رواية فأما اليتيم فلا تقهر الفصل الرابع 4 بقلم سلمى سمير
رواية فأما اليتيم فلا تقهر البارت الرابع
رواية فأما اليتيم فلا تقهر الجزء الرابع

رواية فأما اليتيم فلا تقهر الحلقة الرابعة
توقّف الزمن للحظة، حين وقعت عينا “روح” على أمّها التي ربّتها وكانت لها الأمّ والأخت والسند، تلك التي صادمت بها الحياة بكلّ قسوتها. لم يحتمل قلبها الصغير فكرة الفقد، فانهدّ كيانها وسقطت أرضًا، مغمًى عليها.
بلهفةٍ وقلق بالغ، انحنى “بهاء” وحملها بين ذراعيه، وهرع بها إلى قسم الطوارئ، يهتف بطلب النجدة لإنقاذها.
اقترب منه أحد الأطباء الممارسين، وتحرّى نبض الفتاة ثم قال بهدوء مهني:
ـ اهدى… دي مجرد إغماءة بسيطة من التوتر والشدّ العصبي. اتفضل معايا، هدّيها مهدئ يساعد على استرخاء أعصابها، وهتفوق بعدها وتبقى بخير إن شاء الله.
سار “بهاء” خلف الطبيب الذي طلب منه أن يضعها على السرير النقال، ثم اصطحبها إلى إحدى غرف الاستقبال لإجراء الإسعافات الأولية.
ظل جالسًا إلى جوارها، ناسيًا والدته التي تُصارع الموت داخل غرفة الإنعاش.
وما إن رآها ترفّ جفنها، حتى تنفّس الصعداء، وغادر مسرعًا إلى غرفة الإنعاش ليطمئن على أمّه.
ظلّ واقفًا طويلاً أمام الغرفة، يرقب الباب بقلق وتوجّس، يترقّب خروج الطبيب بأيّ خبر، وهو يحمل في قلبه ثقل الذنب على ما آلت إليه أمّه بسبب ما ارتكبه في حقّ “روح” الفتاة البريئة، ربيبة أبيه وأمه.
طال الانتظار، إلى أن خرج الطبيب أخيرًا، وقال بصوتٍ فيه شيء من الحذر:
ـ الحمد لله قدرنا نستعيد والدتك، لكن للأسف حالتها متأخرة جدًا. محتاجة تغيير صمّامين في القلب في أسرع وقت.
عملنا ليها قسطرة، وبيّنت إن وضعها الصحي سيئ جدًا. ساعات الأزمات البسيطة بتكشف مشاكل خطيرة كان الإهمال السبب في تأخير علاجها، وده بيبقى رحمة من ربنا علشان نلحقها قبل ما تحصل أزمة أكبر ممكن تؤدي للوفاة.
وضع “بهاء” كفّه على فمه، كاتمًا شهقة ألم وحرقة قلب، ولم يكد يستوعب أن والدته على حافة الموت وتحتاج إلى جراحة عاجلة. تماسَك بصعوبة، وسأل الطبيب:
ـ لو سمحت يا دكتور… العملية دي ممكن تكلف كام؟ وممكن نعملها هنا ولا لازم نسافر بيها برّه؟
هزّ الطبيب رأسه بضيق وقال:
ممكن نعملها هنا مفيش مشكلة، لكن العملية مكلفة جدًا، وكمان محتاجة فترة نقاهة طويلة.
بس لو عندك إمكانية تسافرها برّه يبقى أحسن بكتير.
زفر “بهاء” بحدّة، ونظر إلى هاتفه قائلًا:
ـ تمام… هشوف ردّ أخويا الأول. بس في كل الأحوال، ماما هتعمل العملية، وبأسرع وقت زي ما حضرتك قلت.
ربت الطبيب على كتفه، وقال مشجعًا:
تمام، شوف هتتصرف إزاي، وأنا تحت أمرك… عن إذنك.
غادر الطبيب لقضاء مهامه، فأخرج “بهاء” هاتفه واتصل بأخيه الكبير “إيهاب”، الذي ردّ عليه بصوتٍ متلهف:
بهاء؟ خير؟ بتتصل بيا دولي ليه؟ افتح نت، كلّمني، عايز أشوف ماما واطمن عليها، قلبي مقبوض من الصبح!
ضغط “بهاء” على جفونه بقوة ليكبح دموعه، وقال بصوت مرتجف حزين:
ياريت تقدر تكلمها… ماما بتضيع مننا يا إيهاب. انزل بسرعة شوفها…
أنا هبيع عربية بابا وادفع مصاريف المستشفى، وانت لازم تدبّر مصاريف العملية… هتقدر؟ ولا أبيع الشقة كمان؟
أخرسَت الصدمة “إيهاب”، فلم يردّ في الحال، وساد الصمت. سأله “بهاء” بإلحاح:
إيهاب! ردّ عليّا، انت معايا ولا قفلت؟ إيهاب… ردّ!
ثم سمع صوت تنفّس عميق، تبعه زفير طويل، وصوت أخيه المخنوق يردّ عليه باستفهامٍ مرتبك:
ـ اهدى كده وفهّمني… ماما حصلها إيه؟ وعملية إيه اللي هتعملها؟
ومتقلقش من التكاليف، أنا هتكفّل بيها… بس قولي حالتها إيه؟ ومن إمتى كانت تعبانة؟
لم يستطع “بهاء” أن يُخبر أخاه بالحقيقة… بالحقيقة المؤلمة التي تُثقِل صدره وتنهش ضميره؛ بأنه كان السبب فيما وصلت إليه والدتهما.
فكذب، وتعلّق بستر الإنكار، قائلًا بصوتٍ متماسك بالكاد:
الدكتور بيقول إنها أهملت في صحتها، لحد ما حالة القلب ساءت، ودلوقتي محتاجة تغيير صمّامين بأسرع وقت، قبل ما…
توقّف، وعجز عن استكمال الجملة، إذ خذلته دموعه، وانهمرت على وجنتيه تعبيرًا عن خوفه العميق، وحزنه الذي تجاوز حدود الصمت.
علت نحيباته، لتبلغ مسامع “روح”، التي كانت قد أصرّت على النهوض من سريرها، متجاهلة أثر الإغماء، لتطمئن على والدتها.
لكنها ما إن وصلت إلى باب غرفة الإنعاش، ورأت “بهاء” يبكي وينتحب، حتى تفجّرت داخلها أوجاعها، وصرخت بلوعة مريرة، تهذي وتلطم خديها، وتشدّ شعرها بجنون هستيري، ظنًا منها أن أمها قد رحلت:
يااااااماااااااااااااااااااااااااااااااااه… سبتيني لمين؟ خديني معاكي!
آه يا قلب “روح” اللي مات… آه يا وجع الحزن اللي هيعشّش في قلبي!
آه يا عيني اللي ما شافتش أغلى منك يا أماه…
آه يا كسرة ضهري وشقوة أيامي من بعدك!
وصل صراخ “روح” إلى أذن “إيهاب”، الذي ما زال على الخط، فظنّ هو الآخر أن والدتهما قد ماتت، فصرخ بهلع عبر الهاتف:
بهاء! ردّ عليا! ماما ماتت؟! انطق! ماما ماتت خلاص؟!
لكن “بهاء” لم يجب… فقد ألقى بهاتفه جانبًا، وأسرع يحتضن “روح”، محاولًا أن يوقفها عن إيذاء نفسها، وضمّها إلى صدره قائلًا:
بس… بس يا “روح” ماما بخير… اهدى، ورحمة كل غالي عليكي، اهدى وارحميني… كفاية اللي أنا فيه!
رفعت “روح” عينيها الباكيتين إليه، وصوتها يرتجف بعدم تصديق:
بجد يا “بهاء”؟ ماما عايشة؟ احلف… وحياة كل غالي على قلبك إن ماما عايشة!
ابتسم لها من بين دموعه، ونظر إلى وجهها الذي احمرّ من كثرة اللطم، وقال بصوتٍ دافئ حنون:
مفيش أغلى منك… أحلف بيه! وحياتك… ماما بخير.
كانت كلماته تلك كالماء البارد على قلبٍ مشتعل، أحيت فيها الروح من جديد، فتنهدت براحة، وتهلّل وجهها بفرحةٍ باكية، ثم قالت:
أحمدك يا رب… أشكرك يا رب! بس بجد يا “بهاء”، أنا غالية عليك؟ ولا قلت كده علشان تهدّيني وبس؟
أربكه سؤالها المباغت، فقد فاجأه قلبها بما خاف هو الاعتراف به. فما كان منه إلا أن ردّ بحدّة، يُخفي ارتباكه خلف الجفاء:
هو فعلًا كده… قلت اللي قلته علشان تهدى.
بس أنتِ غالية عند “ماما”… وأغلى مننا كلنا، مش كفاية عليكي كده؟
نَكّست “روح” رأسها نحو الأرض، كأنها تهرب من نظراته… أو تهرب من نفسها، ثم همست بصوتٍ مكسور:
كفاية… ومش كفاية، بس أنا راضية.
ياما كان نفسي تحس بيا… وترحم قلبي من لوعته في عشقك.
صُعق “بهاء”، وتجمّدت نظراته في عينيها، وكأنها باغتته بسكين في صدره. لم يكن يتوقّع منها هذا الاعتراف، ولم يكن مستعدًا لسماعه.
ابتعد عنها سريعًا، وكأن قربها يحرقه، وردّ عليها بحدّة، يخفي بها اضطرابه:
بطّلي الهبل ايه اللي بتقوليه ده! اللي بتحسيه ده مراهقة… ولما تكبري، هتعرفي إنه كان لعب عيال.
يلا روحي اغسلي وشّك، واعملي كمادات… وشّك بقى أحمر جدًا وشكله ملتهب.
أومأت “روح” برأسها، دون أن تجيب، ثم أدارت ظهرها إليه، تمشي ببطء، تحمل وجعها في صدرها، ودموعها في عيونها.
كانت تعلم أنه لا يبادلها شيئًا… لكنها تحمّلت صدّه وسوء معاملته، لأن عشقها له كان أكبر من قدرتها على الرحيل.
ما إن اختفت عن ناظره، حتى تذكّر “بهاء” فجأةً أخاه “إيهاب”، الذي تركه معلّقًا على الهاتف، فأسرع يمسك هاتفه ليطمئنه، لكنّه تفاجأ بإنهاء المكالمة، ووجود أكثر من عشرين مكالمة فائتة. وفي النهاية، وجده قد أرسل رسالة نصّها:
اوعي تفكر تدفن أمي قبل ما أوصل.
ربنا أكرمني وحجزت على طيارة النهارده، وأنا في طريقي للمطار.
ضرب “بهاء” الحائط بقبضته غيظًا، يلعن انفعال “روح” الذي جعل أخاه يتوهم موت والدته.
حاول الاتصال به مرارًا ليشرح له ما حدث، لكن هاتف “إيهاب” كان مغلقًا.
زفر بضيق، عاجزًا عن الوصول إليه، ثم هدأ قليلًا وأعاد التفكير…
في النهاية، أدرك أن عودة أخيه في هذا الوقت بالذات هي أفضل ما قد يحدث؛ فهو الوحيد القادر على مساعدته في اتخاذ الخطوات اللازمة لإجراء الجراحة العاجلة.
تنهد براحة، ثم التفت ليجد “روح” قد عادت تقف أمامه، بوجهها البريء، وقد احمرّت وجنتاها كزهرتين نديّتين بعد بكاء طويل.
جمّد ملامحه سريعًا، وأدار وجهه عنها قائلًا بجفاف:
اتفضّلي معايا… أوصّلك البيت.”إيهاب” على وصول.
رفعت “روح” عينيها إليه بانكسار، وردّت بصوتٍ متمسّك:
أنا مش همشي من هنا إلا لما ماما تفوق… لو حصل وملقتش سرير، هنام على البلاط…
روح انت، استقبل أبيه “إيهاب”، وسيبني جنب ماما.
شدّ “بهاء” على فكه بغيظ، وعنفها بنبرة غاضبة: ماشي يا “روح”! هروح أستقبل أخويا…
بس انتي متتحركيش من مكانك لحد ما أرجع.
مش ناقص مصايبك، فاهمة؟!
أومأت برأسها بطاعةٍ حزينة، دون أن تنطق بكلمة.
فغادر “بهاء”، بينما يعتصره شعورٌ متناقض؛ لم يكن يشعر بالراحة لتركها وحدها، لكنّه لم يكن يملك حلًا آخر…
كيف يصطحبها معه إلى البيت، في غياب أهله، وهما وحدهما!!!
***********
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فأما اليتيم فلا تقهر)