :
ـ لما لقيتك منتشرة في الاوضة بتاعتي ..
تهدلت ملامحها بحرج فضحك قائلا :
ـ عادي محصلش حاجة ، متتخضيش أوي كده ..
ـ هو انت عرفت إزاي ؟!
ورفعت كفها إلى أنفها تشمه وهي تقول :
ـ هي الريحة لسه موجودة ؟!
أومأ مؤكدا وقال :
ـ وهتفضل موجودة تلت أيام أقل ما فيها ..
تنهدت بأسى وهي تحك جبهتها بحرج وتقول :
ـ أنا أسفه إني دخلت اوضتك و..
قاطعها قائلا:
ـ متتأسفيش أبدا .. بيتي هو بيتك يا نغم .
تمنى لو أنها حقيقة ، لو أنهما يملكان نفس المنزل فعلا ، ولكن وهي زوجته.. وهي سيدة هذا المنزل وأساسه..
ارتبكت إثر نظراته وأشاحت بوجهها جانبا ثم حمحمت ونظرت إليه قائلة :
ـ مقولتليش بردو رايح فين ؟
ابتسم وقال :
ـ رايح عند الدكتور ..
تساءلت بقلق ولهفة قفزا من عينيها :
ـ دكتور ليه ؟! مالك ؟!!!
تنهد وأخذ يفكر ، هو لم يخبرها بمرضه من قبل، وفي الواقع هو لا يفضل أن يتحدث مع أي شخص عن هذا الأمر، ولكنها دوما استثناء..
ـ متقلقيش مش مشكلة عضوية ، أنا كويس .. كل الحكاية إني ليا حكاية كده مع الوسواس القهري ومؤخرا حسيت اني لازم ألجأ لدكتور .. وقد كان يعني .
انتظر منها سؤالا ، اندهاشا ، استغرابا .. ولكنها فاجئته بقولها ببساطة :
ـ يبقى إيه بقا الوسواس القهري ده ؟!
ـ أصلا ؟! لأ ده انتي عايزة قاعدة طويلة بقا وأنا حاليا مستعجل .. إيه رأيك بعد ما أخلص زيارة الدكتور أفوت عليكي ونروح نضرب لنا اتنين بليلة عند عم اكرامي وأحكيلك مأساتي ؟
وضحك فضحكت بدورها وقالت بابتسامة:
ـ يظهر إن البليلة بتاعة عم اكرامي عجبتك ..
ليجيبها وهو ينظر داخل عينيها مبتسما وهو يقول :
ـ وهو في زي بليلة عم اكرامي ؟
ابتسمت بخجل فحمحم يستدرك الموقف ثم زفر بخفة وقال:
ـ هخلص وأعدي عليكي! اتفقنا ؟
أومأت بموافقة وقالت :
ـ تمام .. خلي بالك من نفسك.
ابتسم وتساءل وهو يضع يديه في جيبي بنطاله وينظر إليها مراوغا :
ـ خايفة عليا ؟
تخضبت وجنتيها بحمرة الخجل وأومأت وهي تشيح بعينيها عن عينيه وأومأت مؤكدة وهي تقول :
ـ أكيد ..
تنفس براحة ثم قال:
ـ متقلقيش عليا .. خلي بالك انتي من نفسك .. سلام .
***
مساءا..
كانت نهال قد وصلت أمام الڤيلا للتو، ترجلت من سيارة الأجرة بثقة، ثم نظرت الى الحارس وهي تقول :
ـ بلغ الباشا إني موجودة ..
طالعها الشاب بتهكم وهو يقول :
ـ ومين انتي بقا إن شاء الله ؟
نظرت إليه بصدمة وهي تقول :
ـ ايه ده انت مش فاكرني ؟! أنا اللي كنت هنا الصبح وقابلت سالم بيه ..
ـ أيوة افتكرتك.. طلباتك إيه خير ؟
طالعته بحدة وقالت:
بقوللك بلغ سالم بيه اني موجودة وهو هيدخلني علطول ، أنا بيني وبينه اتفاق على فكرة ..
تنهد الحارس بضيق، ثم قام بالاتصال بمنصور وأخبره برغبتها في مقابلة الباشا لأمر هام، فقام منصور بدوره بالاتصال بسالم وأخبره فأجابه سالم بصرامة:
ـ اتصرفوا معاها.. مش عايز البنت دي تقرب من الڤيلا تاني..
أبلغ منصور الحارس بما قاله سالم فنظر إليها الحارس وقال:
ـ الباشا بيقوللك مش عاوز يشوف وشك هنا تاني بدل ما يرميكي في السجن .
جحظت عيناها بذهول ونظرت إليه بغير تصديق وهي تقول:
ـ إيه الكلام اللي انت بتقوله ده؟ يعني إيه مش عاوز يشوف وشي؟ والاتفاق اللي بينا ؟
طالعها الآخر بنفاذ صبر وهو يقول :
ـ بقوللك إيه.. أنا مش فاضي عشان كل شوية واحدة تيجي تضيع في وقتي.. يلا من هنا بدل ما ألبسك مصيبة وأرميكي في السجن.
ابتعدت نهال وهي تنظر حولها بتيه، وسارت مبتعدة عن الڤيلا رغما عنها، عادت خالية الوفاض، بعد أن ظنت أنها قد حصلت على فرصة للبدء من جديد ولكنها لم تجد سوى سراب.
***
كانت نسيم تجلس على فراشها بالمشفى، وزينب تجلس بجوارها ويتجاذبان أطراف الحديث، فانفرج الباب الذي قطع حديثهما ودخل سالم ..
وقف يطالعهما بهدوء ولم يغفل عن تلك النظرة بعيني ابنته، فنظر إلى زينب التي نهضت وغادرت الغرفة على الفور ..
دخل سالم وأغلق الباب، وسار نحو المقعد المواجه لسرير نسيم ، ثم جلس فوقه ونظر إليها بهدوء يناقض افكاره الصاخبة وقال:
ـ عاملة إيه دلوقتي ؟
ـ الحمد لله .
قالتها باقتضاب ، بينما هو كان ينظر أرضا ثم نظر إليها وقال :
ـ أنا آسف .
نظرت إليه بصدمة، فأومأ يؤكد ما قاله ، يؤكد لها أن ما سمعته حقيقيا وأنها لا تتوهم، وتابع :
ـ أسف لأني وصلتك للحالة دي.. إنك تحاولي تموتي نفسك عشان متجوزيش إنسان انتي مش عايزاه .. أنا بس كل اللي عايزك تعرفيه إني مش بكرهك ..
ارتجف قلبها بين ضلوعها ، وأخذت تستمع إليه بانصات وهو يقول:
ـ أنا لما كنت ببعدك عني صدقيني كنت بحاول أحميكي .. وقبل ما تسألي هقولك معنديش إجابة .. أنا كل اللي عايزُه إني أفهمك إني مش وحش للدرجة دي ولا أب سيء زي ما انتي واخواتك شايفيني ..
وأخفض رأسه أرضا وقال :
ـ أنا يمكن مبعرفش أكون حنين .. طبعي كده . أنا اتربيت كده وكبرت بالطريقة دي .. وعلى فكرة أنا كمان مكنتش بلاقي حد يحن عليا .. أنا كمان عانيت في طفولتي زيكم .. شربت القسوة من أبويا غصب عني ، و بدون ما أحس عاملتكم بنفس القسوة .. أنا آسف لو أنا السبب من غير ما أقصد في كل مشاكلكم .. يا ريت أقدر أعوضكم …
فرت من عينيها دمعة مقهورة ، وخرجت عن صمتها لأول مرة في حياتها وهي تقول :
ـ تعوضني ؟! حضرتك شايف إنك ممكن تعوضني ؟! تعوضني عن إنك سيبتني لوحدي في دبي مع زينب وأنا عندي عشر سنين بس.. بعدتني عنك وعن فريد وأنا كنت طفلة لسه ، تعوضني عن إنك رميتني بعدها في دار أيتام وأنا ليا أهل ؟! تعوضني عن إن صاحب الدار كان بيتحرش بيا ؟! تعوضني عن انك قتلت الإنسان الوحيد اللي حبيته وحبني ؟! تعوضني عن إيه ولا إيه ولا إيه ؟! في حاجات مبتتصلحش ولا ينفع فيها تعويض .. أنا اتكسرت مليون حتة.. مستحيل هتقدر تداويني مهما عملت..
ازدادت حدة بكاءها ونشيجها وهي تستطرد بعد صمت طال لسنوات طويلة:
ـ أنا كل ما بشوفك بحس برعب، كل ما بشوفك بحس إني هموت أو هيجرالي حاجة مش كويسة .. أنا بقيت بترعب من مجرد ما أسمع صوتك .. إنت مهما عملت مش هتكون بالنسبة لي أب أبدا..
أطرق رأسه أرضا بندم ، لم يتوقع منها ما سمعه ولكنه يعرف أن الصغط يولد الانفجار وها هي انفجرت وربما ذلك الانفجار يساهم في خلق نسيم جديدة .. وأومأ متمهلا ثم قال :
ـ معاكي حق في كل كلمة قلتيها .. على العموم أنا هسيب البيت يومين وهرجع على العزبة لحد ما أعصابك تهدى تماما ..
ثم نهض ، واقترب منها وربت على رأسها لأول مرة وهو يقول:
ـ خلي بالك من نفسك.
اقشعر بدنها إثر لمسته ، وظلت تبكي حتى بعد مغادرته ، فدخلت زينب وأسرعت إليها تعانقها بقوة وتشاركا البكاء لفترة طويلة..
***
وصل فريد أمام مركز الدكتور رؤوف ، صف سيارته وترجل منها ، ثم دخل فاستقبلته مديرة المكتب التي قادته نحو الداخل ..
استقبله الطبيب مبتسما ، ثم أشار له بالجلوس وقال :
ـ أخبارك إيه يا بشمهندس ؟ أنا شايف وشك مرتاح النهارده عن كل مرة الحمد لله..
أومأ فريد مبتسما وقال:
ـ الحمد لله يا دكتور ، أنا حاسس إني المرة دي فعلا أهدى من كل مرة ، مفيش وساوس كتير زي دايما ، بس للأسف في كوابيس كتير .. تقريبا كده كل يوم بصحى من النوم على كابوس مفجع.. لدرجة إني بقيت أخاف أنام.. الموضوع ده مسبب لي ازعاج وإرهاق شديد جدا .. بقيت حاسس إني محاصر بالوسواس من كل ناحية حتى وأنا نايم ..
أومأ الطبيب مؤيدًا كلامه وقال:
ـ بس كده إنت لخصت الإجابة كلها في الكلمتين دول.. بص يا فريد .. خليني امشي معاك واحدة واحدة. مبدئيا كده الأحلام دي في الطب النفسي بنسميها Window to the heart يعني نافذة على القلب.. ليه ؟ لأنها بتعكس أحاسيسنا ومشاعرنا وأفكارنا كمان اللي بنكون مش عارفين نفهمها بالشكل المظبوط.. ده بالنسبة للشخص العادي.. طيب بالنسبة بقى للشخص المريض بوسواس قهري ؟! هقولك لأ الأمر بيختلف شوية .. لأن الأحلام اللي بيشوفها مريض الوسواس القهري في منامه بتكون مرتبطه ارتباط وثيق بالمعاناة اللي بيشوفها خلال حياته عامة ويومه بالاخص في مواجهة الوسواس القهري.. بمعنى أن محتوى الاحلام اللي بيشوفها مريض الوسواس القهري بتعكس الهواجس والاضطرابات اللي بيعاني منها وهو صاحي..
وتنهد وتابع :
فاكر لما قلت لك ان الوسواس القهري ده بمثابه عدو خاين متقدرش تتوقع هو هيسدد لك الضربه امتى وازاي ؟!
أومأ فريد مؤكدا فقال الطبيب:
ـ اهو ده بالظبط اللي بيعمله معاك.. لما لقاك بتحاول تكون مرن أكتر طول اليوم، بتحاول تتجاهله مش مديله اهتمام ولا معبره زي ما بنقول بالبلدي كده قال لك بس.. الشخص ده بدأ يشتغل على منطقة الوعي عنده ويديها اوردرات إنها تتجاهلني وتعاملني كأني قلقاسة.. فبقى بيسيب المنطقه اللي احنا بنسميها منطقة الوعي اللي بتتمثل في فترة اليقظة بتاعتك وبيدخل لك بقى في منطقة اللاوعي .. وخد بالك الوسواس ملك في الحته دي.. بيحاربك في ملعبه زي ما بيقولوا. ليه بقى لان الوسواس مصدره الرئيسي هو الشيطان.. والشيطان بيكون نشط جدا بالليل.. انت بتنام بالليل لكن هو لا .. هو مش بينام ولا بيستريح هو مخلص جدا لمهمته اللي هي تضليلك وأذيتك ..
أومأ فريد متفهما فقال الطبيب :
ـ للاسف موضوع الاحلام والكوابيس ده مش بنقدر نعمل عليه كنترول لكن هو بيخف لوحده.. ما فيش حاجه ملموسه نقدر نعملها غير إن أنا أقول لك جرب إنك تنام على وضوء… بنسبه كويسة الموضوع هيقل .. ولو مقلّش بردو متركزش لأن الموضوع لحظي مش دايم .
وتابع:
ـ قوللي .. إنت عملت إيه في الموضوع اللي اتكلمنا فيه المرة اللي فاتت ؟ بدأت تصلي ولا لسه بردو مش قادر ؟
زفر فريد وقال:
ـ الحقيقة بحاول .. لسه بردو في صعوبة لكن بحاول أتجاهلها زي ما حضرتك قلت.. بس بردو مش قادر أوصل للالتزام الكامل.. بصلي فرض ممكن وأفوت فرضين.. أوقات كمان كتير بنسى أصلي .. وبنسى أثناء الصلاة.. لكن بكمل .. بس للأسف دايما عندي هاجس اني هنتكس..
ـ لا لا لا.. متفكرش في كده أبدا.. إحنا مع الوسواس بنعيش اليوم بيومه. متفكرش أبدا في اللي جاي ، بيكون عندنا هدف كل يوم لازم نحققه والهدف ده هو اننا نعدي اليوم بسلام من غير ما نلتفت للهواجس والطقوس القهرية.. اذا قدرنا نحقق التارجت ده كل يوم فانت كل يوم بتحقق نجاح .. وبعدين في علاج الوسواس القهري بالذات مفيش حاجة اسمها انتكاسة.. لأ.. الانتكاسة دي احنا بنستبدلها بكلمة لطيفة جداا وهي مفتاح التعافي.. كل انتكاسة هي خطوة للشفاء.. بدونها مش هيكون في تعافي تام.. وكل ما قربت للتعافي التام انت بنفسك هتلاحظ ان الانتكاسة دي بتكون أقل وحدتها أخف.. وكل ما كانت قليله وخفيفه وملكت زمام امورك بعدها كل ما كان الشفاء قريب منك جدا باذن الله.. اهم حاجه انك ماتلتفتش للوقعات البسيطه دي وقوم بعدها كمل عادي جدا.. وتأكد ان كل المعاناه اللي انت فيها دي في ميزان حسناتك ان شاء الله..
تنهد فريد بارتياح وقال بامتنان :
ـ بجد يا دكتور حضرتك نعمة في حياة أي حد ..
ابتسم الطبيب وقال :
ـ متشكر يا ابني على الكلام الجميل ده..
وقال ممازحا بلطف:
ـ بس أنا بردو عند كلامي.. فيك حاجة متغيرة النهارده..
ابتسم فريد وصمت للحظات، ثم ابتسم قائلا:
ـ مش عارف.. بس أنا الفترة دي حاسس إني مرتاح نفسيا جدا.. بالرغم من وجود الوسواس اللي بيفسد عليا أي لحظة حلوة.. لكن مع ذلك في شعور لطيف جدا ملازمني ..
ـ ممم.. واضح كده إنك بتحب جديد .
اتسعت ابتسامته وأومأ قائلا :
ـ بالظبط..
وتابع وهو يشرح ما يشعر به بإسهاب:
ـ حاسس إن في طاقة حب عنيفة جوايا.. مشاعر اتولدت فجأة.. زي ما يكون قلبي كان متوقف عن النبض لسنين طويلة ودلوقتي بس بدأ يدق .
ابتسم الطبيب لرؤية تلك الابتسامة المشرقة على وجهه وقال:
ـ أنا مبسوط جداا إني بسمع منك الكلام ده.. وأتمنى إنك تفضل مع الإنسانة اللي زرعت جواك الشعور الجميل ده وتحافظ عليها..
ثم أشار إليه بنبرة تحذيرية وقال:
ـ بس خلي بالك.. متنساش عدوك اللي كلنا عارفينه.. اوعى تسمح لعدوك ده إنه يسرقها منك.
كانت تلك إشارة قوية من الطبيب إلى فريد بأن يهزم وسواسه ويبادر بخطوة صادقة وواثقة نحو نغم وألا يسمح لوسواسه أن يسيطر عليه ويجعله يتردد فتضيع منه ..
غادر فريد مركز الطبيب وهو يشعر بالراحة تعتريه بعد أن أفضى مكنونات قلبه بصراحة شديدة .. وقد قرر أن يعمل بنصيحة الدكتور وألا يضيعها من يديه..
فهي الدواء لقلبه، وهاتين العينين شديدة الفتك اللتين تملكهما أصبحت بالنسبة إليه بمثابة قناديل تضيء دروبه المظلمة وتنشر فيهما الأمل من جديد.
***
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية محسنين الغرام)