رواية فوق جبال الهوان الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت الثامن عشر
رواية فوق جبال الهوان الجزء الثامن عشر
رواية فوق جبال الهوان الحلقة الثامنة عشر
لأكثر من مرة ضغط بعصبيةٍ على بوق السيارة، ليستحث السائق الذي يتحرك أمامه على الإسراع قليلًا، ألا يكفي الزحام المروري الخانق، ليجد من يتلكأ ويتسكع ببرودٍ ليضيع وقته أكثر؟ يكفيه أنه أمضى ما يزيد عن الساعتين في توكيل إصلاح السيارات ليعيد تركيب الزجاج المهشم بدلًا من ذاك الذي تحطم أثناء عملية اختـــطاف “دليلة” قسرًا. مجددًا نظر “راغب” في ساعة يده مطلقًا سبة نابية، فمستقبله الذي ظل يخطط لتطويره، والانتقال إلى حياة أخرى مترفة، بات مهددًا بسبب انشغاله بكوارث عائلة زوجته المصون.
تنبه لرنين هاتفه المحمول، فالتقطه من على المقعد المجاور له، ضغط على زر الإجابة، ليأتيه صوت والدته في سماعة الأذن الموضوعة بها متسائلًا:
-عامل إيه يا حبيبي؟ بقالي يومين ما سمعتش حسك.
زفر مرددًا في ضجر واستياء:
-مخنوق والله يا ماما.
سألته بشيءٍ من الاهتمام:
-من إيه يا ابني؟ أوعى تقول مراتك وعيلتها!
برطم في ضيقٍ:
-هو أنا ورايا غيرهم.
شاركته في نفس الشعور المنزعج بسؤالها:
-حصل إيه تاني؟
أخبرها وهو ينعطف بالسيارة نحو مخرج جانبي ليهرب من الاختناق المرور المثير للأعصاب:
-وقعوا مع شوية بلطجية، وخدوا البت “دليلة” عندهم، أل إيه علشان يجوزوها لواحد سوابق.
استطاع أن يسمع شهقتها قبل أن تلاحقه بسؤالها التالي:
-يادي المصيبة، وإنت عملت إيه؟
أتاها رده شاكيًا:
-مسحول مع أبوها، لحد ما طفحت وجبت أخري.
وبخته في ضيقٍ:
-وإنت مالك أصلًا بحوارتهم دي؟
تعلل بمنطقيةٍ:
-مش أخت مراتي.
لم يتفاجأ بها حينما ردت بوقاحةٍ:
-دي كانت جوازة شؤم، حتى ما طلعتش منها بعيل.
كان أحد الصغار يلهو بدارجته أمامه، فانزعج من مماطلته في المرور، فضغطت بعصبيةٍ على البوق ليجبره على الابتعاد وصعود الرصيف، وصوته المندد يهدر:
-يا ابني حاسب، هي نقصاك.
حين سمعته يصيح في أحدهم بغير صبرٍ سألته:
-إنت فين كده؟
أجابها بعد زفرة سريعة:
-سايق يا ماما، رايح البنك، عندي تقفيل ميزانية وشغل متكوم.
اقترحت عليه فجأة لتظهر حقيقة جحودها العجيب:
-طب بقولك إيه، ما تخلص من الدوشة دي كلها وتركز في مستقبلك ومصلحتك.
سألها مستفهمًا، وقد استحوذ كلامها على كامل انتباهه:
-قصدك إيه يا ماما؟
استمرت على نفس النهج الغامض بترديدها:
-وعلى رأي المثل خسارة قريبة ولا مكسب بعيد.
ملَّ من مراوغتها، وسألها بصبرٍ نافد:
-أنا مش فاهم حاجة، إنتي بتكلميني بالألغاز ليه؟
جاوبته مباشرة ودون مقدمات استهلالية:
-طلق المحروسة مراتك وارتاح من الهم ده كله.
في البداية هتف مستنكرًا:
-إيه اللي بتقوليه ده؟
تابعت مسترسلة لتقنعه:
-اسمع مني وإنت تكسب، ديتها كام مليم من بتوع المؤخر، نرميه على الجزمة القديمة، ولا أقولك خليها ترفع بيه قضية في المحاكم وحليني عقبال ما تكسبها.
قطب جبينه مرددًا في دهشة، تتخللها بعض علامات التردد:
-أطلقها؟ ده ينفع؟
أكدت عليه بثقةٍ، وكأنها أعدت الخطة مسبقًا لحدوث ذلك الأمر:
-أه، غيابي، وخلي المأذون يبعتلها الإشعار على عنوان بيتها القديم علشان ما يوصلهاش خبر.
سألتها بعدما ابتلع ريقه:
-والعِشرة اللي بينا؟
ردت عليه بغير اكتراثٍ:
-تغور طالما جاي منها المصايب، إنت عندي أهم، ومصلحتك فوق الكل.
سكت للحظةٍ ليفكر فيما قالت، ليتبع ذلك سؤاله المستفهم:
-طب وإزاي هعيش معاها في نفس البيت؟
كالعادة جاءته الحلول الناجزة بقولها:
-اتحجج بأي حجة، قول إنك مسافر، ولا وراك تدريبات، وتعالى اقعد عندي لحد ما شهور العدة تخلص، وبعد كده نكون ظبطنا كل حاجة، ونرميها برا الشقة وناخد العفش واللي يلزمنا.
في شيءٍ من التردد أخبرها:
-بس كده احنا بنغدر بيها!
لتبدد مخاوفه خاطبته بتشددٍ، وبما يشبه الإقناع:
-ما تولع بجـــــاز، ده حقك، مش إنت اللي طفحان الدم، ومعيشها في الهنا، هي كانت تحلم بده؟
وقبل أن يعدل عن رأيه فجـــرت مفاجأة أخرى لم تطرأ على باله:
-وعروستك عندي جاهزة، حاجة تليق بيك، بس نخلص من الشبكة السودة دي الأول.
لم يرفض حديثها بأي شكلٍ أو يستنكره، بل فقط أرجأه لبعض الوقت معللًا أسبابه وهو يبطئ من سرعة سيارته:
-ماشي يا ماما، خلينا نتكلم في ده بعيد، لأحسن وصلت البنك.
بأسلوبها الماكر واللئيم ألحت عليه:
-فكر في اللي قولتهولك، وهتلاقيه لمصلحتك.
-حاضر، ربنا يسهل.
قال جملته تلك وهو ينهي الاتصــال معها، ليترجل من سيارته ملقيًا نظرة متأنية على لافتة البنك؛ لكنه شرد ذهنيًا فيما تحدثا كلاهما فيه، لما لا يسايرها في اقتراحها، ويسعى وراء أحلامه؟ ما الخطأ في ذلك؟!!
……………………………..
بخطواتٍ بطيئة مليئة بالغنج والدلال، خرجت “وِزة” من غرفتها بعدما تأنقت وارتدت المثير من الثياب، لتبدو في أوج شبابها وعنفوانها، أمسكت بطلاء الأظافر، وانتقت الأريكة المواجهة لـ “توحيدة” لتجلس عليها، ثم رفعت قدمها في وجهها على الطاولة الدائرية الصغيرة، وأخذت تُطلي أصابع قدميها بتمهلٍ وهي تعطي أوامرها لمن حولها:
-أوام يا بت إنتي وهي، وضبوا البيت، لأحسن سي المعلم “عباس” على وصول.
نجحت بأسلوبها الاستفزازي البارد في استثارة أعصاب ضرتها، فانتفضت واقفة، ولكزت بيدها قدمها لتزيحها عن الطاولة، قبل أن تحذرها في غلظةٍ:
-بت إنتي، لمي الدور أحسنلك، بدل ما أخليهم يطلعوا عليكي القرافة.
ردت عليها بعنجهيةٍ مغيظة:
-إيه ده هو في حد بيتكلم؟ ده أنا قولت بقرة بتنعر!
كزت على أسنانها تنعتها:
-آه يا بنت الـ (…)
بل كادت تنهال عليها أيضًا بصفعها مدوية على خدها، لولا أن تيقظت لها “وِزة” فأمسكت بقبضتها في المنتصف، وأطلقت تحذيرها الصارم عليها:
-حاسبي على نفسك، بدل ما تندمي، زمن “توحيدة” ولى خلاص، ودلوقت زمن سِتك “وِزة”!
استلت “توحيدة” ذراعها منها، ونهرتها بما يشبه المعايرة:
-إنتي شايفة نفسك على إيه يا مفضوحة؟ ولا نسيتي أصلك؟
وضعت الأخيرة يدها في منتصف خاصرتها لترد بتحدٍ:
-الرك على دلوقت يا عينيا.
لم تنتبه الاثنتان لقدوم “عباس” الذي دنا منهما متسائلًا في تحفزٍ:
-في إيه للدوشة دي؟
بمكر الثعالب، أسرعت “وزة” نحوه لتشتكي إليه في صوتٍ حزين، وهي تستدعي دموع التماسيح لاستمالة قلبه، والتأثير على مشاعره، بما تملك من أسلحة أنثوية خفية:
-الحقني يا سي “عباس”، “توحيدة” عمالة تهزقني وتعايرني وتقطمني إكمني بقيت مراتك.
لم تحتج لأدنى مجهودٍ لتنجح في مسعاها معه، فقال في تهكمٍ سافر:
-وهي يعني اللي كانت طاهرة، وما بتسيبش سجادة الصلاة؟ ما الحال من بعضه!
اشتاطت “توحيدة” غيظًا وكمدًا من لؤمها، وراحت تشتكي إليه هي الأخرى:
-يا سي “عباس” دي بنت أبالسة، بتعرف تغفل اللي قصادها وتضحك عليه بألاعيبها.
زجرها مرددًا في خشونة وهو يلوح لها بيده:
-جرى إيه يا “توحيدة”؟ وإنتي شيفاني مختوم على قفايا؟
تراجعت عما اعتبرته ذلة لسانها، وقالت بصوتٍ مرتبك وهي تقترب منه لتمسد على كتفه كنوعٍ من طلب الصفح منه:
-لأ مقصدش.
تفاجأت به يدفعها بعيدًا قبل أن تلمسه آمرًا بجفاء:
-حلي عني مش ناقص صداعك.
شهقت مصدومة لدفعته القوية، فيما نظرت إليها “وزة” بشماتة وتشفٍ، لتحول عينيها عنها عندما أمرها زوجها بعد نحنحة خشنة:
-حصليني يا “وِزة”، ضهري قافش عليا وعايز حاجة أدهنه بيها.
تغنجت بخصرها مرددة في دلالٍ:
-عينيا يا سيد الناس، علاجك عندي.
ثم أشارت بإصبعها نحو “خضرة” تأمرها بعبارات موحية:
-ابعتيلنا الأكل يا بت يا “خضرة”، ولا أقولك خبطي على الباب بعد ما تجبيه، أصل جوزي ما بيحبش يشوف وشوش عكرة على المسا.
بالكاد منعت “توحيدة” نفسها من الانقضاض عليها ومهاجمتها لحظيًا، وإلا لخسرت دعمه أيضًا، وهذا ما بقي لديها حاليًا. أطبقت على شفتيها في حقدٍ حتى تتمكن من ضبط انفعالاتها، لتباعد بينهما متمتمة بحنقٍ وغضب:
-هموت بفرستي منها، خلاص ما بقتش مستحملة.
ردت عليها تابعتها “خضرة” في شيءٍ من التعاطف:
-اصبري يا أبلتي، مسيرك تخلصي منها.
كورت قبض يدها مكملة بغلٍ وكره:
-يا مين يخليني أطبق في زومارة رقبتها!
…………………………….
كانت وطأة الحقيقة ثقيلة على قلبه، لقد أدرك “فهيم” عجزه عن حماية من هم تحت كنفه، فلم يتحمل هذا الشعور المهلك، وفارق جسده الحياة، ليترك من ورائه عائلة تعاني، وابنة تشعر بالذنب لاعتقادها أنها تسببت في هلاكه. بعدما فقدت “دليلة” وعيها، حملها “زهير” بين ذراعيه وسط صراخ أمها ونواح شقيقتها، لم يكن بحاجة للسؤال عن مكان غرفتها، فقد زارها سابقًا وهي في نفس الحالة، دنا من فراشها ليمددها برفقٍ عليه قبل أن يخرج من الحجرة باحثًا عن رقم شقيقه في هاتفه المحمول، كان يستدير تلقائيًا برأسه للجانب كلما صرخت “عيشة” باكية رحيل زوجها، أتاه صوت “كرم” الجاد من الطرف الآخر متسائلًا:
-إنت فين دلوقت؟
أجابه على الفور:
-عند نسايبنا الجداد.
جاء تعقيبه مستمتعًا بعض الشيء:
-قولتلي، مصدقت طبعًا….
وصل إلى مسامعه تلك الأصوات العالية، فتساءل بفضولٍ:
-بس إيه الصويت ده؟
حرر “زهير” زفرة ثقيلة من صدره قبل أن يخبره مستشعرًا تلك الغصة العالقة في حلقه:
-عم “فهيم” مات.
بشكلٍ آلي رد، وكأن الأمر لا يعنيه:
-الله يرحمه.
وقتئذ تعاظم في نفس “زهير” إحساسه بالانزعاج، بل إنه شعر بتأنيب الضمير لوفــاته بهذه الطريقة، وعبر عما يجيش في صدره بضيقٍ محسوسٍ في نبرته:
-الراجل مات بحسره على اللي حصل لبنته.
كان تعليقه فظًا إلى حدٍ ما:
-عمره وخلص، هنعمله إيه يعني؟
اغتاظ من بروده في التعامل مع الأمر، وصاح فيه بانفعالٍ استغرب لحاله منه:
-ما تخلنيش أتعصب يا “كرم”.
بنفس الأسلوب المتجافي المستفز وبخه:
-أوام كده قلبك رق؟
ببساطةٍ أخبره شقيقه الأصغر:
-علشان أنا متفق معاك إننا مانجيش لا على الغلابة ولا المظلومين، واللي احنا عملناه ده اسمه افترا.
رد عليه في شيءٍ من الاحتجاج:
-مش المحروسة اللي عاملة عقد مع الحكومة ضدنا، ولا إنت بتنسى بمزاجك؟!!
للغرابة وجد نفسه يتخذ صفها ويبرر ما قامت به بتحيزٍ:
-مكانتش تعرف احنا مين، وندمت.
سخر منه بتهكمٍ:
-من دلوقت بتدافع عنها؟!!
قابل سخريته بجديةٍ تامة:
-مش وقته، احنا عايزين نخلص تصاريح وإجراءات الدفن.
رد عليه بنبرة أوحت باستهزائه:
-وماله، وهنعمله أكبر صوان في البلد، وهنجيبله مشايخ وصييتة كمان يقروا عليه.
بدا “زهير” هجوميًا بشكلٍ أكبر وهو يسأله:
-إنت بتتريق؟
امتص غضبته الوشيكة بقوله الهادئ:
-لأ يا “زهير”، عيب عليك، ما هو يعتبر نسيبنا، وفرصة تخلي الكل يجي ويقدموا فروض الطاعة لينا في العزا.
رد عليه بنفس اللهجة الجدية:
-مش فارق معايا أي حد دلوقت غير عم “فهيم” وعيلته.
كعهده الساخر تكلم “كرم” بعزمٍ:
-ماشي يا حنين، خليك معاهم، وأنا هخلص كل حاجة وجايلك.
-سلام.
أنهى معه المكالمة ليتجه إلى الباب الذي قرع جرسه بإلحاحٍ، فتحه ليجد “إعتدال” واقفة أمامه، تفاجأت الأخيرة به، واستطردت في تلبكٍ خشية أن يثور عليها:
-سي “زهير”، معرفش إنك هنا!
تنبهت للصراخ الآتي من الداخل، فتساءلت بعفوية:
-أومال الصويت ده جاي من هنا؟ أصله مسمع في العمارة كلها، وأنا عمالة أدور جاي منين.
أجابها بعدما تنحى للجانب ليجعلها تمر:
-عم “فهيم” مات.
لطمت على صدرها مرددة في صدمة وحسرة:
-يا نصيبتي! ده كان راجل طيب وزي النسمة.
دون أن ينظر ناحيتها، أشار لها بيده آمرًا:
-خشي شوفي الجماعة جوا وخليكي معاهم، لحد ما نجهز كل حاجة تخص الدفنة.
في طاعة تامة ردت عليه:
-من غير ما تقول يا سي “زهير”، دول حبايبي الغاليين.
وراحت تشارك هي الأخرى في النواح والعويل بصياحها المرتفع اللافت للأنظار، كأنما تعطي خبرًا حصريًا لمن تعذر عليه معرفة أسباب هذا الصخب المفزع:
-كبدي عليك يا عم “فهيم”، ملحقتش تفرح ببنتك.
…………………………………
كانت كالمغيبة، تتابع مشاهد الدفن كأنما تراها عبر شاشة التلفاز، وليست تعايشها حقًا، ظلت على تلك الحالة الذهنية غير الواعية، تستند على شقيقتها الكبرى من ذراع، وعلى والدتها من الذراع الآخر، ومن حولهم غرباء كثر يقومون بكل شيءٍ حتى وارى جثمانه الثرى، التفتت برأسٍ ثقيل نحو صوت والدتها حينما تساءلت بصوتٍ باكٍ:
-جوزك لسه مظهرش؟
كفكفت “إيمان” دمعها المسال بمنديلها الورقي، وأخبرتها:
-موبايله مقفول.
أتى سؤالها الآخر مستفهمًا:
-وحماتك؟ مردتش لسه عليكي؟
ردت نافية:
-لأ.
انتقلت للسؤال التالي:
-طب بعتيلها رسالة؟
أجابت باقتضابٍ:
-أيوه.
لاحقتها بآخر موجز:
-وشافتها؟
ردت باختصارٍ:
-مش عارفة.
حاولت أن تبدو “عيشة” صلبة، متماسكة أمام الجمع الغفير، فقد صارت المسئولة عن العائلة الآن، تنفست بعمقٍ، وقالت:
-عمومًا مش وقت عتاب على قلة الأصل، اللي راح غالي ويستاهل البكا عليه طول العمر.
أضافت “إيمان” قائلة وهي تخرج منديلًا آخرًا من حقيبتها:
-حتى عمتي ملحقتش تيجي من البلد.
ردت عليه مبررة سرعة إنهاء الإجراءات:
-ما كله خلص أوام، قبل ما ندي حد خبر.
طافت “إيمان” بعينيها الدامعتين على عشرات البشر ممن تزاحموا في المقابر بشكل لا يصدق، بل تكاد تجزم أنها لم تكن لتجد موضعًا للوقوف لولا أن ثلاثتهن من عائلته. جففت أنفها الرطب، وقالت في استغرابٍ:
-أنا معرفش الناس دي كلها جت منين، بابا مكانش يعرف حد.
ردت عليها أمها بحزنٍ:
-ولا أنا يا بنتي، ومش قادرة أسأل.
رغم انتهاء كل شيء إلا أن الجميع ظل باقيًا، وحاضرًا، وكأنه محظور عليهم الذهاب، لتضطر “عيشة” لسحب ابنتيها بعيدًا عن الجو الخانق، وتجلس على إحدى المصاطب الخشبية القديمة، وبجوارها ابنتيها، لتطل عليهما “إعتدال” قائلة بنبرة مواسية:
-قلبي معاكو يا حبايبي، وربنا سي “فهيم” هيقطع بينا كلنا.
تولت “عيشة” الرد، فخاطبتها في صوتٍ حزين:
-كتر خيرك، هو كان طيب وفي حاله.
في نوعٍ من المجاملة أضافت:
-أه والله، ما يعزش على اللي خلقه.
انضم إليهن “كيشو”، فقال معزيًا:
-البقية في حياتك يا ست الحاجة، لو عوزتم أي حاجة أنا في الخدمة، عم “فهيم” كان في مقام أبويا.
ردت عليه “عيشة” بإيماءةٍ من رأسها:
-تسلم يا رب.
بعد برهةٍ جاء “زهير”، أبقى ناظريه على “دليلة” التي لم تكن تبدو طبيعية مُطلقة، فاستطرد في جديةٍ وهو يشير بيده:
-العربية واقفة برا هتوصلكم البيت، مالوش لازمة تفضلوا هنا.
من تلقاء نفسها تحدثت “إعتدال” كأنما تنصحهن بالانصياع له بطريقةٍ مستترة:
-اسمعوا كلام سي “زهير”، الناس مش هتمشي إلا لما الكوبارة يمشي، وهو شكله مطول.
افتقرت “عيشة” للجدال، وكذلك “إيمان”، فيما كان “دليلة” لا تعي بعد ما يدور، لتنهض الأولى بدورها هاتفة:
-تعالوا يا بنات.
مرة ثانية، فقدت “دليلة” وعيها فجأة، وارتمت بثقل جسدها على والدتها التي عجزت عن حملها، فصاحت “إعتدال” في جزعٍ:
-عيني عليكي يا نضري، تلاقيها كانت متعلقة بأبوها، ومش مستحملة اللي جراله.
انتبه “زهير” لما حدث، فأسرع ناحيتها، وجذبها من مرفقيها بقوة طفيفة تجاهه، لترتمي بثقلها على صدره، طوقها بذراعه أولًا لئلا تسقط، ثم انحنى ليحملها بين ذراعيه، وسار مسرعًا بها إلى الخارج، ليضعها بالسيارة، وشيءٍ ما غريب يحز بقوةٍ في قلبه تجاهها.
……………………………..
هذه المرة حينما استفاقت من غيبوبتها المؤقتة، أدركت ما فاتها، واستوعبت ما تابعته بعينين خاويتين، لقد فقدت أبيها، ورحل عن عالمها للأبد، كانت كلماته الأخيرة موجعة، مملوءة بالعجز والقهر، لم تستطع مغالبة الشعور المميت الذي ناوشها، آه لو لم تكن عنيدة، طائشة، ومندفعة، لما آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن!!
الأصوات المتداخلة القريبة من غرفتها جعلتها تتيقظ أكثر، أرهفت السمع إلى صوت أحدهم تحديدًا، كان “كرم” من يتحدث بالخارج، على ما يبدو يخاطب أحدهم، سارت على أطراف أصابعها لتتفقده، فسمعته يقول:
-من هنا ورايح إنتو مننا، مافيش حاجة هتنقصكم، كأن راجل البيت موجود…
من زاوية غير مرئية له راقبته، وتحولت عيناها للإظلام والغضب حينما وجدته يقول بلهجته الحازمة:
-وشوية بس أما الظروف تعدي هنكمل جوازة أخويا من المحروسة.
ردت عليه أمها بقلة حيلة:
-ربنا يسهل.
فيما تساءلت عمتها التي جاءت من السفر باستغرابٍ:
-أنا معرفش بخطوبة “دليلة”؟ أخويا “فهيم” مقاليش.
نما إلى مسامعها صوتها القائل:
-أصله كان لسه كلام.
استثير ما بداخلها دفعة واحدة، وشعرت بموجة غضب عارمة تجتاحها، زوج الملاعين –الشقيقين- لا يراعيان المصاب الأليم الذي هم فيه، ويتحدثان عن الزواج وخلافه، أي قساوة تلك! فارت الدماء في عروقها، وانطلقت نحو المطبخ باحثة عن شيء بعينه؛ لكنها توقفت عند العتبة عندما وجدت شقيقتها تتساءل هاتفيًا بصوتها المختنق:
-إنت فين يا “راغب” من بدري؟
كانت قد وضعت الهاتف على السماعة الخارجية، جاء صوت زوجها واضحًا ومسموعًا وهو يتساءل ببرودٍ:
-في إيه يا “إيمان”؟ الدنيا طارت، أفتح الموبايل ألاقي مليون اتصال منك!
انفجرت باكية وهي تخبره بأسى:
-لأ مطارتش، بس بابا مـــات!
سكت للحظةٍ قبل أن يسألها بصوتٍ مهتز:
-إنتي بتهزري؟
صرخت فيه بانفعالٍ:
-بقولك أبويا مات، وادفن، وإنت مش دريان بحاجة، حتى مامتك شافت رسالتي وطنشت.
هتف من فوره:
-أنا جاي حالًا..
انفجرت باكية بحرقةٍ أكبر وهي تلومه:
-بعد إيه يا “راغب”؟ بعد إيه؟!!!
كان قد أنهى المكالمة فلم تصله كلماتها الأخيرة، لترفع “إيمان” رأسها، وتنصدم بوقوف شقيقتها، أقبلت عليها تحتضنها بتلهفٍ، وسألتها:
-“دليلة”، حبيبتي، إنتي كويسة؟
صرخت فيها بألمٍ:
-سايبين اللي قتل بابا أعد برا؟
أبعدتها عنها لتنظر إليها بقلقٍ واسترابة، تفاجأت بها تدفعها بقدرٍ من القوة لتصل إلى أحد الأدراج، فتحته “دليلة” بعصبيةٍ، واستلت سكينًا من داخله، لتشهق “إيمان” من ورائها بذهولٍ، وقد تحولت نظراتها للارتعاب، اعترضت طريقها بجسدها متسائلة بتوجسٍ:
-إنتي رايحة فين كده؟!
أظلمت عيناها تمامًا، حتى لم تعد ترى فيهما أي بريقٍ للحياة، لتخبرها بعزمٍ، وبإصرارٍ لا رجعة فيه:
-هاخد روحه زي ما حرمني منه ………………………. !!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)