روايات

رواية فوق جبال الهوان الفصل العشرون 20 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل العشرون 20 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان البارت العشرون

رواية فوق جبال الهوان الجزء العشرون

فوق جبال الهوان
فوق جبال الهوان

رواية فوق جبال الهوان الحلقة العشرون

لمحتها إحدى الشابات وهي تطحن أحد الأقــراص الدوائية، فاسترابت من تصرفها، خاصة أنها كانت تدعي انشغالها بتقطيع ثمار الفاكهة، فلم تتمكن الأخرى الواقفة أمام الموقد من رؤيتها، لتجدها تُلهيها بإحضار شيء ما ريثما تتمكن من وضع المسحوق في الكنكة لتخلطها بقهوتها قبل أن تطفئ اللهيب موبخة إياها على عدم انتباهها لها، ثم تولت بنفسها إعداد فنجان قهوتها، لتناوله لأخرى لتقدمه لها مثلما طلب.
لم تفوت تلك الشابة الفرصة دون أن تسجل ما قامت به “خضرة” في الخفاء باستخدام هاتفها المحمول لعلها تستفيد من الأمر بشيء، ثم توارت عن الأنظار، لتتسلل فيما بعد بخطواتٍ حثيثة بعيدًا عنها، قبل أن تمسك بها، لتتجه من فورها إلى غرفة “وزة”، طوت قبضتها، ودقت على بابها بخفةٍ وهي تستأذنها قائلة:
-ستي؟ أخش ولا بتغيري هدومك؟
سمعت صوتها يقول من الداخل:
-تعالي يا بت.
في التو فتحت الباب، وولجت إلى الداخل لتغلقه بحرصٍ من ورائها، ثم دنت منها هامسة في أذنها، وكأنها تخشى أن يسمعها أحدهم:
-أنا شوفت حاجة كده غريبة، وصورتهالك.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بتحيرٍ:
-إيه هي؟
أخبرتها بحذرٍ وهي ترمش بعينيها:
-تخص “خضرة”.
لوت ثغرها تنعتها في استحقارٍ:
-دلدولة اللي ما تتسمى، فرجيني.
أظهرت هاتفها المحمول نصب عينيها لتعرض الفيديو الذي قامت بتسجيله، لتجد “خضرة” وهي تراوغ إحدى الشابات التي أمرتها بإعداد قهوتها، لتسقط في الكنكة ما طحنته من دواء مريب، سرعان ما برزت عينا “وِزة” على سعتهما مدمدمة في غضبٍ:
-يا بنت الحـــرام! كويس إني ما شربتهاش لسه.
اشتعل وجهها بشدة، وتابعت مخاطبة من تقف إلى جوارها:
-ماشي يا “توحيدة” الكلب، كل ده علشان تخلصي مني، مش هنولهالك!
سألتها الشابة بجديةٍ:
-ناوية على إيه يا ستي؟
غامت عيناها وهي تخبرها بتحدٍ:
-خليهم يفتكروا إني شربت القهوة، وأحبس دمهم في الآخر…
ثم دست يدها في جيبها النسائي لتخرج عدة ورقات نقدية، ناولتها إياها كنفحةٍ امتنانٍ لصنيعها معها، وقالت:
-خدي يا بت دول علشانك.
دون ترددٍ أخذت المال، وطوته في راحتها هاتفة في سرورٍ:
-تسلمي يا ستي.
أوصتها “وِزة” في لؤمٍ:
-وعايزاكي من هنا ورايح تفتحي عينك وتاخدي بالك من كل حاجة، وتيجي تبلغيني بيها أول بأول، وأنا هشوفك.
انتشت لوعدها بنيل مبتغاها هاتفة:
-من غير ما توصيني يا ستي.
انصرفت بعدها الشابة لتظل الأخيرة تدور حول نفسها في دوائر مفرغة وهي تصر على أسنانها، قبل أن تزفر متوعدة إياها:
-نهايتك على إيدي يا “توحيدة”!
غرقت ملامحها في القسوة وهي تكمل بنفس اللهجة المتشددة:
-حق ابني اللي اتحرمت منه وراح غدر هحاسبك عليه، بس الأول لازم أذلــك وأدوقك المُر.
……………………………………
قبل أن ينعطف السائق عائدًا نحو الطريق الرئيسي، ترجل الاثنان من سيارته، ليعطيه “موجي” أجرته كاملة، وعيناه تطوفان على معالم المنطقة بتركيزٍ وانتباه، أشار لرفيقه بيده ليتابعا السير عبر الأزقة الضيقة، وببعض الإرشادات البسيطة من أهالي المنطقة تمكنا من الوصول إلى وجهتم؛ لكن تعذر عليهم تحديد موضع البناية المقصودة، لذا تساءل رفيقه متحيرًا:
-إنت متأكد إن ده العنوان؟
هز “موجي” رأسه مسترسلًا في التوضيح:
-أيوه، السواق قالي نخش من ناصية الحارة دي، ونمشي على طول لحد ما نوصل عند أول قهوة تقابلنا، البيت في وشها.
رد عليه بإرهاقٍ:
-بس أنا مش شايف أي قهوة هنا.
اتجه “موجي” ببصره نحو أحد المحال القريبة، فاقترح عليه:
-بينا نسأل عن اللي اسمها “توحيدة” عند العجلاتي ده، يمكن يعرفها.
لم يجادله في الأمر، ومشيا ناحيته، ليبادر “موجي” بإلقاء التحية:
-سلام عليكم.
رد الرجل وهو يطالعهما بنظرة فاحصة:
-وعليكم السلام، خير يا حضرات؟
حمحم مستطردًا في جديةٍ:
-بقولك يا أخ، ما تعرفش بيت الست اللي اسمها “توحيدة” ده فين؟
انقلبت سِحنة الرجل بوضوح، وبدا مشمئزًا من مطلبه الذي يتناقض مع هيئته التي تبدو وقورة من الوهلة الأولى، ليرد في امتعاضٍ وهو يشير بعينيه نحو أحد الأبنية:
-استغفر الله يا رب، العمارة اللي هناك، قبل الصوان المنصوب.
بلا ابتسام خاطبه “موجي”:
-متشكرين.
همَّ بالمسير لكن الرجل استوقف ليستفسر منه:
-بس متأخذونيش في السؤال، شكلكم ناس محترمين، إيه اللي موديكم عن الولية البطالة دي؟ يعني سمعتها مسمعة في المنطقة كلها.
تعلل له بحجة واهية لئلا يثير شكوكه:
-أصلنا أغراب ومش من هنا، وفي حد من معارفنا موجود عندها وجايبين أمانة ليه من البلد.
نصحه الرجل بجديةٍ، وكأنه يكترث لأمره من جاءا لأجله:
-ربنا يعافينا، لو ليكم دلال عليه، وبياخد بمشورتكم، خليه يدور على شغلانة تانية بعيد عنها، دي ست نِجســة، وكل اللي عندها من نسوان شبهها.
رد عليه مجاملًا:
-تسلم يا أخ، هقوله.
حينما ابتعدا عنه عدة خطواتٍ، كز “موجي” على أسنانه متوعدًا في هسيس مغلول:
-سمعت بودانك؟ أنا مش هسيبها النهاردة.
أمسك به رفيقه من ذراعه، وضغط عليه محذرًا:
-اعقل، الناس بتتفرج علينا.
ظل على غضبه المكتوب مرددًا:
-لازمــًا أغسل عاري بإيدي من بنت الـ (….) دي!
مرة ثانية أنذره بضرورة اتخاذ الحيطة في تصرفاته:
-اهدى كده وبالراحة على نفسك، خلينا نتأكد بس الأول إنها موجودة وسطهم، وبعدين يبقالك الكلام.
على غير رضا منه همهم بعبوسٍ شديد:
-ماشي.
تابع كلاهما السير للأمام، ليعرجا على سرادق العزاء، وما إن تجاوزاه حتى وجدا المقهى المنشود، ليهتف “موجي” بتحفزٍ:
-القهوة أهي هناك.
أخبره رفيقه بتعقلٍ:
-احنا نقعد عليها، ونطلب مشاريب زي أي زباين عادية، ونستنى ونشوف.
كان مضطرًا لفعل ذلك ومراقبة الوضع جيدًا، ريثما يتأكد من حقيقة تواجدها بهذا المكان المشبوه، وحينها فقط سيقوم بما يتوجب عليه فعله.
……………………………….
حاول أن يبدو مقنعًا في كذبته الخاصة بعدم معرفة والدته بمسألة وفاة حماه المفاجئة، لذا أمسك “راغب” بهاتفه المحمول، ووقف في الشرفة، ليضعه على أذنه بعدما هاتفها، وانتظر لعدة لحظاتٍ قبل أن يرفع من نبرته هاتفًا:
-أه يا ماما ده اللي حصل.
على الجانب الآخر، أتى صوت “نجاح” موبخًا إياه:
-وإنت يعني كان لازم تتسحب من لسانك وتقولهم إنك هتطلبني قصادهم؟
ابتلع ريقه، واستمر على كذبه المريب:
-فعلًا عم “فهيم” غالي علينا كلنا.
فيما واصلت أمه الكلام فيما يشبه الإهانة:
-أوعى تفكر إني هاجي أعزيهم في المكان العِرة اللي هما أعدين فيه، مش هيحصل أبدًا.
فرك طرف ذقنه بتلبكِ غريب، وقال وهو يجوب ببصره على أوجه الجالسات بالصالة:
-اجمدي كده يا ماما، أنا عارف إن الصدمة صعبة علينا كلنا، بس دي مشيئة ربنا
أمسكت به “إيمان” وهو ينظر إليها بهذه النظرة المتوترة، وبحكم معاشرتها له، أدركت أنه يكذب منذ اللحظة الأولى، لم ينطق بالصدق أبدًا، فإيماءاته الزائدة، وانفعالاته المبالغ فيها لا يمكن أن تنطلي عليها وتخدعها، فيما مضى كانت تمرر له هذه التوافه، ولا تقف عندها كثيرًا، أما الآن فلم تستطع، كان داخلها يغلي منه، بينما استأنفت “نجاح” حديثها السخيف مع ابنها معاندة:
-أبوك لو عايز يجي براحته، إنما أنا لأ، خلاص أنا الناس دي ما بقوش يشرفوني.
أدار ظهره ليتطلع إلى الطريق قائلًا بارتباكٍ شبه متزايد:
-اللي تشوفيه يا ماما، بس استني أنا هجيبك، بدل ما تتوهي.
ردت عليه بحدةٍ، فارتاع من احتمالية سماعهن لنبرتها الحانقة:
-إنت مش سامعني يا “راغب”؟ بقولك مش رايحة في حتة.
قال وهو يكز على أسنانه، ودون أن يجرؤ على الاستدارة لمواجهتهن:
-فاهم يا ماما، وعارف والله.
فجأة هدأت نبرتها الحادة لتسأله في تحيرٍ، كأنما تتأكد مما تفقه إليه ذهنها:
-أهــا، هو إنت بتحور عليهم؟
أجابها باقتضابٍ:
-أيوه.
تنهدت مضيفة على مضضٍ:
-ماشي، شوف وراك إيه، وما تطولش عندك، اتحجج بأي حجة وتعالى عندي، أنا عملالك الأكل اللي بتحبه.
حمحم للمرة الثانية، وقال في جدية:
-حاضر، هكون جمبها .. وهبلغهم كلهم، سلام.
استدار بعدها لينظر إليهن قائلًا بحزنٍ متكلف:
-ماما انهارت لما عرفت.
رمــته “إيمان” بهذه النظرة النارية قبل أن تتحول أنظار الجميع بشكلٍ تلقائي تجاه باب البيت حينما سمع قرع الجرس، تولت مهمة فتحه قائلة بوجومٍ وهي تستند على مرفقي أريكتها لتدفع جسدها للأعلى حتى تنهض:
-أنا قايمة أفتح الباب.
أدارت المقبض، واستقبلت “إعتدال” التي أتت مجددًا وهي تحمل هذه المرة صينية عريضة مملوءة بالأطباق المطروح عليها قطعة من القماش النظيف، أسندتها على الطاولة، وتساءلت في اهتمامٍ:
-إيه يا غاليين؟ عاملين إيه دلوقت؟ ناقصكم حاجة؟
لم يجب عليها أحد، ومع هذا ظلت تثرثر كالعادة:
-أنا جبتلكم الأكل ده يقوتكم شوية، حاجة وصاية وربنا…
كاد الجميع أن يتجاهلها لولا أن أضافت في لهجة بدت عادية؛ لكنها انتزعت فتيل القنبلة لواحدة بعينها:
-ده غير إن كوبارتنا عمل صوان صغير للحريم، يعني علشان محدش يزعجكم ولا يدهوس البيت عندكم.
شاع الغضب في وجه “دليلة” بمجرد سماعها لكلماتها الأخيرة، شعرت بافتقادها للقدرة على ضبط انفعالاتها والتحكم في أعصابها، لن تتحمل المزيد مما يحدث، أو تقبل بما يفرض عليها دون مقاومة، فيما انتفض “راغب” محتجًا باستنكارٍ، وكأنها الذريعة التي كان ينشدها ليغطي على تقصيره:
-هو البني آدم خلاص بقى مفكر نفسه المسئول عن اللي يخصكم ولا إيه؟
هنا تدخلت “إيمان” لترد باستحقارٍ:
-طبيعي يعمل كده، إذا كان راجلنا الوحيد مش موجود.
التفت ناحيتها ليخاطبها في شيءٍ من العصبية:
-ده جاي ياخد اللقطة وبس، مش فارق معاه حد.
رمقته بنظرة أخرى مُحقرة من شأنه، لتهمهم بعدها في نفورٍ:
-يا ريتك خدتها إنت ولا سيبت غيرك يركب الموجة.
………………………………….
بأسفل البناية، وتحديدًا عند المدخل، ازدحم المكان بعدة رجال بدوا على أهبة الاستعداد للتشاجر في أي لحظة. أوقف أحدهم ممن يدينون بالولاء لعائلة “الهجام” ذاك الكهل الذي يتقدمه متسائلًا في لهجة خشنة:
-على فين العزم؟
اغتاظ “درويش” من اعتراض طريقه، وتولى أحد أتباعه الرد عنه، فبدا هجوميًا بعض الشيء تجاه من خاطبهم:
-وسع ياض إنت وهو، مش شايفين الحاج “درويش” قصادكم ولا اتعميتوا في نظرك؟
رد عليه بعدم مبالاة، وكأنه يتحداه:
-لأ أنا عارفه كويس، وجايلنا أوامر ما يخشش جوا.
صاح فيه “درويش” بزمجرةٍ غاضبة:
-أوامر من مين يا روح أمك؟
جاء الجواب مباشرًا:
-من الكوبارة.
تصاعد حنقه أكثر، فهدر به في استخفافٍ:
-هو العزا بقى فيه مين يحضر ومين ما يحضرش؟ ما تقصر في يومك ده.
بحذرٍ ملحوظ خاطبه الرجل:
-شوف يا حاج، إنت على راسنا، بس الكبير مانع حد يطلع فوق إلا بأوامره.
تكلم “درويش” بهدوءٍ ينافي ما يعتمل داخل نفسه الآن:
-طب عرفه إن الحاج “درويش” جاي يعمل الأصول ويعزي مرات صاحبه.
قبل باقتراحه مرددًا:
-ماشي.
خلال بضعة لحظاتٍ كان الرجل يهاتف رب عمله ليطلعه بإيجازٍ على ما يجري، ليأتيه الأمر واضحًا ومحددًا، فأعلمه به على الفور وهو يشير بيده متنحيًا للجانب:
-اتفضل يا حاج…
وقبل أن يلحق به أيًا من أتباعه أتم الرجل جملته:
-بس لواحدك.
صاح أحد الأتباع معترضًا بغيظٍ:
-نعم؟
رد عليه الرجل بتهديدٍ شبه مستتر:
-إنت مش محتاج سنيدة معاك يا حاج، يا إما نعتبر الواجب اتعمل.
فما كان من “درويش” إلا أن قبل على مضضٍ ليأمر من يحيطون به:
-خليكوا هنا.
وضع قدمه على أول درجات السلم ليتابع بصوتٍ أجش:
-ولو عوزتكم هنادي عليكم.
تكلم الرجل مخاطبًا هؤلاء المتحفزين ببرودٍ يحمل في طياته إهانة متوارية:
-منورين يا… رجالة!
……………………………….
دون تكليفٍ أو دعوة من أحدهم، تولت “إعتدال” من تلقاء نفسها مهمة استقبال الزائرين للبيت، فأقبلت تجاه الباب لتفتحه حينما سمعت الطرقات عليه، لتجد من سبق ورأته عبر العين السحرية لباب بيتها قبل فترة وجيزة متواجدًا عند العتبةٍ، شملته بنظرتها الفضولية وهو يلقي عليها التحية:
-سلام عليكم.
ردت بإيجازٍ قبل أن تسمح له بالمرور قائلة بوديةٍ:
-اتفضل يا حضرت.
وطأ “درويش” للداخل متسائلًا:
-الست “عيشة” مرات المرحوم موجودة؟
أشارت إلى حيث تجلس مرددة:
-أيوه، أهي.
ما إن رأته “عيشة” حتى اندفعت قائمة من موضع جلوسها، أظلمت تعابير وجهها للغاية، لتهب فيه بعاصفة كلامها الهجومية:
-إنت جاي تعمل إيه هنا؟ تشمت في موته؟
حاذر في رده، وقال وهو يشد من قبضته على رأس عكازه:
-بالراحة يا سِت، أنا جاي أعزي وماشي.
استغرب “راغب” من انفعاله الغريب، وتدخل بلا داعٍ ليقول ملطفًا:
-اهدي يا حماتي، ما يصحش الراجل موجود في بيتنا.
واتتها الفرصة للخروج من المنزل دون أن يعوقها أحد، فأسرعت “دليلة” ترتدي حذائها بعدما ضبطت حجاب رأسها، لتندفع بعنفوانها إلى الخارجة، بالكاد لحقت بها “إيمان” على بسطة السلم، فقبضت على ذراعها لتستوقفها متسائلة في جزعٍ:
-“دليلة” إنتي رايحة فين كده؟
نفضت يدها عنها قائلة بتصميمٍ:
-نازلة أوقف المهزلة اللي بتحصل تحت.
قصف قلبها بقوةٍ من طريقتها الانفعالية، وسألتها في توجسٍ شديد:
-هتعملي إيه؟
أجابتها بتهديدٍ صريح:
-هرجعهم مكانهم الطبيعي اللي المفروض يكونوا فيه .. السجن!
قالت كلمتها الأخيرة وهي تضغط على كل حرف فيها وكأنها تؤكد على حدوثه فعليًا. ارتعدت فرائصها مما نوت عليه، وحذرتها بخوفٍ حقيقي وهي تعاود الإمساك بها من مرفقها:
-إنتي هتودي نفسك في داهية؟ العالم دول شياطين، مش هيعتقوكي.
لم تصغِ إليها، ودفعتها بشيء من القوة لتفلت منها، مرددة بعنادٍ حانق:
-حاسبي يا “إيمان”، أنا مش هسمح للأشكال الضالة دي تاخد عزا أبويا.
حاولت اللحاق بها هاتفة في مزيد من الخوف:
-“دليلة”، اسمعيني بس، وخلينا نفكر بالعقل.
هبطت قافزة على الدرجات وإصرارها العنيد يسبقها:
-معدتش فيا عقل.
لم تتمكن “إيمان” من إيقافها، وتسمرت في موضعها، بعدما قيدها الخوف، لتظل نظرتها الفزعة ترافقها حتى لم تعد تراها، آنئذ نال منها التردد، فلم تعرف إن كان عليها أن مواصلة اللحاق بها، أم العودة وإخبار والدتها بما عقدت العزم عليه.
………………………….
كانت تسابق الريح في قفزها على درجات السلم، فغضبها المندلع بداخلها كان يحفز الأدرينالين بجسدها ليقضي على أي شعور بالرهبة، فوقفت أمام من يسدون عليها الطريق أمام المدخل بغير ارتعابٍ محاولة المرور من بينهم، وأحد رجال عائلة “الهجام” يسألها:
-على فين يا أستاذة؟
صرخت فيه تهدده باهتياجٍ:
-وسع من قدامي أحسنلك.
أصر على إيقافها قائلًا بخشونةٍ:
-احنا موجودين هنا بأوامر الكوبارة.
انفجرت صائحة فيه بجنونٍ وهي تطوح بيدها في الهواء:
-أوامره دي تمشي على أي حد إلا أنا…
ثم لكزته في صدره مكملة وصلة تهديدها باستنفارٍ تام:
-وسع منك ليه بدل ما تلاقي بوليس النجدة فوق دماغك.
تدخل أحد أتباع “درويش” في المشادة الكلامية الدائرة بينهما قائلًا بسماجةٍ:
-عدي الأبلة ياض.
حذره بغلظةٍ وهو يوكزه في كتفه بقوةٍ:
-وإنت مالك بتدخل ليه؟
اعتبر الأمر إهانة شخصية، فرد فيما يشبه التحدي:
-لأ مالي ونص.
بدأ الاثنان في التلاحم يدويًا، لينضم إليهما البقية، وكأنهم يترقبون هذه اللحظة منذ أدهر، لتنتهز “دليلة” فرصة انشغالهم بالتناحر الذكوري بين بعضهم البعض لتتسلل إلى الخارج بخفةٍ وسرعة، انتبه إليها أحد أتباع “الهجام”، فأخرج هاتفه المحمول من جيبه، ليعبث به على الفور قبل أن يلصقه بأذنه مرددًا في عجالةٍ:
-ريس “زهير”، في حوار حاصل لازمًا تاخد بيه خبر.
سأله الأخير مستفهمًا بغرابةٍ:
-الكلام على إيه؟
رد فورًا وبقلقٍ محسوس في صوته:
-بنت المرحوم خرجت، وشاكلها مش ناوي على خير.
استطاع توقع الأسوأ من رنة الحدة التي استحوذت على نبرته:
-اقفل، وأنا هتصرف.
…………………………..
مدفوعة بما يعتريها من مشاعر متحفزة، ومتأججة، انطلقت “دليلة” في طريقها قاصدة الذهاب إلى قسم الشرطة، لتبلغ عن هؤلاء الملاعين، متهمة إياهم بالبلطجة، وفرض السطوة والعنف على الأبرياء دون أن تعبأ للحظة بردة فعلهم إن علموا بالأمر .. وحتى لا يعترضها أحد، انحرفت عن مسارها الرئيسي، محاولة الانزلاق عبر الأزقة والطرق الضيقة حتى تصل إلى وجهتها.
خرجت أنفاسها حارقة، ملتهبة وهي تخاطب نفسها في ازدراءٍ حانق:
-مابقاش إلا المجرمين والحرامية هما اللي يقعدوا في عزا أبويا!!
ظلت على تحفزها الهائج وهي تنعطف عن زقاق آخر مدمدمة مع نفسها بوعيدٍ:
-إن ما طربأتها على دماغهم!
لم تشعر بذلك الذي ظهر من العدم فجــأة، ليقطع المسافة الفاصلة بينهما في خطواتٍ معدودة، لينقض عليها من الخلف مكممًا فمها بغتةٍ، ومانعًا إياها من الصراخ طالبة للنجدة، قبل أن يلتف ذراعه الآخر حول خصرها ليرفع جسدها عن الأرضية، لتنتفض مقاومة بشراسةٍ تكرار محاولة اختطافها قسرًا، حملها بخفةٍ وسار تجاه إحدى السيارات التي تنتظره عند الناصية، ليقوم أحد الرجال بفتح الباب الخلفي، قبل أن يجبرها على ركوبها بتصميمٍ. ظلت تقاومه بكل ما أوتيت من قوة، لتشعر بلهيب أنفاس حارقة تلفح بشرتها من الجانب حينما تكلم “زهير” بصوته المألوف، بالقرب من أذنها في هدوء يشبه ما قبل العاصفة:
-اهدي، إنتي معايا …………………….. !!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى