رواية غوثهم الفصل المائتان وتسعة 209 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائتان وتسعة
رواية غوثهم البارت المائتان وتسعة

رواية غوثهم الحلقة المائتان وتسعة
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الأخير_الخاتمة”
“يــا صـبـر أيـوب”
________________
يا ربّ!
أنزع من قلبي حب الدنيا
أنسني بك وبكتابك
فقهني في الدين
أمِتني علي دينك
أعفُ عني
أعِد إليٰ قلبي
أرزقني حُسن الحياة وحُسن الممات
صُبّ عليّ الخير صبًا
ثبتّ في قلبي حفظ القرآن
لا تُشقيني بصُحبة أحد، ولا تجعل أحد يشقى بصُحبتي
أخرجني منها بالستر وحسن الذكر، وأنت راضٍ عني
أجعلني مُستجابة الدعاء..
وفوق كل ذلك إدخلني الفردوس
دون حساب ولا سابقة عذاب!
يا ربّ.
_”مقتبس”
____________________________________
لكل بداية نهاية..
واليوم تنتهي الرحلة من حيث بدأت، حيث العودة للبارحةِ حين كنا أنا وأنتم مجرد غرباءٍ في أطراف المدينة، يقبع كلٌ مِنا في أطرافٍ مُتنائية عن الآخر، اليوم أنتَ في خضم التحدي والاعتراف لك بما أحمله في سريرتي؛
حيث اليوم أخبركم وبكل صراحةٍ أنكم على لقاءٍ مباشرٍ مع الكاتب لتلك الرحلة..
ورُغم ذلك لا يُغريني الاعتراف بكوني كاتب هذه القصة، ولا حتى كوني أنا الشخص ذاته الذي سرد حكايا الأبطال بمجرد كلماتٍ وحروف تشكلت لتكتب ما كتبته،
ولا حتى كوني أنا الأشخاص بذواتهم..
عزيزي القاريء الذي لا أعرفه، تلك الرحلة استغرقت مني عامين كاملين حتى أصل لتلك النقطة فيها، وأنتَ على موعدٍ مع كاتبٍ تعددت أوصافه؛
فالبعض رآني مجرد سارقٍ للكلمات أحاول شق الطريق بكتاباتي، والبعض الآخر رآني مجرد هاوٍ يسعى خلف الشُهرة فحسبٍ، والبعض وصفني بالظلم لكوني كتبت عن معاناة الأبطال دون رأفةٍ بقلوبٍ تهرب من الوجع، والبعض الآخر_ وبالأخص هؤلاء الذين أقسموا ذات يومٍ بما أكتبه_ وصفوني أنني لا استحق ما أنا عليه اليوم من تقديرٍ وشُهرةٍ.
أما أنا، ففي الحقيقة لا أعتني بكل الآراء لطالما لم يعتنِ صاحبها بوقع كلماته على الآخرين، فأنا إن كنت بالأمسِ فريسةٌ للعالم، و
اليوم تعلمت كيف تعيش الضواري، والفارق بين اليوم وبين أمسٍ، أنني رأيت في قلمي ما لم أرهُ في غيري،
فكان قلمي يبحث عن خبايا الحقائق،
ويُفتش في ثنايا الدُنيا ليسرد عن الوجيعةِ،
ويوم أن كتبت أردت أن يكون قلمي للعقول “غَـــوثِـهِـمْ”.
<“ما أشبه الليل بالبارحةِ حين كُنا غريبين، عاصيين”>
الدنيا فوق جناح طائرة تختلف،
الحياة تراها من منظورٍ آخرٍ، كأنك في مشهد ختامٍ لمسرحيةٍ درامية تحملتها بكل ما فيها من حبكاتٍ وقصصٍ وخداعٍ وكأن عينيك معصوبتان بقماشةٍ سوداء عن النهاية المُحتمة، فيوم أن تظهر الأضواء، فتميض وتخبو على الحقيقة، تُذهل، تُدهش كون الحقيقة كانت مُتعارية أمام عينيك، لكنك أردت أن تَنبذها عن مرآى بصرك ومن قبلها بصيرتك..
مشهد الختام هنا يستحق التأمل..
حيث المدينة تبعد عن عينيه فتظهر مُكتظة، مليئة بالأضواء وأسفلها يشبه الركام الساقط فوق بعضه، حلقت الطائرة بعد رحلة الوداع المُشرف، رحلة العُمر مع من يُحب كما يقول، أراد للأراضي الطاهرة أن تشهد على التوبة النصوحة، واختار جنة الأرض لتشاركه، فكان يتنفس لأول مرةٍ، نظرة والده له قبل الرحيل جعلته يتمنى الموت حتى لا تُفسد الدنيا عليه ما وصل إليه، تذكر آخر حديث “نَـعيم” له حين قال بصوتٍ باكٍ:
_تروح وترجع بألف سلامة، ربنا يرضى عنك ويتقبل منك، وأنا هفضل رافع راسي العمر كله بيك، مش بس دلوقتي بـ “مُـحي” اللي قصاد عيني، لأ من قبل كدا بكتير، علشان قلبك حنين ودافي، قلبك مفيهوش غُربة لحبايبك، ورغم كل حاجة كنت عارف إني مش غريب في عينيك.
وقتها هبط يُلثم كفه، يضمه بشوقٍ، يختبيء في عناقه، عاد قلبه رقيقًا كما كان طفلًا صغيرًا، ودعه ورحل بصحبة الزوجة عندما أُعلن عن إقلاع الطائرةِ، ودع أخوته وبالأخص “إيـهاب” الذي شدد عناقه وظل يذكره بأهمية الدعاء له ولأمه أن يكون اللقاء بينهما في جنة الخُلد، حتى يعوض قِصر اللقاء بدنيا الفناء..
شعر باهتزازٍ في المقعد المجاور له، فوصلته ارتجافة جسدها بخوفٍ حين بدأت إطارات الطائرة ترتفع عن الأرض بالكُليةِ، لذا علا رجيف قلبها ومدت كفها تتمسك به، بينما هو فمد يده يربت فوق قبضة يدها وهمس لها بحنوٍ:
_بتخافي من الطيارات يا “جـنة”؟.
أومأت هي تقاوم وتُجاهد كي تبقى بهذا الثبات ثم أضافت بصوتٍ مزقه الاهتزاز:
_عمري ما ركبت طيارة، معرفش إنها مخيفة كدا.
ابتسم بحنوٍ ثم مد يده يدعم مرفقها وهو يدعو الله أن يبث قلبها الأمان، نظراته الحانية حين مسد فوق يدها وهو يهمس بالدعاء جعلها تنتبه حين انتابتها قشعريرة لذيذة في جسدها، ظلت تُراقبه وهو يتلو آيات القرآن الكريم ثم همس بخفوتٍ:
_أول ما الطيارة تتحرك كل حاجة هتكون كويسة، بعدين إحنا في رعاية رب العالمين وحفظه، احسني الظن بالله وبصي للي جاي، العمرة اللي كان نفسك نطلعها مع بعض أهيه كلها ساعات قليلة بس ونوصل، الحمدلله ربنا رزقنا بيها في عمر الشباب، يعني فينا صحة وطاقة، ربنا يقدرنا ويتقبل منا، وعقبال ما نيجي مع ولادنا أنا وأنتِ.
ابتسمت له بحبٍ، بسمة تخصه وحده من عينيها، حين أراحت رأسها فوق ذراعه وجدها تتنهد بقوةٍ كأنها تقوم بطرد الخوف من صدرها ورئتيها ثم قالت بصوتٍ أقرب للهمسِ:
_مش مصدقة نفسي وأنا بسمع الكلام دا منك أنتَ، سبحان الله ربنا بدل كل خوفي منك لأمان مجربتوش قبلك ولا كنت أعرف حاجة عنه، كنت بحمد ربنا إني قادرة أتحكم في مشاعري علشان مغرقش فيك، بس دلوقتي بحمد ربنا إني نصيبك يا “مُـحي” ويا رب كل واحد فينا يكون عوض للتاني دنيا ودين، وربنا يرزقنا صلاح الأحوال وهداية القلوب.
ابتسم بالعينين أولًا، ثم كرر بسمته بالشفتين، ثم لثم جبينها تركها تقبض فوق ذراعه بقوةٍ بينما هو فكان لا يُصدق ماهو عليه، حياته تتشكل بطريقةٍ لم يصدقها هو ذات نفسه، الحياة دربٌ لم يكن بالسهلِ عليه أن يسلكه، بين معصيةٍ وتوبةٍ كان يهتز الطريق به، لم يكن صراطه مستقيمًا؛ لكنه كان يحاول أن يستقيم، خلق وتربى وعاش فاسدًا، لكن عبرته كانت بالخواتيم، وخاتمته تستحق التأمل..
انتهت رحلة الطائرة، ومعها الوصول للفندق المُطل على الأراضي الطاهرة، لم يستطع أن يتأخر أكثر من ذلك، تجهز وتجهزت زوجته، وبعد مرور دقائق نزلا سويًا، حيث بداية مناسك العُمرة، بداية من دخولهم عند الكعبة المُشرفة، حيث وجد الفراغ فيه يمتلأ، رأسه تهدأ من كل صخبٍ، نفسه الضائعة تحضر وتستقر من التيه، الدمع عرف الطريق للعينين، والقلب بدأ ينبض بخشوعٍ..
شعر كأنه دلوٌ ممتليء بالدنسِ والوسخِ وبدأت المياه الطاهرة تنسكب فيه لتطرد كل القبح منه، هكذا هي توبته، بدأ يدرك الغاية من تواجد البشر فوق الأرض، الهدف من كوننا هُنا لعبادة رب العالمين، قد تكون الحياة في نظر البعض للترفِ والرغد، لكنها في عيني المؤمن تكون سجنًا؛
هو فتىٰ جاهد الدُنيا وأهلها ولم يجد في الجهادِ عدوًا إلا نفسه، وقف نادمًا على الخطايا والذنوب ودعوة القلب الباكي بتضرعٍ كانت برجاء قبول التوبة، وقف يتمناها من رب العالمين، وقد جاورته زوجته تبتسم بنظراتٍ تُهلل بامتنانٍ لنعم الخالق.
ففي وحدتها وجدته زوجًا صالحًا ورفيقًا طيبًا، وفي التعرج للسير وجدته عصا تتوكأ عليها وهي تقصد المسير لرب العالمين، وفي الهداية كان منافسًا قويًا لها يجعلها تجاهد الحياة والدنيا للفوز بدار القرار في النهاية، وفي الدنيا كان الملجأ من بعد رب العالمين، حتى هذه الزيارة الكريمة التي حلمت بها كانت المكافأة منه لها كما وعدها، فدعوات الليل لا تُرد، ولطالما دعت الله له كل ليلةٍ في قيامها، أتت الاستجابة من يقين الفؤاد.
التفت بعينيه الدامعتين لها ولازال يحترم بنظراته قُدسية المكان، بينما هي ربتت فوق كتفه وهمست بحنانِ أمٍ تمسح فوق فؤاد صغيرها حين يبكي:
_اللهُمَّ اجعل سعينا موصولًا للخير الذي نرجو،
وخطواتنا مُباركة حتى نصل، اللهُم توفيقًا وبشرى منك لقلوبٍ أضعفتها الدنيا ولازالت تجاهد، ربنا يرزقنا القوة على جهاد النفس والثبات على الطاعات.
لثم جبينها ثم سحب نفسًا عميقًا يُطهر به عمق أنفاسه، ثم بدأ معها يتحرك وهو يشرح لها مناسك العمرة بعدما حفظها عن ظهر قلبٍ، ظل يقرأ ويحفظ ويُلقنها لعقله حتى حفظها في سردابٍ مفتوحٍ تغطيه الزهور التي حلقت فوقها الفراشات بمجرد وصوله لمكةِ المُكرمةِ..
هُنا وتم مشهد الختام بينهما،
مشهد الختام للقصة التي حملت في كل صفحاتها مشاعرٍ شتىٰ، حيث الخوف، الوحدة، الانتكاسة، الفراق، الانتفاض، الحرمان، الموت، الضلال، الظلام، العودة، الحق، الصراط المستقيم، مشهد يستحق التأمل والنظر للدنيا بالعين المُجردة، حيث اللاغطاء ولا حجاب وإنما، الحقيقة المكشوفة كما وضوح الشمس..
أن الدنيا كانت ولا زالت مجرد دارٍ للاختبار،
والآخرة هي دار القرار؛
فاللهم ارزقنا الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب.
____________________________________
<“فتح عكا كان أيسر على قلبي من اقتحام حصونك”>
البداية لا يترتب عليها أي شيءٍ..
العِبرة في المشاعر المولودة بمنتصف الطريق، في المُعافرة للاستمرار، في التحدي للكمال، في الشجاعة للهجوم،
البداية مجرد نقطة لا تعني سوى التعريف فقط، أما البقية فهي الطريق بذاته، وبداية المُحارب رجفة في القلب، ثم خوض المعركة بقلبٍ جامدٍ لا يخشى حربًا ولا شظايا نيرانٍ..
فالحُب هو حربٌ مسقوطة الراء، والرابح فيها الشجاع.
أربعة أشهر مروا على زواجهما..
والحياة تتأرجح بين العمل والحياة والروتين والحب، ينهزم المحارب من المعشوقة بضحكة من العينين، ثم يعود ويفرض هيمنته في الحرب، وبين كليهما تتحرك القلوب وتتعانق لتبث بعضها الأمان بالقربِ، الزواج كشف له حقيقة تلك التي نالها من الدنيا نصيبًا له، وأجهر لها هي حقيقة الرجل الذي تزوجته، فازداد كلاهما قراءةً لشفرات الآخر..
كانا بداخل السيارة التي يتولى هو قيادتها وقد كان ولج حارة العطار بعد عودته من العمل معها، انتهى اليوم العصيب عليهما بعد مناوشات ومزايدات في العمل حتى تم ارهاقهما سويًا، لكن يبدو أن المدينة غاضبة، البحر في مُقلتيها هاجت أمواجه فازدادت ظُلمةً، جفونها ضاقت كأنها رمال غاضبة على شاطئها، راقبها بطرف عينه ثم صمت لحين ولجا شقتهما بعد وصولهما ثم سألها بثباتٍ:
_مالك يا “رهـف” ساكتة ليه؟.
انتبهت لصوته فرمقته بغيظٍ ثم تجاهلته تقصد الدخول للممر، بينما هو فلم يكن من هؤلاء الذين يتمتعون باللامبالاةِ حتى يتجاهلها هو الآخر، لذا خطى خلفها مسرعًا وقال بنبرةٍ زادت جمودًا وإن كان يُجاهد كي يبقى هادئًا:
_مش بكلمك؟ ردي عليا يا “رهـف”.
اغتاظت أكثر كأنثى مجروحة منه، فالتفتت بحدةٍ تخبره بغيظٍ منه لم تجرؤ أن تحتويه بين جنبات صدرها أو تخفيه في عينيها:
_دلوقتي عاوزني أتكلم؟ وفي الشغل ماكنتش واخد بالك مني أصلًا وأنا موجودة يا “عُـدي” كأني هوا في المكان، فضلت تتلزق فيك وصممت تراجع الورق معاك وأنا موجودة، لأ واللي زاد وغطى تقولك بكل قلة أدب “الجواز غيرك خالص يا مستر عدي، مش معقول بجد بقيت Attractive “جذاب” خالص”.
كانت تقلد زميلتها بالعمل، تلك الفتاة التي لا تترك فرصة إلا وقامت بحشر نفسها بقربه، مجرد تواجدها يُضيق عليها الخناق، يجعلها في حالة دفاعٍ مستميتٍ عن حقها وهي تبغض كونها بحربٍ على الدوام، تعلم أنه لم يجعل أي واحدةٍ تتمادى وتتطرق لما لا يخصها بشأنه، لكنها تكره كونها في حربٍ باردة لم تُدق بها الأبواق..
لمح الغضب المقترن بجرح الأنثى في عينيها، فقرر المهادنة، عليه أن يكون أهدأ، لذا مد يده يلمس مرفقها وهو يسألها بهدوءٍ:
_طب وهو أنا سكت ولا رديت ووقفتها عند حدها؟ ومراجعة الورق علشان نخلص الحسابات لحد ما نشوف “ضُـحى” ناوية على إيه كان لازم تخلصها هي، بعدين لو قدامي مين في الدنيا دي أنا مش شايف غيرك أنتِ، مش محتاجة أقولك كل شوية إن لا قبلك ولا حتى بعدك حد هيقدر يوصل جوايا زيك أنتِ، بطلي هبل وخليكِ واثقة فيا وفي حبي ليكِ.
هدأ الموج الغاضب في عينيها، بدأت تلجأ للسلمِ وهي تعلم أنه كفى ووفىٰ في الحرب بدلًا عنها، خاصةً حين تذكرت جملته التي رد بها على الفتاة يوقفها عند حدها بقوله الذي ألبسه وشاح الجمود والصلدِ:
_والله بقيت Attractive علشان مع الست الصح اللي مخلياني مرتاح نفسيًا ودا أولًا، ثانيًا ياريت بلاش نتكلم في حاجات خارج الشغل، ثالثًا ودا الأهم إطار الإجتماع هنا قائم على العلاقة بين مدير وموظف فياريت محدش يتخطاها مننا، اتفضلي حضرتك كملي.
تركها حينها تكمل العمل ثم تحرك نحو “رهـف” التي كانت تقف عند مكتبه تُحضر أشيائه قبل الرحيل، وحينها تعمد أن يقترب منها وبغير مقدمات سحب يدها يقبض عليها ثم أجلسها فوق مقعد مكتبه كأنه يعطيها صلاحيات تفوق عملها، تذكرت هي موقفه فوبخت نفسها على إنكارها لدور المحارب العظيم، لذا قالت بتوضيحٍ:
_أنا واثقة فيك بس مش مرتاحة معاهم، فكرة إني ممكن أكون بتعامل مع حد بطبيعتي وهو شايل جواه حاجة ليا غير الحقيقة دي تخوف أوي، متزعلش مني بس مش المفروض ألاقي واحدة بتقرب من حبيبي وتعاكسه وأقف أسقفلها يعني، ما لازم أتضايق.
تغاضى بالكلِ عن الحديث وانتبه فقط للكلمة التي تخصه، اقترب منها بتهملٍ حتى سقطت هي فوق المقعد ورفعت عينيها له بضحكةٍ خجولة، بينما هو همس مستفسرًا:
_طب وهو حبيبك مالهوش مكافأة؟.
مال يُلثم وجنتها فهمست هي توازي نبرته بخجلٍ:
_”عُـدي”..!!
وجاء الرد منه على غير المتوقع كأنه يتفنن في انتقاءه:
_يا راحة قلب “عُـدي”.
رد بأول ما بدر لذهنه بصدقٍ، فيما ابتسمت باتساعٍ وقد جلس هو على عاقبيه أمامها وقال بصدقٍ تزايد:
_أنا ماحبيتش في الدنيا حد قد ما حبيتك أنتِ، ولا عندي استعداد أقبل بحد غيرك، وعندي قدرة تخليني أسكت أي حد يتخطى حدوده، أطمنِ علشان أنا مش من النوع اللي أي ست تنكشه؛ يتنكش، إلا لو الست بتاعتي تحب تنكشني يعني أنا موافق ومرحب.
ضحكت وضحك معها وقبل أن يتجدد الحديث وقبل أن يعتدل وجدها تبكِ !! توسعت عيناه وهو يُرفرف بأهدابه بينما هي فلم تعلم سببًا للبكاء لكنها قالت الحقيقة دون توريةٍ أو إخفاءٍ:
_أنا مشكلتي إني عملية زيادة عن اللزوم، مشاعري دي مبعرفش أتعامل بيها خالص، أو بطلت أتعامل بيها، وأنتَ السبب على فكرة، علشان أخلاقك وذوقك معاهم مخليينهم يتمادوا، أنا لما بغير على حد بعيط.
راقبها لثوانٍ وبدأ يدرس ملامحها بعناية، وجهها المُصفر، نوبات البكاء التي تتجدد حتى في العمل _على غير عاداتها_ وفقدانها لطاقتها، نوبات القيء التي تداهمها منذ يومين، فداهمها هو بدون مقدمات:
_”رهـف” أنتِ حامل؟.
تيبست بوضعها حتى أن عينيها سكنتا في محجريهما دون حراكٍ، فدامت النظرات المختلفة بينهما وطالت وقد قررت هي كسر حاجز الصمت بقولها الخجول:
_إيه؟ لأ طبعًا حمل إيه، إحنا لسه متجوزين، بعدين بتسأل ليه؟.
سألته بتعجبٍ فابتسم رغمًا عنه ثم سخر منه بملامح ضاحكة:
_بقالنا أربع شهور، يعني طبيعي، بعدين هرموناتك البايظة دي أنا شاكك فيها، عياط وخنقه وعصبية، كل شوية معدتك توجعك، بقيتي عصبية ولسانك بقى يفلت عليا، فلازم أعرف دا حمل وتبقى هرمونات نحترمها، ولا دي طولة لسان بس فأمد أيدي وأظبطك بعلقة محترمة؟.
توسعت عيناها وهي تشعر بالتوتر، لا تدري هل هذا خجل أم توتر فارط من عُقاله، أم مجرد الشعور بغريزة الأمومة جعلها تقلق، لا تعلم شيئًا سوى أن ترغب في البكاء، والأمان أيضًا، بينما هو تحرك وتركها وحدها، رأته يفتح باب الشقة ثم اختفى لمدة دقائق، كانت هي تجلس بموضعها، لا تعلم من الأمر أي شيءٍ حتى وجدته يعود ويمد يده لها بجهاز اختبار الحمل.
بعد دقائق في ترقبٍ وتوترٍ قضتها هي بخوفٍ بينما تسلح هو بالثبات، كان يجلس مرتخيًا لا يشعر بشيءٍ سوى أملٍ، فهو يعلم أن لو حدث الأمر فهي هبة من رب العالمين، ولو لم يحدث فهو رزق ولم يحنِ وقته، لذا رآها تخرج من الرواق ثم وقفت أمامه وقامت بإبعاد خصلاتها وهي تمد يدها بالجهاز ثم قالت بصوتٍ مرتجفٍ:
_شوف أنتَ علشان أنا متوترة وخايفة.
ابتسم لها حين وقف يواجهها وقبل أن يمد يده يلتقط الجهاز قال بصوتٍ غلبه الهدوء والحنو:
_مش مستاهلة كل دا، لو حصل وحامل فالحمدلله على الرزق ولو محصلش لسه، فدا طبيعي ولسه العمر قدامنا وهي كلها أربع شهور بس، المهم متزعليش أو تخافي من حاجة.
رفع الجهاز يراقبه ثم زفر بإحباطٍ وضم جفونه وهي تراقبه بتلجلجٍ، مشاعرها التي تخبره أنها غير موجودة أغرقتها وفاضت من عينيها، بينما هو ضمها لصدره ثم قال بصوتٍ ضاحك:
_فلتي من العلقة يا بنت المحظوظة، حامل.
شهقت بدهشةٍ وعادت تسأله بوهج العينين، فوجدته يُلثم جبينها ثم عاود ضمها من جديد وهو يقول بحبٍ ومشاعره التي ظهرت فوق السطح تنافس لمعة الغروب على شاطيءٍ ما:
_ربنا يقويكِ ويقدرك ويقدرني، بكرة تبقى بنوتة حلوة زيك.
ترقرق الدمع في عينيها وهي تراقبه، لا تعلم أن الحياة تسير بما يُخالف مخططاتنا، وكأن دفتر الحياة يُخالف قواعد السير بها، بالأمسِ ظنت أحلامها مختلفة في حياةٍ لم تمت هذه بصلةٍ، ثم شاء الخالق بنصيبٍ غير الذي توقعته، ثم توقفت عن السير، أعلنت الاستسلام، حصنت نفسها وقلبها من أي هجومٍ آخر، خافت الفقد حتى لا يموت القلب تلك المرة، ومن ثم أتى المحارب العظيم، داهم القلاع وباغت وحارب لأجلها، حتى حين فُرض عليه الهرب؛ عاود لأجلها.
راقبته، أمعنت النظر في ملامحه الحنونة، لقد أتاها حنونًا عليها أكثر من نفسها على نفسها؛ حتى في القسوة كان الأكثر حنوًا، لقد غير الخارطة، بدل الخوف لأمنٍ، أصبح أهل القلب من بين غُربة ناسه، لذا ضمته هي تلك المرة تُصرح بما يُخيفها:
_أنا بخاف عليك أوي، بخاف في يوم تختفي من طريقي أو حتى الدنيا تجبرنا نتفارق، الحمل دا سبب ممكن يخليك معايا حتى لو مش عاوزني صح؟.
وهو كطبيعة كل الرجال يجهل كنه الحديث من المرأة، لكنه استشف الخوف في الحروف، لمح اهتزاز المُقلتين فتنهد برتابةٍ ثم مسح فوق عينيها بكلا إبهاميه وقال بحنوٍ غلب على اللحظة:
_مش بأيدي أسيبك وأمشي، مش عاوز أصلًا، حتى لو زي ما أنتِ فاكرة إن فيه وقت هختفي والهاجس دا لسه موجود فدا مش بأيدي برضه، هيبقى القدر والنصيب، بس أنا أملي في ربنا كبير إن الطريق يكمل بيكِ زي ما بدأ معاكِ، متخافيش مني، خافي عليا.
ابتسمت بغلبٍ وهي تمسح عينيها ثم قالت بقلة حيلة:
_هو أنا مغلبني غير خوفي عليك؟.
والخوف والحُب في قاموسها سيانٌ..
لا شيء يختلف عن الآخر، فلو لم يكن القلب ملك يمين القلب لما كان الخوف ظهر، هي تخاف الدنيا من دونه لأنها تحبه، وهو حين أدرك ذلك ضمها بقوةٍ لعناقه، ضمها حتى جعلها تتيقن أن الأمان فقط ستجده معه هو وبين ذراعيه، هو الذي يعلم قسوة الحياة ماذا فعلت بها وكيف سرقت من قلبها الأمان، لذا هو يُجابه ويحارب الحياة فقط كي تحيا هي بأمانٍ.
ومشهد الخِتام هُنا يستحق التأمل في عطاء رب العالمين..
فكل قصة وإن انتهت لا يعني ذلك نهاية الحياة، لكن لكل نهاية نقطة تبدأ منها الحكاية الجديدة، وحكايتها الجديدة كانت جميلة بقدر كل قُبحٍ مر، حنونة بحق كل القسوة، لطيفة بحجم كل العنف الذي داهم أيامها، وفي النهاية وجدته يضعها فوق الفراش ثم دثرها ومال يهمس في أذنها:
_لأجل عينيكِ أتينا بالوردِ،
فكان الرد منكِ بالودِ، وما بين الورد والودِ
وهبتيني حياةً وكأنها الوفاء منكِ بالوعدِ..
وانتهت حكاية أخرى بدأت من الطلب بوردةٍ كحقِ مُكتسبٍ فوصلت لودٍ كرد الحق لأصحابه،
وبين الورد والودِ وفت القلوب بوعدٍ وهي توهب غيرها الحياة.
____________________________________
<“النور في طريقي مهما اختفى كان ساكنًا في الفؤاد”>
كل الحكايا لابُد فيها من نقطة ظلامٍ..
نقطة توهبك التفكير في مُراد النور وأنتَ غارق في غسق الدجي، حين تغرق في غياهب الظلام وتقتنع أن هذا هو مصيرك لا مفر منه، فتأتيك نقطة نورٍ من على بُعدٍ تجعلك تنتفض، تخشى قسوة الظلام، تحارب لأجل النور، تجعلك في صراعٍ بين خيرٍ لا تجده فيك وبين شرٍ أسمى معانيك؛ فتجد نورك وأنتَ الذي أطفأت الحياة الروح فيه.
انتهت فترة الحمل أخيرًا، مروا الشهور التسع بكل ما فيهم عليه وعلى كل من حوله، تأخر الرزق عنه لكنه أتى أخيرًا، حين كان في حديقة بيته يرعى “چـودي” التي وهبها “مُـنذر” مُهرة صغيرة بإذن من “إيـهاب” الذي نقلها لعندها وأمر “سـراج” بتولي رعايتها وتدريبها، فكان يقف بجوار صغيرته وقال بهدوءٍ:
_أهم حاجة علشان الخيل يكون مرتاح معاكِ هو الأمان النفسي، زي أي إنسان هتتعاملي معاه، ينفع أتعامل معاكِ وأنا خايف منك أو العكس؟ أكيد لأ، والخيول كدا كمان، بتحس وبتعرف مين بيحبها، خصوصًا العربية اللي زي دي، عندها عزة نفس متخليهاش تتعامل مع حد مش مقدرها، فلما تيجي كل شوية تخَونيها كأنها هتغدر بيكِ هي هتزهدك، مش هتحب تعاملك، علشان كدا لازم تضحي أكتر وتحبيها أسرع، يا كدا يا هتفضلي خايفة وهي تفضل جامحة.
حركت رأسها ثم اقتربت من المُهرة الرُمادية ومسدت فوق عنقها، تحاول أن تقترب وتقفز لأجلها الحواجز، تتدرب هي بطبيعتها، وقد راقبها “سـراج” حتى وجد مدبرة البيت تركض له وهي تقول بلهفةٍ:
_المدام شكلها بتولد يا أستاذ “سِراج”.
ركض مهرولًا والصغيرة خلفه بعدما تركت المُهرة في الحاجز الخشبي، وقد حملها وركض مهرولًا تجاه سيارته وهي تصرخ، استمع والدها للصوت فركض هو الآخر تجاه السيارة يعتلي مقعد القيادة وجاورته “چـودي” بينما “سراج” جلس يحتضن زوجته التي كانت تصرخ وهي تشعر بأنفاسها تهرب منها..
وصلت داخل غرفة العمليات وبقوا هُم بالخارج رهن الانتظار، كانت الصغيرة أخبرت “إيـهاب” الذي ترك العمل في خضمه وأخذ معه “إسماعيل” وركضا للرفيق، كان هو يجلس بخوفٍ من فقدها، هو رجلٌ فقد عالمه بالكلِ، فأصبحت هي عالمه، لذا عاد بذاكرته لما سبق وفقد حتى حين فقدها هي لما يُقارب الأربع أعوامٍ، لذا ابتهل بقلبٍ مختنق الأنفاس:
_يا رب، يا رب قلبي ميتوجعش عليهم، يا رب.
شعر بيدٍ قوية تضم كتفه فما كان إلا “إسماعيل” الذي شاكسه بقوله ضاحكًا:
_هتبقي أب يا بيضة؟ ياختي كبرتي وأحلويتي.
ضحك مرغمًا فيما جاوره الآخر وقال بهمسٍ خافت:
_لو هي بت وشبهك هاخدها أنا، هتسخسرها فيا؟.
_تيجي بس هي بخير وأتطمن عليها هي وأمها وساعتها يا سيدي براحتك متغلاش عليك، أول مرة أخاف كدا من سنين.
ربت فوق كتفه وقد اقترب “إيـهاب” منه وقال بثباتٍ:
_هقولك تاني إنك لازم تنشف؟ هتخرجلك يا حبيبي وتخليك تعض صوابعك من الليلة فكرت فيها تخلف، سواء هي ولا أمها.
ضحك “سراج” رغمًا عنه من جديد وقد وجد “تَـيام” يقترب منها وهو يسأله بلهفةٍ متوارية خلفها السخرية:
_طمني يا خالو، بقيت بابا ولا لسه؟.
عض “سراج” شفته يكظم غيظه ثم هتف بحنقٍ:
_خالو مين يا شحط دا أنتَ أب قبلي.
والآخر جاوبه بخبثٍ امتزج بوقاحةٍ عبثية:
_طب مش مكسوف والواد حاطط على خاله كدا.
في نفس اللحظة ولج “يـوسف” الذي ترك عمله وذهب لرفيقه _بالطبع ليقوم بحرق أعصابه_ حتى يؤازره ويرافقه، وقد لمحه “سراج” فأغمض عينيه وانتبه لسؤال “إيـهاب” حين استفسر بقوله:
_جيت ليه؟ مش قولت وراك شغل مهم؟.
وأتى الجواب من “يـوسف” بثباتٍ:
_جيت علشان أشوف البت اللي دونًا عن كل الناس يطلع أبوها “سـراج” دا ابتلاء من ربنا ليها، لازم نتصرف ونلحقها، سلالته لازم يتحافظ عليها منه.
حدجه بنظرة شرٍ وسكت، فضل الصمت وفي قلبه امتنانٌ يملأ البحر كونهم لم يتركوه وحده في يومٍ هكذا، لقد سبق وتم طرده من جنتهم ليسكن جحيم الشارع، تم نبذه من قربهم، تقطعت الصورة التي حملته معهم في الإطار ذاته، طُرِد خارج الكادر الذي سكنه من ذي قبل، لكن اليوم الصورة عادت تجمعه معهم، عاد بطلًا من ضمن الفُرسان وإن كان هو يركض في ساحته الخاصة، ظل يرمقهم بتيهٍ حتى وصل “نَـعيم” واكتملت الصورة بطابع الأبوة أيضًا.
ساعة عقبها نصفٌ وخرجت زوجته من الغرفة أولًا للغرفة الأخرى، وبعد نصف ساعة أخرى خرجت له ابنته تحمل ضي العالم في وجهها، حملها برفقٍ وتجاهل نبض فؤاده، وجد العالم يُنير فجأةً وهو يحملها كأنها وصف اسمها، همس بخفوتٍ وبنبرةٍ ظهرت فيه عاطفة أبوته:
_”ضَـي” !!.
بكت الصغيرة كأنها ترد عليه، حينها ارتجف قلبه وازداد تعلقه بها، ضم يدها يُلثم كفها ثم ظل يُكبر ويذكر الخالق في سمعها، حتى وجدها تفتح عينيها وتحدفه بموج البحر من زرقاوتيها، فتاة تُشبهه وإن لم تتبين ملامحها حتى الآن، رق قلبه من جديد حين ركضت “چـودي” تحملها وتُلثم وجنتها ويدها الصغيرة، وقد اقترب “يـوسف” منها يراقب الصغيرتين، الصفات الأجنبية تظهر عليهما بطابع مصري وشرقي في جماله الخاص..
بارك له الرفقة وضمه “نَـعيم” يوصيه على الابنة ومراعاتها، بينما “عـادل” فهرول لابنته يطمئن عليها، تلك التي تخصه من كل العالم، وجدها بدأت تفيق من أثر الألم والصراخ فمال عليها يُلثم جبينها وهو يقول بصوتٍ باكٍ:
_كبرتي يا “نـور” وبقيتي أم؟ أنا لسه فاكر يوم ولادتك وأول مرة شوفتك فيها وشيلتك على أيدى، دلوقتي هاشيل بنتك؟ الأيام بتحري بسرعة أوي، وأنتِ أحلى حاجة فيها.
ضمته ما إن مال عليها وقد ولج زوجها يحمل ابنته، وضعها بقرب نبضها ثم حاوط ذراعيها بكفيه وهو يقول بهمسٍ غرق بالفرحةِ حتى ظهر ذلك في صوته عن قوله:
_أمسكِ “ضَـي” وشوفي الدنيا بعينها.
حملت ابنتها وكأنها نورٌ يكتمل انتشاره في أيامهما، عالم جديد مع الصغيرة التي بدأت تموء كما الهرة الصغيرة التي تبحث عن احتواء صاحبها، أتت مُربيتها ووقفت بقربها تطمئن عليها وتخبرها كيف تواجه صعوبة إرضاع الصغيرة، تجربة جديدة، قاسية، صعبة لفتاةٍ تجهل دُنيا الأمومة، لكنها حاولت حتى بدأت الصغيرة ترضع من أمها التي ارتجف قلبها بخوفٍ من صعوبة أول مرةٍ..
بعد مرور بعض الوقت نامت الصغيرة في مهدها، بينما الشباب اطمئنوا عليها وعلى الأم التي تعتبرهم أخوةً لها وقد وقف “يـوسف” بجوار فراش الصغيرة وكأن مراقبة الصغار أصبحت هوايته الجديدة، بدأت تفيق الصغيرة فحملها بلهفةٍ يذكر الله بسمعها حتى استكانت بين ذراعيه وهدأت، فنطق “سـراج” بحدةٍ مفتعلة:
_سيب البت مكانها مش عاوز قلة أدب منك.
رمقه “يـوسف” ببرودٍ ثم لثم كفها وضمها أكثر يُقر بقوله:
_أنا وعدت “يـامن” هجيبله حاجة حلوة وأنا راجع يرضيك أخلف بوعدي معاه؟ بعدين هلاقي عيون أحلى من دي فين؟.
انتفض “سـراج” من موضعه يقول بنبرةٍ عالية:
_دا لو على جثتي مش هتلمح رمش فيها لا أنتَ ولا حيلة أبوه الصغير، أقولك؟ أنها هاخليها تترهبن.
تدخل “تَـيام” يؤنبه بطريقةٍ مُضحكة:
_لأ يا خالو كدا غلط، الأقربون أولى معروفة، وابني موجود.
قام “سراج” بطردهم جميعًا فتركها “يـوسف” بين ذراعي “نَـعيم” الذي ضحك بحصوله على الصغيرة وقد تراجع “سـراج” متقهقرًا حين لثمها جدها ثم طلب منه بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا طالب إيدها ليا، العيال دي صيع وهي خسارة فيهم.
انتشرت الضحكات عليه فيما ضحكت “نـور” التي لمحت والدها بجوارها يضحك هو الآخر أخيرًا وعيناه تنطقان بالفرح بعد عُمرٍ قضاه في غياهب الحزن، وقد نظرت لزوجها الذي ابتسم هو الآخر لها ثم غمز بشقاوةٍ لها وهو يضحك بعينيه، وقد فرغت الغرفة عليهما ومعهما ابنتهما، وحينها حملها واقترب يجلس بقربها ثم راقب كلتيهما وقال بامتنانٍ لها:
_أول مرة أحس إن شكرًا مش كفاية ليكِ، من أول مرة عرفتك فيها وأنا بدأت آخد بالي من حياتي كلها، الطريق اللي كنت ماشيه قبلك والحرام اللي كنت بحلله في لقمة عيشي، وكل حاجة غلط بقت صح في وجودك أنتِ، حتى لما رجعتي ليا رجعتي علشان حياتي تتعدل بيكِ، ودلوقتي الحياة كلها بين أيدي أهيه.
أشار على الصغيرة فوجدها تحملها منه ثم وضعتها بجوار قلبها ومدت يدها تربت فوق كفه وهي تقول بهدوءٍ:
_مش عاوزة منك شكر، كفاية بس تراعي ربنا فيا وفي بنتنا وتحافظ عليها من كل حاجة حرام، صدقني والله دي أحسن طريقة تشكرني بيها، إنك تخاف ربنا فيا وفيها.
ضمهما سويًا لعناقه وهو يقطع الوعد لها..
هو رجل الظلام رغم كون اسمه يحمل معنى النور، وهي النور بذاته ومن رحمها أتت بالضي لتضيء عالمه، هي وصغيرته نجوم السماء المُعتمة كأنه بضوئهما يستدل على كل صوابٍ.
وهُنا مشهد الختام يروي قصة النور من بعد الظلام..
يبعث رسالة لهؤلاء الذين أخطئوا ولازالوا يجهلون قيمة النور في الحياة، أن الظلام لا يُطرد إلا بنورٍ قوي،
الظلام لا يطرد ظلامًا كما تنص الحكمة الشهيرة، النور وحده من يستطع محاربة الظلام، فمهما كنت غارقًا في ظُلمة النفس؛ عليك بمحاربة الحياة في النور، وإن لم تكن تعلم فالنور دومًا يسكن في الفؤاد..
____________________________________
<“كره العالم لك لا يعني أنك لا تستحق الحُب”>
هناك حكمة قديمة شهيرة انتشرت في السُفن عند البحارة؛ ألا وهي أن المطر الذي يكرهه البحارة فوق السفينة،
هو ذاته الذي يرجوه المُزارع كل يومٍ من الخالق حتى يروي أرضه، فكون أن هناك فئة تكره شيئًا لا يُعني حتمية كره الشيء لمضمونه؛ ولكن قد تكون فُرص تواجده هي التي لا تستحق كونه هُنا، فمهما حسبت نفسك مطرًا فوق سفينة، لا تنس أنك قد تكون غيثًا في الأرض..
تمر الأيام بغير توقفٍ، تم زواجهما الشهر التاسع عليهما سويًا، يناضل هو لأجل حُريتها كأنها موطنه، وتهديه هي نورها لعالمه وإن كان الظلام يسكن في روحها، لم تعتنِ بالعالم من دونه، هو وحده من يخصها، تغيرت معه ولأجله وأعلنتها أمام العالم قبل والديها أن قلبها لا يستحقه غيره وحده، هو الذي يُحبها بالعيب قبل الميزة، بالقلب قبل العين، بالروح قبل الجسد، هو الباسل الوحيد في حربها مع نفسها، وهو الباسم في وجه حزنها.
اليوم العمل تعلم أنه يمر ثقيلًا عليه، منذ الصباح وهو مع “يـوسف” يدير المكان تمهيدًا لمهرجانٍ يُقام بقرب الأهرامات لتنشيط حركة السياحة، مُهمة رغم كونه يحبها لأجل صورة بلده في عين الغرباء، لكنه أيضًا يخبر العالم أن الضيوف لا مكان لهم سوى بالإقامة المؤقتة،
فالبلد لأهلها أولًا،
والبقية ضيوفٌ عابرة..
قامت بتجهيز البيت، حلم المراهقة الذي لم ترهُ في بيت والديها، ترتدي فستانًا من الحرير يناسب قوامها، ترفع طرفي خصلاتها وتجمعه في جديلةٍ تعتليها فراشة صغيرة وتترك بقية الخصلات حُرة، تصنع طعامه المُفضل وتتركه فوق الطاولة عند اقتراب عودته، تترك الألحان الناعمة تنساب لسمعها، ثم تفتح دفترها وتكتب عنه حتى ملت صفحات الدفتر من سيرته، لكنها هي لم تمل من كونها تكتب عن بطلها..
سمعت المفتاح حين ولج المزلاج، فانتفضت تُتمم على كل شيءٍ، اليوم مميز وهي مميزة، وكذلك ستكون ليلتها معه، بينما هو ولج بتعبٍ فوصله رائحة العطر المميز، يبدو أنها تعيش في رومانسية حالمة، فهو يقسم أن هذه لو نزلت للواقع وعاشت ما يعيشه بالشارع كل يومٍ لكانت غلفت حياته بالسواد، لذا هو يتركها هنا، يحافظ عليها من قسوة الحياة داخل بيته،
يخشى أن تطفيء الحياة لمعة عينيها بعد أن عادت..
ركضت عليه وهي تضحك بسعادةٍ فضحك هو الآخر ثم ترك نفسه لها وهي تمسك يده تسحبه للداخل ثم وقفت وبدأت تتحرك بين يديه حتى يُراقصها هو، وقد بدأ يُحركها وهي تضحك بعينيها قبل شفتيها ثم وضعت رأسها عند موضع نبضه وقالت بصوتٍ ناعم:
_وحشتني أوي، بقالك ييجي أسبوع بتيجي متأخر وتنزل بدري، ما صدقت قولتلي إنك بكرة إجازة، طمني الشغل ماشي كويس؟.
التفت يراقب الوضع حولهما ثم همس بضحكةٍ مكتومة:
_يولع الشغل، خلينا في تظبيط الشغل اللي هنا.
ضحكت بالمثل ثم حركت خصلاتها بغرورٍ وهي تضيف:
_دي أقل حاجة عندي، ها إيه رأيك؟.
قيم الوضع بعينيه مبدأيًا ثم عاد لها هي يراقب ملامحها وهي تضحك بوجهٍ مُشرقٍ وغُرتها تداعب جبينها بحريةٍ ثائر ولج الميدان أخيرًا، فمال يهمس في أذنها وهو يثني بجملةٍ واحدة:
_استثنائية عن كل الدنيا.
توهجت عيناها ثم قالت بنضجٍ يخالف تلك المراهقة التي بين قبضته:
_أتعلمت منك حاجة مهمة جدًا، هي إن كل يوم بيعدي مبيرجعش، فلازم آخد حقي منه كفاية، آخد اللي يرضيني ويرضي اللي ضاع مني قبل كدا، علشان كدا كل يوم باخد حقي من الفرحة في وجودك معايا، كدا كدا هييجي يوم ونزعل فيه وكل حاجة تتغير، علشان كدا باخد نصيبي كفاية من فرحتي بيك.
ابتسم بعينيه على منطقها، بينما هي وضعت رأسها فوق صدره تتنفس بقوةٍ، تخشى انقلاب السفينة فوق سطح الماء، حياتها معه أشبه بالمثالية وهذا ما يثير القلق في دواخلها، هي اعتادت الكره، النبذ، الفراق، وهو كل يومٍ يُبرهن لها أن العالم لا يعنيه بدونها، تبدلت النغمة في الخلف لأخرى مرتبطة بذكرى الطفولة، فركضت حافية الأقدام ترقص أمام الجدار وهي تراقب ظلها..
لم يكن الرقص بالمعنى المعروف، لكنها كانت تتحرك وهي تراقب الظل كأنها فراشة تُحلق في حقل زهورٍ، راقبها هو ببسمةٍ حزينة لاعنًا بقلبه والديها وكل من ماثلهما كي ينتهي الأمر بصغارهم يشحذون الحب من العالم بالخارج، اقترب يقف بجوارها وهي تدور حول نفسها؛ فالتقطها قبل أن تتوقف وتلقفها بين ذراعيه، دامت النظرات بينهما فرأى شيئًا مجهولًا في عينيها جعله يسألها:
_أنتِ مخبية إيه عليا؟ عيونك مداريين إيه عني؟.
مالت عليها تتكيء بسلامٍ ثم همست له بمراوغةٍ:
_طالما حافظ عيوني كدا ما تفكر أنا مخبية عنك إيه؟.
حاول أن يقرأ تعابيرها المُبهمة ففطن في الأغلب لما تخفيه عنه، لكن قبل أن يُفصح صدح صوت هاتفها حتى ارتدت للخلف فيما تحرك هو نحو الهاتف فابتسم بسخريةٍ وقال:
_ماما.
أمها التي أصبحت تُلِح عليها بالمكالمات في كل وقتٍ وحينٍ حتى بدأ هو يستاء من عودة تواصلها معها، لكن “نـورهان” هزت كتفيها بلامبالاةٍ ثم اقتربت منه تتصنع الإنشغال بعدل ياقة قميصه وهي ترد بعدم اكتراثٍ:
_سيبك منها، هقولها كنت نايمة.
رفع حاجبيه بغير تصديقٍ وقال يُدلي بفخره بها:
_حبيب قلبي، بقينا لبط وبنلاوع أهو.
ضحكت رُغمًا عنها وهي تعلم أن أغلب صفاتها أصبحت تشابه صفاته، حتى نهج الوقاحة في أغلب الأوقات أصبحت تشابهه فيه، ضمها وقبل أن يتحدث وجد الهاتف يصدح من جديد وصوته يرنو في سكون الليل فزفر بقنوطٍ ونطق بضجرٍ:
_أنا عرفت أبوكِ طلقها ليه، علشان زنانة.
وكزته بقبضتها ثم تحررت من قبضة يديه وجاوبت على المكالمة بفتورٍ أصبحت تتقنه:
_ألو.
_عاملة إيه يا “نوري” أنتِ كويسة يا حبيبي؟.
هكذا جاء الرد من أمها فلم تهتز بها شعرة واحدة، لم تتأثر باللهجة ولا باللقب ولا حتى بكونها تقلق عليها، فجاوبت بغير اندفاعٍ:
_آه كويسة متقلقيش، فيه حاجة؟.
_لأ أبدًا بكلمك من بدري بس مش بتردي كنت عاوزة أتطمن عليكِ علشان كل ما أكلمك ألاقيكِ تعبانة شوية ومرهقة، وداكِ لدكتور ولا سيادته مشغول عنك مش فاضي؟.
وصله صدى الحديث فتوسعت عيناه وهمس بحنقٍ:
_يا بنت الجزمة.
كتمت زوجته ضحكتها ثم همست بذات الجمود تدافع عنه:
_لأ طبعًا وداني لدكتور ومش سايبني، وساب شغله مخصوص علشاني وجه وواخد بكرة كمان اجازة، هو مش مقصر في دوره على فكرة يعني، بعدين اللي أنا فيه دا طبيعي.
أطلق صفير الإعجاب بما تقول ثم غمز لها وجلس يتابع الحديث بينهما، بينما زوجته تنفست بقوةٍ ثم قالت بثباتٍ:
_هخلي بالي حاضر من نفسي، لأ متقلقيش “كـنز” معايا هنا ومش سيباني، معلش علشان “بـاسم” بيناديني هروح أشوفه، سلام.
أغلقت الهاتف سريعًا ووقفت بشرودٍ تؤنب نفسها على الطريقة، لكنها بذات الوقت تراها العدل الوحيد في موقفها معها، بينما هو تحرك وترك موضعه ثم لف خُصلة من شعرها حول إصبعه وهو يهمس بمراوغةٍ:
_بقينا اشقيا وبنلاوع في الكلام، يا خوفي.
انتبهت له فتنهدت بضجرٍ وقالت بتيهٍ تشعر به في عمق ذاتها:
_مش بمزاجي والله بس هي مصممة تتعامل كأن مفيش حاجة، ومش طبيعي إنها تظهر مرة واحدة وأنا أقبل وجودها، لازم تعرف إن فيه حدود مش هسمحلها تتخطاها، أنتَ قولتلي أعمل اللي يريحني وهو دا اللي مريحني، وخلاص بقى سيبك من السيرة دي.
ابتسم بقلة حيلة بينما هي جلست عند الطاولة فجاورها هو وحينها قالت بنبرةٍ هادئة تلوم نفسها على الرد:
_كنت مبسوطة، ياريتني ما رديت عليها.
اقترب هو وأبعد خصلاتها عن وجهها ثم قال بصوتٍ دافيء:
_أنا موجود علشان تكوني مبسوطة، متزعليش نفسك.
ناوشت البسمة ثغرها ومالت تُلثم وجنته وعادت لسيرتها الأولى فشملها بنظرةٍ واحدة وداهمها بقوله حين وجدها تضحك بسعادةٍ:
_اتأكدتي إنك حامل صح؟.
أومأت بلهفةٍ وهي تضحك فيما ضمها هو بقوةٍ يخفيها بين ذراعيه عن العالم، ضمها وثبتها بجوار قلبه حتى أحس بها تبتعد عن عناقه وهي تقول بلهفةٍ غلفتها السعادة:
_أنا اللي مطمني إنك معايا، غير كدا كان زماني لسه خايفة.
_وزي ما قولتلك إني موجود علشان تكوني مبسوطة، أكيد موجود علشان هو يكون في أمان، جالك اللي هيقاسمك في القلب وياخد مكان جديد ماظنش حد خده قبل كدا جوايا.
حين أتاها الرد منه ابتعدت عنه بحنقٍ وهي تقول بغضبٍ حقيقي:
_يعني لو خلفت هتبطل تحبني؟ هتحب عيالك بس؟.
رمقها بذهولٍ فيما سألته هي بتوجسٍ وريبةٍ:
_هو أنتَ بتحبني أصلًا ولا أنا مجرد واحدة الظروف هيئت وجودها ليك فقبلت بيها وخلاص؟ دا اللي حصل صح؟.
هرمونات الأنثى تغلب وهو لن يعترض..!!
رمقها بحزنٍ كونها تُسيء الظن فيه ثم سألها بخيبة أملٍ في حبها:
_على كدا بقى أنتِ مش بتحبيني وقابلة بيا بس علشان أحميكِ من أهلك وإن محدش فيهم يفكر يقرب منك وأنتِ معايا، دا تفكيرك فيا؟ بعدين أنتِ حامل مني، يعني مراتي وهتكوني أم عيالي ولسه شاكة إني بلعب بيكِ؟ أنا لو بلعب بيكِ كان زماني سايبك من بدري، بس أنا مش نافعلي حياة من غيرك، مش عاوز الدنيا لو أنتِ مش معايا فيها، فرحان بعمري علشان أنتِ فيه، راضي أرمي نفسي في النار بس تكوني كويسة.
ابتسمت أخيرًا من جديد ثم رمت نفسها في عناقه، ضمها هو وثبتها يبثها أمانه حين مسد فوق خصلاتها بحنوٍ جعلها تتعجب كيف والدها استطاع أن يتجاهل حنوها وقلبها وهذا الغريب لم يقاوم نظرة واحدة من عينيها، دارت بها دوامة الأسئلة إلا أن وصلت لجوابٍ واحدٍ وهو أن هذا الغريب ليس بغريبٍ عن قلبها، وإنما هو الأهل والشعب وهي الأرض له والموطن.
انتهت الحكاية بمشهد ختامٍ يعني حكمة واحدة،
كُرهك من بعض البشر لا يعني قُبح صفاتك؛ بقدر ما يُعني فشل قرائتهم لك، فأين ما تجد نفسك مكروهًا غادر بغير رجعةٍ،
وأين ما تجد نفسك مرتاحًا اسكن وابنِ موطنك.
____________________________________
<“قلبي حين استشعر الدفء فيك اتخذك صاحبًا له”>
طاقة الحب هي الطاقة التي لا تُكذب في هذا العالم قط..
حتى لو أنكرها اللسان، وبخل بها العقل، وأخفاها في سراديبه القلب، العين تفضحها أمام صاحبها، الحب لا يُخفى ولا يُكذب، الحب لا يموت ولا يملك صلاحية تنتهي بها مدته، الحب كلما مر عليه الوقت كبر وزاد عُمقه..
حياته لم تكن مثالية، أيامه ليست كما يظن الجميع..
تعرض لنوبة غضبٍ في العمل، نوبة جعلت الكل يتفاجأ بالوجه الآخر من “إسماعيل” الطيب الحنون، تشاجر معه أحد عاملي التوصيل وقام بدفعه في صدره، فانفجر “إسماعيل” في وجهه، دقائق وبدأت حالته النفسية تختل عن اتزانها، هرول “إيـهاب” وحمله للمكتب وأغلق عليه بصحبته..!!
بينما “إسماعيل” فظهرت عليه أغلب الأعراض النفسية التي سبق وحذره منها “جـواد” حيث قام بخنق نفسه، بدأ جسده يهتز بعنفٍ، عيناه تبرقان للخارج بعنفٍ، وجهه أحمر واحتقنت فيه الدماء، والآخر يحتضنه بين ذراعيه ويقرأ آيات القرآن التي أخبره بها الشيخ فيما سبق، ظل بقربه يُهديء روعه حتى تخطى الوقت ساعة كاملة..
بدأ “إسماعيل” يفيق من غفلته، بدأت عيناه تعود للبصر والإدراك، شهق بقوةٍ كأنه غريقٌ وعادت أنفاسه الهاربة، بينما شقيقه فكان يراقبه بقهرٍ لكنه تمالك نفسه لأجله هو فقط، انتبه “إسماعيل” لنفسه فسأله بصوتٍ مبحوحٍ:
_أنا فين؟ بعمل هنا إيه يا “إيـهاب”.
حمحم شقيقه وهو يراقبه يعتصر جفونه فقال بثباتٍ:
_أبدًا كلمتك تيجي تشوف فواتير البضاعة معايا ومرة واحدة هبطت مني، أنتَ فيه حاجة مزعلاك؟ سيبتك تنام شوية وقولت هبقى أصحيك، بس مكملتش ساعة وفوقت أهو.
رفرف “إسماعيل” بأهدابه يحاول تذكر أي شيءٍ فلم يستطع، انتبه لشقيقه فتنفس بقوةٍ ثم هتف بتيهٍ وهو يحاول لملمة شتات نفسه:
_أنا مش قادر بقالي كام يوم هنا طالع عيني، هرتاح شوية في البيت وأرجعلك بليل لو محتاج مني حاجة، هشرب بس كوباية قهوة وأمشي.
راقبه شقيقه وهو ينسحب بعدما أومأ له، وقد آثر الكذب عليه حتى لا يقهره على حاله، فضل الصمت والكذب وإخفاء القصة حتى لا يُجهد عقله بالمزيد من التراهات، وقد أمر الجميع بالأسفل بعدم فتح المناقشة من جديد، أمرهم جميعًا بإخفاء الأمر عن شقيقه حتى، أخرج الهاتف يراسل “ضُـحى” وكتب لها برجاءٍ:
_لما “إسماعيل” يوصل طمنيني وحاولي ماتخليهوش يتعصب.
اكتفى برسالته فقط ولم يكترث بردها، فتلك النوبة لا تأتيه إلا عند الغضب للحد الفائق عن المعقول، وهي نوبة ناتجة من حالة نفسية تسبب فيها خروج الجان منه، حينها يتوقف عقله الواعي وينوب عنه في العمل العقل الباطن حيث اللاواعي..
وصل “إسماعيل” شقته بتعبٍ في جسده وألمٍ في رأسه فبحث عنها، وجدها كانت بالفعل تنتظره وعلامات التوتر تكسو وجهها، لا يدرك سببًا سوى أنها تتشاجر معه منذ أسبوعٍ حتى تعود للعمل، اقترب منها يقول بصوتٍ واهٍ:
_أنا مش قادر أتكلم خالص، لو عاوزة تتخانقي خليها يوم تاني.
تركها وولج الغرفة يرتمي فوق الفراش بتعبٍ، راقبته بحزنٍ ثم تحركت خلفه، عاونته كي يعتدل فوق الفراش، فتح عينيه عليها وسألها بحزنٍ غلب ثبات نبرته:
_أنتِ زعلانة مني يا “ضُـحى” لسه؟.
انتبهت له فابتسمت بحنوٍ وهي تقول بصدقٍ:
_لأ والله مش زعلانة منك.
ابتسم لها ثم طلب برجاءٍ كأنه يخشى رفضها:
_طب ممكن تيجي تنامي في حضني؟.
تعجبت من لطافة طريقته، حتى عند قسوته ينفرط عقال حنوه، لذا اقتربت تندس بين ذراعيه فضمها بقوةٍ كأنه يخشى شيئًا لا يعرفه، يتمسك بها كأنها ستفر وتتركه، نام بمجرد أن شعر بالأمان بجوارها كأنها سلام نفسه، بينما هي فراقبته وهي تحاول فهم سبب تلك الحالة التي تنتابه منذ يومين، بالأمس غضب منها وترك الطعام وولج الغرفة، وأول أمسٍ تركها تتحدث ثم زعق فيها أن تغلق الموضوع، مر على زواجهما خمسة أشهر والشهر الأخير واجهت فيه أواخره كل الخوف عليه.
بعد مرور ساعات استيقظ من نومه وخرج يبحث عنها فوجدها تقوم بتحضير الطعام، ابتسم وهو يقترب منها ثم قال بصوتٍ ظهر فيه أثر النوم:
_بقى حد يسيب كل الحاجات الحلوة دي وينزل شغل؟.
راقبته تتعجب من حالته بينما هو فجاورها وقال بثباتٍ:
_عاوزة تنزلي الشغل لسه؟.
خافت منه ومن تلك السيرة فقالت كاذبةً:
_لأ خلاص، مسيري هتعود على قعدة البيت.
ابتسم حين لمح كذبها فربت فوق كفها وقال بهدوءٍ:
_أنزلي شغلك تاني، مع إني خايف عليكِ ومش عاوزك تتبهدلي بس خلاص طالما أنتِ زعلانة وأنا مش راضي عن نفسي وأنا طافيكِ كدا، بس ليا شروط هتوافقي عليها ماشي، مش هتوافقي عليها خلاص.
راقبته بعينيها تحدجه بشررٍ فوجدته يقول بهدوءٍ يُفند شروط الإلتزام بينهما:
_التعامل هناك مع “نـادر” و “عُـدي” و”يـوسف” بس، أي راجل تاني يتخطى حدوده ويفكر بس يهزر لأ، هتروحي الصبح بدري وأنا هعدي آخدك آخر اليوم علشان مش هرضالك بهدلة المواصلات، أول ما يحصل حمل يا “ضُـحى” هتقعدي ومفيش شغل، وكدا أنا راجل حقاني أهو.
ابتسمت له بعينين دامعتين، علمت أن النوبة قد تكون داهمته بالخارج فأشفقت عليه وهي تراه يُجاهد في حربه مع الحياة، تنهدت بقوةٍ ثم ربتت فوق كتفه وهي تقول بصوتٍ غلبته الشفقة والحزن لأجله:
_لو مش عاوز أو حاسس إنك مش مرتاح كفاية أنا مش هتعرض والله، أنا مش عاوزة أضغط عليك بكلامي، بس أنا كنت عاوزة اشتغل بس علشان الفراغ وأنا قاعدة لوحدي، بس والله مش عند فيك يا “إسماعيل” خالص.
_عاوز علشانك أنتِ بس والله.
جاوبها ثم ابتسم لها بحنوٍ وهو يقدر موقفها، لذا جاورها يصنع معها الطعام مُبتسمًا، يعاونها مُسالمًا وراضيًا كونها تُراضيه ولو بالحديث، التزم الصمت بينما هي تحركت من جواره وفتحت الهاتف على كلمات أغنية قديمة تعلم كيف يحبها هو، أرادت أن توثق اللحظة بحبٍ يمحو الحزن من قلبه:
_أنا أتوب عن حبك أنا؟
أنا ليا في بُعدك هنا؟ أنا أتوب عن حبك أنا؟
أنا ليا في بُعدك هنا؟ دا أنا بترجاك الله يجازيك
يا شاغلني معاك وشاغلني عليك
أنا بترجاك الله يجازيك
يا شاغلني معاك وشاغلني عليك
لا أقدر أنساك ولا ليا غنىٰ،
لا أقدر أنساك ولا ليا غنىٰ
أنا أتوب عن حبك أنا؟.
كانت تجاوره وهي تغني معه حتى بدأ هو الآخر يشاركها في اللحظة حين كان يقوم بتقطيع الخضروات وقد ابتسم لها ثم طالعها بنظراتٍ صافية، وقد عانق كفها ثم واجهها وهو يُحاصر وقوفها بهيمنته وهمس بمراوغةٍ:
_أنا أتوب عن حُبك أنا؟.
ضحكت بعينيها له وحركت كتفيها بجهلٍ كاذبٍ، فمال يُلثم وجنتها ثم كرر الهمس بقرب أذنها مُقرًا ومعترفًا بما في قلبه لها:
_حبك الذنب الوحيد اللي قلبي مش رايد منه توبة.
الحب في قاموس قلبه كان ذنبًا حاول ألا يقترفه..
لكن عيناها نادته من ناصية الذنب وجعلته يسلك الطريق بغير رجوعٍ، فكان في ذنب الحب رجلًا نبيلًا لا يجرؤ على اقتراف ذنبٍ، اقترب أكثر وضمها لقلبه وهو يشعر كأن هناك خوفٌ يتسلل كي يصل للقلب، فتنفس بصعوبةٍ وهمس مستفسرًا:
_أنا بجد مش مزعلك؟ حاسس إني مش متطمن.
ولأنها تعلم أن الطيبة هي الصفة التي تسود كل صفاته رفعت كفها تمسد فوق موضع نبضه ثم أضافت مُستطردةً حديثه:
_مش زعلانة منك يا “إسماعيل” أنا كل زعلي من الدنيا عليك أنتَ، بعدين مبزعلش منك علشان عارفة إن قلبك مسيره ليا وبيرجع عندي تاني، بعدين إيه هتفضل تتكلم وتنكد عليا كتير؟ ساعدني خلينا ناكل أنا جعانة.
اعتدلت فوجدته يبتسم لها بعينيه وحينها همس بوقاحةٍ:
_طب ما تركزي معايا وتسيبك من الشغل وخليني أب، عاوز أجيب حوكشة صغير كدا يملا علينا البيت جري وتنطيط وشقاوة، فكري بس الموضوع يستاهل التفكير.
ضحكت بملء صوتها ثم وقد ضحك معها يلون كلاهما حياة الآخر، وخاصةً هي وحدها التي جعلت الألوان تظهر فوق لوحته المُكتسحة بكل سوادٍ، هي لون الحياة، بهجة النور، هي عشية العيد للصغار، هي النور والضحى وشروق الشمس الغاربة من أيام العُمر، هي الكل والجزء والشيء الأكيد..
بعد مرور أسبوعٍ من نزولها العمل..
تم استدعاءه لمقر العمل عصر اليوم قبل موعد الإنصراف، لا يعلم ماذا حدث حتى يتم الاستدعاء من قبل “عُـدي” فولج الغرفة التي أرشدوه إليها فوجد “نـادر” يجلس بقربها وفي يده يمسك كوب العصير لأجلها وهو يتوسلها أن ترتشفه، حاول معها حتى نطقت هي بنفاذ صبرٍ:
_مش قادرة يا “نـادر” والله، هرجع يا سيدي.
زفر أخوها بحنقٍ وقد ولج “عُـدي” خلف خطوات زوجها وقال يؤنبها بخبثٍ وارى هدف الحديث فيه كأنه نبع من فيض التلقائية:
_لازم تشربي يا “ضُـحى” علشان الأمانة اللي في رقبتك.
رمقته فلمحت زوجها أولًا، وبنظرةٍ واحدة من عينيها له فهم السبب، اقترب يخطو منها وهو يبتسم بعينيه فوجدها تضحك هي له ثم عاتبته بصوتٍ زائف:
_أهو حوكشة اشتغل، مكملتش أسبوع وأديني أهو هقعد معاك بس خليك فاكر إنك اللي جيبته لنفسك، ربنا يقويك عليا وعليه.
اقترب يحملها في طرفة عينٍ بين ذراعيه ودار بها، كأن الحياة بين ذراعيه توهبه الأنفاس من جديد، يقسم في لحظته هذه أن الماضي زال، وأن الحياة لم يلمح فيها منذ أن أصبحت هي نصيبه إلا النور فقط، كانت الضُحى ووهبته النور وأشرقت بشمسها في أيام عمره، هي أول وآخر الحياة..
نقطة وانتهى مشهد الختام بينهما في قصةٍ بدأت من غرفة يسودها الظلام، فظهر من نافذة شرفتها شعاع النور،
وكأن ضوء الضُحى ليس له بحاجبٍ، والنور أقوى من سطوة الظلامِ..
____________________________________
<“مقبرة الموت لا يعرف عنها سوى وأد الحياة”>
مهما تبدلت الحياة، ومهما تغيرت هناك بعض المشاعر لا تتغير..
تظل كما هي كما المياه الراكدة في بُحيرةٍ يطفو على سطحها الغُبار فيُعكر صفوها، ويزيل من عُقرها الحياة، مشاعر تظل ساكنة في سراديب القلب مهما حاول المرء لا يجرؤ أي مضادٍ على مقاومتها، لحظة تخبرك أنك لم تتخط وإنما تأقلمت..
بدأ يعتاد على الحياة في قربها، أصبح يفكر في آدميته كونه بشرًا وليست مُجرد آلة لتنفيذ المطلوب منه، بدأ يستشعر الحياة فيزداد كُرهًا للراحل، يمتليء قلبه بالنيران تجاه والدين تركاه ورحلا، لذا أصبح يقتنص حقه من الحياة في كل يومٍ، يعيش اليوم كما يرغب ويريد له أن ينتهي، أصبح على طبيعته معها هي وحدها، ومع العالم هو الشرير في حكايا الآخرين..
كان يجلس “مُـنذر” بمكتبه في المشفى، يرتمي فوق الملفات التي تتطلب منه التركيز بعد أن أصبحت أصعب الحالات وأكثرها تعقيدًا طوع يديه، يقوم بتفنيد ودراسة كل الملفات الموجودة أمامه ثم يقوم بتوزيع كل حالة وفق الطبيب الذي يراه مناسبًا لتلك المهمة، وقد اقتحمت مكتبه كما الطلقة المطرودة من فوهة السلاح ووقفت أمامه تضحك..
رفع عينيه من موضعه لها ثم عاد حيث الورق أمامه وقال بقلة حيلة ونفاذ صبرٍ:
_الشغل كتير مخلصش، ولو “جـواد” عرف هيسمعني كلمتين مالهمش لازمة، فلمي الدور والدنيا لحد ما نروح بيتنا وأعملي ما بدالك هناك.
رمقته بغيظٍ ثم جلست أمامه على حافة المكتب بنظراتٍ ظنت أنها قد تغويه بها، لكنها نست في الأغلب أنه الرجل الآلي الذي يحيا بنصف قلبٍ، وجدته يضحك بلامبالاةٍ وهو يعود للعمل، فمالت تهمس له بكلمتين ظنت فيهما الحياة؛ لكنهما له قتلٌ صريح:
_أنا حامل.
انتفض من موضعه كأنها أفعى تلتف حول عنقه، رمقها بخوفٍ وزاغ بصره، راقبها بجمودٍ ثم أولاها ظهره يحاول التحكم في رد فعله، بينما هي شعرت بخيبة الأمل منه كأنه تعمد قتلها، وقفت خلفه تسأله بصوتٍ مرتجفٍ خوفًا من جوابه:
_أنتَ مش مبسوط؟ بقولك أنا حامل يا “مُـنذر”.
أغمض عينيه بخوفٍ فيما حكمت هي عليه، وقبل أن تلتمس له أي عذرٍ قالت بصوتٍ باكٍ:
_حقك عليا، كنت فاكرة إني هفرحك بالخبر دا، بس زي كل مرة طلعت غلطانة في عنواني ليك، عن إذنك يا دكتور.
رحلت بعد أن صفعته بالحقيقة فوق صفحات وجهه، لم تتوان ولو لثوانٍ وإنما هي ركضت من المكان، تترك مقبرة موته كي تنعم بالحياة، بينما هو فعاد له خوفه، عادت ظُلمة لياليه تُضيق عليه الخناق، أصبح المكان لا يسعه رغم وسع الغرفة الشاسعة، المكان حوله ارتمى فوق الأريكة مُغمض العينين ثم زفر باختناقٍ..
مرت الليلة عليه بدونها حين علم أنها ذهبت لبيت أمها، فقرر أن يهرب هو الآخر وذهب لبيته، ولج الشقة المظلمة يبحث فيها عن الحياة فلم يجدها، بحث عن النور فلم يجده، بحث عن الدفء فلم يستشعر سوى صقيع الأيام، يبدو أنها هي كانت البيت بذاته، حاول أن يتعايش في الليلة الأولى فلم يستطع، جفاه النوم وهاجرته راحة البال خلف الحبيبة..
جلس ليله يفكر ويحاول أن يستشعر بشيءٍ فلم يجد سوى الخوف، الخوف وحده هو الذي سكن في ليله وساعاته، خرج من الشقة واعتلى دراجته البخارية يصارع بها الليل، يشق الطريق كأنه خطٌ مستقيم يشق النهر فيتصدع لنصفين، وقف أسفل شرفتها فلمح الضوء الخافت من غرفتها، حاول تخيل وجهها وهي تبكي، حاول البحث عن الوصول لها، هو يخشى الحياة بهذا الخبر، ويخشى نفسه قبل الجميع، فماذا لو كانت لعنة “شوقي” أصابته؟.
وقف يطالع الشرفة حتى وجدها تدخلها وما إن لمحت دراجته عادت للخلف وأغلقت الباب وكذلك الضوء أيضًا، بينما هو فقرر العودة للشقة من جديد يحتضن الظلام ويُقر أن الحياة الكاملة لا تناسبه، هو يخشى على صغيره منه هو، يخشى أن يُولد ابن قاتلٍ فيعاقب فيه هو..
مرت الليلة الثانية بنفس الوضع، والثالثة كذلك، والرابعة حتى السابعة، وقتها فقد الأمل في الحياة بدونها، مر أسبوعٌ بدونها وهي تبتعد عنه، لكن اليوم قرر أن يحاول مع نفسه، سيواجه الخوف لأجلها هي أولًا، ظل واقفًا حتى وجدها تدخل الشرفة مثل كل يومٍ، لكن الاختلاف أنها لم تدخل كما كل يومٍ، بل ظلت تراقبه، تواصلت النظرات بينهما فقررت النزول من مكانها، نزلت من الشقة ركضًا وخصلاتها تتطاير خلفها بفعل هواء الشتاء الذي عاد بقوةٍ تزامنًا مع عودته..
تواجها سويًا وهي تعاتبه بعينيها، فيما تعلق بها كأنها أمله الأخير، وقد شعرت بالضجر من تواجده فسألته بصوتٍ باكٍ:
_جيت ليه؟ مبقاش ليك حق تيجي علشانه خلاص.
اندفع يُبريء نفسه من الصورة الموضوع بها:
_جيت علشان أنتِ حقي، أنا وأنتِ عارفين إني مبستغناش عن حقي فيكِ، جاي علشان مش عارف الحياة من غيرك بيعيشوها الناس إزاي، جيت علشان خايف لوحدي.
وفي الحقيقة هي حاولت الجهاد ضده، لن تسقط في بئر حزنه كما المعتاد منها، لذا صرخت بوجعٍ في وجهه:
_بس جيت عليا وعلى فرحتي، حسستني إني معاملتش حاجة معاك تخليك تحاول علشاني وعلشان اللي في بطني، وأي حاجة في دماغك ناحيته تنساها، مش هضحي بالجنين علشان أي حاجة حتى لو كانت حياتي معاك…
توسعت عيناه حتى أرهبها، توقف الحديث في حلقها فيما قبض هو فوق مرفقها بكفه ينطق بصفاقةٍ وصوتٍ جهورٍ:
_أنتِ واعية بتقولي إيه؟ فاكراني عاوز أقتل ابني؟ إذا كنت أنا خايف عليه مني علشان مبقاش نسخة من اللي عمله فيا أبويا، عاوزاني أحكم عليه باللي أنا أتحكم عليا بيه؟ أنتِ شايفاني إيه؟.
_شايفاك واحد خوفني لما سكت وأنا بقوله إني حامل، كأني بموتك، تخيلت إنك هتفرح وتطير من مكانك، كان نفسي أشوفها في عينك من غير خوف وتردد، خوفتني عليه وهو لسه مش موجود، أنتَ السبب مش أنا.
بكت وهي تتحدث وتفند وتُبرر، غلبتها مشاعرها أمامه فخطفها في عناقه بقوةٍ، ضمها وثبتها يستشعر جُرم فعلته، لقد تسبب في قهرها، خوفه تحكم فيه لهذا الحد البالغ فكاد أن يفقد نفسه وحياته اللتان وجدهما فيها هي، ابتعد عنها يبرر بقوله الذي أعرب عن كسر روحه:
_ولا أنا السبب، السبب اختفى من الدنيا بعدما جابني ورماني فيها، أنا مش عاوز اخلص من ابني زي ما بتقولي، أنا بس مش عاوز أشوف الوجع فيه هو، خوفت واتخضيت بس موصلتش لدرجة إني اقتله، يمكن يكون هو أو هي سبب الحياة جوايا، أنتِ ليه فكرتي كدا؟ هو أنا بجد زيه؟.
سألها بخوفٍ اهتز به صوته فرفعت رأسها بلهفةٍ تُبرر مقصدها:
_أنتَ مش زيه، بس خوفك الزيادة هيخليك تتحول نسخة منه، تفتكر هو سابك ليه؟ علشان خاف على نفسه وسمعته، وكانت النتيجة اللي أنتَ عيشته وشوفته بعينك، وخوفك هيحولك زيه، هيخليك تبعد وتاخد جنب، فكر بقلبك مش عقلك يا “مُـنذر” وأنتَ هتعرف إن الحياة بجد اللي بتدور عليها فيا، هتكمل بحبك للي مني.
أنهت الحديث حين سحبت كفه تضعه عند بطنها لعله يستشعر أي شيءٍ، بينما هو فانتفض حين تذكر أن الفاصل بينه وبين الحياة قد يكون الرحم الذي يسكنه هذا الجنين، لذا ربت فوق بطنها بحنوٍ ثم ضمها من جديد لعناقه وقال برجاءٍ لها:
_ينفع نروح ننام؟ مش عارف أدخل الشقة وأنتِ مش فيها وببات في المستشفى كل يوم، يلا وخلينا نروح نشوف حوار الحمل دا بيتعاملوا معاه إزاي؟ نفسك غامة عليكِ؟.
_نفسي أشرب من دمك.
جاوبته بدون تفكيرٍ حين كان يسألها مُلطفًا لحدة الأجواء، فرد بثباتٍ لم يهتز له جفنٌ:
_إيه القرف دا؟ أنتِ حامل في دراكولا؟.
_لأ في ابنك أو بنتك، معرفش واسكت أحسنلك.
لاحظ ضجرها ونفاذ طاقتها فركب الدراجة وأشار لها تتبعه، وقد جلست خلفه تضم ظهره وحينها قال بهدوءٍ وببسمةٍ زينت كلماته:
_هبدأ معاكِ من جديد كأني لسه عارف خبر الحمل دلوقتي، وأقولك إنك كل مرة بتكوني سبب الحياة رغم إني مبسعاش غير للموت، بس المرة دي الحياة منك مختلفة، فمش قدامي غير إني أعمل علشانها المستحيل وعلشانك.
أنهى الحديث وقاد الدراجة حيث نقطة النهاية..
نهاية تليق به كونه الرجل القاتل للعالم،
الناجي من نيران الجحيم،
الحي من رشقات القتل، المقتول بسهام عينيها.
____________________________________
<“الناس لهم قمرهم في سهرهم، وأنا ليِّ قمري”>
الحدث في المدينة كان جللًا..
حين انتشر الخبر أن الزاهد اُفتتن وتخلى عن زهده، فخرج من كهفه داخل الجبل يراقب فتنة القمر، ومن بين الجميع أراد القمر أم يؤنسه هو وحده، فمد له جسر الوصال وطلب منه بالاقتراب، فلم يجرؤ الزاهد على صد فتنة القمرِ..
الهواء عاد بقوةٍ غريبة..
كل الأشياء تتحرك، البرد غلف كل شيءٍ حتى أطراف الجسد تيبست، عاد فصلهم الحبيب، وعاد الحبيب ذاته من غياب يومين في العمل الشاق بداخل مركز الصيانة الخاص به، ولج يضم عالمه وقمره وشمسه بشوقٍ، ثم اختلى بنفسه في المسجد يرعاه كما يفعل كل يومٍ..
عاد منذ ما يقارب الساعتين، واختفى في الداخل مع ابنه وصغيره “أُويـس” الذي أتم شهره السادس من أيام عمره، حيث بدأت ملامحه تظهر فكان يشبه أبيه في صغره، وورث من “يـوسف” العين ذاتها، كان يحمل صفات الاثنين فيبدو لكلٍ منهما حين يحمله ابنه هو، وهذه نقطة غرور في صالح “يـوسف” الذي أخبره أنه يشاركه في كل عالمه مهما حاول أن يُبعده..
ابتسم “أيـوب” وهو يقوم بصنع الفخار داخل غرفته المخصصة بغرفة نومه، وعيناه تستقران فوق وجه ابنه الصغير الذي كان يقبع في حامل الصغار المستدير ويُنصت لصوت أبيه في تلاوة القرآن الكريم بصوتٍ عذب، كان يربي صغاره على صوت القرآن حتى يألفا كتاب الله ويكون القرآن هو المرجع الأول لهما، فكان الصغير يُرفرف بكلا كفيه ويُغمغم مناديًا والده كأنه يثني على صوته، فيما ابتسم والده الذي مال يُلثمه ثم عاد لما يفعل، حتى وجد الصغير نام مكانه فمسح يديه ودثره بغطاءٍ ناعمٍ يناسب نعومة بشرته..
بينما “قـمر” فوقفت تفعل عادتها المُحببة؛ حيث مراقبته وهو يصنع الفخاريات، كما كانت تفعل قبل أن تتلاقى السُبل، لكن الفارق هنا أن تلك المرة ابنتها كانت فوق ذراعها بعد أن أرضعتها ونامت، راقبتها بوجهٍ مبتسمٍ ثم وضعتها بجوار توأمها، ولثمت رأسيهما ثم تحركت تجاور زوجها..
جلست بجواره تبتسم له فتحرك يفسح لها المكان حتى أتت وجلست أمامه وقالت بصوتٍ ضاحك امتلأ بالحياة من بعد غيابٍ:
_عاوزين نعمل حاجة أنا وأنتَ زي المرة اللي فاتت.
ابتسم “أيـوب” لهما ومال يمسك كفيها بكفيه متذكرًا درب البدايات حين كانت تبدأ الحكاية في وضع النقاط الأساسية، راقب ملامحها التي ازدادت نُضجًا وجمالًا، خصلاتها التي استطالت كثيرًا عن السابق، ابتسم وهو يتذكر كم كان الطريق طويلًا وشاقًا عليه، وتذكر خاصةً تلك المرة التي صنعت فيها الفخار معه..
ابتسم بشجنٍ ثم بدأ يحرك كفيه مع كفيها بانسيابية تشبه هذا الإنسجام بينهما، ألصق وجنته بجوار وجنتها يملي عليها حركات يديها حتى انتهيا سويًا بتشكيل قلب متوسط الحجم، كانت نتاجًا لعمل ساعات استمرا فيها سويًا، ثم مسك آداة الحفر وأمسك كف زوجته وهو يقول بصوتٍ ضاحك:
_المرة دي الأسامي هتزيد، خلي بالك من المسافة.
ضحكت له وبدأت تكتب الأسماء فوق القطعة الفخارية، فانتهى بها الأمر حين وضعتها فوق الطاولة تراقبها، حيث كتبت باللغة العربية خلف حركات كف زوجها أسماء الأسرة بأكملها، فكانت تحمل “قمر أيوب، شمس أويس” والكلمة الأولى تقع بأحضان الكلمة الثانية، فكانت تلك هي القطعة الأكثر تمييزًا بين الكلِ..
التفتت له زوجته تضحك بسعادةٍ فوجدته يضم كتفيها من الخلف ثم تنهد بقوةٍ وقال بصوتٍ هاديءٍ ودافيء مثل دفء قلبه:
_أنا بعد فضل ربنا سبحانه وتعالى عليا، ثم سبب وجودك في حياتي بقيت أسعد راجل في الدنيا دي كلها، ربنا يباركلي فيكِ يا كل ناسي.
_يا بخت ناسك بيك يا أسطى “أيـوب”.
همستها له بنعومةٍ جعلته يضمها بقوةٍ لعناقه ثم عاد ببصره حيث الصغار فتنهد بعمقٍ وفي سريرته يحمد ربه للمرةِ الألف كل يومٍ على نعمة تواجدهم معه بين ذراعيه، فكانت نهايته أشبه بالغوث لأيام عمره، وكأن كل ما فعل عاد له ولقى نتيجته في حياته، رغم كونه يتمنى أن يرى العوض في الجنة، حيث دار القرار وليس دار الفناء، لكنه يحمد ربه كل يومٍ على كل نعمةٍ تحاوط أيامه.
ومشهد الختام هنا يشبه مشهد البدء..
حكاية بدأت من مجرد مراقبة فكان القلب يحمل اليقين في ثناياه أن ما رغب فيه حصل عليه، وما سهر لأجله أصبح يسهر معه، فمن بين كل الناس ترك الناس،
وحصل على قمرهم فكان قمرًا له، وما بين قلبٍ رفض الزُهد وخشى الهوىٰ، اختار عينيها سبيلًا وفيها وقع واهتوىٰ.
____________________________________
<“رفضت الظلم من كل الدنيا ورضيت العدل منكِ”>
قد يكون أي طرفي الحرب على حقٍ..
فيقرر أحدهما رفض الظلم، ويقرر الآخر رفض العدل، لكنه في حربه مع الدنيا حارب الظلم، ورفض الذُل، لكنه حين وجدها هي تعدل رفض منها العدل، فكان أشد ظُلمًا من الظالم ذاته..
الحياة أصبحت هادئة إلى حدٍ ما؛ حيث الذنب الذي كان يحاوط عنقه تراخى عنه، أصبحت حياته تتمحور حول مهرة صغيرة تشبه النعيم فوق الأرض، وفي زوجةٍ كانت الأكثر شجاعةً منه كي تواجه العالم لأجله بدونٍ خوفٍ، واليوم تحديدًا يومٌ مميز، حيث ذكرى حصوله على حريته من سجنه، وذكرى زواجهما الثالثة..
ولج “إيـهاب” الشقة في المساء بعد أن جلب المشتريات لصغيرته صاحبة العامين وما يزيد بأشهر قليلة، وقد بحث عنها فلم يجدها، لكنه وجد تلك الجنية السمراء في مواجهته، تفرد خصلاتها الغجرية بحريةٍ طليقة، ترتدي منامة حريرية بيضاء مزركشة بحبات كرزٍ، تكشف ذراعيها وعنقها الموسوم باسم صغيرته، وتبتسم له برقةٍ من عينيها الكحيلتين العربيتين..
اقترب مشدوهًا نحوها فوجدها تقترب وهي تقول برقةٍ:
_كل سنة وأنتَ طيب يا سي “إيـهاب”.
ذكرته ببداية القصة حين كانت نبرتها هي غوايته الأولىٰ، ابتسم بغير تصديقٍ كونها تهتم بأمر التواريخ التي قلما لا تعطيها تركيزها، لكنها لأجل الوعد الذي قطعته لأجله تحاول وتحارب حتى لا تتركه ليأس الأيام من جديد، فاقترب ماحيًا بخطواته كل مسافةٍ وقبل أن ينطق وجد ما يتعلق بقدمه من الأسفل..
التفت برأسه فوجد صغيرته تضحك بملء شدقيها وهي تفرد ذراعيها له، مال يحملها ثم ابتلع غيظه وهتف بضجرٍ:
_هي البت دي مستقصداني؟ كل ما آجي أقل أدبي ألاقيها طلعالي؟ أنا كدا مش هعرف أخاويها، ما تشوفي حل يا “سمارة” فيها، عمها فين؟ مش عامل فيها راجل حنين على لحمه؟ ما يحن على أخوه شوية.
كتمت “سمارة” ضحكتها حين فهمت مقصد حديثه، ثم حملت منه ابنتها وهي تقول بفخرٍ بنسختها الصغيرة التي أهدتها له:
_حبيبة قلب ماما ربنا يحفظها، هتطلع ناصحة زيي وماتخليش حد يضحك عليها ولا على أمها، بعدين دي أحلى هدية ممكن أديهالك في يوم زي دا، علشان تفضل فاكر إني هاديتك بأغلى حتة “دهـب” في الدنيا دي.
ابتسم لابنته التي رفرفت بأهدابها حين طالته عيناها ثم ارتمت عليه فعانقها بقوةٍ يخفيها بداخل عناقه، ثم ضم زوجته بالذراع الآخر يلثم جبينها، طالت النظرات بينهما فاقترب يُلثم وجنتها وقبل أن يتخطى أي حدٍ أوقفته بقولها:
_احترم وجود بنتك اللي أنتَ شايلها دي.
_بس كدا ؟ بسيطة.
أنزل الصغيرة تقف بجواره ثم أمرها بتحدٍ:
_ودي وشك الناحية التانية يا “دهـب”.
ضحكت الصغيرة حيث ظنته يلعب معها كما كل مرةٍ، بينما زوجته فضحكت حين وجدته يجلس على عاقبيه أمام ابنته ثم حدث زوجته بسخريةٍ يطلب منها:
_تعالي ألعبي معانا يا “سمارة” وخلاص، عليه العوض ومنه العوض.
ضحكت له حين وجدتها يحمل ابنته ثم بدأ يلعب معها، يدور بها مرة ثم يركض خلفها ثم يعود ويحملها فوق كتفيه، ثم يضمها ويدور ويرقص بها، وزوجته تراقبه وتتمنى لابنتها العوض في أبيها بدلًا عن الحياة التي عاشتها هي، تبتسم حين ترى جزءًا من قلبها ينعم بما لم تعايشه هي في صباها..
وفي النهاية حين آوت إلى عناقه تلتحد بأمانه أخبرته بفخرها به كونه الأب الأفضل لابنتها في هذا العالم حيث قالت قبل أن تنام بجفونٍ مُثقلة:
_تعرف إنك أحسن أب أنا شوفته؟ كل مرة بشوفك فيها تلعب مع “دهـب” وتحضنها وتملا أيامها فرح ولعب، بتمنى أكون مكانها، بعدين أرجع أقول ماهي إيه وأنا إيه؟ هي حتة مني، فبفرح أكتر إن جزء من قلبي فرحان كدا بوجودك.
ابتسم بحنوٍ لها ثم رفع كفه يمسح فوق وجنتها وقال:
_من قبل ما هي تيجي وأنا معتبر نفسي أب، مش مرة واحدة بس لأ دول مرتين، أول مرة في وجود “إسماعيل” وتاني مرة في وجودك، أنتِ بنتي برضه، لولا بس إنك طويلة حبتين كنت عملت معاكِ اللي بعمله مع “دهـب” كل يوم، أنا مش عاوزكم كارهين وجودي، كبرت وشوفت بعيني أمي كانت بتترعب من صوت المفتاح لما كان بيرجع البيت، أنا عاوزكم تطمنوا بنفسي معاكم هنا.
وضعت رأسها فوق صدره حيث أمانها الذي تعرفه ثم همست بصوتٍ ناعس غلبه النوم:
_مفيش حاجة مطمناني في الدنيا غير إني معاك أنتَ.
هنا وانتهى مشهد الختام بينهما؛
حيث وضعت الحكاية آخر سطورها وضمت النهاية بين دُفتي الكتاب، حيث انتهت القصة من طريقٍ مجهولٍ ولجه هو صُدفةً ليجد الحياة تفتح ذراعيها له وتطالبه بالقربِ منها.
____________________________________
<“الاختيار الخاطيء كان بداية الطريق للضياع”>
يُقال ان عند الاختيار الخاطيء يُعمى المرء عن البصر..
فلم يعد يرى الأشياء بحقيقتها كما هي،
كأنه يراها مخبوءة خلف إطار الفرصة التي يخشى ضياعها، وعند لحظة الحسم لا يضيع سواه هو وحده..
كان “أيـهم” يقف بجوار السيارة الخاصة به وبجواره ابنه..
كلاهما يشعر باليأس من طيلة الانتظار، وقد زفر هو وقال بحنقٍ حين نزل بعينيه لوجه ابنه البكري:
_أقسم بالله أطلع أنام بلا خروج بلا صداع.
ضحك “إيـاد” وهو يتوسله بعينيه أن ينتظر دقائق أخرىٰ، وقد ظهرت “نِـهال” تحمل ابنها فوق ذراعيها ثم سألت بارتياحٍ غريبٍ كأنها تتعمد إثارة غيظ زوجها وهو على وشك الإنفجار:
_اتأخرت عليكم ولا حاجة؟.
اندفع يجاوب بصراحةٍ قاتلة وغيظٍ غير مكتومٍ:
_طبعًا، أنا شوية وكنت هطلع وأحلف مفيش خروج.
رمقته بسخريةٍ من عينيها ثم تجاوزته وفتحت باب السيارة وحين استعدت للدخول قالت تزيد من سخريتها:
_عادي كنت هاخد عيالي ونخرج إحنا.
رفع كلا حاجبيه مستنكرًا وهو يراقبها تولج السيارة وقبل أن يتبعها وجد والده يخرج من البيت وفي يده يمسك كوب أعشاب صنعه له “أيـوب” وقد نطق مستمتعًا حين تلذذ بالمشروب:
_خلي بالك منهم وإياك تزعل حد فيهم، لو هما زعلوك عادي فداهم، أنتَ رايح علشان تبسطهم هما، ولو قصر مع حد فيكم أتصلوا بيا هاجي أشد ودنه ليكم.
رمقه “أيـهم” بتعجبٍ ثم تحرك من مكانه وهو يرد بجملةٍ واحدة عبثية بقدر ما كان يحمل في قلبه من حماسٍ لتلك الرحلة القصيرة:
_خالصة هزعلهم علشان تيجي أنتَ تتبسط معانا.
ولج السيارة يبدأ السير بعد أن ودع والده، ولج يذكرهم بدعاء الركوب قبل أن تتحرك السيارة، حيث وعده لابنه برحلة لمدة يومين لمدينة الإسكندرية بفصل الشتاء كما أراد صغيره، لم يرفض له مطلبه حين وجد “نِـهال” تدافع بقتالٍ عن صغيرها وهددت إن لم يفعلها؛ ستفعلها هي وتذهب بصغيريها، ووقتها أخذ إجازة قصيرة من العمل ثم حقق لهم الأمنية..
بداخل السيارة كانت هي تجاوره بينما “إيـاد” جلس يحمل صغيره في عناقه يلتقط معه بعض الصور التي يُخلدها في ذكراه له، لقد رزقه الخالق جل وعلا بقطعة صغيرة تُشبهه، جزء آخر من الروح أصبح بين يديه، يراه مبتسم الوجه والعينين، وقد نزل برأسه يُلثم كف صغيره، وفي داخله حمد ربه كون أن هذا الصغير لم يكن ابن “أماني”.
التفتت “نِـهال” برأسها للصغيرين فابتسمت لهما ثم عادت برأسها لزوجها وهي تقول بحنوٍ كأن المشهد أثار فيضان أمومتها:
_شكلهم حلو أوي مع بعض، ربنا ميغيرش بين قلوبهم ويفضلوا سند بعض، الأخوات دول رزق من ربنا، مفيش حاجة أغلى من الأخوات في حياة بعض.
تذكر أخوته منذ الصغر حتى هذه اللحظة فتنهد بقوةٍ وقال بصوتٍ غاب في سُحب الذكرى التي مرت فوق سماء العمر:
_أي أخوات بيتأثروا باللي يشوفوه قصاد عينهم، طالما هيكبروا يلاقوا أبوهم وعمهم حنينين مع بعض وعلى أختهم وحنين عليهم يبقى هيجيب القسوة منين؟ وحتى لو طبعه قاسي شوية فدورنا نخليهم يحبوا بعض، البركة فيكِ أنتِ تزرعي حبهم لبعض، مش جديدة عليكِ دي.
ابتسمت حين فهمت مقصده حينما خصها هي بحديثه،
فهو لم ينس كيف تاه قبلها في المحطات المختلفة وحين وصل وجدها هي المحطة الصحيحة في العُمر، فلم يكن عليه إلا أن يثق في رحلته التي قادتها هي نحو الطريق الصحيح كي تخرج به من ظلام الرحلة الأولى لنور العمر بأكمله..
مرت السيارة من الشارع الرئيسي فلمحتهم “أمـاني” التي أنهت التسوق وكانت في طريق العودة للبيت مع أمها، راقبت السيارة بانكسارٍ وتنهدت بثقلٍ حين رأت ما تركته هي بيديها في يد غيرها تنعم به، ترقرق الدمع في عينيها وراقبت نفسها وهي تشبه قطعة قماش بالية لا تنفع بقدر ما تضر، حيث تتسخ يد كل من يقترب منها، وعلى رأسهم ابنها وطليقها، فزفرت باختناقٍ ثم انتبهت لصوت أمها حين واستها بقولها:
_متزعليش نفسك يا بنتي، ربنا يراضيكِ.
ابتسمت بوجعٍ وهي تقول بعتابٍ وتقريعٍ لنفسها:
_يراضيني إزاي ياما وأنا اللي بايعة؟ مشيت ورا دماغي وهبل ابنك وقولت أمسك قرش في أيدي يأمنني، بس سيبت الأغلى من كل الفلوس، كفاية ابني اللي خسرته، وكفاية إني خرجت من بيت زي بيت “العطار” والدنيا وسختني لحد ما بقيت زي الزبالة جنبهم، كفاية إني ضيعت راجل زي “أيـهم” مني وروحت لعرة الناس كلهم يتاجر بعرضي، يراضيني إزاي ياما بس؟ ياريتني ما كنت سمعت لنفسي.
بكت بقهرٍ حين تذكرت خسارتها، حيث تلك الخسارة الفادحة التي لن تعوض لو جابت الأرض من اليمين إلى الشمال وسبحت في كل أنهارها، هي باعت أولًا، وتخلت ثانيًا، طمعت في حياةٍ كانت بالفعل ملك يمينها لكنها لم تُقدر ذلك، لذا لم يكن عليها سوى التمني فقط وهي تُريد ما لم يسع له أن يكون لها هي..
وتلك هي نقطة الختام، ما كان في يدٍ لا تُقَدِر،
في الغد ثمن الحصول عليه لن يُقَدَر.
____________________________________
<“ثمن الحُب حُرية، وثمن الحُرية الروح”>
الحُرية في قاموسه حياة كاملة، فهو لم يحيْ بغير حُريةٍ قط..
فحين أحب؛ أحب الوحيدة التي حذره الجميع من حُبها، وحين هوى الطيور وقد أنذره الجميع عن قسوة غدرها، وحين رغب كانت رغبته في الطير وقد عارضه العالم حين بتر أجنحته وأخبره أن الطير جريمة لم يكن يومًا بقدرها..
الشمس تحولت للون الأرجواني، حيث القرص توسط ما بين لون الشفق الأحمر واللون الذهبي بِدُكنة درجته، وما يزين المظهر هي حرية الطيور حين ارتفعت للأعلى، بينما هو فصوت صافرته دوىٰ عاليًا للرفقاء بنغمةٍ معروفة، فعادت الطيور له من جديد، وقف “تَـيام” فوق العُش الخشبي يبتسم بزهوٍ، وقد صعدت له “آيـات” تحمل زجاجة مياه بيدٍ وبالأخرى تمسك ابنها صاحب العام ونصف من عمرهِ، اقترب يضع صغيره فوق كتفه كما الطير الحُر بينما هي فضحكت وقالت تعاتبه:
_عوده يقعد فوق كتفك كدا ويتعبني أنا، براحتك أنتَ وابنك يا “تَـيام” وريني مين هيشيله ويقعده هنا، نزله بقولك.
استفزها أكثر حين وضعه فوق كتفها هي وقال بتحدٍ:
_ابني يتشال فوق الراس ولو مش عاجبك أخلعي وأروح أشوف عروسة تانية تشيلني أنا وابني فوق كتافها يا “تـوتة” دا إحنا لقطة والله.
قلدت طريقته وهو يتحدث تسخر منه فيما اقترب هو وعاود وضع ابنه فوق كتفيه ثم قال بنبرةٍ هادئة يغازلها بقولٍ صريحٍ:
_مش هنلاقي زيك متقلقيش، أنتِ ملاك بين البشر.
ابتسمت بخجلٍ من إطراء كلماته عليها، وقد اقترب وضمها لعناقه بكفٍ وبالأخرى ضم ابنه ثم قال بصوتٍ هاديء:
_نفسي يكبر حُر نفسه من غير ضغوط، يكبر وهو ليه صوت الطيور كلها عرفاه زي الحُر اللي بينادي بأعلى صوت، نفسي يكون زيك لما يكبر، اللي يضيع منه في نفسه يلاقيه عندك أنتِ.
ربتت فوق كتفه ثم حملت ابنها بعناقها بينما هو أطلق الصفير العالي للطيور التي حلقت فوق السماء فوجدها تعود لموطنها مثله، تعود لنقطة الأصل والبداية، وحمامته المفضلة تقف فوق كتف زوجته التي ضحكت بملء صوتها هي وابنها، بينما هو فرفع رأسه يراقب المدينة بغروبها بطيورها، ورأى في عينيها المسكن بذاته..
في الأسفل كان “نَـعيم” يمر في البيت المزدحم، لقد أصبح البيت يشبه محطة القطار كما تلقبه “تـحية” مدبرة البيت بينما هو فيضحك لها بسعادةٍ لم تلمحها يومًا فوق ملامح وجهه التي عادت لها الحياة بعد غيابٍ، وقد أتته تشكو له من تسكع الساكنين بالبيت عند طلبها أي شيءٍ، فقال بطيبةٍ:
_سيبيهم يا “تـحية” براحتهم، البيت الحياة رجعتله من تاني، نسيتي البيت دا لما كان شبه القبر؟ ساعة سجن “إيـهاب” وغربة “يـوسف” وضياع “مُـحي” وتوهان “سراج” ولا فقد الحبايب وبعد “تَـيام” و “مُـنذر” عن حضني، ولا حتى حال “إسماعيل” وهو قافل على نفسه؟ دا البيت الحياة ردت فيه من تاني يا “تـحية” والنور ملاه، والله لو كل يوم وسط الصداع بتاعهم دا ووجودهم كلهم جنبي أنا راضي ومبسوط، ربنا يديم لمتهم ودوشتهم عليا.
وفي الحقيقة هو أدرك ولو مؤخرًا أن ضجيجهم هو هدوء الذات، جلبتهم وكثرة أحاديثهم هي سكينة العقل، ازدحام البيت بالكبار والصغار والشجار بين الشباب وصوت الفتيات هو فراغ العقل من فوضاه، هُم بأكملهم الروح التي غابت عنه وآن له الوقت أن تستقر الروح بجوار من تُحب..
خرج من البيت يمر على حظيرة الخيول حيث الأصدقاء القدامى له، أقرب الأقربين لقلبه، ويرى بعينٍ غير مجردة صورة كل شابٍ منهم في خيوله فتكتمل الصورة التي حصرهم بها في عقله، فيليق بهم الختام بأقوى تشبيهٍ، حيث الخيول العربية الحُرة،
حيث عزة النفس والكبرياء والشموخ ضد كل فاسدٍ.
____________________________________
<“غلبني الحنين لكِ فكان شوقي لك نادرًا”>
رُبما القصة الأولى لنا تكون محض تراهات..
مجرد خبالٍ بدأ بحبكةٍ خاطئة فاضطر البطل لتكملتها لأن الهروب لا يحق له، فيُظلم كونه البطل والشرير بنفس الحكاية، لكن عند القصة الثانية بعد تفنيدٍ وتوضيحٍ يظهر من هو البطل ومن هو الشرير في تلك الحكاية..
مناسبة عائلية جديدة، المشفى ممتليء بالناسِ أكملهم، وهو على رأس الجميع، زوجته تلد وابنته تفتح جفونها على الحياة، ركض “نـادر” من مقر عمله للمشفى بعد أن علم من حماته بولادة زوجته، كان خلفه “عُـدي” و “يـوسف” الذي ذهب إليه، بينما هو فكان يخشى فقد هذه الابنة هي الأخرى، خشى أن تتكرر معاناته فيُحرم من نعمةٍ لم يرغب في سواها، نعمة سقط في غرامها منذ أن أخبرته زوجته بوجودها داخل رحمها..
وقف “نـادر” يراقب الغرفة حتى وصله صوت الصغيرة تبكي فارتجف قلبه، اهتزت خلجاته وهو ينصت لهدير قلبه كما موج البحر العاصف، ظل هكذا حتى حملها فوق ذراعيه وهمس يناديها مستفسرًا:
_أنتِ عارفاني؟ أنا هكون بابا.
اقترب “عُـدي” منه يراها ضاحكًا فيما ابتسم “يـوسف” واقترب يُلثم كفها الصغير، بينما “نـادر” ضمها بقوةٍ لصدره وحينما لمح “أيـوب” يأتي له اقترب منه وطلب برجاءٍ:
_شيلها وأدعي ربنا يباركلي فيها.
حملها “أيـوب” منه وراقبها ثم لثم جبينها وذكر اسم ربه وظل يُرقي الصغيرة بالرقية الشرعية ويُحصنها ويُباركها بذِكر ربه، بينما “نـادر” حين أعادها لصدره شعر بقلبه يتلصق بها، كأنه رغب في اكتماله بتلك القطعة، وقد ولج لأمها التي راقبته حين اقترب منها، فوضعها بين ذراعيها واقترب يُلثم جبينها بامتنانٍ..
وهبته الحياة حين أسعفته في مرضه، وهبته الأمل حين قبلت به في ماضيه، وهبته الود حين انقطع العالم عن وصاله، وهبته الذرية حين كانت زوجةً له، فبعد شهرين من الزواج أخبرته بحملها، واليوم تُكمل كامل الواجب منها له، وما إن ابتسمت له بعينيها اللامعتين تنهد ثم مسح وجهها وقال بصوتٍ مبحوحٍ:
_فاكرة لما قولتلك كلنا جوانا كسور محدش رممها؟ دلوقتي هقولك كل الكسور اللي جوايا مالهاش مكان من ساعة ما عرفتك، والنهاردة قلبي لقى الحتة الضايعة منه ورجع كامل زي ما كان يا “حنين”.
نظرت في وجه الصغيرة وفعل هو المثل ثم همس بحنوٍ:
_ملامحها رقيقة شبهك، وقعت في غرامها.
وهنا اقتبست هي الاسم فهمست تسأله:
_”غرام”..؟
أومأ بعينيه ثم نادى ابنته باسمها:
_”غرام نادر السيد” مني وليكِ يا “حنين”.
ووضعت رأسها فوق كتفه بعد ختام جملته كأنها تعطيه نهاية وتخبره أن قلبه لا يستحق سواها، حيث هي وابنته وحياته الجديدة بغير ذلات الماضي ولا أخطاء القلب، هُنا حيث الفرصة الأخيرة التي التقطها هو بين يديه، فأصبحت الحياة رفيقة قلبه، وقلبه يحمل الحنين والغرام، والشوق في الغياب كان نادرًا.
____________________________________
<“ياليتني ما تركت نفسي تتوه مني فيها”>
أكبر كارثة قد يقدم عليها المرء هي تلك التي يترك فيها نفسه لنفسه، حيث اللامفر من الفقد والتيه والضياع، كارثة قد تحطم كل شيءٍ وتهدم عالمه رأسًا على عقبٍ، فبدلًا من البحث عن فرص العمر، قد يضيع عمره في البحث عن ما فقده في نفسه..
بداخل مقر دار الرعاية التي قضى فيها الكثير من الوقت حتى فقد أهمية الشعور بالزمن حوله، كان يراقب السماء الواسعة، الطيور الحرة، الزروع الخضراء، النسماء الباردة، كل الطبيعة ساكنة في موضعها عكسه هو، هو بغير مكانه، هو المضطرب الوحيد في هذه الدنيا، هو المُخطيء في حق نفسه وفي حق الآخرين..
فقد “عـاصم” النطق كُليًا، أجهزته تدمرت شيئًا فشيءٍ، فقد الشعور بالزمن حوله، فقد كل شيءٍ، عدا صورة واحدة يعرف طريقها جيدًا، صورة يضعها في كف يده مهما طال الزمن عليه لا يتركها، لم تكن صورة متوقعة لأي شخصٍ، لن يعرفها سوى المُحب فقط، حيث صورة “مـادلين” التي يحتفظ بها بجوار قلبه كل يومٍ..
أخرج الصورة يراقب ملامحها بشوقٍ وهو يستشعر ضياعها من يديه، لقد أحبها ويعلم أنها أحبته، لكنه لم يقدر هذا الحب قط، قصته معها كان هو الجاني الوحيد بها، هو وحده من وصل بنهاية القصة لتلك النهاية الحزينة، راقبها وهو يعلم أنها أصبحت ملك يمين غيره، أصبح هناك من يستحقها أكثر منه، ورغم حقده عليه، لكنه لا يرغب لها سوى في الفرح معه، لعله يفعل لها ما لم يسعه هو أن يقوم به..
وفي الجهة الأخرىٰ..
كانت هي تقف مع ابنته تنتقي معها بعض الثياب لها، تتجول معها في أحد المحال التجارية الشهيرة، تتجول معها وهي تتذكر كيف كانت تبذر في صرف الأموال هُنا بدونِ تفكيرٍ، ظلت تلعب مع الصغيرة وتتحرك وتلتقط معها بعض الصور؛ حتى أتى هو..
ولج “عبدالمعز” لهما فركضت عليه ابنته ليحملها، ثم اقترب وجلس بجوار الزوجة التي أصبح العشق يظهر في عينيها له، وما إن جاورها يحمل ابنته في عناقه، وجدها تحملها ثم ضمتها بدلًا عنه وقالت كأنها حقها المكتسب:
_لو سمحت طول ماهي معايا متحضنهاش.
راقصت الصغيرة حاجبيها له فيما ضحك مرغمًا وقال:
_لو تطاوعوني ونروح والله ما هخرج واحدة فيكم من حضني.
ابتسمت “مادلين” له فيما ركضت الصغيرة نحو منطقة الألعاب، راقبها كلاهما حتى شردت هي فيه، كل ما فيه من صفات سواء الخارجية أو الجوهرية يجذبها نحوه كل يومٍ أكثر، غرقت فيه بكامل إرادتها ولم ترغب في النجاة منه، وقد انتبه لها فعقد حاجبيه، بينما صرحت هي بقولها:
_تعرف؟ كان نفسي أكون أول نصيبك وأنتَ أول نصيبي علشان أعرف برضه هحبك كدا ولا دي مشاعر ناضجة جاية متأخر علشان بقيت معاك أنتَ؟.
ابتسم بعينيه فوجدها تُعانق كفه بكفها ثم قالت بهمسٍ خافت:
_مش مهم، المهم إني بصلح اللي فات بوجودي معاك.
_طب دا من بختي الحلو.
ابتسمت وابتسم، ضمت كفه فشدد الضمة،
أخبرته بنهاية الحكاية فوضع هو الختام الذي يليق بها،
يليق بفرصته الثانية له ولقلبه في الحياة،
حيث العودة من بعد غيابٍ، والجبر من بعد إنكسارٍ.
____________________________________
<“ظننتكِ حلمًا بعد المدىٰ، فأصبحت أقرب لي مني”>
بعض الأحلام حين تصدقها؛ نصل لها،
وبعضها الآخر حين نؤمن فيها نصل بها،
وبعضها يصبح على القلوب مستحيلًا،
وبعضها أكيدٌ لا يقبل تأويلًا..
البيت اليوم ممتليء بالكل، شقته أصبحت مؤخرًا أشبه بمؤتمر عائلي يقام عنده، حيث حماته، أمه، أخته، أولاد أخته، شقيقة زوجته، بحق رب العالمين أين المفر منهم جميعًا؟ ولج “بـيشوي” الشقة فوجد كرة تضرب وجهه، ثم بكاء ابنه فوق ذراع جدته، ثم صراخ “كـاتي” ابنة شقيقته في وجه شقيقها كونه أسقط زجاجة طلاء الأظافر فوق ثيابها..!!
راقب الوضع بازدراءٍ ثم تحرك يحمل ابنه الذي تشبث به باكيًا، جلس يهديء نوبة بكاءه فيما أتت “مهرائيل” وقالت بدهشةٍ:
_أنتَ جيت؟ فينك كل دا؟.
دار بعينيه يُقيم الوضع ثم قال بسخريةٍ:
_هربان، هو أختك تتجوز وأنا أصيع؟.
كتمت ضحكتها عليه ثم قالت تمازحه بقولها:
_البركة فيك يا “بـيشو” العروسة أختك والعريس أخوك.
أثناء حديثهما ولجت أختها بجوار زوجها “يـوساب” ثم ارتمت فوق الأريكة تقول بتعبٍ:
_مش قادرة خلاص، الترتيبات بهدلتني، أومال يوم الفرح هيحصل إيه ليا؟ خلاص فقدت الطاقة والشغف.
لثم “بـيشوي” ابنه أمامها ثم قال بصوتٍ مُرتاح كأنه يثير غيظها عمدًا كونه سبق وانتهى من هذا الطريق:
_يا عيني عليكِ يا بنتي، هي كل حاجة في بدايتها بتكون صعبة، بكرة تتعودي ويجيلك حتة عيل زي اللي على دراعي كدا ويكرهك في عيشتك أكتر ويخليكِ تضربي نفسك ٦٠ جزمة فوق راسك، قدامك فرصة، فكري.
انتشرت الضحكات حين تبدل الحديث كُليًا منه، وقد ولج “جـابر” بعد أن فتح له “أبانوب” ورحب به، فوجدهم جميعًا سويًا يدبرون لأمر زواج صغيرته، ورغم غيرته وحنقه وحب امتلاكه لفتياته؛ إلا أنه لم يتغافل عن سعادة الاثنتين، فالأولى بكرية الفؤاد أول من جعلته يشعر أنه أبٌ، وهي ذاتها من وهبته الحفيد الأول فاستشعر مشاعر جديدة في قلبه، أما الثانية فتلك تشبه كتلة المياه بين أنامله وها هي تنسلت..
ابتسم بحنوٍ للجميع ثم جلس بجوار صغيرته وكبيرته كأنه يشبع قلبه منهما قبل الرحيل، يشعر كأن حقه فيهما أصبح أقل ما يكون ١عن السابق، لكنه رغم ذلك يقبل بالمتاح منهما لعل ذلك يشبع شوق قلبه، بينما “بـيشوي” نظر في وجه ابن خالته “يـوساب” ثم ابتسم وهمس بحركة شفتيه:
_ربنا يعينك عليه.
ابتسم “يـوساب” بيأسٍ ثم نظر في وجه عروسته فوجدها تبتسم بعينيها ثم حركت كتفيها ببديهيةٍ كأنها تقول له أن والدها لن يتغير، ورغم ذلك هي لن تقسو عليه، وكذلك فعلت الكبرى حين وجدته يحمل ابنها فوق ذراعيه ويضمه ويُشدد عليه عناقه بقوةٍ كأنه يخشى فراقه هو الآخر.
بينما “بـيشوي” فتذكر حُلمه بالقرب منها، تذكر كيف كان اللقاء معها مجرد أمنية عابرة حال والدها دون تحقيقها، لكن اليوم ورغم كل الضجيج وعدم الارتياح الكافي لجسده؛ لكنه يشعر أن هناك جزءٌ في قلبه استكان برؤية الراحة في عيني زوجته،
وكأن قلبه يخبره أن اليوم وبكل قصدٍ،
ومن القلوب بكل عمدٍ أتى اليوم؛
ليكون هو بطل حكايته في كل يومٍ..
____________________________________
<“المدينة أضحت آمنة في وجودك أيها الغريب”>
في يومٍ ما كانت المدينة مُظلمة..
قاسية على قلب الغريب الذي تاه من أطرافها لأقصى شمالها بحثًا عن الأمان فيها، وهنا تحديدًا في مكانٍ يشبه مكان البداية كانت المدينة تعيش في حالة صفاءٍ، رغم الشوق القاتل، ورغم الرغبة في الاحتماء بقلب الغريب، إلا أن المدينة كانت ولازالت آمنةً..
تغيب عنها لمدة عشرة أيام بسبب سفرة قصيرة لعمله..
الشتاء عاد وكذلك الأمطار وهو لم يعود، الشوق ملأ قلبها وعيناها لم تلمح سواه وحده، ترك لها صغيره معها ورحل للعمل حيث الضرورة القاسية التي حتمت عليه الذهاب قبل مواجهة خسارة فادحة بالعمل، لذا كانت “عـهد” تنتظر عودته بفارغ صبرها..
فوق سطح بنايتها جلست وابنها بين ذراعيها، حيث الصغير الذي كان نسخة من أمان والده لقلبها، كانت تضمه وتقرأ الخطاب الليلي الذي دونه لابنه في نهاية اليوم قبل أن يخلد للنوم، لمحت بعينيها الأمطار تعود فشهقت بفرحةٍ ثم وضعت الصغير فوق الأريكة بمرقدهِ الآمن أسفل العازل الخشبي، بينما هي وقفت أسفل الأمطار وفردت ذراعيها تعانق الأمطار..
ظلت تدور كما طفلة صغيرة حصلت على موافقة الخروج للشارع في الليل، ضحكت بملء صوتها، حين ولجت الماء على عينيها ففتحتها تراقب صغيرها الجالس في مرقده يرفرف بكلا كفيه لها كأنه يدعمها هي، وقفت تراقبه ثم دارت حول نفسها وهي ترفع صوت ضحكتها، وقد تعرقلت قدميها فوق بعضهما وقبل أن تسقط وجدته يلتقطها..!!
تعالت نبضاتها، تمركزت عيناها عليه هو، في حين ابتسم بشوقٍ ثم ضم رأسها لصدره وهو يقول بسعادةٍ كونه يراها بتلك الهيئة:
_أنتِ مجنونة؟ كنتِ هتقعي.
ابتعدت عنه تبتسم بسعادةٍ ثم قالت بلهفةٍ حين تيقنت من تواجده:
_كنت هتجنن من غيرك يا “يـوسف”.
ضمها من جديد وفي خاطره يتذكر اللقاء الأول، حين كانا غريبين عن بعضهما ووطأ بقدميه أرضها، حين وجد السكن في مُقلتيها، حين كانت عيناها مقرًا له في غُربته، تذكر السكين حين وضع على عنقه منها فتسلب روحه منه، أما اليوم؛
فهي تعطيه روحها فداءً له،
تضحك وتُشير بعينيها نحو ابنهما، فهرول يحمل صغيره في عناقه يتعلق به، يتشبث بحبل نجاته في هذه الحياة، يتمسك به الصغير ويضحك له ويُغمغم مُعبرًا عن شوقه..
ثم عاد المطر، عاد كغيثٍ نزل على صحراء روحه الفارغة، لثم وجنته بينما هي فدارت من جديد وحررت خصلاتها تتراقص مع قطرات المطر، حبيبة المطر ورفيقة الشتاء، زهرة الربيع والحقل هو موطنها، ضحك عليها ورفع صوته كي يصلها من بين هطول الأمطار:
_هتبردي وتتعبي يا “عـهد” أرجعي وتعالي “يـامن” معايا مش هعرف أجيبه تحت المطر.
هرولت نحوه تأخذ الصغير ثم لثمته ووضعته في المرقد الصغير ثم سحبت “يـوسف” أسفل المطر ودارت بين يديه حين جعلته يمسك كفها، رقصت أسفل الأمطار وعادت تستند على صدره وهي تتنهد بأنفاسٍ مقطوعة ثم همست له ضاحكةً:
_وقعت فيك من زمان يا ابن “الراوي”.
مسح فوق وجنتها ثم أبعد خصلاتها عن وجهها وهو يقول بصوتٍ أجش رغم ذلك كان دافئًا وحنونًا:
_علشان ماليش شبيه غيرك يا “عـهد”.
وبين البارحة حين كانا مجرد غرباءً
وبين اليوم وهما يحيا بقلبٍ واحدٍ؛
مر عُمرٌ عليهما حتى وجد كلاهما أمانه في وجود الآخر،
وأدرك كلاهما أن الشبيه لشبيهه يطمئن..!!
وهُنا وضعت نقطة الختام في قصةٍ بدأت من الخوف وانتهت بالأمان، بدأت من المدينة الظالمة وانتهت بالمدينة وهي آمنة حتى ولو في حضور الغريب..
____________________________________
<“أراد أن يُضحي لأجل الناس فكان غوثهم”>
لكل شيءٍ نهاية، إلا الغوث لا نهاية له..
فهو دائرة مُفرغة بنفس الطريق، إذا سلكها الفرد لن يخرج منها إلا حين يكمل دوره، فالغوث هو التضحية التي تدوم،
خاصةً عند هؤلاء الذين يضحون لأجل الناس،
فيكونوا غوثًا لهم..
‘بـعد مـرور عـاميـن كـاملين..’
مرور الأيام ونهاية الحكاية لا يعني حتمية السعادة، لكن هناك عدلٌ لا يسع للمرء أن يتخطاه، والعدل في تلك الحكايا كان لابد منه، فإذا لم نكتب في نهاية القصة عن العدلِ لن يستطع أي فردٍ استيعاب تواجده في هذه الدنيا، ونهاية القصة بالحق، لا يُعني قلة عقل الراوي في صياغة حبكتها، لكن الحق حقٌ أن يُتبع..
توقفت سيارة “أيـوب” بمنطقة الزمالك حيث منزل “الراوي” القديم، مر عامين عليه منذ أن فرغ البيت من ساكنيه، بيتٌ حمل بين جدرانه القسوة حتى تجرعها ساكنيه، نزل “يـوسف” من السيارة هو الآخر بحنقٍ، تذكر كيف كانت بداية كل شيءٍ أتت من هُنا، حين وافق وعاد وتبدل بذلك كل شيءٍ..
تحولت ملامحه لأخرى قاسية، أخرى تكره كشف سرداب الذكريات، فنطق من بين شفتيه بحنقٍ:
_جايبني هنا ليه يا “أيـوب” تاني؟.
التفت له الصديق وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_مش طلبت مني أخلصك من البيت دا؟ أنا لاقيت حل.
سأله “يـوسف” بعينيه فتوسعت بسمة “أيـوب” حين أخرج الأوراق من جيب سترته وقال بذات الهدوء وإن زاد صفاءً:
_خلصت الورق وهخليه دار رعاية وملجأ أيتام، الشوارع مليانة بنات وأطفال وستات مش لاقيين حد يستر عرضهم وعورتهم، بدل ما نبيعه ولا نفرط في أرضه، نخليه ثواب وصدقة لأمواتنا، وزي ما البيت طرد براه “يـوسف” الصغير ورماه في الغربة، هو نفسه اللي هيأوي جواه كل “يـوسف” نصيبه خلاه في الشارع، ربنا خلقنا سبب للحياة ولتعمير الأرض، ماينفعش كل واحد فينا يمشي يقول يلَّا نفسي، وجودنا هنا فوق الأرض لازم يكون غوث لبعض يا “يـوسف”.
لمعت عينا “يـوسف” بصفاءٍ وعاد بعينيه للبيت يراقبه، يطالعه بعينٍ جديدة وهو يحاول دمج كلمات “أيـوب” مع البيت الكبير الذي مثل بيت الرعب والخوف له، وحينها اقترب يعانق “أيـوب” ويُربت فوق ظهره بقوةٍ وردد بصدقٍ:
_ربنا يباركلي في صُحبتك يا “أيـوب”.
ابتسم الآخر ثم ضمه هو الآخر بالمثلِ وابتعد عنه يسأله بمزاحٍ:
_سيبك من لحظة المشاعر دي، قولي هتسمي الدار إيه؟ عارفك تحب المسميات زي عينيك، مش هحرمك منها المرة دي.
ابتسم “يـوسف” حين راقب ملامح وجه رفيقه ثم نطق بثباتٍ:
_”غَـــوثِـهِـمْ”
لم يندهش “أيـوب” من الاسم، بل راقب المكان وكرره بخفوتٍ وهو يتمنى بقلبه أن يكون المكان غوثًا للضعيفين،
وملجأ للمشردين، ودار حماية لمن قست عليهم الناس فألقتهم في غياهب الظلام بالطريق وحدهم، بل تمنى أن يكون الخير هذا سببًا لدخوله هو وذريته الجنة، ومعه كل من يُحب..
***
“القلم بحرٌ لا يتوقف له مَدٌ، ولسانٌ لا يُكمم له فاهٌ”..
دُونت تلك الجُملة فوق قبر الراحل، كتبها الرفيق كي يتذكر الصديق الذي غاب عن دنياه لكنه لم يبرح قلبه قط، وقف “بـاسم” أمام القبر يدعو للمتوفي ثم تنهد بصوتٍ مقطوعٍ، كان يحمل فوق ذراعه صغيره، ابنه الذي عوضه به الخالق عن ما رأى في حياته، وقف يبتسم بحالة شجنٍ ثم جلس على عاقبيه وقال بهدوءٍ قبل بكاءه:
_وحشتني أوي يا “حمزة” وحشتني ووحشني “بـاسم” اللي كان معاك في أيامك، سبحان الله كل حاجة توقعتها حصلت، فاكر لما قولتلك أنتَ بتضحي غلط؟ قولتلي إيه؟ قولتلي فيه غيرنا مستنيين اللي زينا يتكلموا، مستنيين اللي يصرخ بدل ما هما مكتومين، تعرف إني عملت حاجات كتيرة لوحدي؟ للأسف ضحيت بنفسي واتجوزت، بس اللي اتجوزتها كانت بتفكرني بحالنا، ضعيفة، مكسورة، مغلوبة على أمرها، حبيتها غصب عني، زي ما بحب البلد دي برضه غصب عني، هي شبهها أوي، بس الفرق إن هي حبتني، إنما بلدي ماحبتنيش..
تهدج صوته وأغمض عينيه يتشبث بابنه، وعاد صوت الراحل حين صرخ بفرحٍ يملأ سمعه، وقتها كانت الشمس الغاربة أشرقت، والفرحة الغائبة ظهرت، وقتها أعلن الفاسد تخليه عن منصبه، أعلنت الحرية في كل البلد حين انهزم الطاغية، فصرخ “حـمزة” وقفز من مكانه، احتضن رفيقه وهو يُهلل فرحًا، وقتها حمله “بـاسم” فوق ذراعيه ودار به في الميدان وسط الملايين، كلاهما شعر كأن قلبه حلق وطار من موضعه..
خطف “حـمزة” علمًا من شابٍ ضحك له ثم وقف يرفرف به يتحدى الطير في قوته ثم هتف بملء صوته يصرخ مع صوت “بـاسم” الذي ارتفع يوازي خط سير صوته:
_هنعيش، بحُرية، في عدالة إجتماعية..
كان يُقر بالحقيقة، يؤكد المُراد الذي ناله، يخبر العالم من هو المصري وماذا يفعل حين يُريد ويشاء، كان حُلمًا فوق أرض الواقع؛ وتحقق، كانا كما طيورٍ حُرة رفضت الأسر، وحاربت ضد القهر، فتم الخلاص من أجنحتها بالغدرِ..
بعد مرور فترة حينها تبدلت الأوضاع، تحولت الأحلام لكوابيسٍ قاسية، شعر بالهزيمة، وزوال العزيمة، لكنه يحاول، وظل يحاول حتى أتاه السؤال الذي قصم ظهره وهشم ثباته:
_بتعمل كدا علشان مين؟ الناس خلاص اتوهمت.
وأتاه الرد مندفعًا بتفنيدٍ:
_مش مهم علشان مين، المهم إني بعمل، بعمل علشان بكرة، بعمل علشان لازم نفضل نحاول لحد آخر نفس فينا، بعمل علشان لو اللي زيي وزيك سكتوا محدش هيقدر يتكلم، بعمل علشان بكرة هتلاقي وجود المخدرات أسهل من وجود رغيف العيش، هتلاقي العُهر والدعارة أكتر من العفة والستر، هتلاقي الرجالة الخايبة ليها صوت عن الشباب الواعي، هتلاقي الحق بيرجع ورا قدام بجاحة الباطل، بحاول علشان هييجي يوم وهتلاقي العيب فيه أسهل من الصح، وهو دا اللي عدوك عاوزه، مفيش عدو هيقولك أنا هضربك فين، العدو هيخطط ليك لحد ما تقع، يدمر عقلك ويخليك بدل ما تدور وراه، تدور ورا قوت يومك، بدل ما تكون مثقف وواعي وعاقل، هيخليك مغفل، بدل ما تصحى وتشوف دينك وحق ربنا عليك، تقصر وبالتالي لا دين، ولا تعليم، ولا صحة، حتى لو معاك فلوس الدنيا كلها، بجهلك وبعدك عن ربنا ممكن تضيع عالم كامل، الحرب مش حرب سلاح، الحرب حرب وعي وعقول، بعمل علشان ابني لما يكبر ميتهمنيش إني محاولتش علشانه يا “بـاسم، مش عاوز أشوف اللي يخصني في أيد الغريب وأنا في أرضي مغلوب على أمري بفكر أقضي عشايا نوم..
ابتسم “بـاسم” بسخريةٍ وهو يرى كل ما تحدث عنه وخشى حدوثه؛ حدث بالفعل، شعر بقلبه يُعتصر بين ضلوعه، مسح فوق وجهه ثم تنهد بقوةٍ وقال:
_كان معاك حق فعلًا، كل كلمة قولتها صح، علشان كدا أنا هفضل أحاول، وهخلي غيري يحاولوا، علشان اللي زيي وزيك حتى لو خلصوا ولا عرفوا يكتموا ليهم صوت، يلاقوا حد بعدهم يكمل الطريق، هكمل علشان أمانتك في رقبتي إني أفضل أحاول، هحاول علشان العدو اللي ييجي يخلص على عقلي يلاقيني واعي زي ما طلبت مني، هعمل كل حاجة وصتني بيها، المهم تكون مرتاح في قبرك يا “حـمزة”..
أنهى الحديث ثم استقام واقفًا يشير نحو ابنه كأنه الحلم الجديد وقال بصوتٍ أقرب لبحة البكاء حين تهدج صوته:
_نسيت أعرفك، دا ابني …”حـمزة”.
ذكر الاسم وابتسم ثم أضاف بذات النبرة:
_سميته على اسمك علشان كلامك كان صح، حتى لو أنتَ وصوتك روحتوا من الدنيا، بكرة هيتولد “حمزة” جديد ويكمل الطريق، هربيه زيك، هحكيله عنك، هقوله كان ليا نص تاني مني بطل، مقدروش يواجهوه وش لوش، فخلصوا عليه بالغدر من ورا ضهره، كان نفسي أكون هنا المرة وأقولك الناس فاقت وعقلها رجعلها، بس وعد أكيد هييجي يوم وأزورك وأقولك الناس فاقت يا “حمزة”.. هتوحشني يا صوتي..
نزلت العبرات عند الوداع ثم لثم جبين ابنه والتفت كي يرحل، رحل مع “حـمزة” الجديد الذي تعلقت عيناه بقبر الحلم القديم وكأنه يحفظها في عينيه، رحل لكن أثره لم يرحل..
فأمام كل “حمزة” يموت يولد “حمزة” جديد،
وأمام كل صرخةٍ تُكتم تأتي صرخة وتُسمِع العالم أجمع،
وأمام كل سنٍ يُكسر في أقلامٍ تدون الحقائق، يأتي السلاح الحاد يمر فوق تلك السنون فيُعيد لها روح العمل من جديد،
وأمام كل أرضٍ مُغتصبة؛ تتحرر أراضي
وأمام كل شابٍ مقتولٍ بالغدرِ، تُخرِج الأمة من أرحامها وأصلابها شبابًا ورجالًا، وأمام كل حُلمٍ مقتولٍ، أملٌ في حُلمٍ جديد،
وأمام كل خوفٍ في نفوس البشر، سوف نجد للعقول غـوثهم.
_____________
_هُنا وبكل أسفٍ انتهت القصة ووضعت نقطة الختام..
وإلى اللقاء في رحلة أخرى جديدة إن كان لنا في العُمر بقية، دمتم سالمين وبخيرٍ أنتم وأفئدتكم، والدعاء وصية بيننا..
_شكرًا من كل قلبي لحضراتكم على دعمكم وصبركم وطولة بالكم عليا في الرحلة دي، بس بجد أتمنى تكون رواية مختلفة عن كل اللي قبلها، ويكون تعبي باين فيها، وأتمنى برضه أي حد يوصل فيها للنقطة دي يتغاضى عن أي مشاعر سلبية أو سيئة كنت سبب فيها، وإلى اللقاء عن قريبٍ..
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)