رواية لا تخافي عزيزتي الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم مريم الشهاوي
رواية لا تخافي عزيزتي الجزء الثاني والثلاثون
رواية لا تخافي عزيزتي البارت الثاني والثلاثون

رواية لا تخافي عزيزتي الحلقة الثانية والثلاثون
|32-الخاتمة| الجزء الاول
صلوا على الحبيب
مرت أيام العزاء ثقيلة على قلب يارا، كأقسى الأيام. كانت غارقة في حزنها، تسير بخطى مثقلة إلى غرفة مصطفى التي اعتادت النوم فيها منذ وفاته، مستلقية على فراشه، تعانق ذكرياته بمرارة. كل ليلة، تخرج صوره، تغوص في ذكرياتها معه، تبكي على فقدانه، غارقة في ألمها.
في هذه العزلة، كانت يارا وحدها في البيت الفارغ، بينما كان عمر يراقبها بصمت من تحت شرفتها. رأى دموعها تسيل، قلبه يعتصر من الألم لرؤيتها تتألم. قضى ليالٍ كثيرة يبيت تحت نافذتها في سيارته، يغلبه النوم وهو يتابعها من غرفة مصطفى، يدعو الله في سره أن يخفف عنها هذا الوجع الذي عرفه هو من قبل. لم يحتمل أن يراها تعاني هي الأخرى، وقد عجز عن تقديم أي عزاء سوى مراقبتها والدعاء لها من بعيد.
___________
بعد سماع هدير بوفاة مصطفى تجمد الدم بعروقها واخذت تبكي بقهر وقد غلبها بعض الندم بانها كانت السبب في ضياعه هكذا وموته بتلك الطريقة القاسية لو انها ساعدته واعطت له فرصة لكان عاش لأجلها ولكن انتهى وقت الندم فالحقيقة بتت ظاهرة كوضوح الشمس ولا يمكن استرجاع شيئًا الآن.
كانت حالتها ممزقة بين الألم والحزن العميق. شعورها كان مليئًا بالفراغ والضياع، حيث شعرت بأن جزءًا كبيرًا منها تمزق ورحل معه. كانت كل لحظة تجد فيها نفسها تتأمل في ذكرياتهما الجميلة، مع كل كلمة حلوة وضحكة صادقة تختفي ببطء في ذاكرتها.
المرارة والحزن المطلق سيطرا على حياتها، وكانت تشعر بأنها فقدت ليس فقط حبيبها، بل أيضًا جزءًا من نفسها. كانت الدموع تملأ عينيها كلما تذكرت كيف اختفى من حياتها بشكل مأساوي، وكيف لم يعد هناك فرصة لتوضيح الأمور أو إصلاح الأخطاء.
___________________
رجع عمر إلى بيته، وقلبه مثقل بعبء لا يُحتمل. عندما دخل، وجد والده يجلس مع دعاء، يحاول تهدئتها، وقال له بصوت مشوش يحمل تحت ظاهره ألمًا خفيًا: “أنا كمان يومين وهسافر… وعايزك معايا يا عمر. بعتقد إن الشغل ممكن يلهيك شوية عن اللي حصل. سيب شغلك هنا وتعالى اشتغل معايا، وهنستقر هناك. أنا مش هسيبكم تاني. كنت بجهز في أوراقكم شهر، لكن مكنتش أعرف إن هينقص مننا واحد لما أقرر آخدكم.”
وافق عمر بلا جدال، ودخل غرفته ليحضر حقيبته. وبينما كان يجمع أغراضه، لفتت انتباهه صورة يارا. أمسك بها، وغرق في تأملها بصمت ثقيل. الكلمات تدفقت بداخله، تفيض بلا صوت. ذهب عدلي إليه، بينما كانت دعاء وعلا منهمكتين في تجهيز حقائبهما.
وقف عدلي على باب الغرفة، يراقب ابنه وهو يجلس على السرير. قال بصوت مشوب بالغضب والألم: “انسَ البنت دي… تنساها للأبد. أنا كارهها هي وأمها كره ما حسيتش بيه في حياتي. طول عمري اعتبرتها بنتي، لكن دلوقتي مش قادر حتى أبص في وشها. مين كان يصدق إن مصطفى يعمل كل دا؟ كويس إنه مات، لأن لو ما كانش مات، كنت أنا اللي هقتله بإيديا دول…”
توقف عدلي عندما سمع شهقات عمر المتقطعة. اقترب منه بسرعة، جلس بجانبه وأمسك وجهه بين يديه، قائلاً بقلق: “عمر… عمر، انت بتعيط عليها؟”
بكى عمر بشدة، وكانت كلماته تخرج بصعوبة من بين بحة صوته الممتزج بالبكاء: “أنا بحبها يا بابا… بحبها أوي… حبيتها أكتر من أي شيء… مش قادر أكرهها، صدقني مش قادر… لأني بتنفس يارا، مش هقدر أعيش من غيرها. قلبي يموت من غيرها يا بابا.”
احتضنه عدلي بحنان الأب، مصدومًا بعمق حب ابنه لتلك الفتاة. ضمه إلى صدره، يربت على ظهره، بينما عمر يبكي بحرقة، مرددًا بصوت متهدج: “بحبها أوي… أوي.”
________________________
وقفت دعاء على باب غرفة عمر، غارقة في دموعها التي لم تعد قادرة على كبحها. كان قلبها يعتصر ألمًا على حال ابنها، بينما نظر إليها عدلي بعينين مليئتين بالاستياء والحزن، وقال بلهجة حادة: “ابنك بيحب واحدة ما ينفعش يكون معاها!”
انحنت دعاء برأسها، وانكسر صوتها وهي تجيب: “يارا اتظلمت كتير، يا عدلي… وإحنا اللي ظلمناها.”
توقف عمر عن البكاء للحظة، ورفع رأسه ببطء ليواجه والدته، ثم نظر لوالدته التي بادلته النظرات بأنه قد طفح الكيل فليعلم الجميع بالحقيقة.
جلست دعاء أمام عدلي، وروت له القصة بأكملها. كانت كلماتها كحجر ثقيل يسقط على صدر عدلي، حيث لم يستطع أن يصدق أن زوجته قد فعلت هذا بفتاة بريئة من غير حول منها ولا قوة ولا يصدق ما فعله ابنه!!….. هل كان غافلًا لهذه الدرجة ام بعيدًا كل البعد عنهم؟ كان يشعر بالغفلة، وكأن قلبه وعقله قد انخدعا طول هذه المدة ليكتشف الآن فقط هذه الجوانب المظلمة في عائلته.
قالت دعاء وهي تبكي بانهيار: “عمر حبها بصدق… أنا اللي قلت له يتخلى عن حبه عشان أخوه… راح لها واتهمها في شرفها عشان تكرهه وتتجوز أخوه، بس عشان اللي في بطنها… الاتنين اتظلموا بسببي أنا وعلي… ما يستحقوش ده مننا، حبوا بعض بصدق.”
نهض عدلي من مكانه، صامتًا بشكل مخيف، ناظرًا إلى دعاء بخيبة أمل عميقة: “أنا سايب معاكِ عيالي أمانة، تقومي تعملي فيهم كده؟… يارا كانت أمانة معاكِ، تعملي في بنتي كده؟ دا أنتِ اللي مربياها، إزاي جالك قلب تعملي كده فيها؟!”
سقطت دعاء على ركبتيها، تبكي وتتوسل إليه: “والله يا عدلي ندمانة… وربنا ندمانة على كل اللي عملته معاها… سامحني، يا عدلي، سامحني عشان خاطري.”
قال عدلي بغضب مكتوم: “أسامحك إزاي يا دعاء؟… أنا مبقيتش عارفك، انتِ غريبة قصادي، مش مراتي اللي اتجوزتها.”
تدخل عمر، محاولاً تهدئة الوضع: “بابا، كلنا غلطنا… بس الغلط الأكبر إننا ما نعترفش بالذنب. الغلط إننا نكون عارفين إننا غلط ومع ذلك مكملين فيه… وماما اعترفت بذنبها، كلنا غلطنا في حق يارا… أنا عارف إن الموضوع صعب عليك زي ما كان صعب عليا أنا كمان… بس أنا مش هسجن أمي وهي عندها حاجة وخمسين سنة… لو بتفكر تسيبنا فارجوك راجع تفكيرك علا محتاجاك يا بابا وأنا كمان محتاجلك.”
نظر عدلي إلى علا ابنته التي كانت واقفة، تبكي وخائفة من أن يفترق والداها بعد كل هذا العمر. ضعف عدلي أمام ابنته وابنه، ثم نظر إلى دعاء بتعبير خالٍ من الأمل: “ويارا، هتسيبيها مش عارفة كده؟”
قال عمر بهدوء: “ما أعتقدش إنها لازم تعرف بلي حصل… يكفي الوجع اللي هي فيه من الاكتشافات اللي حصلت الفترة دي… مش هقدر أخليها تعرف حاجة زي دي وتنهار أكتر ما هي منهارة.”
بخطوات مثقلة بالهم، نهض عدلي متجهًا نحو باب الخروج. هتف عمر بسرعة: “على فين يا بابا؟”
رد عدلي، محاولاً الحفاظ على هدوءه: “رايح أتطمن على بنتي.”
توجه عمر معه قائلاً: “أنا جاي معاك.”
أوقفه عدلي بنبرة صارمة: “خليك هنا.”
رد عمر بتوسل: “عشان خاطري يا بابا، عايز أشوفها.”
وافق عدلي تحت ضغط نظرات عمر المليئة بالرجاء، وتوجها الاثنان إلى بيت يارا. عندما سمعت يارا من الخدم بمجيء الضيوف، نزلت من غرفة مصطفى ببطء. عندما نظرت للأسفل ورأت عدلي وعمر، توسعت عيناها بصدمة. نزلت السلم بخوف، وكانت ملامحها شاحبة، عيناها متورمتان من كثرة البكاء، وبشرتها جافة وقد ضاعت الحيوية من وجهها. لم تلتفت لعمر، بينما كان هو يتابعها بنظرات مفعمة بالندم والاهتمام.
قال عدلي بصوت هادئ: “البقاء لله، يا بنتي.”
تنفست يارا الصعداء، محاولةً تفادي الحقيقة: “ونعم بالله. تفضل يا عمو، تشرب إيه؟”
كانت تتجاهل عمر بشكل متعمد، وعمر مذهول من تصرفها غير متوقع تلك القسوة التي تنبعث منها.
سألها عدلي بفضول متزايد: “اومال فين رحاب ليه عايشة في البيت لوحدك وشريف فين؟
اجابت يارا: “بابا شريف اتسجن في قضية ضربه لبنته”
قال عدلي يبذهول: “معقولة؟!”
قالت يارا: “كان ممكن ياخد فيها شهور بس اللي وصلها لسنين هو انه اتسبب في عاهه للبنت…. كسرلها ضلع قريب من القلب مما ادى الي ضيق النفس عندها وهتفضل طول عمرها متعملش اي مجهود عشان متتإذيش.”
قال عدلي بأسف عميق: “لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يشفيها ويعافيها… ومش شايف مامتك… حالتها أكيد صعبة من بعد موت مصطفى. هي عاملة إيه؟”
تجمعت دموع يارا وهي تجيب بقهر: “ماما من ساعة ما عرفت بموت مصطفى وهي مش بتتكلم، ومحجوزة في المستشفى لحد ما يحللوا حالتها. الموضوع اتعرض على طبيب نفسي، ولحد الآن ما وصلش لحاجة محددة. أثر الصدمة عليها كان قوي.”
قال عدلي، محاولاً استيعاب الموقف: “طب إيه يا بنتي؟ انتِ عايشة لوحدك كده؟”
أجابت يارا ببرود مكسور: “أنا مرتاحة يا عمو، ما تشغلش بالك.”
قال عدلي بقلق: “مشغلش بالي إزاي؟ أنتِ بتعملي إيه في جامعتك والمصاريف؟ مين معاكِ؟”
أجابت يارا بمرارة: “قدمت على منازل، وهنزل في الامتحانات بس… ما تشغلش بالك يا عمو… أنا متعودة على الوحدة.”
تدخل عمر بصوت هادئ: “لا، ما كنتيش لوحدك، أنا كنت معاكِ.”
لم تلتفت إليه يارا، بل تابعت حديثها مع عدلي: “إن شاء الله ماما تقوم بالسلامة وتيجي البيت.”
سأل عدلي بحذر: “طب وطفلك؟”
نظرت إليه يارا بارتباك، فأضاف بأسف: “أنا عرفت… ويعلم ربي إني مش مصدق إن ابني ممكن يعمل كده… حقك علينا يا بنتي. أنا عارف إن ما فيش حاجة تقدر تعوضك او اي كلام ينفع يتقال، بس أتمنى علاقتي بيكِ تفضل زي ما هي… أب وبنته.”
ابتسمت يارا بحزن عميق: “أكيد يا عمو… حضرتك ليك فضل كبير عليا، عمري ما هنساه.”
قال عدلي بصوت يحمل قلق الأب: “لو احتاجتي حاجة أنا موجود… كنت المفروض أسافر، بس شكلي هأجل لظروف معينة. لو احتجتي أي حاجة، يا يارا، ما تتردديش إنك تكلميني… أنا معاكِ لحد ما تولدي طفلك بالسلامة وابقي طمنيني عن اخبار والدتك وان شاء الله خير متقلقيش.”
بعد انتهاء حديثهم، توجه عدلي وعمر للمغادرة. التفتت يارا لتدخل المنزل مرة أخرى، ولكن وجدت عمر يناديها. توقفت مكانها وأتاها واقفًا أمامها، نظر في عينيها بقلب يفيض بالألم: “زعقيلي، اضربيني، اعملي أي حاجة… بس ما تتجاهلينيش يا يارا.”
كانت تحدق بالأرض، والدموع تتساقط من عينيها. قال عمر بوجع: “احنا الاتنين اتوجعنا على فراق إخواتنا و…”
قاطعت حديثه بصوت محموم: “كلامك يوميها لسه بيتردد جوايا… أنا مش هقدر أنسى كل كلمة قلتها لي… أنت شايفني وحشة… خليك شايفني كده… شايف إن أخوك مظلوم… برضو خليك شايفه كده… أنت ما عدتش فارق لي ولا فارقلي ابقى في نظرك إيه.”
تقدمت يارا بضع خطوات إلى الأمام، وكأنها تحاول الابتعاد عن عبء الذكريات، لكنها توقفت عند صرخة عمر التي كادت أن تُسكت كل الأصوات الأخرى في قلبها:
“كلامي يوميها مكانش حقيقي… ما كانش من قلبي أبدًا. أنا اتجبرت أقولك كده عشان… عشان أخويا وأمي… أمي ضغطت عليّ أقولك ده. وهو… هو قالي أقولك كده وأطلعه هو الوحش، عشان تكرهيني وتقبلِ تتجوزيه. كانت الخطة أنك تكرهيني… وتتجوزيه هو.”
عيون يارا امتلأت بالدموع، تشبه البحر في هدوءه العاصف قبل أن تلتفت إليه، مشحونة بوجع أعمق من أي كلمة يمكن أن تُقال:
“وبرافو عليك… عرفت تمثل حلو… وكرهتني فيك بجد.”
تقدم عمر نحوها، وكأنه يحاول استعادة ما ضاع. أمسك ذراعيها بلطف، نظر في عينيها وكأنها المرفأ الأخير لألمه:
“يارا… لازم ننسى ونبتدي من جديد. إحنا مش السبب في كل اللي حصل، الظروف هي اللي ظلمتنا.”
قطعت يارا حديثه، متألمة، محاولة تحرير ذراعيها من قبضته:
“سيبني يا عمر… أوعى.”
زاد عمر من شدّة قبضته، كأنما يحاول التمسك بأملٍ يتسرب من بين أصابعه. نزلت دمعة وحيدة من عينه، حاملة كل معاني اليأس والألم:
“أرجوكي لا… أرجوكي لا يا يارا. إحنا محتاجين فرصة تانية. أنا واثق إن جواكِ لسه مشاعر ناحيتي. بالله عليكِ، ما تعملي فينا كده.”
تحدثت يارا، والدموع تملأ وجهها بنهر من الخذلان:
“أنت خسرتني يا عمر. حتى لو لسه جوايا شوية مشاعر ليك، هقتلها. أنا مش عايزاك في حياتي. تعرف إني بكرهك أكتر من علي؟ على الأقل، كنت أتوقع منه حاجة وحشة لأني ما كنتش عارفاه أوي، ولا اتعاملت معاه كتير. لكن أنت؟ متوقعتش منك دا ابدًا ودا اللي وجعلي قلبي.كنت فاكرة إنّي عارفاك كويس، لكن طلعت غلطانة، إني وثقت فيك أوي كده، لكن ما كنتش قد الثقة دي. أنا اللي برجوك تبعد عني، وما تحاولش تتواصل معايا لأي سبب. الحقيقة، بقت إني بكرهك أوي، رغم إني حزنت عليك لما مات أخوك. لكن كانت شفقة، صدقني ما كانش حب. لأنه معادش ليك حب في قلبي نهائي. أمشي يا عمر. بتقولي ننسى اللي فات ونبدأ من جديد؟ أنت اللي فعلاً لازم تنسى… تنساني.”
أطلق عمر يديها وكأنها نار لا يستطيع تحمل حرارتها. تجمد مكانه، مستوعبًا قسوة كلماتها كطعنات خفية تتعمق في روحه. مشى خطوات بطيئة، مفكرًا في الزمن الذي ضاع وفي الحب الذي لم يكن.
عادت يارا إلى المنزل، أغلقت الباب بارتجاف، كأنها تغلق خلفها صفحة من الألم لا تريد الرجوع إليها. استسلمت لبكاءٍ حار، كأنها تنفض عن قلبها رماد الذكريات. صعدت إلى غرفتها، محطمة، لتكمل عزلتها الحزينة، تبحث في ظلام الوحدة عن شعاع أملٍ يمكن أن يعيد لها الحياة.
____________________
تحرك عمر بخطوات مثقلة، كأنما كل خطوة تشبه حملاً لا يستطيع تحمله. عيناه تفيض بالدموع، وكأنها أنهار لا تجد لها سدّاً. وصل إلى السيارة حيث كان عدلي ينتظره. نظر عدلي إلى ابنه بحزن وقال:
“قلتلك… يارا معادِتش زي الأول، مابقاش عندها حاجة تانية تخسرها.”
بكى عمر، كلماته تخرج محملة باليأس:
“أنا خسرت يارا… خسرتها للأبد… هي كرهتني يا بابا… طب أنا ذنبي إيه؟”
قال عدلي بقوة، نبرة صوته تشتد بالألم والغضب:
“ذنبك اي؟؟؟ ذنبك أنك ظلمتها وأنت عارف إنها مظلومة. وقفت مع الظالم، وما هانش عليك حتى تواجهها بالحقيقة. أنت جرحتها في أغلى ما تملك، شرفها، وقلت لها كلام زي السم عشان تكرهك. وها هي فعلاً كرهتك، ومش هترجعلك تاني.”
حاول عمر الدفاع عن نفسه، صوته يختنق بالحزن:
“يا بابا، أنا ضعفت… ضعفت يا بابا. دول عيلتي، دا أخويا ودي أمي… قلت يمكن لو اتجوزت أخويا وعاشت وسطهم تنسى الوجع. وأنا كنت هسافر، ومش هتشوفني تاني… قلت هتنسى مع الوقت. أنا دورت على حل ليهم هما الاتنين، وقلبي ميوجعنيش على واحد فيهم.”
صرخ عدلي، عينيه تتقد بالغضب:
“أنت جبان… كنت جبان من مواجهتها بالحقيقة. مكنتش عارف تقولها أخويا عمل كده أو أمي عملت فيكِ كده، وأنت هتفضل ساكت. فاستسهلت حتة أنك تكرهها فيك وعجبتك فكرة أخوك وطبقتها. أنا مش عارف إزاي لعبوا في أفكارك بالطريقة دي… طب سيبك من أنك بتحبها… دي كانت أختك في يوم من الأيام. أنت كنت ترضى أن الظلم ده يتحط على علا؟ والشخص اللي تثق فيه للعمى يخذلها؟ أقولك حاجة… أنت عمرك ما حبيت يارا.”
نظر عمر إلى والده بذهول، عيناه غارقتان في الدموع:
“لا يا بابا… أنا بحب يارا بجد.”
قال عدلي بإصرار، كلماته تنبض بالوجع:
“لا يا عمر… أنت محبتهاش. مفيش حد بيظلم اللي بيحبه الظلم ده… مفيش حد بيكسر اللي بيحبه بالطريقة دي. أنا بتمنى أن يارا تكون عقلت، عشان أنا مش قابل إن بنتي تتجوز حد زيك. سوق أنت، أنا نازل أتمشى شوية، حاسس إن الهوا خلص.”
نزل عدلي من السيارة، مستاءً، واخذ يسير دون وجهة محددة، كأنما يحاول الهروب من عبء الصدمات. كلما خطا خطوة، كأنما يحاول التنفس في عالم بات الهواء فيه لا يكفي.
عاد عمر إلى المنزل، محطمًا. دخل غرفته ورفض التحدث مع أحد، مستوعبًا حجم الخطيئة التي ارتكبها بحق يارا. ظل شاردًا، يتساءل عما ستكون نهاية تلك العلاقة، أو إذا كانت قد انتهت بالفعل.
عدلي كان في حالة مشابهة. انعزل في غرفته، رافضًا التواصل مع أي أحد. كان يتحدث فقط مع ابنته علا. بينما دعاء، تملأها الخجل من مواجهته، تلجأ إلى الدعاء أن يعود شمل عائلتها مثلما كان.
___________________
بعد مرور اسبوعين
“أنا عايزة دعاء… قالت لي إننا هنتحرك وهنقابل قمر ونخرج سوا… فين دعاء؟ فكوني خليني أروح لها، الميعاد كده هنتأخر، وأبويا بيزعق لو اتأخرت.”
وقف الطبيب بجانب يارا، يشاهدون حالة رحاب من خلف الزجاج. قال الطبيب بنبرة مليئة بالأسى:
“زي مانتِ شايفة…. هي اتكلمت بصعوبة بعد ما كانت ساكته طول الوقت ومش راضيه تتكلم مع حد… رحاب للأسف مش فاكرة حاجة من بداية ظهور شريف في حياتها فاكرة بس قبل كده… ايام ما كانت سعيدة هي واصدقائها لكن عقلها الباطن نبذ تذكر الاحداث زي حيلة دفاعية بيلجألها العقل احيانا لتفادي استرجاع ذكرياته السيئة.”
نظرت يارا إلى الطبيب، مغمورة بالذهول وعدم الاستيعاب:
“أنا مش فاهمة حاجة، يا دكتور.”
أوضح الطبيب بصبر:
“قصدي إنها فاكرة بس الأيام اللي كانت سعيدة فيها مع أصحابها. كل اللي حصل بعد كده اتمسح من ذاكرتها.”
ازدادت علامات الاستفهام في عيون يارا:
“يعني هي مش فاكرة موت ابنها؟”
هز الطبيب رأسه بايجاب:
“ولا حتى فاكرة إنها اتجوزت شريف. هي عايشة في الماضي، فاكرة نفسها مع صديقاتها دعاء وقمر، وكل اللي حصل بعد كده اتمسح.”
وضعت يارا يديها على فمها، الدموع تتساقط بلا توقف. حاول الطبيب مواساتها:
“صدقيني، ده أرحم ليها. في ناس كتير بيتمنوا ينسوا ذكرياتهم السيئة.”
بصوت مخنوق بالدموع، قالت يارا:
“طب ينفع أشوفها؟ أدخل واشوفها؟”
أكد الطبيب برفق:
“آه، أكيد. مفيش مشكلة. بس خلي بالك، هي مش هتكون فاكرة إنك بنتها، حاولي تتعاملي معاها كأنك غريبة، وصاحبيها على مهل.”
دخلت يارا الغرفة بخطوات بطيئة، تراقب رحاب التي بدت كطفلة بريئة. كانت ملامحها مشبعة بالفرح والنقاء، صورة بعيدة عن تلك التي اعتادت عليها يارا. اقتربت بحذر، نظرتها لم تفارق وجه رحاب الذي يعكس براءة وسعادة مفقودة منذ زمن طويل.
نظرت رحاب إلى يارا بفرحة عفوية:
“أخيرًا حد دخل لي. إزايك يا حبيبتي؟ اطلعي قوليلهم يخرجوني من هنا، عندي مقابلة مع صحابي وهنخرج سوا… مينفعش أتأخر عشان أبويا ميعمليش مشكلة… إنتِ سامعاني؟”
عانقتها يارا بقوة، دموعها تختلط بالحنين والألم، قلبها يتفطر على رؤية والدتها في هذا الحال. تمنت لو بإمكانها استرجاع اللحظات السعيدة ومحو الذكريات المؤلمة التي أرهقت قلب والدتها إلى هذا الحد.
_________________
علم عمر بحالة رحاب، وصدمتها النفسية التي دفعتها إلى محو الماضي الأليم من ذاكرتها، والاستسلام لملاذ مصحة عقلية. أثقل الحزن قلبه على يارا، التي تُركت وحيدة بين أطلال حياة متهشمة.
توجهت يارا إلى المستشفى، حيث كانت قمر وأسيل ويزن ينتظرونها، وقد تشربت وجوههم بحزن مشفق وهم يواسونها. لكنها، برغم عينيها المملوءتين بالدموع، حاولت أن تتشبث بما تبقى لها من قوة:
“بيت بابا شريف كان باسم ماما، ودلوقتي ماما في المصحة… أنا مش هقدر أعيش فيه. عندي شقة صغيرة هعيش فيها. كتبت البيت ده باسمك… اتفضلي، دي أقل حاجة أقدر أقدمها لك.”
تلقفت قمر الأوراق بذهول، وكلمات يارا تنساب ببطء، حاملة معها ثقل الحقيقة:
“ده بيتك من الأول… أمي كانت أخدته منك، ودلوقتي رجع لك تاني. حمد لله على سلامتك يا أسيل، وإن شاء الله أشوفك تاني.”
قدم يزن عرضه بمساعدة صادقة، إلا أنها رفضته بإصرار، وقد اتخذت قرارها بالبقاء وحدها:
“شكراً يا يزن، لكني هقدر أكمل لوحدي.”
خرجت يارا من المستشفى بخطوات مثقلة، متوجهة إلى شقتها الصغيرة، حيث لا رفيق لها سوى ظلال الماضي وآلامه. وفي زاوية بعيدة، كان عمر يراقبها بصمت، قلبه يتمزق بين الندم والعجز. لم يعرف كيف يمكنه مساندتها أو كيف يواجهها بعد كل ما اقترفته يداه من جروح.
في اللحظة التي أغلقت فيها يارا باب شقتها الجديدة، كانت دموعها تنساب بحرارة، مرسلة أشواكًا من الألم في قلبها الذي لم يذق طعم الراحة منذ زمن. كانت تحاول التكيف مع واقعها الجديد، وحيدة بين جدران صامتة، تفتقد حتى أصداء الحنان.
عمر، من جانبه، لم يكن سوى ظل من الماضي، يلاحقه الشعور بالذنب والخسارة الفادحة. كان عليه أن يقبل الحقيقة الصادمة: أن حياته بدون يارا باتت حقيقة لا يمكن التراجع عنها.
وأما عدلي، الذي كان يقف على حافة غضب لا ينطفئ، فقد سار بعيدًا عن مآسي البيت التي لم يعد يحتملها، متحسسًا البرودة في الهواء على أمل أن تهدئ من نار قلبه المضطرب سافر بعيدًا عنهم ليكمل عمله الذي ينسيه الحقيقة الصارخة التي عاش بها تلك الأيام.
في تلك الشقة الصغيرة، بدأت يارا رحلة جديدة، رحلة لاستعادة نفسها وإعادة بناء ما يمكن إنقاذه من حطام الماضي. وفي كل لحظة، كانت تعلم أن الحياة ستظل قاسية، لكن ربما تحمل في طياتها بارقة أمل لمستقبل أقل وجعًا هي وابنها فقط.
______________________
خرجت أسيل من المستشفى وتوجهت مباشرة إلى منزل يزن. وعندما خطت عبر الباب، استقبلتها “سوكا” النسناس مرحبة بها بحماس. للحظة، انعشت ذاكرة أسيل، وتساءلت عن شيء ما بعينيها،ففهم يزن ما يدور في ذهنها وابتسم قائلاً:
“بصي هناك…”
وجه يزن نظرها نحو زاوية في الصالة، حيث وجدت قطتها الصغيرة، تحدق إليها بعينيها اللامعتين. ركضت إليها بشوق، واحتضنتها بحرارة، غارقة في شوق كبير لا حدود له لقد اشتاقت لقطتها كثيرًا.
بعد فترة قصيرة، صعد يزن معها إلى غرفتها الجديدة، يساعدها في كل خطوة. وعندما دخلت الغرفة، تفاجأت بأن كل رسوماتها معروضة بشكل منظم حول المكان. نظرت إليه بدهشة فقال يزن بسعادة واضحة:
“كل رسوماتك وكل حاجتك نقلتها هنا. حتى هدومك هتلاقيها في الدولاب. دي بقت أوضتك الجديدة.”
تجولت أسيل بعينيها في أرجاء الغرفة مبتسمة، نظرات امتنان تملأ وجهها. وفجأة، تذكرت لوحة رسمت فيها يزن، شعور بالحرج تسلل إلى ملامحها، حاولت إخفاءه بعبثية نظراتها.
علم يزن بما يشغل بالها، فابتسم وضحك بصوت عالٍ، ثم اقترب من اللوحات واتنشل لوحة من بينهم كانت رسمته وقال مبتسمًا بفخر:
“الله عليكِ يا فنانة… دا أنا بالظبط… أنا فخور إن مراتي بتعرف ترسم كده… دنا هستغلك أحلى استغلال.”
مزح معها ليخفف من خجلها، الذي أضفى حمرة واضحة على وجهها. اقترب منها ببطء، ورفع وجهها بيديه، قائلاً بصوت دافئ:
“بحبك.”
عانقته أسيل بحب شديد، محاولة إخفاء خجلها بين ذراعيه. احتضنها يزن، غارقًا في رائحة شعرها وملاذ حبها الدافئ.
كانت ليلة مليئة بالسعادة، حيث انضمت إليهم قمر، وتمازجت العائلتان في جو من الحب الصادق. شعرت أسيل أخيرًا بالدفء والأمان بعد سنوات من الخوف والقلق، تملكتها لحظة من الهدوء والسلام، متعجبة من التحول الذي طرأ على حياتها، وقد وجدت أخيرًا ما كان ينقصها: بيت مليء بالحب ودفء العائلة.
_____________________
في اليوم التالي، رحلت قمر إلى منزل شريف حيث أصبحت تقيم هناك. علمت دعاء بوجودها وبدأت تزورها بانتظام، تجلس معها لتؤنسها وتخفف من وحدتها.
بينما كانت أسيل تذهب مع يزن إلى طبيب التخاطب، حيث كان يزن يحضر معها الجلسات بعد يوم عمل متعب. رغم تعبه، إلا أنه كان ملتزمًا بدعمها ومرافقتها في كل جلسة، لتشعر بالأمان والدعم اللازم منه.
يزن لم يكن يفكر في تركها أبدًا، بل كان دائمًا إلى جانبها ليقدم لها الدعم النفسي والمعنوي وهذا ما كانت تحتاجه أسيل.
__________________
في اليوم التالي، قدّمت قمر اقتراحًا لدعاء بالانتقال والاقامة في منزلها الكبير ، فوافقت دعاء على الفور،حيث كانت تشعر بالوحدة بعد سفر عدلي واختفاء عمر.وجاءت هي وعلا للعيش مع قمر، بينما كانت يارا، الهزيلة الشاحبة، تبقى وحيدة في شقتها دون أن تنزل أبدًا احتياجاتها كلها تطلبها من البواب.
وبيوم كان الجميع مجتمع بمنزل قمر فسألت دعاء بقلق:هي يارا هتفضل لوحدها في الشقة وهي في ظروف حملها دي؟
زفر عمر بحزن وقال: “مش عارف يا امي…. حقيقي متضايق عشانها ومش عارف اعمل ايه.”
فاقترحت قمر بحنكة: “ما تجيبها يابني تعيش معايا هنا انا لوحدي اهو ودعاء بتجيلي كتير وعلا اهي نبقى كلنا ونس لبعض بدل ماهي عايشة لوحدها كده وهي اكيد محتاجة حد يساعدها ويراعيها في فترة حملها .”
رد عمر مترددًا: “بس معتقدش انها هتسمع مني.”
سألت علا بتفكير: “طب والعمل؟”
أجاب عمر: “روحولها انتو…. وحاولوا تقنعوها بأي طريقة انها تيجي وتعيش معاكم…. لو لاقت طنط قمر وماما بيطلبوا منها دا مش هتكسفهم….”
تبادل الجميع النظرات، وأقروا بضرورة محاولة تنفيذ فكرة عمر. عندما وصلوا إلى منزل يارا، كان الجو مشحونًا بالترقب والقلق. فتحت يارا الباب وبدت مدهوشة لرؤيتهم، لكن المفاجأة الأكبر كانت رؤية دعاء معهم. كانت يارا تعتقد أن دعاء لم تعد ترغب في رؤيتها بعد كل ما حدث، لكن دعاء قابلتها بابتسامة دافئة وسلوك طيب، محاولًة تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها بحقها. وبجهد جماعي، استطاعوا بصعوبة إقناع يارا بالقدوم معهم والإقامة في منزلهم، إذ كانت ظروف حملها تزداد صعوبة، وكانت بحاجة لمن يقف بجانبها في هذه الفترة الحرجة.
عندما دخلت يارا المنزل، وجدت عمر جالسًا في زاوية، يترقب بقلق ويدعو في صمت أن توافق وتأتي معهم. كانت أنفاسه ثقيلة ويداه متوترة، ولما رآها تدخل، ارتسمت على وجهه علامات الفرح والارتياح. لم تلتقِ يارا عينيه؛ بل نظرت بعيدًا، وصعدت إلى غرفتها بصمت، تاركةً وراءها أثرًا من الحزن والغضب المكبوت. تابعها عمر بنظراته، والندم يغمر ملامحه وكأنها تنعكس في مرآة روحه.
اقتربت دعاء من عمر، رافعة يدها بخفة على كتفه، وقالت بصوت يملؤه الحنين والأمل:
“يارا قلبها أبيض ومع الوقت هتنسى بس اديها وقت تزعل فيه لانه حقها.”
__________________
ومرت الأيام ويارا في وسطهم، تجدد شعورها بالانتماء لعائلة لم تشعر بمثلها من قبل. دعاء كانت تتعامل معها بطيبة غير معتادة، وكأنها تطلب في كل لفتة ومسحة ابتسامة الصفح عما بدر منها. علا، صديقتها التي ملأت حياتها بالحديث والدعم، وكانت لها بمثابة الملجأ الحميم. قمر، التي وجدت فيها الحنان الأمومي الذي لم تتذوقه من رحاب، كانت تملأ فراغًا لم تكن تعلم يارا بوجوده. أسيل، بشغفها النبيل، كانت تزورهم بانتظام، تتفقد صحة يارا وطفلها القادم، بعدما علمت القصة من والدتها، وشعرت بانكسار عميق تجاهها.
في تلك الأثناء، كان عمر يقضي الليالي مع قمر ودعاء، متذرعًا بعدم رغبته في تركهما وحدهما، بينما في الحقيقة كان يسعى للبقاء قريبًا من يارا. لم يتبادلا الكلمات، لكن نظراتهم كانت مليئة بأحاديث غير مسموعة، وجروح لم تندمل بعد، وكلمات جارحة لم تُنسَ.
في إحدى الليالي، وبينما كان عمر يسير في ظلام المنزل ليجلب لنفسه بعض الماء، قادته خطواته إلى غرفة يارا. هناك، وجدها نائمة على الأريكة، مسندة رأسها على إطار النافذة. دخل الغرفة ببطء، عيناه مسكونتان بالحنين والأسى، وتأمل ملامحها النائمة كمن يكتشف كنزًا مخفيًا. حملها بحذر، خوفًا من أن يكسر سحر اللحظة ويوقظها، ووضعها بلطف في السرير، وغطاها ببطانية، ساعيًا لحمايتها من البرد.
قبل أن يترك الغرفة، جلس على الأرض بجانبها، مراقبًا وجهها الذي بدا كلوحة تعبيرية تغمرها أضواء الفجر الخافتة. قلبه كان مشتعلاً بالشوق والحزن، غارقًا في نهر من الذكريات والندم. رفع يده نحو خصلات شعرها، مترددًا، كأنما يحاول أن يلمس ضوء النجوم بأطراف أصابعه، لكنه توقف قبل أن يلمسها، مفضلاً الاحتفاظ برقة المشهد في قلبه. ظل بجانبها طوال الليل، عينيه تفيض بدموع صامتة تعبر عن آلام لا يمكن التعبير عنها بالكلمات.
حين بزغ الفجر، استيقظت يارا على نور النهار المتسلل، لتجد عمر نائمًا بجانبها، رأسه مستند على حافة السرير. اعتدلت ببطء، ارتسمت على شفتيها ابتسامة خافتة، مليئة بالتساؤلات والحنين. مدت يدها بلطف لتلمس خصلات شعره، مداعبة إياها بحذر، وكأنها تخشى إيقاظ أحلامه.
استفاق عمر على لمساتها، وعيناه تلتقيان بعينيها. شعر بالحرج، فنهض بسرعة قائلاً بتوتر: “صباح الخير.”
ثم أسرع بمغادرة الغرفة، تاركًا يارا بابتسامة غامضة على شفتيها، لا تعرف سبب سعادتها، لكن بداخلها شعرت بدفء وجوده بقربها، وكأن شيئًا ما قد بدأ يتغير في أعماقها.
_____________________
وبعد شهر، غمر الفرح قلوب الجميع، حيث أتم مازن وزينة زفافهما بحفل باذخ، يُشبه قصة خيالية تُنسج في أبهى صور السعادة. كانت ابتساماتهما متلألئة كضوء النجوم، والفرحة تغمر كل تفاصيل الاحتفال، كأنهما يسيران على بساط من السحب، لا يصل إليه أحد سواهما. كان يزن يتأمل أخته بنظرة مليئة بالفخر والسرور، مشهدها مغلفة بالسعادة أشعل فيه شعورًا عميقًا بالبهجة.
لكن الفرح تخلله ألم غامض عندما حانت لحظة الفراق. في عيني يزن انعكست لحظات الوداع كظلال خافتة، بينما كان يحتضن أخته بقوة، وكأنما يحاول احتواء جزء من روحها في قلبه. لم يكن مستعدًا لمثل هذا الوداع المفاجئ، وكان في أعماقه صراع بين الفرح لزواجها والألم لفراقها. عانقها بشدة، وصوته يملؤه القلق وهو يقول لمازن: “لا تسمح للحزن أن يلمسها، ولو لوهلة.”
مازن، بنظرة عميقة، احتضن يد زينة برفق، كمن يحرس كنزًا ثمينًا، وقال بصوت عاكس لسنوات الحب الطويلة: “زينة ليست فقط حبيبتي؛ إنها جزء مني، وستظل في عينيّ وقلبي إلى الأبد.”
وفي نهاية الحفل، انطلق مازن وزينة إلى منزلهما الجديد، حيث كان الفرح يموج بين جدرانهما، كل زاوية فيه تتنفس أحلامهما وأمالهما. كانت لحظات الانتقال إلى حياة جديدة تحمل بين طياتها شعورًا خفيًا بالرهبة والترقب. غادرا إلى شهر العسل، وكأنهما يبحران في عالم سحري لا يعرفان فيه سوى لغتهما الخاصة، مشاعر غامضة وممتزجة بالسعادة الغامرة.
كانا يعيشان أيامهما بين ظلال الغموض وسحر الحب، تغمرهما لحظات من الهمس والابتسامات الخافتة. كل نظرة تتحدث بلغة غير مفهومة، وكل لمسة تحكي قصة لا تُقرأ. كانت سعادتهما متوهجة، محاطة بهالة من الأمل والتطلع للمستقبل، يعيدان بناء عالمهما الخاص في كل لحظة يقضيانها معًا، كأنهما يعيدان كتابة حكاية عشقهما بمداد من الحلم والوفاء.
____________
مرت ستة أشهر، وخلالها بدأت جروح أبطالنا بالالتئام بهدوء. كان ذلك واضحًا في العلاقة بين يارا وعمر، حيث استعادا ببطء مشاعر الحب التي ربطتهما. عمر، في الأشهر الأخيرة من حمل يارا، لم يتركها لحظة، وكأنما يسعى لتعويض كل لحظة ألم تسبب فيها. كانت اهتماماته بها واضحة وعميقة، وبدأت يارا تشعر مرة أخرى بقلبه ينبض لها.
وحين حان موعد ولادة يارا، كان التوتر يعم الأجواء. الجميع كانوا مجتمعين خارج غرفة العمليات، ينتظرون بفارغ الصبر سماع صوت الطفل. دعاء، علا، قمر، أسيل، يزن، جميعهم كانوا يملأهم القلق والفرح في آن واحد. وفي الداخل، كان عمر بجانب يارا، يمسك بيدها، محاولاً تهدئتها وهي تصرخ بقوة، متشبثة به بشدة من فرط الألم.
بعد فترة طويلة من الانتظار، ووسط آلام مبرحة، صدح صراخ الطفل في الغرفة. تلاها صرخة يارا الأخيرة وهي تدفع بالحياة الجديدة إلى العالم، ثم استلقت برأسها على الفراش، منهكة لكنها ممتلئة بالرضا. انبعثت صرخات الصغير في الأجواء، وعندما وصل صوته إلى الذين بالخارج، غمرت الدموع عيونهم فرحًا. قمر، في لحظة لا توصف، أطلقت زغرودة تعبيرًا عن فرحتها العارمة.
حمل عمر الطفل بحنان، وهو يبكي في يديه. وأخذ يُكبر بأذنيه، بينما كان الجميع يغمرهم الفرح، وكانت يارا تنظر إلى ابنها الجديد بعينين متألقتين. أخذت طفلها بين ذراعيها، تقبله بحنان عميق، وفي تلك اللحظة، تقدم عمر نحوها، وعرض عليها خاتمًا في علبة صغيرة، صوته يحمل شغفًا وصدقًا، قائلاً: “سامحيني يا يارا عن كل اللي عملته…انا آسف.. كلنا بنغلط وأنا غلطت وندمت صدقيني… أنا لسه بحبك… وعمري ما شيلتك من قلبي أو روحتي عن بالي ولو ثانية… أنا لسه بحبك وهفضل أحبك طول عمري… توافقي تتجوزيني يا يارا؟”
ياترى يارا هتوافق؟
|32-الخاتمة| الجزء الثاني
صلوا على الحبيب
انهمرت الدموع من عيني يارا وهي تهز رأسها بالموافقة. كانت الأشهر الماضية كافية لتكشف لها عن ندم عمر العميق ورغبته في تصحيح أخطائه. كانت ما زالت تحبه، وكان الحب يشتعل في قلبها، وهي تريد له أن يكون أبًا لطفلها. عمر، بروحه المرهفة واهتمامه العميق، كان هو الخيار الأمثل وايضًا هذا الكفل هو ابن أخيه الذي سيضعه بعينه كذكرة أخيرة لأخيه الميت.
امتلأت الفرحة القلوب، حيث كانوا يحتفلون بفرحتين: ولادة الطفل وعودة عمر إلى حياة يارا. اختاروا اسم “عز” للطفل، تيمنًا باسم جد عدلي. وعندما عاد عدلي من سفره، وسمع بتقدم عمر للزواج من يارا، شعر بسعادة غامرة. كان يريد أن يتربى حفيده بينهم، ورأى في ندم عمر الصادق إشارة للتوبة وللحب الذي لا ينضب.
الاحتفال كان يغمر الجميع بالبهجة. حملت أسيل الطفل بهدوء، ويزن كان بجانبها، مبتسمًا بسعادة لرؤيتها تحتضنه. تأملت أسيل وجه الصغير، ولمست في قلبها نبضًا خافتًا. نظر يزن إلى أسيل، وقال مازحًا وهو ينظر إلى الطفل: “حلو صح؟…ايه رأيك لو نجيب واحد زيه نلعب بيه.”
قمر، ضاحكة، قالت بمرح: “بس يا يزن، متكسفهاش بقى.”
فاحمرت وجنتا أسيل خجلًا، وانطلقت ضحكات الجميع في الأجواء، مستبشرين بمجيء عز، بينما كانت قلوبهم تمتلئ بالدفء والفرح في هذه اللحظات السعيدة.
(شرف البيه سبب كل مشاكل الرواية ياما نفسي السعك قلمين يا عز 😂😂)
_____________________
وبعد أسبوع، أقيم “سبوع” عز في منزل قمر، حيث اجتمع الجميع وسط أجواء من البهجة والنشاط. كان البيت مغمورًا بأصوات الأغاني المرحة والضحكات المتعالية، والرقصات التي أضاءت الزوايا بالفرحة. كانت القلوب التي أثقلها الحزن ببطء تتذوق حلاوة التعافي، حيث بدأت الذكريات المؤلمة تذوب في دفء اللحظة.
في هذا السياق المليء بالمشاعر، كان عدلي يقترب من دعاء شيئًا فشيئًا، لتعود العلاقة بينهما كما كانت، وكأن الزمان يعيد نسيجه القديم. أما يارا، فقد شعرت بتيارات عميقة من الحب تجتاح قلبها تجاه طفلها. بالرغم من أنها في لحظة يأس قد قالت إنها تكرهه، إلا أن رؤيتها له ولملامحه التي تعكس براءة الحياة أثارت فيها فطرة الأمومة، التي طغت على كل مشاعر الارتباك والخوف. تحول حبه في قلبها إلى عشق لا يوصف، ووجدت في كل لمسة وابتسامة معنى جديدًا للحياة.
عمر، بدوره، كان يتعامل مع عز وكأنه طفله هو. كان يسهر الليالي بجانب سريره، يعتني به بحنان لا يعرف الحدود، وكأنه يعوض كل لحظة غاب فيها عن حياته. كان يحمل الطفل بذراعين ممتلئتين بالحب والرعاية، بينما يترك ليارا فرصة للراحة والنوم. شعرت يارا في تلك اللحظات بأنها اختارت الشخص الصحيح لتضع فيه ثقتها وحبها، الرجل الذي يستحق قلبها وابنها.
قرروا معًا زيارة رحاب لتعريفها بحفيدها. ورغم أن رحاب لا تعرفهم او تتذكرهم، إلا أنها أظهرت حنانًا غير متوقع تجاه عز. كانت تتأمل وجهه البريء بشغف، تشعر بجذب عميق تجاهه، وكأنها تجد فيه صلة غير مرئية تربطها بالماضي. طلبت من يارا أن تأتي إليها مرارًا لرؤية الطفل، وكانت تعاملها بمودة، كما لو كانت صديقة قديمة عادت بعد غياب طويل، وليس ابنتها التي ابتعدت عنها.
_________________
همت الأفراح وتكاثرت الزغاريد في حفل زفاف عمر ويارا، وكانت الفرحات لا توصف، كأنهما عثرا أخيرًا على السلام بعد حروب طويلة بينهما. لم يصدق كلاهما أنهما هنا، اليوم، يتجهزان للاحتفال بزفافهما. كانت يارا تتألق بفستانها الأبيض الرقيق، جمالها ينبعث كالضوء في كل اتجاه، بينما كان عمر يتألق ببذلته البيضاء، يعكسان صورة لعاشقين قهروا الزمن ليصلوا إلى هذه اللحظة.
كانت العصافير الخيالية تحلق حولهما، تغني ألحان الحب، وكأنها تتوج قصتهما التي نجت من الصعوبات والمعاناة. وقف عمر بجانب يارا، وهمس في أذنها بصوت مفعم بالشغف والحنان: “مبارك يا روحي.” كانت كلماته تفيض بصدق لا يوصف، تحمل معها ألوان الأمل والمستقبل.
ابتسمت يارا، نظراتها مغمورة بالفرحة والسعادة، تغرق في عمق عينيه. في تلك اللحظة، شعرت وكأن كل الأحلام تجمعت لتصنع هذا اليوم، كأن الحب الذي يجمعهما أكبر وأقوى من أي شيء آخر. تابعت السير بجانبه، كلاهما يسبح في بحار من السعادة الغامرة، شعورهم بالحب يملأ الجو، ينسج أجمل لحظة في حياتهما.
وفي ذروة الفرح، اقترب آدم، شقيق مازن، من عمر طالبًا إذنًا للحديث مع والده بخصوص علا، معبرًا عن رغبته في الزواج منها. قبل هذا، كانت علا قد صارحته بما حدث معها، قائلة يالنهاية: “أنا محبتش أخبي عنك حاجة زي كده ممكن تخليك تتراجع عن…”
آدم، بابتسامة هادئة، قال: “كلنا بنغلط يا علا، لكن الصحيح أن نعترف بأخطائنا. كان ممكن تخفي عني الحقيقة وما كنتش هعرف لأن الولد في السجن. لكنك اخترتِ تصارحيني، ودا اللي خلاني أتأكد أن اختياري صح، وأني عايزك زوجة ليا. لأني بحبك يا علا…أظن دا شيء كافٍ يخليني متعلق بيكِ.”
ابتسمت علا بخجل وقد غمرها بعض الطمأنينة والفرحة برؤية الحب في نظرات آدم الفاضحة.
في تلك الليلة، كان شعور يارا وعمر متشابكًا بين الواقع والحلم. كل لحظة تموج بالمشاعر الغامرة، وكأنهما يتحسسان المستقبل بأيديهم. شعرت يارا بأن كل صراع مر بهما كان يستحق، وأنه يقف أمامها الآن ليس فقط كزوج، بل كصديق وشريك حياة. كانت ترى في عينيه حبًا عميقًا لم يتغير، بل نما ليصبح أقوى.
أما عمر، فقد شعر بالسلام الذي طالما بحث عنه. كان يحمل يارا في قلبه، يشكر الأقدار التي منحته فرصة ثانية معها. كانت مشاعره تنبعث كأمواج من الهدوء والطمأنينة، ممتلئة بالحب والأمل، وملأت عقله وكيانه. أحس أن حياتهما الآن باتت صفحة جديدة، مفعمة بالوعود والأحلام، كل لحظة يقضيانها معًا هي نبض جديد في قصة حبهما المتجددة.
انطلق عمر ويارا في رحلة شهر العسل، يغمران فرحتهما بهذه البداية الجديدة. تركا عز في رعاية دعاء وعلا وقمر، مطمئنين أن صغيرهما سيكون في أيدٍ أمينة.
“الحب لا يعني السعادة والهمس اللطيف… الحب هو ان نتحمل الالم معًا حينما يختار المرء البقاء بدلًا من الفرار بعيدًا يصر على البقاء والتمسك بالطرف الآخر والإيمان بأن حبهما سيفوز على كل تلك الصعاب، وسينعمان ببعضهما في يومٍ ما♥”
_____________________
كان يزن وآسيل ينظمان بيتهما الجديد بسعادةٍ مفرطة. اختارت آسيل أن ترسم صورةً في غرفة نومهما، أتتذكرون… تلك الصورة التي طلب يزن منها أن ترسمها بغرفة النوم ذلك اليوم…ولكنها الآن لا ترسمها بأمر من يزن بل لأنها شعرت بأنها تنتمي إلى هذا المكان. كانت اللوحة تصور شخصين يتعانقان بشغف، تعبيرًا عن حبهما العميق،نظرت اليها وأخذت تتخيل بأنها هي يزن مكان تلك الصورة بهذه الغرفة بيوم زفافهم.
عندما انتهت آسيل من رسم الصورة، ذهبت لتستقبل يزن بعد عمله بمقهي بالقرب من المنزل ، وبعد ذلك كان لديهما جلسة مع دكتور التخاطب كالعادة. وفيما كانت تنتظره في المقهى، استخرجت دفترها وبدأت تكتب فيه نصوص شعرية تملأ وقت فراغها، لتعكس مشاعرها وأفكارها بعمق.
-بتكتبي ايه؟
نظرت إليه بدهشة مع حضوره المفاجئ، حيث لفتت قصيدة طويلة انتباهه بدفترها، فأحس بفضول يدفعه لقراءتها. وهي تراقبه وهو يقرأ بصوت مرتفع، وتستمتع بمشاهدته يشاركها تلك اللحظات البسيطة.
كانت كلمات القصيدة تقول:
الليل في وحشة الصحراء صومعة
مهيبة وتلال البيد رهبان
إذا الجنادل قامت دون مسربه
أرغى وأزبد فيها وهو غضبان
ونشر الهول في الافاق محتدما
جم الهياج كأن الماء بركان
وحول الصخر ذرا في مساربه
فبات وهو على الشطين كثبان
عزيمة النيل تفني الصخر فورتها
فكيف إن مسه بالضيم إنسان
اتسعت عيناه مصدرة بريقًا قائلاً بحماس: “دي قصيدة للاستاذ ادريس جماع؟”
اومأت رأسها بإيجاب وأبتسمت لذكر هذا الشاعر الجليل الذي كانت تحبه وتحفظ قصائده منذ الصغر، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من ذاكرتها.
عبّر يزن عن حماسه لقراءة الشعر قائلًا: “نادرًا ما بلاقي حد بيحب قصايد الشعر زيي.”
صمت لدقائق ثم نظر بعينيها متسائلاً: “بس انتِ بتكتبي القصيدة لوحدك! انتِ حفظاها؟”
هزت رأسها بإيجاب ثم كتبت بدفترها: “من كتر قراءتي ليهم بقوا ثابتين في دماغي ودايمًا على بالي.”
نظر يزن للقصيدة بالدفتر ثم عاود النظر اليها قائلاً بإستفهام~بس اشمعن القصيدة دي؟
أخذت نفسًا عميقًا ثم كتبت بدفترها مستشعره تلك الكلمات/القصيدة دي كانت رفيقتي طول الدرب لحد ما السعادة دقت بابي… معرفتش انساها متخليتش عني طول لحظاتي الحزينة ساعدتني في استشعار الامي وظهور قوتي كانت رفيقتي في لحظات الحزن، ومعرفتش انساها كانت بتمثل لي داعم قوي للاستمرار.
أردف مازحًا: “معملتيش زي العجوز اللي اول ما بيفتح بيرمي عصايته.”
ردت عليه بكلمات هادئة سردتها بدفترها: “القصائد والرسم هما اصدقائي طول حياتي ومواساتي في كل الظروف ايًا كانت ايه كنت بلاقيهم معايا مستحيل انساهم هما اصبحوا بيكملوني وكانوا سبب كبير في اني اتعافى.”
أبتسم من تعبيرها ثم هتف بقوة متسائلاً: “عارفة كل قصايد الاستاذ ادريس جماع؟”
كتبت له: “بعتقد اه مسيبتش قصيدة ليه من كتر حبي فيهم بقيت بعملها مذاكرات يومية وبكتبهم في دفتري عشان منساهمش اتعلقت بيهم اوي.”
اقترب يزن منها بحنان حيث التقت اعينهما بمسافة قريبة وهو يهيم بها عشقًا من تلك العيون التي تسحرانه كلما دقق بهم وقع بسحرهم وظل اسيرهما طيلة اللحظة دقق بعينيها وحاول الحديث بلا تلعثم وأثنى على حبها العميق للشعر، قائلًا: “في قصيدة علقت معايا ليه اول ما قرأتها، وجات على بالي دلوقتي اقولها.”
نظرت بعينيه تحاول قراءة ما بهم وجدتهم مثل البحر حاجزًا أمواجه عنها يريد البوح بالكثير ولكن الرياح هادئة اليوم.
تحدث بصوت ذكوري و بحَّة رجالية قائلاً القصيدة التي خطرت بباله قولها وهو ينظر بعيونها بهيم:
السيف في الغمد لا تخشى مضاربه
وسيف عينيك في الحالين بتار
ان مفاتن عينيك مخمرة
من نظرة منك يخدو المرء سكرانًا
بعد أن إنتهى من قص القصيدة اندهش منها تضيف تعديلًا بسيطًا محدثة اياه بصوتٍ رقيق قائلة:
“بس هي المفروض تبقى… ان المفاتن في عينيك مخمرة.”
اتسعت عيناه بذهول وأبعد جسده عنها يحاول إستيعاب ما حدث الآن وهي تبتسم أمامه تراقب ردة فعله على تلك المفاجأة!
تحدث بتلعثم: “أنتِ… أنتِ رجعتي تتكلمي؟”
هزت رأسها بايجاب وسرعان ما أمسك رأسها بيديه قائلاً: “لا يا اسيل اعتقيني من الحركة دي اتكلمي ردي قولي ايوة ببوقك.”
صرخت به قائلة وهي تضحك: “ايوااا”
لم يخطر في باله سوى أن يأخذها الي صدره بشوق، كان سعيدًا حقًا لأنها عادت تتحدث، وسمع صوتها أخيرًا الذي كان يشبه صوت الملائكة، كم هو رقيق ولطيف ببحة لطيفة. أراد الآن أن يعطيها كتابًا لتقرأه له، ليظل يستمع إلى صوتها الملائكي لفترة أطول. وكرر في داخله: “إنني حقًا أحب تلك الفتاة، بل أعشقها، أهيم بها في كل مرة أراها. والآن، حين سمعت صوتها، كدت أن أغرق بتلك الألحان العذبة التي تفوح منها. ظننت أن عيناها فقط هي التي تستحق أن تغرقني، لكني اخطأت، فإن أسيل بأكملها استطاعت إغراقي منذ ان سمعت صوتها الباكِ وهي لم تخرج من عقلي وظل التفكير بها يلازمني حتى يومنا هذا،الى أن تغلغل الحب بداخلي وسيطر على قلبي♡.”
دعت آسيل يزن للمنزل لتريه المفاجأة التي أعدتها له. دخلوا المنزل وقبل أن يدخل الغرفة، التفتت آسيل إليه وقالت بابتسامةٍ عذبة: “غمض عينيك.”
يزن ابتسم بسعادة وأغمض عينيه، وأخذت آسيل تسحبه داخل الغرفة. ثم قالت بحماسة: “افتح!”
فتح يزن عينيه وتفاجأ بالرسمة التي لم يكن يتوقع أنها ستكون بهذا الجمال والدقة. لم تنسَ آسيل طلبه كما توقع، بل أضافت تفاصيل إضافية تجعل اللوحة أكثر حبًا وواقعية.
عانق يزن آسيل بسعادة، وأخذ يدور بها بفرح عبر الغرفة، يعبر عن فرحته بصرخاته الطفولية. بعد لحظات، توقف وقبّلته آسيل قبلة خفيفة على خده بخجل، ثم ابتسمت له ونظرت إليه بوهن وقالت: ” استنيت يرجعلي صوتي مخصوص عشان اقولهالك أنا بحبك يا يزن.”
ثم هربت آسيل بسرعة من بين ذراعيه تضحك متجهة إلى خارج الغرفة، وتركت يزن يحاول استيعاب ما حدث، شعر بأنه سيسقط أرضًا، كيانه قد تبدل ولم يعد يشعر بالواقع ويشك بأنه يحلم.
ركض يزن وراءها، وهو ينادي بصوت مليء بالسعادة: “اسيل… اسيل تعالي هنا…. مهو مينفعش تبهدليلي كياني كده وتجري… تعالي هناا… اسييل.”
كانت أصوات ضحكاتهم تعلو المكان، فرحتهم لا توصف. ثم انسكبت آسيل على السجادة ووقعت، فسقط يزن فوقها بسرعة ليمسك بها في اللحظة الأخيرة، وابتسما وهما يضحكان بصوت عالٍ، يملؤان المكان بالبهجة توقفت اسيل عن القهقهه حين رأت نظراته تتوجه الى شفتيها ويقترب منها معلنًا الانتصار بتلك اللحظة الذي تمناها،أغمضت اسيل عينيها باستسلام.
وفجأة سمعوا طرقًا على الباب، فنفخ يزن بضيق، ونهض وهو يهمس بداخله بشتائم للذي قطع تلك اللحظة الحميمة.. وفتح الباب ليجد مازن وزينة قد حضرا لمساعدة آسيل ويزن بفرش منزلهما.
قال يزن بضيق: “اهو انا دلوقتي بس عرفت قيمة اللي كنت بعمله فيك….”
ضحك مازن وقال لزينة بانتصار: “شكلنا قطعنا اللحظة… تصدق اسعدتني اوي…. دوق شوية م اللي كنت بتدوقهوني… انا جبت النجار يلا تعال معايا عشان نشوف نوع الخشب وسيب البنات سوا يوضبوا الهدوم.”
أمسكه مازن من ذراعه وسحبه للخارج، فألقى يزن قبلة في الهواء باتجاه آسيل قبل أن يخرج. فابتسمت آسيل بحب وقالت: “مع السلامة يا حبيبي.”
ثم التفت مازن وزينة بذهول، إذ سمعا صوتها لأول مرة ولم يصدقا أنها عادت تتحدث مجددًا، ففرحوا لها كثيرًا وباركوا لها. وفي تلك الليلة، احتفلت عائلة اسيل بعودة صوتها من جديد بفرحة كبيرة، خاصةً والدتها التي بكت من كثرة سعادتها باسترجاع صوت طفلتها وسماع كلمة “ماما”من فمها مثل ذي قبل.
____________
بعد شهر من الترتيبات والتحضيرات، أطلَّ اليوم المنتظر، يوم زفاف آسيل ويزن. بدت الشمس في ذلك اليوم وكأنها تشرق لتبارك اتحادهما، ترسم ظلالًا من الفرح على أرضية صباح مميز، ينبض بالأمل والفرح.
اسيل، ترتدي فستانها الأبيض المترف، تبدو كأميرة خرجت للتو من إحدى الحكايات القديمة. وقفت أمام المرآة، حيث انعكس نور الشمس على وجهها المشرق، تلتقط أنفاسها الثقيلة بين دقات قلبها السريعة. كانت تلمس الفستان برفق، وكأنها تتحسس دفء أحلامها الذي انسكب على هذا اليوم. عيناها المبللتان بالدموع تعكسان خليطًا من مشاعر الفرح والحنين، وابتسامة خجولة تشق طريقها على شفتيها، كأزهار الربيع في أول تفتحها.
في المقابل، كان يزن في الغرفة المجاورة، يحاول ضبط ربطة عنقه بيدين ترتجفان. وقف أمام المرآة محاولًا استعادة توازنه الداخلي، فكلما نظر إلى انعكاس صورته فيها، كانت ذاكرته تستعيد لحظات حبهم الأول، وتعهداتهما التي ستتحقق اليوم. كان قلبه يتسارع بنبضات من التوتر الممزوج بفرحة لا تُوصف، وهو يحاول أن يتخيل كيف ستبدو آسيل في لحظة التقاء أعينهما لأول مرة كزوج وزوجة. كان يتذكر كل تفصيلة، كل كلمة همس بها إلى اسيل، ويشعر بعمق المسؤولية والحب الذي ينمو بداخله كجذور شجرة تتشبث بأرض صلبة.
وفي القاعة، كانت الأجواء مشبعة بالترقب والفرح، امتزجت فيها ضحكات الحضور مع همسات الدعوات. قمر، والدة آسيل، كانت تمسح دموعها المنهمرة بعينين تملؤهما الفخر والامتنان. رؤيتها لابنتها في هذا اليوم كانت أشبه برؤية حلم طويل يتحقق، حلم كانت ترعاه بكل حب وأمل منذ سنوات الطفولة الأولى.
خطت آسيل نحو الممر المزين بالزهور، متوجهة نحو يزن ببطء يتناسب مع رهبة اللحظة، لكن بثبات يعكس عزيمتها وحبها. كانت تقترب منه، وكل خطوة تقربها تعني لهما الكثير، تجمع ماضيهما وحاضرهما في لحظة فريدة. وعندما وصلت إليه، شعرت بأن العالم بأسره انحنى ليرحب بوحدتهما، وأن قلبها يرتجف من فرط الحب والرهبة.
يزن، وعيناه تلتقيان بعيني آسيل، شعر بأن الزمن توقف. كل حكاياتهما، كل اللحظات التي عاشاها سويًا، بدت وكأنها تجسدت في تلك اللحظة. دموعه انسابت بصمت، تعبر عن حب لم يعرف حدودًا، وفرحة لم تتسع لها الكلمات. احتضن يدها برفق، وكل عهدهما المعلن كان بمثابة ختم على صفحة حبهم الممتدة، قبّل يديها بدفء بينما تعالى صوت التصفيق والزغاريد من قبل المعازيم معبرين عن فرحتهم.
غمرت القاعة هتافات الحضور وتهانيهم، والفرحة تجلت على وجوههم. عندما احتضن يزن آسيل بعد العهود، لم تكن مجرد لحظة، بل كانت وعدًا بحياة مليئة بالحب والأمل، بداية لحكاية جديدة ستكتب كل يوم بنبضات قلوبهما الملتفة حول بعضها البعض، وتخط بعمق كلمات الحب التي تملأ حياتهما بألوان الفرح والسعادة.
________________
دخلت غرفة النوم التي باتت تضيء بريق الفرح، وعانقها يزن من الخلف، يلف ذراعيه حولها بغمرٍ يعكس الحب الذي يحملانه. غرس رأسه في رقبتها، واستنشقت آسيل عطره المألوف الذي يبعث الطمأنينة في أعماقها. ابتسمت بامتنان، والتفتت إليه، ووضعت يدها برقة على وجهه، قائلةً بنبرة مفعمة بالعاطفة: “عارف… في كل مرة كنت بقولك اني مش عايزة اشوفك تاني والاقيك ناططلي تاني يوم كنت بتبسط وبفرح اوي بتمسكك بيا…. يمكن تمسكك بيا هو اللى حرك قلبي من مكانه…. شكرًا يا يزن… شكرًا انك رجعتني تاني اشعر بالامان…. شكرًا انك عرفت اللي كنت محتاجاه وعرفت تملي فراغ كل حاجة جوايا بحنيتك… شكرًا انك كنت بتطمني دايما بكلمتك ليا متخافيش انا جمبك… شكرًا انك عالجتني شكرًا انك علمتني ازاي أحب…عندي حاجات كتير اوي اشكرك عليها لو فضلت اقولها هنقعد للصبح.”
ابتسم يزن بلمحة من الخبث، وقال مازحًا: “لا للصبح ايه انا محتاج الليلة دي جدًا مش هنقعد طول الليل بنشكر بعض…اقولك على فكرة…هعرفك طريقة احلى للشكر.”
ضحكت اسيل بخجل، وعانقته بسعادة، بينما ابتعد يزن قليلًا وقال: “دقيقة، عندي لكِ مفاجأة. بس أول حاجة، غمضي عينك.”
أغمضت اسيل عينيها، وفي فضولها الطفولي، انتظرت أن ترى ما يخطط له يزن. أحضر يزن علبة صغيرة وفتحها أمامها. حين فتحت عينيها بتلهف، وجدت بداخلها علبة حمراء على شكل نصف قلب، محفور عليها اسمها بأناقة لامعة. نظرت إلى العلبة بحب، والتفتت إلى يزن، الذي كان يتابع ردة فعلها بترقب. فتحت العلبة ببطء، لتجد بداخلها زهرة حمراء تتفتح لتشكل قلبًا كاملاً، وفي وسط الوردة كان هناك خاتم لامع ببريقه الأخاذ.
انبهرت اسيل بالخاتم، وتجلى الفرح في عينيها. أخذ يزن الخاتم، ووضعه برفق في إصبعها، ثم قبّل يديها، واحتضنها برفق. حملها نحو الفراش وعيناهما معلقتان ببعضهما البعض، وقد صمتت الكلمات عندما تحدثت العيون، حيث امتزجت الأرواح وتلاقت القلوب في أجمل لياليهما، حيث تجسد الحب في كل لمسة وكل نظرة.
وفي الصباح التالي، كان يزن ما يزال غارقًا في النوم بينما كانت اسيل مستيقظة بجانبه، تتأمله بحبٍ صامت. أمسكت بقلمها وكراسة الرسم، وبدأت ترسمه وهو نائم، تحاول أن تخلد هذه اللحظة الهادئة.
بعد ساعة، بدأ يزن في الاستيقاظ. فتح عينيه ببطء، ووجدها ممسكة بالورقة والقلم، ترسم بتركيز، ووجهها مشرق بنور الصباح.
ابتسم يزن قائلاً: “بتعملي إيه؟”
نظرت إليه آسيل بحب، وقالت: “برسمك.”
ضحك يزن وقال: “دي خلقة ترسميها شكلي وانا نايم مش مبهر ولا حاجه دنا كان كل همي في مراتي انها هتشوف منظري وانا نايم.”
قالت آسيل بابتسامة دافئة: “لا والله شكلك عسول اوي… حتى شوف… انا بقالي ساعة بصالك وانت نايم وشوية الشعر دول على عيونك. ”
أصدر يزن صوتًا خفيفًا وقال مازحًا: “إيه الفراشات دي… على الصبح كدا.”
لف ذراعيه حول خصرها، وقربها إليه، وهما يضحكان، ثم نظر إلى رسمتها، فوجئ بجمالها وقال: “إيه دا؟ أنا أوحش من كدا بكتير، إنتِ بتجبري بخاطري.”
ضحكا معًا بسعادة، وداعبها يزن بيده وسط ضحكات آسيل المتعالية، لتكون بداية صباح رومانسي لا يُنسى، حيث اختلطت أرواحهما بالحب، وامتلأ اليوم بنغمات الضحك والدفء.
_______________________
وبعد رجوع اسيل ويزن من شهر العسل اكتشفت اسيل بأنها حامل وسعدت كثيرًا بهذا الخبر بينما كان يزن فرحًا اكثر منها كان ينتظر ملكة الجمال التي ستلدها اميرته وكان يتمنى ان تكون فتاة.
وفرح الجميع وخاصةً يسرى التي لم تصدق بأن سيأتيها حفيدين لان زينة كانت حامل هي الأخرى وكانت الفرحة تعم كلًا من العائلتين وباركت يارا لاسيل بفرحة حين سمعت بالخبر هي وعمر.
__________________
مرت شهور الحمل على آسيل ببطء وثقل، وكأن كل يوم يحمل معه عبء الماضي الثقيل. الخلل الذي سببه لها والدها حين كسر ضلعها القريب من القلب جعل من حملها تحدياً يفوق المعتاد، إذ كان الجهد الطبيعي عبئاً عليها، فتجد نفسها متعبة أكثر من المعتاد، تشعر بأن جسدها يخوض معركة مزدوجة، بين الحياة التي تنمو بداخلها والآلام التي ما زالت تذكرها بما حدث.
مع مرور الشهور، ازدادت الآلام والقلق، لكن قوة الحب والإرادة جعلت آسيل تواصل التحدي. كان يزن بجانبها دائمًا، يسندها في كل خطوة، يربت على كتفها، ويهمس لها بكلمات الطمأنينة، يملأ قلبها بالشجاعة لمواجهة ما تبقى من الطريق.
عندما اقترب موعد الولادة، أصبحت المخاوف أكثر وضوحًا. قرر الأطباء أن الولادة القيصرية هي الخيار الأمثل لسلامتها وسلامة الطفل، حيث كانت الولادة الطبيعية تشكل خطرًا على حياتها وعلى نفسها. وفي غرفة العمليات، وسط الأضواء الباردة وأصوات الأجهزة، كانت آسيل تمسك بيد يزن، تتشبث بحبه كطوق نجاة في بحر القلق.
بعد جهد ومعاناة، ولدت آسيل بنتًا، اختاروا لها اسم “خلود”. كان لحظة ولادتها أشبه بنور يخترق الظلام، بشارة حياة جديدة تنمو من رحم الألم. دموع الفرح انهمرت على وجه يزن عندما رأى ابنته لأول مرة، بينما كان يشعر بأن كل لحظة ألم وكل صراع واجهته آسيل كان يستحق ذلك وأكثر.
في الوقت نفسه، كانت زينة، قد أنجبت ولدًا وأسمته “يونس”. كانت فرحة الجميع بهذين الطفلين تعم المكان، وكأنهما جاءا ليضيئا حياة عائلتيهما بمزيد من الفرح والبراءة.
بينما حملت آسيل طفلتها الصغيرة، شعرت بدفء ينبع من قلبها، دفء الحب الذي يتغلب على كل ألم. وكانت خلود، بجمالها الصغير وبراءتها، تعكس وعدًا بمستقبل مليء بالأمل، مستقبل يُبنى على الحب والقوة والإصرار.
_________________
مرّت خمس سنوات، وكانت تلك السنوات أجمل ما عاشه أبطالنا، كأنما كانوا في جنة مترفة بالعواطف والسعادة. لم تكن الأيام خالية من صعاب الزواج التي واجهتهم في البداية، لكن حبهم كان كالصخرة الصلبة، متماسكاً أمام كل تحدٍ، وعمقه كان عميقاً، لا يتأثر بالرياح العابرة.
وفي يوم من تلك الأيام العادية التي تحولت إلى ذكرى، كانت يارا في طريقها لجلب ابنها” عز” من الروضة. وبينما كانت تنتظر خروجه، فوجئت بوجود “هدير” هناك، معلمة في الروضة. كان اللقاء مفاجئًا ومليئًا بالحنين، إذ جمعتهم ذكريات الماضي التي لم تُنسَ.
اقتربت يارا بابتسامة سعيدة، وقالت: “هدير! ما شاء الله، إيه الصدفة الجميلة دي؟ مش مصدقة إني لقيتك هنا.”
بادلتها هدير الابتسامة بحب، وقالت: “والله يا يارا، أنا كمان ما كنتش متخيلة إني هشوفك هنا. قوليلي، إنتي عاملة إيه؟ اللهم بارك ربنا يحفظه دا ابنك؟”
تبادلا الحديث لبعض الوقت، ثم بفضول واهتمام سألت يارا: “وأخبار والدك إيه؟”
اتسعت عينا هدير بمزيج من الحزن والأسى، وقالت بصوت متهدج: “والدي الله يرحمه… مات من سنتين. مات لوحده في الشقة اللي كان مستأجرها. الجيران اكتشفوا جثته بعد ما شموا رائحتها.”
غرق قلب يارا في الحزن، وترحمت على والد هدير، وقالت برفق: “الله يرحمه. ربنا يقويكِ ويصبرك.”
أومأت هدير برأسها بحزن، ثم تساءلت يارا: “وأخبار إخواتك الصغار؟”
ارتسمت ابتسامة فخر على وجه هدير، وقالت: “ياسين ودارين دلوقتي في اولى ثانوي والحمد لله متفوقين في دراستهم وهيشرفوني بإذن الله انا واثقة فيهم.”
ابتسمت يارا، وقالت بشغف: “وإنتي؟ متجوزتيش لسه؟”
تنهدت هدير بعمق، وكأنها تبحث عن الكلمات لتصف شعورها، وقالت بنبرة مملوءة بالشجن: “حاسه إن ما بقاش عندي مشاعر أديها لحد تاني. كل مشاعري راحت مع مصطفى، واتدفنت معاه… مش متخيلة إني ممكن ألاقي حد يحبني زيه… الله يرحمه.”
تألقت دموع في عيني يارا، وشاركتها في الحزن، مشاطرة إياها ذكريات مصطفى التي طُبعت في القلوب بلمسة من الحنين. كان الحديث بينهما يحمل عبق الذكريات وآلام الفقد، ويذكرهما بأن بعض الناس يتركون بصمة لا تُنسى في حياتنا، رغم حقائقهم التي تظهر بعد رحيلهم.
____________________
تخرجت آسيل من الجامعة متفوقة، وبدأت رحلتها في عالم الفن، حيث صارت تقدم دورات تدريبية في الرسم وتبيع لوحاتها المميزة خارج مصر. كانت موهبتها تتلألأ في كل ضربة فرشاة، ومع كل أسبوع كانت تخصص لوحة لزوجها يزن، تعبيرًا عن حبها العميق له. تلك اللوحات كانت بمثابة رسائل من القلب، تعكس حبها الذي ينمو ويزهر.
في يوم مشرق، كانت آسيل ويزن في طريقهما إلى روضة ابنتهما خلود. وبينما اقتربا من الروضة، لاحظا خلود تعانق رجلًا مسنًا. نادت الطفلة ببراءة: “مامي جات أهي!”، ثم هرعت نحو والدتها لتعانقها بحب، وتبعتها نظرات يزن المتفحصة.
توقف الزمن لحظة عندما التفت الرجل المسن ليكشف عن وجهه كان شريف. ارتعش جسدها بخضة وخوف، وأمسكت بطفلتها بقوة، خطوة للوراء وهي تختبئ خلف يزن، تبحث عن الأمان في حضوره. لاحظ يزن ترددها وخوفها، فأمسك بذراعها بلطف، مشيرًا إليها بنظراته المطمئنة أن تتقدم لمواجهة والدها.
وقفت آسيل أمام والدها بعيون مترددة، تتحرك بين الخوف والحنين. وفي لحظة غير متوقعة، انحنى شريف على قدميه، مقربًا وجهه نحو قدم آسيل ليقبلها. كانت حركته تلك كافية لإعادة كل مشاعر الألم والندم إلى السطح، لكن قبل أن يلامس وجهه الأرض، تراجعت آسيل بسرعة، ثم أمسكت بذراعيه لتوقفه، عيناها تتألقان بالدموع.
انهمرت دموع شريف وهو يتكلم بصوت متهدج، مليء بالقهر والندم: “سامحيني يا بنتي… سامحيني… أنا غلطت، بوظت حياتي وخسرتك. آسف على كل لحظة ضربتك فيها، كل مرة خذلتك، سامحيني أرجوكِ.”
ولأن قلب آسيل كان نقيًا، خاليًا من الحقد والكره، ابتسمت له برقة ودموعها تنهمر، ثم مسحت دموعه بأصابعها المرتعشة، وقالت بلطف: “مسمحاك يا بابا… متعيطش.”
رفعت طفلتها نحو شريف، قائلة: “خلود بنتنا.”
نظرات شريف المليئة بالدموع تأملت الطفلة، وأطلق تنهيدة وهو يقول: “نسخة من قمر… نفس الجمال.”
تذكر زوجته قمر، ونظر إلى آسيل مجددًا، عينيه مليئة بالتساؤل: “قمر كمان هتسامحني زيك؟”
في تلك اللحظة، أدركت آسيل أن شفاء الجروح القديمة ليس سهلًا، لكنه يبدأ بالمسامحة. كان لقاءها بوالدها يحمل وعدًا بمستقبل أفضل، مليء بالتفاهم والغفران. كانت تلك اللحظة تجسد بداية جديدة، حيث امتزجت دموع الندم بدموع الغفران، وأشرقت شمس الأمل مجددًا في قلوبهم.
_____________
ذهبت اسيل ويزن وشريف لمنزل قمر حيث ركضت خلود نحو قمر بحماسة، تنادي: “نانا، نانا!” صوتها يعم أرجاء المنزل بسعادة غامرة. خرجت قمر، التي استعادت عافيتها بعد معاناتها الطويلة، لتستقبل حفيدتها وتحتضنها برقة، قائلة: “خمني نانا عملالك إيه النهاردة.”
سكتت خلود للحظة، عيونها تلمع بفضول، ثم هتفت بحماس: “كوكيز!”
ضحكت قمر بسعادة، وقالت: “صح، يا روح قلب نانا! تعالي نحط مع بعض التشوكليت شيبس اللي من فوق.”
بينما كانت قمر وخلود متوجهتين إلى المطبخ، لفت انتباه قمر وجود شريف، واقفًا بجانب آسيل على باب المنزل، ينظر إليها بعيون تملؤها الحزن والندم. تلعثمت خطى قمر، وانزلت خلود إلى الأرض لتأخذها احدى الخادمات للداخل، ابتعدت قمر خطوات إلى الوراء، وملامحها مشوشة بين الذهول والغضب. تقدم شريف نحوها، عيونه تفيض بالدموع، وقال بصوت مختنق: “قمر…”
تجاهلت قمر نداءه في البداية، ثم نظرت إلى آسيل وسألت بحدة: “طلع إمتى من السجن؟”
صمتت آسيل، بينما انفجرت دموع شريف، وهو ينحني نحو قدمي قمر، قائلاً بصوت مليء بالقهر: “سامحيني يا قمر… سامحيني… أنا آسف على كل شيء.”
نظرت إليه قمر بجمود، وقالت بصوت متهدج: “للأسف، كلمة آسف مش هتصلح اللي عملته… مش هترجع لي عمري اللي ضيعته… امشي يا شريف… مش عايزة أشوف وشك… عندك بنتك وحفيدتك، شوفهم زي ما أنت عاوز، لكن أنا مش عايزة ألمحك.”
صرخ شريف بالبكاء، وبدأ يتوسل: “بس أنا لسه بحبك يا قمر… ممكن نرجع لبعض؟ اللي اتكسر ممكن يتصلح.”
هزت قمر رأسها، وقالت بحزم: “اللي اتكسر مش بيتصلح، ولو رجع مش هيبقى زي الأول. أنت مكنتش وحش معايا بس عشان العمل بتاع رحاب، أنت طبعك مؤذي ووحش… وأنا مستحيل أضع حياتي بين إيديك مرة تانية.”
حاول شريف مرارًا وتكرارًا، بكلمات ملؤها الندم، قائلاً: “أنا ندمان وهتغير، صدقيني… يا قمر، سامحيني عشان خاطري. أنا مليش غيرك، إنتِ وبنتي… انتِ عارفة إن حبي ليكِ كان صادق، بس رحاب هي اللي كانت بتدمر حياتنا. أنا غلطت لما شكيت فيكِ، لكنها كانت مجهزة كل حاجة ممكن تخليني أصدق إنك خونتيني. يا قمر، علاقتنا اتظلمت أوي. أديها فرصة تانية، وأنا أوعدك مش هضيعها أبدًا… أنا محتاجك في حياتي، رغم كل اللي حصل.”
لم يتوقف شريف عن محاولاته لعدة أشهر، وكان يسعى باستمرار لإقناع قمر بالعودة إليه. كان يتصرف وكأنه مراهق يحاول بكل الطرق الفوز بحب محبوبته. في نهاية المطاف، بعد الكثير من التفكير والمشاعر المتضاربة، قررت قمر أن تمنحه فرصة أخيرة. شعرت بأن حياتها تحتاج إلى ونيس، خاصة بعد زواج آسيل، وأنها ربما تستطيع تنمية بعض المشاعر تجاهه مجددًا إذا وفى بوعده وتعامل معها بالاحترام والحب.
مع مرور الوقت، ساعدت قمر شريف في إحياء شركته، التي كانت على حافة الانهيار. كانت قمر القوة الدافعة خلف عودته إلى القمة، وتحقيق مقولة “وراء كل رجل عظيم امرأة.” بفضل دعمها وجهودها، عاد اسم شريف إلى الساحة بقوة، وارتفعت أرباح شركته. ووقف بجانبه عبد الله، والد يزن، الذي شعر بالشفقة على شريف وساعده في إعادة بناء شركته بماله. بعد نجاح الشركة، أعاد شريف المال لعبد الله، وعادوا كأصدقاء وأقوى من ذي قبل.
كانت تلك السنوات مليئة بالتحديات والتجديد، لكن قمر وشريف استطاعا تجاوز آلام الماضي، وبناء مستقبل جديد قائم على الفهم والمسامحة، وبدأت حياتهم تسير نحو الاستقرار مجددًا.
____________________
بعد مضي السنوات، عاشت خلود أجمل الأوقات بين جدها وجدتها، اللذين أصبحا محور حياتها وأسرتها، حيث أصبحت مرتبطة بهم بشكل عميق ولا ترغب في الرجوع مع والداها للمنزل، إذ كانت حياتها معهم مملوءة بالحب والسعادة. كانت المشاكل بين يزن وآسيل بسيطة، وكان كل فرد يحترم الآخر ويتجنب إيذائه بأي شكل، مما جعلهم سعداء بوجود بعضهم البعض.
يارا وعمر كانا في أوج سعادتهم عندما علمت يارا بحملها بطفلها الأول من عمر، فرحتها لم تكن لها حدود، وكان عمر مسرورًا جدًا بهذا الخبر، حيث كان عز ينتظر بفارغ الصبر قدوم أخ جديد.
أما علا وآدم، فقد تزوجا وأنجبا طفلة جميلة سمياها هدى، وكانت علا سعيدة جدًا بزواجها من آدم، الذي أظهر حبه الصادق لها بتصرفاته، مما أسهم في تغيير نظرتها له ونسيان ماضيها، وبدأت حياتها معه كصفحة بيضاء تمتلئ بحبه لها.
أما مازن وزينة، فكانت علاقتهما قوية ومليئة بالحب، وكانوا سعداء بابنهما، الذي كانوا يرعونه بكل دفء وحنان.
أما كريمة، والدة مازن، فقد علمت بأن حياتها مع زوجها ليست بحياة ، وقررت إنهاء تلك العلاقة بشكل دائم وتطلقت منه. وقد كان آدم ومازن معها بقوة في هذا القرار، وكأنهما يحميانها بعد أن تحررت من ذلك العذاب، لكن بعد فترة، أدرك زوجها حجم الجوهرة التي كان يستهان بها والتي فقدها من يده.
وعن رحاب، فكانت حياتها باهتة وشاحبة، وكانت تجلس في غرفتها بالمستشفى تشعر بالضياع، حيث أنها لم تكن تشعر بالرغبة في العيش ولكن وجود يارا بحياتها يبعدها عن ذلك القرار تلك الفتاة التي ظهرت بحياتها واضاءتها هي وطفلها وفرحت لها حين علمت بقدوم طفلها الآخر. طلبت يارا من دعاء وقمر زيارتها، لكنهما رفضا بشدة، فاحترمت يارا قرارهما ولم تعود تفاتحهما بالموضوع مرة أخرى، حيث أنها لم تكن تعرف مدى الألم الذي سببته لهما أمها.
في تلك الفترة، رأت قمر كم تغير شريف حقًا وأسلوبه معها، وكانت حياتها مليئة بالحنين، حيث كان وفيًا بوعده حقًا.
والمفاجأة كانت باليوم الذي اكتشفت فيه اسيل بأنها حامل بطفلها الثاني واتصلت بوالدتها بفرحة وقبل ان تنطق وجدت هتاف قمر بخوف قائلة:
“الحقيني يا اسيل… انا حامل!!!”
ردت اسيل بذهول وضحكة انبعثت منها وقالت: “بتهزري!!! انا متصلة بيكِ عشان اقولك اني حامل انا كمان!
تمت بحمد الله❤
وفي النهاية يا أحبائي،
أود أن أُوضح لكم أمرًا في غاية الأهمية، فالخيال الذي ننسجه في الروايات ليس دائمًا انعكاسًا للواقع أو تصديقًا له. الروايات قد تحمل بين طياتها لمسات من الخيال الذي يهدف إلى إضفاء طابع درامي أو مشاعر تلامس القلوب، لكنها ليست معيارًا يُحتذى به في الحياة.
ما أقدمه بين السطور هو خيال أدبي خالص، يُصنف ضمن إطار الروايات الرومانسية التي تخاطب العاطفة وتُثير التفكير. لكن هذا لا يعني أن كل ما أصفه فيها يعكس الحقيقة أو يتفق مع القيم الدينية أو الأخلاقية. فعلى سبيل المثال، لمس يد المرأة قبل الزواج، أو التقاء الرجل والمرأة في خلوة أو تبادل النظرات المحرمة، كلها أمور مرفوضة في ديننا وقيمنا ومبادئنا.
الدين أمر واضح وصريح. أمرنا بغض البصر وحفظ النفس والابتعاد عن الشبهات. هذه القواعد هي التي تحمي المجتمع وتُحافظ على طُهر العلاقات. يجب أن نُدرك جميعًا أن ما نقرأه في الأدب هو خيال قد يُلامس قلوبنا، لكنه لا يُمكن أن يُبرر مخالفة الأخلاق أو تعاليم الدين.
رسالتي لكم، خاصة للشباب والمراهقين، هي أن لا تجعلوا الروايات تُغشي بصيرتكم عن الحق. خذوا منها متعة القراءة، ولا تدعوها تُغير قناعاتكم.
القوة ليست في اتباع الهوى، بل في مقاومته. والسعادة الحقيقية ليست في الانجراف خلف المشاعر المؤقتة، بل في الالتزام بالمبادئ التي تُرضي الله وتُطمئن النفس.
كونوا أصحاب رؤية، اختاروا طريقكم بحكمة، وتمسكوا بدينكم وقيمكم فهي زادكم في الحياة.
______________
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا تخافي عزيزتي)