روايات

رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان البارت السادس عشر

رواية فوق جبال الهوان الجزء السادس عشر

فوق جبال الهوان
فوق جبال الهوان

رواية فوق جبال الهوان الحلقة السادسة عشر

ضجر وفاض به الكيل من روتين المصالح الحكومية المستهلك للوقت، وللصحة، والأعصــاب؛ لكنه كان مضطرًا لإنهاء بعض الإجراءات الخاصة بعمله، وإلا لظل يدور في هذه الدوامة التي لا تنتهي. وقف “موجي” أمام بوابة المبنى الإداري التابع لهذه الهيئة الحكومية يلهج من فرط الإرهــاق، فها هو يوم جديد يمضي عليه وهو يكافح لتخليص ما لديه من مهامٍ إلزامية، التفت إلى يساره عندما خاطبه زميله متسائلًا في شيءٍ من الاستفهام:
-لسه فاضل حاجات تانية تتختم ولا خلاص كده؟
بعد زفرة بطيئة معبأة بتعب اليوم أجابه:
-الحمد لله، دي كانت آخر حاجة.
رد عليه باسمًا:
-ربنا كريم…
ثم أشار بيده نحو أحد الأكشاك الصغيرة متابعًا:
-تعالى نشرب حاجة قبل ما نركب القطر، لسه قدامنا شوية على ما يجي المحطة.
استحسن اقتراحه، وعلق باقتضابٍ وهو يغلف المظروف البلاستيكي الذي وضع بداخله كافة أوراقه.
-ماشي.
ابتاع له زجاجة من المشروب الغازي، فوقف كلاهما على الناصية يرتشفان هذا السائل الرطب بتلذذٍ، ليبادر زميله بسؤاله في فضولٍ مزعج:
-مافيش جديد عن أختك؟
قست نظراته، وقال وهو يحدق في نقطة وهمية بالفراغ:
-يا مين بس يعترني على ابن الكلب اللي غواها!!!
كز على أسنانه مختتمًا جملته:
-وساعتها هقدر أوصلها.
وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة، ولُبي دعائه في الحال، فلمح صاحب هذا الوجه المألوف على مسافة عدة أمتارٍ وهو يتشاجر مع أحد سائقين سيارات الأجرة رافضًا إعطائه مالًا إضافيًا .. صوته المرتفع لفت الأنظار إليه، خاصة وهو يهدر بانفعالٍ:
-شايفني مختوم على قفايا، ولا جارر الجاموسة ورايا؟!! إنت خدت حقك وزيادة.
ترجل السائق لمواجهته مبديًا إصراره على أخذ كامل الأجرة بدلًا من تلك المنقوصة التي أعطاها له:
-أنا بقالي ساعة سايق بيك، وأوصلك من مشوار للتاني، وإنت عايز تلهفني؟
رد بتحدٍ:
-هو ده اللي عندي!
أمعن “موجي” النظر في وجهه بتركيزٍ شديد، سرعان ما غامت تعابيره، وصارت نظراته أكثر قتامة، إنه نفس اللعين الذي بات واثقًا من تورطه في هروب شقيقته من كنفه، ألقى بزجاجة المشروب البارد في عصبيةٍ، غير عابئ بباقي السائل الذي تناثر أرضًا، ثم هرع إليه لينقض عليه ممسكًا به من تلابيبه، فصُدم الأخير لرؤيته، واتسعت عيناه في ذهول مرتاع، فقد كان آخر من يتوقع اللقاء به في هذا المكان!
ردة فعله العفوية تجاهه فور أن رآه جعلته يتقين من تورطه في هروبها، هزه “موجي” بعنفٍ وهو يسأله في صوتٍ عكس غضبه الجم:
-فين أختي يا ابن الكلب؟
تلبك، وتوتر، وصارت بشرته شاحبة نوعًا ما، حاول التماسك، وإظهار صلابة زائفة مدعيًا بالكذب:
-أخت مين؟ أنا أعرفك يا جدع إنت؟
هدر به بجنونٍ وهو لا يزال ممسكًا به من ياقته، رافضًا إفلاته:
-اعمل فيها عبيط!
حملق فيه بترددٍ، فواصل “موجي” هجومه اللفظي المهدد:
-فين “مروة” يا ابن الـ ….؟!!!
حاول “بغدادي” انتشال قبضتيه المحكمتين عنه، وهتف نافيًا باستنكارٍ مصطنع:
-مـ.. معرفش مين دي! هي تلاقيح جتت!
استشاط غضبًا على غضب، وجنَّ جنونه، فاشتدت قبضتيه، وصرخ في وجهه متوعدًا:
-أنا مش سايبك النهاردة إلا لما أوصل لأختي.
حاول المناص منه مرددًا في توجسٍ قلق:
-يا عم سيبني، إنت جاي تقول شكل للبيع؟!
رفض تحريره، واستمر في تهديداته قائلًا:
-انطق وإلا نهايتك على إيدي النهاردة، ومش هيهمني أخش فيك وفيها اللومان!
تابع السائق المشاحنة الدائرة بينهما باستغرابٍ، ومع ذلك لم يتدخل، فقد كان يستحق هذا الحقير التقريع، في حين أسرع زميل “موجي” لمؤازرته، وخصوصًا وهو يعلم مدى تأثير ما فعلته شقيقته عليه.
حاول “بغدادي” استجداء المارة والاستغاثة بهم لمساعدته، فهلل عاليًا:
-يا ناس حوشوه، هيموتني!
قبل أن يقدم أحدهم على تقديم يد العون له، وإنقاذه من براثنه، هتف “موجي” عاليًا موضحًا سبب صدامه معه:
-محدش يتدخل، ابن الكلب ده خطف أختي، ومعرفش ليها طريق.
ضرب أحدهم كفه بالآخر مرددًا:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
بينما قال آخر في شيءٍ من التلطيف:
-حاولوا تتفاهموا سوا، برضوه دي حُرمة بيوت.
بنفس أسلوبه الكاذب والمراوغ، صاح “بغدادي” وهو يحاول نفض يديه عنه:
-ده كداب، أنا معرفش هي فين!
زمجر “موجي” بحنقٍ فيه:
-وأنا المفروض كده أصدقك؟
استفزه برده النزق:
-وأنا مالي بيها أصلًا، وبعدين أختك كانت مدوراها، جاي تحاسبني ليه.
لحظتها فقط كور قبضته، وانهال عليه بلكمة عنيفة في وجهه، ليتبعها بأخرى أكثر ضراوة، جعلته يترنح، ويشعر بهذا الوميض الساطع في رأسه، ناهيك عن آثارهما التي ستظهر على ملامحه، ليهدر بعدها بسخطٍ مصحوبٍ بالتهديد:
-آه يا ابن الـ ….، قسمًا بالله ما هحلك من إيدي إلا لما توديني عندها، يا إما هاخد روحك!
كاد يفتك به من شدة انفعاله، فقرر زميله التدخل لمنعه من تصعيد الأمور فيما قال وهو يحاول الفض بينهما:
-بالراحة يا “موجي” مش كده!
ازداد الأخير إصرارًا على الانتقام منه، واستخلاص ما يريد من معلومات منه، لذا هتف معاندًا:
-مش سايبه النهاردة…
ثم أمره وهو يشير له بعينيه:
-إيدك معايا!
سحبه كالبهيمة نحو سيارة الأجرة مدمدمًا:
-أنا عندي اللي يخليه ينطق ويقر بكل حاجة.
قاومه “بغدادي” قدر استطاعته، وهتف متسائلًا بذعرٍ بعدما أدرك خطورة الوضع:
-إنتو واخديني على فين؟
توعده بغموضٍ:
-هتعرف يا ابن الـ….، ما تستعجلش على رزقك.
مجددًا استغاث “بغدادي” بالمارة مناديًا في عجزٍ:
– يا ناس إلحقوني.
مستخدمًا قوته طرح “موجي” هذا المقيت على مقدمة السيارة بعدما أدار ذراعه خلف ظهره ليتمكن من تقييده، وإخضاعه له، ثم حدق في وجه السائق متسائلًا بصوتٍ محموم:
-فاضي يا أسطى؟ هديك فوق حقك بزيادة.
وكأن الفرصة قد واتته للتشفي في ذلك المستفز، فقال بترحابٍ مشيرًا بيده، وهذه الابتسامة الشامتة تعلو ثغره:
-ولو مش فاضي أفضالك.
سرعان ما استقل في مكانه خلف المقود، وانطلق بسيارته إلى حيث يريد “موجي” بعدما دفع الأخير بأسيره الذليل للمقعد الخلفي عاقدًا العزم على عدم تركه مهما كلفه الأمر.
……………………………………
الأخبار السارة تأتي تباعًا، فها قد ورده اتصالًا هاتفيًا يفيد بتلقيه دفعة سخية من المال جراء إنجازه لإحدى تلك المهام المستعصية التي كُلف بها، فسار بتبختر وقد عاد إلى موطن نفوذه بالتَبَّة، سعل بصوتٍ مسموع أثناء سيره في الردهة لكون إحداهن تقوم بكنس الأرض فأثارت سحابة من التراب في محيط الأرجاء. نهرها “كرم” بصوته الخشن والأجش:
-النضافة واخدة حدها أوي معاكي، مش شيفاني ماشي؟
في التو اعتذرت منه مهابة غضبته:
-حقك عليا يا ريسنا!
أمرها بإشارةٍ من إصبعه:
-نضفي في حتة تانية.
هزت رأسها في طاعة تامة وهي تضم المقشة إلى جانبها:
-حاضر يا كبيرنا.
واصل “كرم” سيره الهادئ إلى أن وصل إلى غرفته، فتح الباب ليلج إلى الداخل ملقيًا نظرة حادة على “مروة” التي انتفضت فزعًا من على الفراش بمجرد أن رأته، صفق الباب خلفه متسائلًا في نقمٍ، وعيناه لا تحيدان عنها:
-إيه مالك؟ شوفتي بعبع؟
انكمشت في الزاوية رهبةٍ منه، وحدقت في وجهه بذعرٍ لا يمكن إنكاره، في حين بادلها بنظرة غير مبالية قبل أن يتجه إلى الحمام ليغسل وجهه وكفيه، وصوته الأمر يتردد في صدى الغرفة:
-افردي سحنتك شوية بدل بوز النكد اللي ضرباه في وشي ليل نهار؟
لم تجرؤ على التعليق، واكتفت بمراقبته وهو يتحرك في أرجاء الغرفة، تابعته بتلبكٍ شبه فزع وهو ينتزع ثيابه الفوقية ليبقى عاري الصدر، خفضت عيناها على الفور، ليطالعها بهذه النظرة الغريبة قبل أن يدنو منها، ارتجف كامل بدنها من قربه المصحوب دومًا بما يصيبها بالاشمئزاز والبغض والنفور. شعرت بملمس أصابعه على ذراعها فاقشعر بدنها وانتفضت كأن حية لدغتها، شعر بالرعشة القوية التي نالت منها، وحدق فيها بنظرة قاتمة غير مقروءة، لتسأله بعدها بصوتٍ متذبذب ينم عن خوفها الواضح منه:
-عايز إيه مني؟
تفاجأت به يطبق على فكها بيده، اعتصره بأصابعه في قوةٍ وتحكم، وراح يدير وجهها ببطءٍ تارة لليمين، وأخرى لليسار وكأنه يفحص ملامحها عن كثب، تقلصت عضلات وجهها عندما شعرت بأنفاسه تلفح بشرتها كلهيبٍ حارق، توقعت أن ينال مبتغاه منها قسرًا كعهده معها؛ لكن للغرابة باغتها ودفعها بخشونةٍ وقسوة للخلف قائلًا بنفورٍ تعجبت منه:
-لأ خلاص، أنا زهقت، الصنف بتاعك معدتش بيكيفني!
غمرها شعورًا قويًا بالارتياح، فعزوفه عنها كان كطوق النجاة لها، فبدت كلماته وإن كانت مسمومة للبدن كإعطائها صكًا لنيل الحرية بالنسبة لها، فتنفست الصعداء، ورددت بخفوتٍ:
-الحمد لله.
ألقى بثقل جسده المتعب على الفراش ليتوسطه، وصوته شبه الناعس يأمرها:
-غوري برا الأوضة، أنا مزاجي عنب، وعايز أنام من غير ما ألاقي حاجة تنكد عليا.
هسهست بصوتٍ خفيض وهي تنظر إليه من طرف عينها قبل أن تفر هاربة من الغرفة:
-يكون أحسن برضوه.
كان على وشك الإطباق على جفنيه ونيل قسطًا من النوم لولا أن صدح هاتفه برنة الرسائل المميزة، التقطه من جيب بنطاله الذي لم يبدله بعد، ورفعه إلى عينيه نصف المفتوحة، فقرأ رسالة أخرى تفيد بملء حسابه بالمزيد من النقود، ابتهجت أساريره أكثر، وهتف بنشوةٍ وسرور:
-أيوه بقى، هو ده الكلام، الفلوس تجيب فلوس!
……………………………..
كانت كمن يجلس على أتونٍ من جمرٍ متقد، فقد تم إلقاء كافة محتوياتها خارج غرفتها، وكأنها نكرة، لا تملك أدنى حق هنا، لتضطر مذعنة على الانتقال لإحدى الغرف المخصصة لاستقبال الضيوف المميزين، فيما استقرت “وِزة” في موضعها بتجبرٍ وغرور، ها هو ناقوس إعلان الحرب قد دق بينهما، والبقاء هنا للأقوى فقط!
راحت “توحيدة” تضرب على فخذيها، وعلى صدرها وصوتها المغلول يهدر عاليًا:
-بقى دي أخرتها؟ أطرد من أوضتي عيني عينك؟
أصبحت نبرتها أكثر حرقةٍ وهي تتابع شكواها فيما يشبه العجز:
-خلاص مابقاش ليا لي سُلطة في البيت ده؟
ربتت “خضرة” على ظهرها برفقٍ محاولة التهوين عليها بكلماتها المواسية:
-اهدي يا أبلتي، ضغطك كده يعلى، وده مش حلو علشانك!
رفعت وجهها لتنظر إليها صائحة في حنقٍ وغضب:
-أنا هموت منقوطة من البت دي، وربنا ما هسكتلها.
ردت عليها بمكرٍ:
-أخد الحق حِرفة، وإنتي سيد من يعمل كده، وما تنسيش إن المعلم “عباس” بيعشقك، وبيموت في التراب اللي بتمشي عليه.
كورت يدها، وضغطت على أصابعها حتى ابيضت سلايماتها مغمغمة من بين أسنانها:
-ده اللي مصبرني، مش عايزة أخسره.
أبدت استحسانها بتعقلها قائلة:
-هو ده الكلام يا أبلتي.
من جديد صرت “توحيدة” على أسنانها هاتفة بتوعدٍ وهي ترفع يدها لتمسك بخصلة من شعرها:
-وحياة مقاصيصي دول يا بنت الأبالسة، أنا هسويكي على الجانبين قبل ما تقولي حقي برقبتي!
………………………………….
حينما بدأت في الاستفاقة من سُباتها، شعرت بثقلٍ شديد في مداركها، كأنما تجد صعوبة في استعادة وعيها، وبصداعٍ موجع يضرب في رأسها، استغرقها الأمر عدة دقائق حتى باتت واعية تمامًا، لترفع جسدها عن السرير الذي كانت راقدة عليه، تلفتت حولها في ذعرٍ وخوف، فهذا المكان مجهول لها، لم تكن فيه من قبل.
ما لبث أن بدأت ذاكرتها تنشط، وتستعيد تفاصيل ما خاضته، لتشهق بعدها صارخة في هلعٍ قبل أن تقفز كالمصعوقة من على السرير وهي تتفقد ثيابها، تنهدت في راحة لكونها لا تزال بنفس ملابسها، إذًا ما دار في رأسها من هواجس مرعبة -لهنيهةٍ- بشأن تعرضها للاعتداء ليس صحيحًا .. إلى الآن. تجمدت في موضع وقوفها للحظات ريثما تستكشف الوضع، وأخذت تدور ببصرها في الأرجاء، وهذا السؤال الملح يتردد في رأسها “أين أنا؟”
لم تترك “دليلة” نفسها لحيرتها كثيرًا، واندفعت تجاه الباب لتفتحه؛ لكنها تفاجأت به موصدًا، فطرقت عليه بعصبيةٍ وهي تصيح في نبرة صارخة:
-افتحوا الباب ده يا مجرمين!
واصلت الدق بعنفٍ على الكتلة الخشبية، وصياحها يزداد علوًا:
-إنتو خاطفني ليه؟
أخذت تتوعد بتهديدٍ صريح، وكأن ذلك قد يجدي نفعًا بأي حال:
-أنا مش هسيبكم، هبلغ عنكم البوليس!
ما لبث أن اختنق صوتها، وبدا شبه باكٍ وهي تكمل:
-إنتو مش بني آدمين!
بعد عدة دقائق من الصراخ والصياح، وقبل أن تيأس كليًا من سماع أحدهم لها، أتاها صوتًا أنثويًا من الخارج يطلب منها بتهذيبٍ:
-لو سمحتي إهدي.
انتفضت هادرة بها وهي تضرب بيدها التي احمرت من أثر الطرق المتواصل:
-افتحي الباب بقولك.
ردت عليها بهدوءٍ:
-للأسف معنديش أوامر بده.
اغتاظت من ردها، وصرخت فيها بتهديدٍ أرعن:
-افتحي بدل ما أموتلكم نفسي.
رجتها مجددًا بتعقلٍ:
-لو سمحتي اهدي، ولما يجي البيه “زهير” هيفهمك كل حاجة!
استفزها وصفه، فعلقت في احتقارٍ سافر:
-بيه، بقى البلطجي المجرم ده اسمه بيه؟!!!
تألمت قبضتها من كثرة الطرق، ففركتها بيدها الأخرى، وخاطبت نفسها في عزمٍ:
-لازم أخرج من هنا، أنا مش هستنى لما يعمل جريمته فيا!
…………………………………
مدفوعًا بنزعة الأبوة المتعمقة فيه، وصل “فهيم” إلى منطقة التَبَّة العالية وهو يرغي ويزبد بغضبٍ متصاعد، يطيح بكل ما يقابله بقبضتيه، وكأنه امتلك قوة خفية تحركه، إلى أن وصل إلى مقر إقامة “الهجام”، لحظتها وقف في الباحة الأمامية للمنزل، لترتفع نبرته المجلجلة:
-بنتي فين يا شوية بلطجية؟ هاتولي بنتي!
اعترض طريقه أحدهم، وحذره بغير مزاحٍ:
-بالراحة على نفسك يا عم الحاج، إنت مش هتستحمل زقة من حد فينا.
استشاط غضبًا وغيظًا من الاستخفاف به، ووكزه في صدره بعنفٍ قبل أن يصيح بحدةٍ:
-وسع منك ليه، أنا عايز بنتي! فين اللي مشغلكم؟
لم يكن قد نام بعد تلقيه الأنباء المحفزة، وبالتالي كان على مقربةٍ من هذا الذي لا يكف عن الصياح، فخرج إليه متسائلًا بتهكمٍ، ونظرة استحقارٍ تعلو وجهه:
-يادي أم الدوشة والصداع، مين اللي عمال ينعر كده؟!
لو كان ما يحدث مع أحد غيره لما تعامل بهذه الطريقة الطائشة المندفعة؛ لكن الطرف المتورط في هذه الكارثة ابنته الغالية، لذا بديهيًا غاب الخوف عنه، واندفع تجاهه ليمسك به من فانلته البيضاء متسائلًا في حرقةٍ وانفعال:
-فين بنتي؟
دون عناءٍ أزاح قبضتيه عنه، ودفعه بقسوةٍ للخلف ليرد عليه متسائلًا في ازدراءٍ:
-مالك داخل بزعابيبك علينا؟ بتزعق وقالب دماغنا، هو احنا طُرش؟!!
ظلت نبرته على حدتها وهو يخاطبه:
-أنا عايز بنتي، وإلا هروح فيكو في داهية.
طوح بيده أمام وجهه قائلًا في شيءٍ من التحدي المشوب بالسخرية:
-ما تروح هو حد حايشك؟! السكة من هناك لو مش عارف!
كانت أعصابه على المحك، وبالتالي أي محاولة لاستفزازه، واستثارة أعصابه كانت لتنجح على الفور، وهذا ما حدث، بلغ “فهيم” ذروة غضبه في ثوانٍ معدودة، لينفجر فيه ثائرًا، وقد اندفع تجاهه ليهاجمه:
-آه يا شوية كلاب يا أنجاس.
هذه المرة تمكن “كرم” من صده، وأمسك به من معصميه مهددًا في غلظةٍ، بعدما صارت تعبيرات وجهه غائمة للغاية، ونظراته كساها السواد الأعظم:
-إيدك لتدفنها، وأنا ما بيفرقش معايا راجل أد أبويا، من عيل بريالة!
لدهشته، لم يشعر أحدهم بتواجد “راغب” مع هذا العجوز الذي يبحث عن ابنته إلا حينما تكلم وهو يحاول التدخل لإبعاد قبضتي “كرم” عن حماه المغلوب على أمره:
-ابعد عنه، هو مش أدك!
وقتئذ التفت “كرم” تجاهه ليطالعه بهذه النظرة الهازئة قبل أن يزدريه بوقاحةٍ، وعلى رؤوس الأشهاد:
-الله، إنت جبت النطع معاك! يا زين ما نقيت يا حاج!
مرة ثانية يتعرض “راغب” للتجريح والإهانة، ولا يستطيع الرد حفظًا على حياته، فقال بغيظٍ مكبوت:
-احترم نفسك واتكلم بأدب.
أرخى “كرم” قبضتيه عن “فهيم”، واستدار كليًا ليواجه هذا اللزج متسائلًا في تحدٍ واضح:
-ولو محصلش، هتعمل إيه؟
أطبق “راغب” على شفتيه بحقدٍ، وتراجع خطوتين للخلف، ليقف وراء حماه، فما كان من “كرم” إلا أن يعلق ساخرًا، وبإهانةٍ فجة:
-على طول كده جبت ورا، ما ده تمامك يا (…)!
بحسبة عقلية سريعة أدرك “فهيم” أن العنف، واستعراض القوة، وإن كانت زائفة، لن تجدي نفعًا مع هؤلاء الأشرار معتادي الإجرام، فقلما تجاوبوا مع من يهددهم، وهو ليس بذي شأن ليضعوه في الاعتبار، لذا بدل نبرته الحادة إلى أخرى مستسلمة راجية وهو يحادثه:
-يا معلم احنا مش بتوع مشاكل، ولا لينا دعوة بحواراتكم، أنا عايز بنتي اللي بسترجاها من الدنيا، هي مالهاش ذنب في حاجة…
عاود “كرم” النظر إليه، فأكمل الأخير في توسلٍ مستجديًا مشاعره الإنسانية، إن كان حقًا يمتلك مثلها، والدموع قد علقت في عينيه:
-وأنا قولتلك قبل سابق أنا مستعد أدفع اللي تؤمر بيه، بس أخد بنتي، ده أمها هيجرالها حاجة من ساعة ما علمت بالخبر.
قابل طلبه ببرودٍ تام، وكأن قلبه مصنوعًا من الحجر:
-مكانش يتعز!
انعكس الذعر على ملامحه، فاستطرد متسائلًا في فزعٍ انتشر في كل أوصاله:
-قصدك إيه؟
رفع “كرم” حاجبه للأعلى، ورمقه بنظرة ذات مغزى، مفاداها أنه لا مناص من تخليصها من هذا الجحيم، ليؤكد علنًا على هاجسه الأعظم على الإطلاق بطريقته الفجة في الكلام:
-بنتك دخلت مزاج أخويا، وعجباه.
انسحقت روحه، وهوى قلبه بين قدميه متسائلًا، وعيناه تتسعان بشدة:
-يعني إيه؟
هذه المرة جاءته الإجابة من الخلف، ليدير رأسه ناحية صاحب الصوت القوي:
-يعني أنا هتجوزها!
تدلى فكه للأسفل مرددًا في ذهولٍ ممزوج بالارتعاب:
-إيه؟!!
تقدم “زهير” تجاهه مخاطبًا إياه بجديةٍ وتصميم:
-وبطلب إيدها منك.
ثم مال ناحيته ليقول بالقرب من أذنه، فيما تابع “كرم” تهديده المسموع إليه بتفاخرٍ:
-والأحسن توافق على ده بالرضا، بدل ما أعمل اللي عايزه بالغصب.
لحظتها علق “كرم” مُظهرًا دعمه الكامل لشقيقه وهو يرفع كفيه في الهواء:
-سمعت، وكله بالحلال!
…………………………………..
في مكانٍ مقفر، بالطريق الصحراوي، حيث تتواجد به فقط العنابر المخصصة لتربية الدواجن والطيور المختلفة، احتجز “موجي” ذلك اللعين في واحدٍ مهجورٍ منهم، فقام بتقييده من يديه وقدميه، وألقاه أرضًا لينهال عليه ضربًا وركلًا ولكمًا إلى أن أعطاه ما يرغب في معرفته. اعتدل بعدها في وقفته، ومسح الدماء العالق بأصابعه في منديل قماشي أخرجه من جيبه، ثم استطرد متوجهًا بسؤاله إلى زميله الذي رافقه:
-كتبت العنوان؟
أجابه مومئًا برأسه:
-أيوه يا “موجي”…
ثم سلط نظره على ذلك الراقد في دمائه متسائلًا:
-والبغل ده هنعمل فيه إيه؟
قبل أن يبادر بالرد، التفت كلاهما ينظران إلى “بغدادي” وهو يتكلم بلهاثٍ، وخيوط الدماء تنزف بغزارة من كل فتحة في وجهه:
-أنا دلتكم على طريقها، اعتقوني بقى!
بعينين تقدحان بالشر تطلع إليه “موجي” قائلًا بوعيدٍ مهلك:
-مش قبل ما أخد روحك.
آنئذ اختلجت تعبيرات وجهه أمارات الذعر الشديد، خاصة وهو يراه يقترب منه حاملًا بيده صفيحة مملوءة بالوقود، أفرغ محتوياتها على جسده بالكامل، فانتفض الأخير مستعطفًا إياه في هلعٍ:
-حرام عليك، هي اللي اختارت تهرب بمزاجها، أنا مغصبتهاش على حاجة.
ألقى بالصفيحة بعيدًا بعدما انتهى من صب ما فيها عليه، ليقول في نبرة مميتة، خالية من أدنى ذرات الإشفاق:
-لسه الدور جاي عليها، بس الأول أخد حقي منك وأغسل عاري بإيدي.
توسله بشدةٍ لعله يصفح عنه:
-لأ، أبوس إيدك ارحمني.
لم تأخذه به أي رأفة، وقال وهو يشعل طرف القداحة التي أخرجها من جيبه:
-اطلبها من اللي خلقك!
ثم ألقاها عليه ليتوهـــــج جسده دفعة واحدة، وتلتــــهم النيران المستعرة كل جزء فيه بنهمٍ وجوع، وكأنها كانت تتوق إلى ذلك، ليصدح صوته بصيحاتٍ صارخة رجت جدران المكان، إلى أن خبت بالتدريج، وانقطعت، بينما استمرت ألسنة اللهب تحيل جسده إلى فحمٍ ورماد.
حدق زميله مصدومًا من جراءته، وعقب بعدما ابتلع ريقه:
-يا جبروتك يا “موجي”!
بنفس التعبير القاسي الشرس أخبره في وعيدٍ أشد وطأة:
-ولسه الملعونة دي كمان! مش هرتاح إلا لما أســــــ.ـيح دمها!
………………………….
كل شيء كان متوقعًا، إلا أن يكون مصير ابنته هكذا، السقوط في ظلمات هذا العالم المستبد بلا رجعة، أي نجاة لها منه؟ كانت الصدمة أقوى من قدرته على الاحتمال، فخــرَّ جسده وتهاوى، ليتلقفه “زهير” بين ذراعيه، فيما قال “كرم” في استهزاءٍ:
-امسك نفسك يا حاج، ده بيبشرك مش جايبلك خبرها!
بصوتٍ ضعيف، يكاد يكون مسموعًا همهم “فهيم” في عجزٍ:
-إلا بنتي!
رد عليه “زهير” بهدوءٍ وهو يعاونه على التمدد أرضًا:
-ده لمصلحتها.
أمسك به “راغب”، وأسند ظهره على صدره بعدما جثا على ركبته مرغمًا، لئلا يبدو غير مبالٍ بما يصير مع حماه المكلوم، فيما نظر الأخير في انكسارٍ، وراح يتساءل بحسرةٍ:
-طب أقول لأمها إيه؟
أطلق “كرم” ضحكة عالية، ليقول بعدها بتهكمٍ مشوبٍ بالتحذير:
-خليها تبل الشربات، بدل ما تطلع عليها القرافة!
سال الدمع العاجز من طرفه وهو يقول فيما يشبه النعي:
-بنتي راحت بلاش.
كعهده في السخرية والاستهزاء بكل شيء، علق عليه “كرم” مشيرًا بيده:
-لأ اطمن، هنديك وزنها دهب، دي هتبقى مرات “زهير الهجام” وده مش أي حد!
تحولت عينا “فهيم” نحو “زهير” يسأله في نبرة لائمة، وقد غطى الحزن العارم كل ملامحه:
-اشمعنى بنتي أنا؟ في ألف واحدة غيرها.
أتاه رده مقتضبًا وقاطعًا:
-عجباني!
وقبل أن يسأله مجددًا أصدر أمره إليه أولًا:
-روح جهز نفسك للفرح، المأذون شوية وجاي.
فيما وجه “كرم” أوامره لأحد أتباعه ممن شهدوا على هذه المواجهة:
-إنت ياض وصل أبو العروسة لبيته، وعرف الدنيا كلها بجواز المعلم “زهير”.
في التو انصاع له:
-وجب يا ريسنا.
عاون “راغب” حماه على النهوض، وخاطبه بصوتٍ خافت في استياءٍ:
-بينا يا عمي، التفاهم مع الناس دي صعب.
رد عليه مستنكرًا موقفه المحايد:
-وأسيب بنتي ليهم؟
أخبره ببساطةٍ، وكأن الأمر لا يعنيه بالمرة:
-خلاص مصيرها بقى معروف، واحنا مش هنقدر نعملها حاجة.
………………………………
يبدو أنه خطط لكل شيءٍ بدقةٍ، فالنوافذ بهذه الغرفة موصدة بإحكام، حتى الحمام الملحق بها كانت نافذة صغيرة وضيقة، لا تتسع لمرور أي جسد بها، فأصبح لا سبيل لها للهروب إلا عن طريق الباب الوحيد المغلق، لهذا باءت خطتها بالفشل قبل أن تشرع فيها.
ذرعت “دليلة” الغرفة جيئة وذهابًا، واعتصرت ذهنها عصرًا محاولة التفكير في طريقة تخلصها من مختطفها، وقعت عيناها على المزهرية، وقررت استخدامها في ضربه على رأسه، بعدما تختبئ بجوار الباب، فحينما يفتحه، ويلج للداخل تنهال بها عليه لتفقده الوعي، ومن ثم تتمكن من الخروج من هذا الجحيم، وبعدها تبحث عن وسيلة للعودة إلى أهلها أو حتى اللجوء للشرطة لحمايتها.
ظلت تنتظر لوقت طويل، لا تعلم كم مضى عليها وهي تترقب مجيئه، تأهبت كليًا وتهيأت للهجوم حينما سمعت وقع خطوات أقدام تقترب من الباب، أمسكت بالمزهرية بكلتا يديها، وانتظرت في بقعة مناسبة تمكنها من الانقضاض عليه بشكلٍ مفاجئ.
حبست أنفاسها في ترقبٍ، وتحينت فرصتها الوحيدة للتحرر من الاحتجاز القسري.
لا تعرف من أين أتتها تلك الجسارة وهي تقدم فعليًا على تنفيذ ما استعدت له، فبمجرد أن فتح “زهير” الباب، اندفعت “دليلة” ناحيته من الخلف، وهي تهوي بيديها الممسكة بالمزهرية على رأسه، لتضربه بقوةٍ وقسوة، فتفاجأ من هجومها المباغت عليه، ولم يتمكن من تفاديها في الوقت المناسب، لتتهشم عليه، ويتأوه متألمًا من الضربة القاسية.
مدفوعة بالأدرينالين الحماسي، انطلقت إلى خارج الغرفة باحثة بعينيها عن البقعة المناسبة لإكمال خطة هروبها، ترددها اللحظي جراء جهلها بتفاصيل تصميم المكان أعطاه الأفضلية للوصول إليها، غريزيًا صرخت “دليلة” حينما رأته مقبلًا عليها وهو يضع يده أعلى رأسه، صاحت في فزعٍ:
-ابعد عني!
لمحت الدرج فركضت صوبه لتهبط عليه، وهو من ورائها يتبعها ليلحق بها.
لم تتمكن فعليًا سوى من الوصول إلى باب الفيلا، وقبل أن تمتد يدها لتمسك بالمقبض كانت ذراعه الأسبق في الوصول إلى مرفقها، جذبها منه بقوةٍ، فارتدت مرتطمة بصدره، واستندت عفويًا بيديها على كتفيه، وصوت صراخها ارتفع أكثر:
-ابعد عني يا مجرم، سيبني!
طوق خصرها بذراعيه لتصبح محاصرة منه، وأخبرها وهو يرمقها بهذه النظرة المتملكة:
-استحــالة!
هاجمته لفظيًا وهي تجاهد لدفعه بعيدًا عنها:
-إنت حقير، حــيوان!
لم تتمكن من إزاحته، بل على العكس كان يزيد من الضغط عليها بقوة ذراعيه، حتى شعرت وكأن ضلوعها ستتهشم من شدته، حملقت فيه بعينين تشعان بالكره العظيم وهو يخاطبها بإصرارٍ:
-قولي اللي إنتي عايزاه للصبح، مش هسيبك.
قاومت حتى الرمق الأخير، وسألته في حرقةٍ:
-بتعمل كده ليه معايا؟ إنت عايز مني إيه؟
مثل العادة أعطاها الرد الصريح والقاطع:
-لأنك عجباني!
استهجنت ما فاه به، وكأنه بالفعل يرتبطان ببعضهما البعض بالمشاعر الجميلة المرهفة، فكذبته في الحال وبازدراءٍ حاد:
-إنت مصدق اللي بتقوله ده؟! إنت تعرفني أصلًا؟
ابتسم لها قائلًا بمكرٍ:
-ما أنا هتجوزك علشان أعرفك.
نفرت منه بشدةٍ، وتحدته:
-مش هيحصل أبدًا.
زرَّ عينيه قائلًا بتهديدٍ صريح:
-خلاص يبقى إنتي كده عايزة تخسري أهلك كلهم، وأولهم حياة أبوكي!
غلبها الخوف على الفور، فانفلتت منها شهقة أقرب للصراخ، لتسأله بعدها في جزعٍ وقد تبخرت كامل مقاومتها المستميتة دفعة واحدة:
-إنت بتقول إيه ……………………… ؟!!!
…………………………………………

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)

‫5 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى