رواية غوثهم الفصل المائتان واثنان 202 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائتان واثنان
رواية غوثهم البارت المائتان واثنان

رواية غوثهم الحلقة المائتان واثنتان
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل المائة والسابع عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
________________
بَينَ قافِيّةٍ وأُخرى:
سَلِ اللهَ الكريمَ فليسَ شيءٌ
مِنَ الأشيا يعزُّ على الكريمِ
“ألَم ترَ أنّ اللهَ جلَّ جلالُهُ
يمُنُّ بلطفٍ ما تخيَّلَهُ العبدُ.
فمشيئة الله ستحدث في النهاية،
فلا تفني عمرك كله في التفكير
والحسابات…
وثق تمام الثقة أن الخيرة فيما يختاره الله،
وأن اختيارات الله هي الأنسب
والأفضل ولو كانت عكس رغباتك،
وأن كل اختيارات الله صالحة
وإن كنت لا تفهم الأسباب!
اختيارات الله وتدابيره
أجمل مما تريده لنفسك ومما تسعى إليه..
إن سألت الله شيئًا فسله أن
تتفق مشيئته مع مشيئتك،
وأن يكون مرادك هو نفسه قدرك..
لأن الله، رب الخير، لا يمنع خيرًا، ولا يأتي بشرٍ..
_”مُناجاة”
____________________________________
ليسن كل الأسرارِ بمحض كُتمانٍ..
فسري افتضح أمام العالم وانكشف وبِتُ في خضم جهرٍ أمام الجميع، وياليتني سمعت من حاكمٍ أعطاني نصيحةً فقال:
“أن العشق سٌر يُفتضح عن طريق العين” وقتها لم أكن لأصدق تلك المقولةِ، رُبما لأنني وقتها لم أكن بعاشقٍ، فلم أخشَ على سري أن يُفتضح، لكن منذ أن وقعت في فخاخ العشقِ، وسري أصبح مكشوفًا، أصبحت أمام العالم مجرد عاشقٍ جبانٍ يخشى كشف هويته في عينين أُخريتين كانتا موطنًا له حين غربته المواطن..
فدعيني اليوم أنفض غبار جُبني، دعيني أقف كما المُحارب الباسل أمام العالم وأُخبره أن تلك المرة لن أخشى كشف ما كتمته في سريرتي، فنعم أنا عاشقٌ وعيناكِ هي مقاصد العشق الذي أجهله، نعم أنا مُحبٌ وبذات الوقت تائهٌ، لكن منذ أن وقعت عيناي على عينيكِ وأنا أعلم أين هو طريقي، أو بالأحرىٰ؛ عيناكِ هي موضع سكون التائه حين تضربه أطراف المدينة لأقاصيها دون غاية وصول، وكأن الغاية والمقصد كانا بنظرةٍ منكِ.
<“لا تلومن خيلًا على عُنف ركضه، فالخيل خُلِقَ حُرًا”>
واحد بجوار واحد يساوي اثنين..
حسبة بسيطة، مُعادلة سهلة وأسهل ما يكون في قانون البشر، لكن ليس لرجلٍ مثله؛ فواحد بجوار واحد يساوي واحد صحيح فقط، وكأنه يخبر العالم أن البقاء للأقوى والأصلح، رجلٌ لم يعترف بالهزيمةِ، إما الربح وإما السعي كي يربح، قاموسه لم يعترف قط بمبدأ السقوط، وكأنه يسقط لينهب من الأرض قواها؛ فيصبح صلبًا…
_اللي أنتَ عاوزه حصل يا “عمهم” البيت وقع.
استمع “إيـهاب” للحديث وتوسعت عيناه ببريقٍ ساطعٍ والمعنيَّ بالطبع له معلومٌ ولو كان للكلِ مجهولًا، فانتشت الدماء في جسده تغزو النصر الأكيد لتخبره أنه استطاع أن ينتصر في الأخير، لذا أغلق الهاتف ثم عاد لابنته يحملها من فوق ذراع عمها، لاحظه “إسماعيل” وقطب جبينه لتنطق ملامحه تعبيرًا عن الحِيرةِ، لكن الغريب حقًا في الأمر، أن شقيقه كأنه يحتمي بابنته وليس العكس..
نظرة “إيـهاب” كانت ضعيفة وهو يطالع ضحكة الصغيرة التي هللت ملامحها برؤياه، بينما هو فتلك المسافة التي قطعها من ماضيه لحاضره كانت قاسية عليه لتجعله يرجف خوفًا، فيركض بحثًا عن الأمانِ في عناقٍ صغيرٍ، ولم يُخرجه من غرقه في حزنه سوى كف شقيقه الممدودة لكتفهِ، فينطق السؤال بعينيه، ليأتيه الجواب نفيًا ويصاحبه التبرير الكاذب:
_وحشتني، ووقفت فكرت مع نفسي كدا وسرحت هييجي يوم وأشوفها فيه عروسة كدا قدامي، سرحت شوية متقلقش.
ابتسم له ثم مرر كفه فوق ظهر صغيرتهما وهتف بدعاءٍ:
_ربنا يفرحك بيها وتشوفها أحسن عروسة في الدنيا كلها.
وكأن الصغيرة انتبهت له؛ فارتمت عليه ضاحكةً وحينها أخذها وظل يُقبلها حتى ضحكت وقهقهت لتظهر أسنانها اللبنية التي لازالت في طور التكوين، وقد أبتعد عنها “إيـهاب” حينما اهتز الهاتف بجيب سترته، فأخذ يتصفح الصور المُرسلة ليطوي صفحة ماضٍ أليمٍ بكتاب الحياة، صفحة لن يجرؤ على قطعها، لكنه وضع عندها حدًّا كي يقف عندها في كل مرةٍ؛ فيتخطاها.
في الداخل قام “مُـحي” بإلباس زوجته طاقم الذهب ووضعه خاتمه في كفها الأيسر، ثم وضع سلسالًا من الذهب تتوسطه زهرة بها فصٌ ذات لونٍ أخضر يُلائم نضرة عينيها، كانت تلك هي هديته لها بمناسبة عقد القران، وما إن انتهى وعلا صوت الزغاريد من أمها والنساء حولها، ضحك هو الآخر ثم لثم جبينها ورحل بهدوءٍ، بينما في الخارج وقف “عبدالمعز” وكأن أول المُباركين حينما ضمه في عناقه، حيث كان أول من شهد الرحلة من البداية حتى ختامها هذا..
بينما “تَـيام” فوقف يحمل صغيره الذي ركض له عمه وتلقفه بين ذراعيه ينهال عليه بوابلٍ من القُبلات، فوقف بجواره شقيقه ثم قام بضمه، كانت ضمة قوية، فخورة، رُبما غير مُصدقة، فهو لم يُصدق حتى لحظته تلك أن هذا هو “مُـحي” بذاته، لذا لمعت عيناه بالزهو والفخر وهو يبارك لأخيه الذي استقر في عناقهِ، ليأتي صوت أبواق السيارات ويخرجهما من شرودهما، ثم بدأوا في التفرق بداخل السيارات، فقاد “أيـهم” السيارة بأسرته، وخلفه “أيـوب” بوالده وزوجته، والبقية خلف بعضهم.
ولج “مُـحي” سيارته وانتظر قدوم “جـنة” التي فتحت باب سيارته وولجتها تجلس بجواره ضاحكةً بوجهٍ بشوشٍ، فابتسم لرؤية هذا الوجه، لمح عينيها فكانتا جنةً فوق جحيم الأرض، كأنه لقى جزاء التوبة فوق الأرض، لم يُصدق أنه وصل لما أراد، فمد كفه يلتقط كفها ثم قبض فوقه وقال بلغة المُنتصر:
_الحمدلله على كرم ربنا ورحمته بيا، كنت متأكد إنك هتكوني نصيبي، علشان أكيد ربنا مش هيعلق قلبي بيكِ من غير ما أوصلك، يمكن كنتِ سبب ينور بصيرتي وأتوب، بس أنا والله راضي بكل حاجة، طالما أنتِ المكافأة.
تورد وجهها، هي الآن تُجابه مشاعره القوية برقة فراشة كادت أن تغرق بالمُحيط فأنجاها هو حينما مد يده وظل يستمسك بها، ضحكت له بخضراوتيها ثم ظلت تراقبه بينما هو يقود السيارة لحين موضع بيته، حيث مقر الاحتفال بليلةٍ أسطورية صممها “نَـعيم” وفعل كل ما بوسعهِ لأجل صغاره، فكان “مُـحي” بين الحين والآخر يرمقها بطرف عينه فيرى عينيها وهي تختلس النظر له، حتى أوقف السيارة أخيرًا عند مقر بيته خلف السيارات الأخريات.
ومن ثم بدأت الألعاب النارية تنطلق في السماء، وصوت الخيول وهي تُصهلل ترحيبًا بالعروسين، ثم رقص الفرقة المصرية ذوات الجلباب الواسع، فكان احتفالًا عربيًا وفي المقام الأول مصريًا، حيث الحضارة تتجلى فوق سفح الأرض بجوار بيتٍ عتيقٍ الطُراز، وخيولٍ عربية تسرد عن طباع أهل البلد، حيث القوة، المرح، الشجاعة، الكرم، عزة النفس والشموخ، كل شيءٍ يخبرك أنك فوق أرض الخير وإن كان قبل الأهل يُرحب بالغيرِ…
تحرك “مُـحي” نحو رفيقته الأولى، “ورد” الرقيقة الوفية والمُهرة الحُرة، وخلفه تبعته زوجته، وقف هناك يفتح لها السياج الخشبي ثم ضم رأسها لعناقه كأنه يعلم أنها تُبارك له، وقد عاد للخلف وضحك لها ثم أشار على زوجته وقال بسعادةٍ لم يقو على أحتواء أثرها:
_دي “جـنة” أهيه يا “ورد” بقت مراتي وحلالي، جنة ربنا فوق الأرض لواحد عاصي زيي، السبب اللي خلاني ألحق نفسي قبل ما أموت بذنوب الله أعلم عن حالي وقتها، بصي تستاهل تتحب إزاي؟ تعالي سلمي عليها.
أخذ الفرسة وتحرك بها نحو زوجته التي عادت للخلف بخوفٍ من الاقتراب، فمد يده يدعم ثقلها ويسحبها نحوه حتى التصقت به، أصبحت نظرات العين نظير بعضها بغير فاصلٍ بينهما، نبضات قلبها المُتعالية وصلته وبدا ذلك ملحوظًا من خلال ارتباك عينيها واهتزاز حدقتيها، فمد يده يمسح فوق وجنتها بودٍ ثم همس لها بصوتٍ دافيء:
_متخافيش وأنا معاكِ، المفروض أنك واثقة فيا صح؟.
أومأت له بغير انتباهٍ، رُغمًا عنها هزت رأسها تُدلي بالموافقةِ، فابتسم لها ثم سحب كفها برفقٍ ووضع يدها فوق رأس الفرسة التي اهتاجت من اللمسة الأولى، فمسح فوق رأسها وهمس بأذن زوجته:
_متخافيش منها علشان هي متخافش منك، أديها الأمان وهي هتديكِ الثقة، “ورد” طيبة مش بتزعل حد منها، بس لازم تحسسيها إنك بتحبيها، هي واللي يخصها.
والجملة الأخيرة أتت عبثية، جُملة أتت بخبثٍ مرح كأنه يدعي التلقائية، بينما هي حتى تلك اللحظة لم تقتنع أن الحدود تلاشت، لم تتوقع أن النظرة المُحرمة له أصبحت حلالها، فكان كل ما فعلته أنها بحثت في وجهه بعينيها عن سببٍ يدعوها للهرب، عن أي حجةٍ تجعلها تنتهج الفرار من أمامه، ربما هي لم تعتاد قط على معاملة رجلٍ غريبٍ عنها، لذا أخفت عينيها عنه وأسلتت كفها من أسفل كفه حينما شعرت أنها في منطقة خطرٍ على قلبها..
هل هذا هو الحُب الذي ينبش بمخالبه في القلب؟..
هي تلك اللحظات هي التي يعيش القلب سجينًا بغيرها حتى ينل الحُرية في حضور من يُحب حينما يقع بقيده؟ التفتت له من جديد فوجدته يراقبها، بينما هي سألته بغباءٍ كأنها تحدث نفسها:
_هو أنا حبيتك إمتى؟ وليه مش عاوزة غير إني أكون معاك؟.
ابتسم بسمةً مراوغةً ناوشت ثغره إثر كلماتها، ثم اقترب منها ورفع كفه يشير على عينيهما بتساوٍ رافق قوله الشقي:
_من أول مرة العين جت في العين، لو محبتينيش كان مستحيل تقبلي وجودي حواليكِ، وأنا لو ماحبتكيش كان مستحيل علشانك أعمل أي حاجة، يمكن دا اختبار من ربنا لصدق توبتي وهو إنك تبعدي عني بدل المرة أربع مرات، وأنا أكمل واستنى وكل مرة كنت واثق إنك هتكوني ليا، بس مالهاش ليه، علشان من البداية نصيبي كان في عيونك الحلوين.
ضحكت بعينيها أولًا ثم نظرت حولها تتفحص المكان، لا تعلم لما الجنون أتى لعقلها في تلك اللحظة، لكنها ارتمت عليه تحتضنه، ربما أرادت أن تشعر بالأمان في لحظة تيهٍ مثل هذه، أو لربما أرادت أن تجبر نفسها على كسر القيود، ورغم ذهوله من فعلها لكنه همس لها بحبٍ وصدقٍ:
_أنا صحيح مش بتاع كلام، بس أنتِ تستاهلي حب الدنيا كله.
رفعت رأسها تضحك له بسعادةٍ ثم وضعت رأسها فوق صدره وهي تُربت فوق موضع نبضه ثم همست بصوتٍ ناعم كنسمة صيفٍ لطيفة:
_وأنتَ تستاهل خير الدنيا كلها لقلبك، ربنا يقدرني وأكون الست اللي تستاهلك ويجعلك سبب يقويني في ديني قبل دنيتي.
والحديث تلاه نظرة، والنظرة تلاها ضمة قوية، والضمة القوية كانت أمانًا من نوعٍ خاصٍ، أمانٌ يشبه لحظة الهدوء حين يتخلص المرء من شيءٍ كان يكتم فوق أنفاسه فيجعله قلقًا وتائهًا، لحظة أمانٍ كأنك استعلمت عن نتيجةٍ كنت تنتظرها، وها هي تأتيك بالمراد وأخيره، تمامًا كعاصٍ عاش فوق الأرض يعيث بها الفساد، ويوم أن تاب مات وولج الجنة، فكان يوم توبته هو نفسه يوم فرجته..
والآن فُتِحت أبواب التوبة،
فتاب العاصي عن الذنب، وفارقت قدماه درب الجحيم،
فنعم بالجنةِ يوم أن فتحت الباب له،
لترتضيه من بين الكل تائبًا ومُحبًا،
وكأن الطريق لجنةٍ يحتاج لتوبةٍ صادقة، وعزيمة رجلٍ،
فكان هو كليهما، وأصبحت الجنة حلالًا طيبًا له.
____________________________________
<“عيناكِ تعلم الجبان كيف يُناضل لأجلهما؛ فيقيم بهما ثورةً”>
نصف الحُب جهادٌ والنصف الآخر تضحيةٌ…
فلولا الجهاد لما حارب المُحب، ولولا التضحية لما تيقن الحُب، خاصةً إن كان الموطن ضعيفًا يحتاج لمحاربٍ قوي يقف في مواجهة الظُلم والفساد، فيغدو مُحبًا وقويًا استبسل بدمه لأجل موطنه..
شقة قديمة بحي السيدة “زينب” تم تجهيزها وتحضيرها بوسائل حديثة تليق بعروسين، فأصبحت نمطًا يجمع بين القديم بعراقته وقوته، وبين الحديث بجماله ورُقيه، مطبخ كبيرٌ واسعٌ بها المعدات الحديثة المطلوبة، وبه أيضًا طاولة مربعة صغيرة الحجم بأربع مقاعد وفي النصف مزهرية وشمعة صغيرة، وفي الخلف موسيقى ناعمة كلاسيكية، وتقف تلك العروس تصنع الطعام ببسمةٍ حالمة، فها هي مرتها الأولى التي تصنع فيها الطعام لأجل زوجها في بيتها..!! ترُى متى أصبحت الأحلام تتحقق بتلك السهولة؟.
شردت وهي تقوم بتقليب الخضروات داخل الإناء حتى شعرت برائحة عطره تأتي من خلفها وهو يضع رأسه فوق كتفها يستبين الفعل الذي تقوم به، فضحك رغمًا عنه ثم قال بمراوغةٍ:
_طب ما “كِـنز” مالية التلاجة أكل، ولا أنا مضايقك قولتي تخلصي مني بشياكة من غير ما تقوليها في وشي؟.
التفتت له بحنقٍ وهي ترفع الملعقة الكبيرة الساخنة بحركةٍ مقصودة فعاد للخلف هو حتى وجدها تبتسم بانتصارٍ، فابتعد عنها ثم التقط المريول الكُحلي وربطه فوق خصره ثم قال بحماسٍ:
_هساعدك يا ستي، عاوزة تعملي إيه؟.
دارت بعينيها فوجدت طنجرة الأرز نضجت، ثم الخضار الذي وضعته فوق اللحم شارف على النضج، فأشارت نحو طبق مكونات السلطة وهي تبتسم له، ففهم هو ووقف يقوم بتقطيع الخضروات ثم سألها بهدوءٍ:
_بتعرفي تطبخي أصلًا ولا بتجربي فيا؟.
قامت بخفض حرارة الموقد الغازي ثم التفتت تستند على حافة الرخامة وتواجهه بقولها الهاديء:
_ماكنتش أعرف بس الكام شهر اللي اتصاحبت فيهم على خالتك علمتني أطبخ حاجات كتير أوي، وعرفتني التوابل وكل حاجة استخدمها إزاي، أنا عمري ما عملت لنفسي حتى ice coffee
ضحك رغمًا عنه وأنامله تتحرك بالسكين بانسيابية، وقال ساخرًا على جملتها الأخيرة:
_على أيامنا كانت عمري ما عملت لنفسي كوباية شاي، فعلًا اختلاف طبقات يودي ورا الشمس.
شاركته الضحكة ثم وقفت تُملي عينيها منه، وسامته الشرقية التي لم تكن مبالغة، اسمرار ملامحه وتقطب جبينه العابس دومًا، بنيته القوية كأنه جدارٌ تتكيء عليه عند ضعفها، خصلته الشاردة بتمردٍ مثل تمرده على الحكومات، كل شيءٍ فيه مميز للغاية، حتى حبه لها مميز بكل تفاصيله، لذا اقتربت منه وقالت بحماسٍ:
_عارف؟ طول عمري كان نفسي أشوف راجل بيساعد مراته في المطبخ والبيت كدا ويشاركها تفاصيل كتير حلوة بتكون مميزة بينهم، كنت بتمنى أشوف المنظر دا في بيتنا الممل بس ولا مرة حصلت، أصلًا عمرنا ما كَلنا مع بعض، وكبرت خلاص فاقدة الأمل إني ألاقي الحب دا في أي مكان، بس معرفش ليه معاك كل حاجة مختلفة كدا، حتى أحلى من خيالي بكتير.
رفع رأسه لها فوجد البساطة في الأحلام ترتسم فوق وجهها، فث النهاية هي مجرد ضحية لأبٍ وأمٍ لم يهم أيًا منهما سوى مصلحته وحده غير آبهٍ برزق الخالق له في فتاةٍ مثلها، لذا ابتسم بحنوٍ ثم ترك ما يفعله ومسح كفيه فوجدها تبتسم بحزنٍ له، بينما هو جلس فوق المقعد وقال بهدوءٍ:
_مش كل الأحلام صعب تتحقق، بس فيه أحلام بتكون مش مناسبة لوضع صاحبها وفيه أحلام ليها وقت مناسب، وأنتِ أحلامك كانت عاوزة منك شوية جهد وصبر وقرب من ربنا علشان تعرفي الحياة هدفها إيه، يعني أنا عمري ما حطيت في دماغي إني أتجوز وأحب وأعمل كل دا علشان حد، أنا كنت خلاص قولت مش هضحي علشان حد غير نفسي وبس، بلد كاملة ضحيت علشانها، فبقيت أنا المجرم، بس ظهورك غير الخطة.
ضحكت له بعينيها بينما هو استقام واقفًا ثم أوقفها عند الطاولة ووقف خلفها ووضع السكين أسفل يدها ثم طوق كفها بكفه وبدأ يُحرك اليدين معًا ثم همس لها بقوله:
_أظن برضه اللحظة دي كانت في خيالك ولا إيه؟.
أومأت له بخجلٍ ثم تركت يدها تتحرك كيفما يُحركها هو، هو يقود المسار وهي خلفه، وتارة تضحك، وتارة تُحيد بيدها للجهةِ الأخرى، وعلى كُلٍ يضحك هو ثم يجبرها أن تكمل معه بنفس آلية كفه سريع الحركة، وفي تلك اللحظة صدح صوت جرس الباب، فقطبت جبينها وهمست بعجبٍ:
_”كِـنز” مش هنا راحت عند خالتها “زوزو” وهتقعد هناك يومين، مين ممكن يكون جاي لينا؟ تفتكر رجعت بدري كدا؟.
عقد حاجبيه بتعجبٍ خاصةً وهو يعلم أن زيارة خالته لقريبتهم تطول ليومين وربما أكثر في مزرعةٍ بمدينة الإسماعيلية، وهو بنفس طلب لها سيارة توصلها، لذا تحرك وترك زوجته تقف لحين يُنهي هو فعله، عادت تتابع الطعام بجل تركيزها وحُبها، فوصلتها جلبة عالية أتت من الخارج وقبل أن تتحرك قيد أنملةٍ، وجدت أباها عند مطبخها يُرشقها بنظراتٍ نارية..
عادت للخلف بخوفٍ منه، فيما اندفع “بـاسم” يقطع عليه الطريق قبل أن يصل لها ثم أخفاها خلف ظهره وهي تتمسك بسترته بكفٍ مرتجفة، بينما والدها ابتسم باستهزاءٍ ثم قال بسخريةٍ:
_دي آخرتها يعني؟ بقيتي خدامة عنده؟ دا أنتِ طول عمرك عايشة متهنية والخدم حواليكِ، ضحك عليكِ بشوية الهبل دا؟ أطلعي يا “نـورهان” يلا قدامي، كدا كدا هيرمي عليكِ اليمين.
توسعت عيناها بهلعٍ وارتجفت فورما وجدته يتقدم كي يأخذها، فدفعه زوجها بذراعٍ وبالأخرىٰ ألصقها في ظهره وهو يقول بحدةٍ مفتعلة:
_لو فاكر إنك هتقدر تاخدها تبقى غلطان وأهبل، مراتي مش هتخرج من هنا غير على جثتى، أظن خلاص دورك خلص في حياتها لحد كدا، وشكرًا ليك، بس مراتي مش هتخرج من بيتي.
وبنفس النظرة المُقللة، وبنفس الاستهزاء تقدم يقف في مواجهته ثم أشار عليه بتقليلٍ منه وقال:
_مبقاش غيرك يا سوابق اللي يتكلم؟ مش مكسوف من نفسك طيب؟ خد بالك أنا ممكن دلوقتي أرميك في السجن تعفن فيه بقية عمرك، وهتهمك بخطفها وإنك اتجوزتها وهي مدمنة، يعني مش في وعيها، وأظن أنتَ اسمك لوحده كفاية، ترجع تاني زي الكلب في زنزانة متشوفش الشمس بعينك تاني.
توسعت عيناه وتجمدت أطرافه حتى أن قبضته ارتخت عنها، بينما هي هبطت دماعتها بغير وعيٍ ورفعت رأسها نحوه بغير تصديقٍ أن تجبر والدها وصل لتلك المرحلة، ولطالما أنتوىٰ هذا الفعل لن يتوانى عنه، بالطبع سيفعلها، لذا تمسكت بمرفق زوجها تتوسله ألا يتخلى عنها، بينما والدها قال ببساطةٍ:
_خلاص ممكن نحلها مع بعض ودي، قولي يلزمك كام وتسيبها، وأنا عن نفسي هديك ٢ مليون جنيه والبيت اللي كانت فيه يبقى باسمك، بس تطلق دلوقتي حالًا.
وها هي الصفعة التانية من والدها تضرب فوق قلبها، من أي فئة أباءٍ أتى هو، كيف يجرؤ على عرضها بهذا الثمن البخس؟ شعرت كأن الأرض تميد بها، كف الإهانة أصاب قلبها قبل جسدها، فإذا كان والدها يراها بهذا الرخص، ماذا عن زوجٍ غريبٍ عنها؟ بكت بقهرٍ، فيما نطق “بـاسم” بوقاحةٍ يوقف بها وقاحة أبيها:
_طب بالذمة مش مكسوف وأنتَ أبوها ومرخصها كدا؟ دا مقامها عندك ٢ مليون وبيت؟ طب على كدا أنا بقى ممكن أعمل أكتر من كدا، وممكن أرميها في الشارع ما أنا خدت غرضي خلاص منها وبقت مراتي.
حركت رأسها بعنفٍ نحوه، فيما احتقنت الدماء في وجه والدها، وحينها سحبها “بـاسم” من كفها وأوقفها بجواره وهو يقول بثباتٍ ردًا لكرامتها:
_عرضك مرفوض يا باشا، واللي عندك أعمله، مراتي فلوس الدنيا كلها متسواش رمش من عينها، ولو على الفلوس روح أعمل بيها صدقة تنفعك في آخرتك، علشان لما تقف قدام ربنا، ولو عليا فأنا هحترم سنك أولًا، وإنك في مقام جد عيالي ثانيًا، وبرة من غير مطرود.
رأى “نبيل” التجبر في عينيه، رأى قوة ثائر في ميدانٍ واسعٍ لا يخشى سُلطةً ولا يخشى رصاصًا، رأى قوة في تمسكه بكف زوجته وهو يبثها كأنه ينطق معبرًا عن لسان حال قلبه بانفعالات جسده قائلًا “اسلمى واطمئني، أنا فداكِ” رأى ابنته تخشاه، فطالعها يرى في عينيه النفور، المُقت، رأى نضجها الذي أصبح مرسومًا فوق ملامحها، خاصةً حينما التفت تُطفيء الموقد وتهرب من عينيه..
لحظة صمتٍ مشحونة مرت عليهم أعوامًا، لحظة تاه فيها الحديث عن عناوين الشفاه وهي تقف تمسح عبراتها ثم بدأت تتحرك كأن والدها لم يكن حاضرًا، تعجب من فعلها زوجها، لكن والدها كان يفهم أنها تتهرب منه، فسألها بهدوءٍ:
_آخر فرصة أهو بقولك تيجي معايا؟ بيتك اللي بتحبيه وحياة أحسن من دي مليون مرة، فلوسك وحاجتك هترجعلك، هو بيضحك عليكِ، دا نصاب وتاريخه أسود…
_بس راجل وقلبه أبيض، والأهم بحبه.
هكذا قطعت عليه سبيل التكملة وهي تقوم بغرف الطعام، ثم التفتت برأسها له تقول بسخريةٍ تهكمية:
_الصفات دي تعرف حاجة عنها؟ راجل وقف في ضهري لحد ما خلاني فوقت لنفسي وبطلت الزفت اللي كنت باخده، وقف معايا وشال همي وهو غريب مش مُجبر، دفع فلوسه ووقته وحبه ليا علشان أقف على رجلي من تاني، عملتلي إيه أنتَ؟ جيبتلي بيت؟ بس رمتني فيه لوحدي من غير سؤال، ادتني فلوس؟ خلتني مدمنة بلا أزرق من غير ما تفكر، سيبتني واديتني حُريتي، بس حرمتني منك ومن حضنك، علشان كدا يا “نـبيل” بيه هقولك اللي اتقالي لما جيتلك بيتك…
تركت قوس الحديث مفتوحًا ثم سألته بمرارةِ القهر:
_فاكر لما اتجوزت وأنا جيتلك مرات عملت إيه؟ طردتني علشان خافت على بيتها وجوزها مني ومن السبب اللي يخليه يسيبها أو ييجي على فرحتها، وأنا برضه خايفة على فرحتي منك، وخايفة على جوزي وبيتي وحياتي، علشان كدا بقولك من غير مطرود مالكش حاجة هنا، واللي بتدور عليها دي ماتت وادفنت، أنا هنا “نـورهان” بصفتي مرات “بـاسم أحمد الطيب” جوزي، وبالمناسبة موضوع إني خدامة عنده دا محتاج تعيد تفكيرك فيه، علشان ماظنش الهوانم اللي سيادتك اتجوزتهم يعرفوا قيمة حاجة زي دي، تحب تقعد تتغدى معانا؟ ولا تلحق بيتك بدري؟.
قالوا في قديم الزمان أن الهرة الضعيفة، يوم أن تتعلم الخدش تتعلم فيمن أذاها أولًا، وهو لم يكن مجرد سببٍ للأذى فحسب، وإنما هو الأذى الذي لا ينضب جرحه، هو التعب الذي يظل جرحه غائرًا، هو الندبة التي لن يختفي أثرها، لذا قرر أن يُلملم شتاته ورمقها بتهكمٍ ثم أشار على زوجها الذي كان له نصيبًا من الصدمة، وقال:
_بكرة لما يضحك عليكِ وتيجي تعيطي منه متفكريش تيجيلي، علشان أنتِ اللي اخترتيه، وأنا لو عليا بقولك بالشفا.
ورحل، رحل بعدما زعزع الثبات بينهما وعكر صفو اللحظة، لذا ذهب عنها قناع الثبات وبكت وهي ترتمي على أقرب مقعدٍ يقابلها، فجلس زوجها على عاقبيه ثم رفع كفه يمسح وجهها فوجدها تقول بتوسلٍ ألا يجعلها تلجأ لأعتابه:
_أبوس إيدك ماتكسفنيش قدامه وقدام نفسي، أنا ماليش حد غيرك، خلي بالك مني علشان والله العظيم ماليش حد يقف لو زعلتني، علشان خاطري…
بكت من جديد فضمها بقوةٍ لعناقه، أغلق عليها بين ذراعيه يحتوي نوبة غضبها، بينما هي فأخذت تبكي وتتشنج بين ذراعيه، تركها تفعل ما يحلو لها، تركها تبكي وتصرخ وتعبر، ثم أخرجها من محيط الأمان للغرق؛ حيث عينيه التي تسبح فيهما حينما يحنو عليها بالنظرة قبل الكلمة ثم قال بصوتٍ هاديء وهو يزيل عنها عبراتها:
_علشان خاطري أنا سيبك منه، كأنه مجاش خالص ولا شوفناه، وقومي كملي الأكل اللي جوعنا دا، يلا علشان ورانا فرح ومش عاوزين نكد، قومي يلا دا أنا نسيت حركة مهمة في السلطة تعالي أعرفهالك.
ضحكت رُغمًا عنها ثم تحركت معه حينما سحب كفها ثم عاد هو يشاكسها ويمازحها ويسخر منها، عاونها فيما تفعل حتى قامت برص الطاولة، فأقترب يُلثم جبينها بفخرٍ وحبٍ، فارتمت هي بثقل رأسها وهم قلبها بين ذراعيه وتستند بحملها فوق صدره،
فكان هذا هو حملها الثقيل،
وهذا هو الكتف الذي لا يميل.
____________________________________
<“تيقن أن أكثر من يستطع قراءة الطالب هو مُعلمه”>
من زرع فيك شيئًا سيكون أول المُلاحظين لثماره..
سيكون أكثر الناس قراءةً لكتابك الغامض الذي لم يجرؤ أحدهم على فك شفراته أو عبور عثراته، لذا التلميذ يوم أن يُخطيء سيكون مُعلمه أول من يقرأ الخطأ على وجهه قبل الآخرين..
بدأ الاحتفال الصاخب، حيث ليلة أسطورية، ليلة طويلة بنكهة مصرية، حيث الطبول، الخيول، الأضواء، جلسات الرجال، مائدتي طعام تكفيان لجلوس ستين فردًا دفعة واحدة، الطعام الذي يسود الموقف برائحة المرقة المغلية، وقطع اللحم المتنوعة، ثم أطباق الأرز الأصفر والأبيض، رائحة “الـفتة” الشهية تفوح في الفناء حيث الصواني تخرج وتوضع فوق المائدة أمام الرجال والشباب، طبول تقرع وخيول ترقص، والشباب بكتف بعضهم يقابلون هذا، يرحبون بذاك، يُجلسون الغريب، يكرمون كل عابر، يعطون كل سائلٍ..
كان “نَـعيم” يحمل حفيده “تَـميم” وابنه الكبير يقف مُرحبًا بالناسِ، ثم يرشدهم لمجلس الرجال، الجميع مع بعضهم يقفون يدًا بيدٍ، حفلٌ صاخبٌ ملأ المكان والمنطقة بأكملها تأتي لهذا الحفل، والجميل هو مظهر الشباب مع بعضهم في الجهة الأخرى بعد أن عاد لهم “مُـحي” فوقفوا مع بعضهم.
في الداخل لدى مجلس النساء، كان احتفالًا كبيرًا يليق بمجلسهن، حيث الموسيقى الصاخبة، تمايل الأجساد برقةٍ، رقصات نسائية وسعادة تشبه موسم تفتح الزهور ببلدةٍ تتاجر بالورد، أتت فرقة من نسوة النوبة تصنع الحنة الأسوانية، وكأن كل ملمح من ملامح الوطن ظهر في هذا اليوم، رائحة العود الفواحة كانت تخترق الأنوف، الحنة ورائحة الطمي الأصلي النفاذة في المكان تفوح فوق كفوف الصغار، والعرائس كلًا منهن ترسم رسمة رقيقة تُشبهها فوق كفها، مراسم مصرية تراثية ختمت الليلة.
بدأت بعض الأغنيات النوبية وسط الضحكات والفرح من الجميع، كانت “عـهد” تجلس بصغيرها على بُعدٍ وهي تقوم بإرضاعهِ، كانت تبتسم وتضحك مع حركات “ضُـحى” وهي تتراقص وتتمايل بسعادةٍ ثم سحبت “فُـلة” من كفها هي الأخرى، خصلات حرة تحررت لتلتف مع الحركة، تصفيقات تدعم حالة الشجن، وكأن الليلة ليلة عيد تحرير الوطن..
أما من وسط الزحام ظهر “إيـهاب” من جديد، ظهر وركض نحوه الخيل الخاص به “عـنتر” كأنه يحارب كي يكون معه، تعجب “إيـهاب” من الموقف لكنه وقف بجواره ثم رفع كفه يمسح فوق رأسه، ساد الصمت المكان، الجميع وقف يلحظهما، المُدرب وخَّياله سويًا في خضم حديثٍ يُدار بالعين، وكأنه يخبره بطريقةٍ ما أنه لم يُخطيء، لذا امتطاه “إيـهاب” بحركةٍ خاطفة، فدمدمت الطبول تقرع، تبدأ رقصة الحُرية بحركة الخيل يخوض مضمار الحرب عنيدًا، بينما “إيـهاب” فكان يتحرك فوق بثأرٍ في حلقات مُفرغة، يدور بالخيل الذي أخذ يرقص كأنه يشعر بالنصر، وبالطبع من لم يعلم النصر في قلبه، يظنه مجنونًا.
دامت الرقصة حتى أنتهى الخيل وانتهى المدرب؛ فتوقفت الطبول عن القرع، نزل “إيـهاب” يتنفس بعنفٍ وعيناه تسبح فوق الحشد الواقف حتى بدأت التصفيقات ترتفع، بينما عينا “نَـعيم” التقطت عينيْ “إيـهاب” الذي لم يستطع أن يواجهه أكثر من ذلك، فالتفت يهرب منه، وقد وقف “إسماعيل” بجوار شقيقه ثم ناوله زجاجة المياه، لكن الآخر كان غارقًا في عالمه الخاص..
ثواني مرت فأجمتعوا الشباب مع بعضهم وسط الناس وهم يباركون لهم، وقد أوقف “بـاسم” سيارته بالخارج ثم نزل ونزلت معه زوجته، كانت ترتدي فستانًا فضفاضًا باللون الأبيض فوقه زهور بنفسجية صغيرة الحجم، مع بعض الزينة الخفيفة لتخفي إرهاق ملامحها، فابتسم وهو يسألها عن حالها، فجاوبته ببسمةٍ عادت لها الحياة، وقد ولج بها، فأشارت لها “تحية” لمجلس النساء، أما “بـاسم” فبحث بعينيه عن صاحبٍ لم يعرف قلبه غيره، كان يدور بعينيه حتى التقطه فاندفع إليه، وقفا في مواجهة بعضهما…
عيناهما تسبحان فوق وجهيهما، نبضات القلب ترتفع، “بـاسم” الحُر في مواجهة “مُـنذر” الميت في مكانٍ واحدٍ فوق أرض الوطن الذي غربهما، ماضٍ أليمٍ مر عليهما، قسوة حاكمٍ كسرت جناحيهما، ظلم البلدة تسبب في غربتهما، بحر هائج طاف عليهما، أناسٌ ظالمين تسببوا في قهرهم، لذا ارتميا في عناق بعضهما كأن كلًا منهما يُلملم شتاته بعناق الآخر، فهتف “بـاسم” بصوتٍ مبحوحٍ:
_كنت خايف تسيبني أنتَ كمان، ضهري كان هيتقطم.
ابتسم “مُـنذر” وربت فوق ظهره بقوةٍ ثم قال بوجعٍ:
_عُمر الشاقي باقي، أظن شقينا بما فيه الكفاية.
ضحك له “بـاسم” ثم عاد وضمه وقلبه يردد كل عبارات الحمد، فبالطبع هو لم يتحمل فراق صديقٍ غالٍ على قلبه من جديد، لن يتحملها من جديد أن يفارق كل الأحرار في موطنه ويبقى وحده هو يحمل هموم الجميع، لذا وقف معه ثم بدأ يصافح كل الشباب ووقف معهم وكأنهم قوة واحدة في وجه كل ضررٍ وضعفٍ..
هرب “إيـهاب” نحو الخيول يختلي بنفسه، كان الذنب معقودًا حول عنقه فيجعله ثقيلًا حتى على نفسه، جلس على عاقبيه يعقد وثاق خيله، فأتت خطواتٌ من خلفه تُدمدم بالهدوء، قرع نعال يتحرك فوق الأرض برتابةٍ، حتى وقف خلفه، وبالطبع علم هو هوية الزائر فحبس أنفاسه ثم استقام في وقفته، وحينها أتت المواجهة، حرٌ أمام حُرٍ، مُدرب خيولٌ أمام خيلٍ جامح، أسد نظير الشبل، قرأ عينيه بفصاحةٍ؛ فسأل بثباتٍ:
_عملت إيه يخليك طول اليوم بتهرب مني؟.
كاد أن يكذب، يخفي السبب، ينكر ما فعل، يتصنع القوة، لكن كل ذلك لم يصلح أمام عيني “نَـعيم” الذي يتربصه، فكان يتوجب عليه أن يوليه ظهره، لذا قال الآخر بسخريةٍ:
_هتهرب برضه؟ عرفت إن بيت أبوك وقع؟.
كأنه حقًا يتعمد إخراجه عن طور العقل والهدوء، كأنما أراد أن يتكيء فوق جرحه فتنفجر الدماء بالصديد، لذا كتم “إيـهاب” ألمه والتفت بنصف جسده ثم قال بهدوءٍ لم يُشيء بشيءٍ:
_عرفت، يمكن دا اللي مزعلني شوية، مهما كان برضه فيه ريحة “دهـب” الله يرحمها وليه غلاوة في قلبي مش هنساها.
ابتسم “نَـعيم” يستهزيء بثباته وتمثيله ثم قال بسخريةٍ:
_الكلام دا تضحك بيه على أي حد غيري، “ماكسيم” كان في البيت صح؟ عملت اللي في دماغك برضه وضيعت نفسك؟ قولتلك النار دي حلها إنك تسلمها لأهلها، بدل ما تطولك وتتعبك، الحل دلوقتي إيه؟ بقيت قاتل تاني يا “إيـهاب” !! استحليتها؟.
وهُنا لم يعد يتحمل، فركل المقعد الخشبي وهدر صارخًا بعنفٍ:
_أنا مستحليتش حاجة، هما اللي استحلولي الوجع والموت كل يوم، واحد وخلف علشان يتاجر بعياله، رمى واحد في ورش الحدادة وخلاه صبي من يومه بيتداس بالرجلين علشان يأكل أمه وأخوه، والتاني المشايخ بيسيحوا مخه وبيرجع ميت زي الجثة كل يوم، وأم غلبانة ملهاش حد بتخدم في البيوت علشان عيالها وكل ما تحاول تهرب تتجاب، دا مكانش يستاهل الموت؟ دا لولا الحُرمانية كان زماني حارق قبره علشان مهنوش لا حي ولا ميت…
كان الحقد يتقطر من حديثه، الكلمات تظهر بقهرٍ ووجعٍ، فسكت هُنيهة يستعيد أنفاسه المسلوبة ثم قال بصوتٍ جهورٍ حاد:
_والتاني دا مش بس عذبته واتكيفت وأنا بذله، دا كانت تحت رجلي كل يوم بيطلب الرحمة وأنا كنت بخلان عليه، اتذل وكأن مستعد يبوس رجلي كمان، بس دا تمامه، دا قتلني في اليوم ١٠٠ مرة بعمايله، حرق قلبي وعجزني على أخويا، قهرني على صاحبي لما كسره وكسر نفسه، قهر “يـوسف” و “أيـوب” باللي عمله في “قـمر” وياريته اكتفى، دا ماشي طايح بيقول يا أرض اتهدي ما عليكِ قدي، سرقة ونهب ونصب، كنت عاوزني أعمل إيه؟ أسلمه؟ علشان يهرب وأروح فيها أنا و “أيـوب” ماهو أنا سوابق ومجرم وهو إرهابي، أنا خدت حقي اللي يرضي رجولتي وطبعي.
لم يرد “نَـعيم” أن يضغط عليه أكثر من ذلك، هو يعلم جيدًا أن الخيل الذي تربى على المُعاندةِ لن يرضخ لأي شيءٍ، تربى أن يرد الصفعة صفعتين، والكلمة بعشرات الكلمات، فما إن أدرك حجم حُزنه؛ ثم انتبه للفرح السعيد الذي تغيب عنه هو والابن البكري بين الشباب، فقال موجزًا ومتخاطيًا عن عمدٍ:
_خلينا نطلع نشوف الليلة اللي برة دي، ولينا كلام تاني.
رمقه بنظرة جامدة ثم أولاه ظهره وخرج..
خرج وهو يكتم الخوف على الكبير بينهم بين جنباته فكاد أن ينفجر، يعلم أن الظُلم ظُلمات، ومن المؤكد سيأتي اليوم الذي يكف فيه الظالم عن ظلمه،
لذا لابُد من وجود الحُر القوي كما هو “إيـهاب”.
____________________________________
<“عزيزي؛ اليوم أكتب لك، وغدًا انتظرك تكتب لي”>
الشعور طفرة..
طفرة جديدة وسط شيءٍ غير مفهومٍ بداخل كومة من الأحزان، مجرد طفرة ظهرت جعلت كل شيءٍ معها مستحدثًا، حتى تلك السعادة الغامرة التي لم تدم كثيرًا، يتيقن المرء أنها لن تُقارن بأي شيءٍ كأنها أبدية، وفي غُمرة الشعور، ينسى ما قد كان…
انتهى الحفل الأول..
انقضت الليلة الكُبرى، الجميع عاد لمسكنه يأمل بالراحة قبل مواجهة القادم، وقد هدأ البيت لدى “نَـعيم” بعد أن غادر الرجال ورفعوا المقاعد وكل شيءٍ كان دليلًا على الحفلِ، وفي جوف الليل الموحش كان “إيـهاب” في شُرفة شقته، عيناه تسبحان في فراغٍ بغير مرسى، تذكر الإتفاق مع العمال ورسمه للخطة التي أتى خيطها الأول في يده صُدفةً، فأشعل السيجار الأخير بعلبته ثم أطبق جفونه وقفز غارقًا في شلال الذكرىٰ…
[منذ عدة أيام قبل الإحتفال]…
أتى بطاقم عمال ومهندس مدني يدرس أساسات البيوت العتيقة، كان طلبه مشبوهًا حيث أتى بطاقم عمال خاصين بحفر المقابر الأثرية، ومهندس يعمل بالطرق الملتوية بعد أن استغل علمه في عملٍ غير مشروعٍ، و”إيـهاب” يعلم أن الغاية تُبرر الوسيلة، وتلك الغاية إن كانت انتقامًا لشقيقٍ يقاسمه الروح، فلن يخشى أي وسائل، لطالما الغاية ستصبح رهينته، وقتها طلب منهم بدراسة البيت الخاص بعائلته، كان يخشى هذا لأجل ذكريات “دهـب” الحبيبة فقط، أما ما هو دون ذلك لن يفرق معه..
وقتها أشار المهندس نحو أحد الأعمدةِ وقال بثباتٍ:
_فهمت دماغك يا باشا، العمود دا لو وقع البيت كله هييجي فوقيه، علشان كلهم مسنودين على كَمر السقف، إنما دا منه للهوا، مجرد ما يقع البيت هيطربق على بعضه وينزل السقف ناحية اليمين، الشغلانة دي تاخدلها خمس أيام، قولت إيه؟.
وقتها ابتسم بظفرٍ ومد له المُهلة لأسبوعٍ كاملٍ والمبلغ ضعف المطلوب، عرضٌ قُدِم بسخاءٍ، قبله الطامع دون أن يهتم بالسبب، هي مجرد تجارة فحسب، عرض وطلب، وتلك المنطقة الأثرية بالتأكيد أي بيتٍ فيها سيقع في يد خبيرٍ يُخرج كل ما في باطنها، وقد تم العمل بالفعل على قدمٍ وساقٍ، دون أن يظهر “إيـهاب” في الصورة، وقبل التنفيذ بيومٍ أدرك أن “ماكسيم” سيدُفن حيًا، أو لعل رحمة الخالق تطوله _وهذا ما يخشاه_ ويلقى حتفه قبلها.
غاص في بحر الشرود تتقاذفه الأمواج الصاخبة، الأصوات تشبه طنين الأمواج حينما تضرب الأذان بغتةً، كان يتنفس بصعوبة وهو يتذكر نفور “نَـعيم” منه، تذكر كيف انتهت الليلة بنظرة قاسية منه، كأنه يخبره أنه خيب أمله، لذا ترقرق الدمع في عينيه، اهتز قلبه وثارت مشاعره حتى وجد كفًا يحاوط كتفه من الخلف وصوتها الناعم المختلط بأثر النعاس يسأل في حيرةٍ:
_مالك يا “إيـهاب” زاهد الكل ليه؟ مين مشيلك فوق طاقتك؟.
لن يتعجب كيف فهمت السبب، هي من الأساس تقرأ عينيه ووقفته وأصغر التفاصيل به، لذا التفت بتيهٍ وحرك كتفيه بضياعٍ، وقتها شعرت به، رأت في عينيه غُربةً وضياعًا، لذا مدت كفهيا تحاوط كفه بهما وقالت بنفس النعومة وقد زادتها البسمة وهجًا:
_من غير ما تتكلم، شكلك زعلان مع أبوك، شكلكم كان باين أوي، في النهاية يعني متزعلش منه، هو طول عمره شايل همك، وعمره ما بيقدر يزعل منك، معرفش سبب زعلكم يعني، بس روحله، أنتَ عارف إنك متقدرش عليه يتضايق منك..
يبدو أن كل من حوله يعلمون سبب وجومه، لذا أظلمت نظراته، فضحكت هي مرغمة ثم قالت بيأسٍ:
_متخافش محدش خد باله غيري أنا بس والشهادة لله يعني “تـحية” قالتلي إن الحج شكله متخانق معاك، أنزل شوفه كدا وراضيه، ومتنساش دا أبوك، ومهما عمل واجب عليك تسمع كلمته، يلا متطفيش فرحته.
دقيقة، ثانية، ثالثة..
وعند الخامسة كان يقف على أعتاب غرفته، ولج بتوترٍ صاحب خطواته، وما إن أذن له ولج له حتى وقف بجواره ثم قال بصوتٍ مختنقٍ:
_حقك عليا، بس أنا حاولت ومقدرتش أسيبه، حقي وحق غيري كان في أيدي والجبان بس اللي يسيب حقه، ترضهالي أبقى عويل وأضيع حقي وحق أخويا مني؟ هو لو كان نال حريته كان داس بالجامد، دا يهودي ابن ***** مسنود، مش زينا هيدوسنا، علشان خاطري أصفالي، سامحني خليني أرتاح، كفاية النوم مفارقني، رد عليا طيب.
كان يرجوه أن يرد، يراه غافلًا عنه ناحية شرفة الغرفة، كان يسد عليه الرؤية، لكن بمجرد أن تحرك كي يعود خاوي الوفاض، استوقفه “نَـعيم” حين قال بثباتٍ:
_علشان أنا اللي مربيك على أيدي عارفك أكتر من نفسك، فاهمك كأنك أنا، عارف إن كان صعب عليك تخليه يرجع تاني يقف على رجليه، زي ما كان صعب عليك تسلمه والحكومة تقلب الدنيا عليك، أنا كان خوفي عليك أنتَ، يولع هو وبلده وعيلته، أنا ميهمنيش غيرك، مش كل مرة تسلم الجرة، لو كان حصلك حاجة كنت هروح فيها وراك، كلهم شافوني صالب عودي، بس محدش خد باله إنه مشدود بيك.
والحديث في بعض الأحايين يُشكل حياة تُحيي القلب الميت..
حيث عاد “إيـهاب” الخطوات التي كان رحل بها، فوقف أمامه “نَـعيم” ثم خطفه في عناقه بقوةٍ، فتشبث به “إيـهاب” كأنه طوق النجاة الأخير له، بكى رغمًا عنه وارتجف وتذكر أول مرةٍ قتل وأزهق روح أحدهم كيف كان الأمر صعبًا عليه…
أما اليوم فحتى وهو في أوج راحته، يشعر كأن اليم يسحبه ليغرق في دواماته..
____________________________________
<“وأنا أبحث عن نفسي في الحياة، وجدت الحياة بذاتها”>
تختلف الطُرق والنتيجة واحدة..
فالبحث دائم وإن كان بغير سببٍ مُحدد، لكن النتيجة واحدة في كل وقتٍ وحينٍ، وكأنها شيءٌ قُدِرَّ لكَ وما عليك سوى السعي فقط، مهما كان سبب سعيك ستصل لنتيجة؛ تغير في عينيك البداية والنهاية..
نهارٌ جديد أشرق لتشرق معه شمس الحياة..
تصاحبه نغمات جديدة من بين شفتين صغيرتين عمرهما أيامٌ فقط، مع قبضة كفٍ قوية تغمغم بالراحةِ بعد أن رضعته أمه، تحرك “يـوسف” بخطواتٍ هادئة نحو الفراش يراقب صغيره الذي بدأ يغفو بعد أن ظهرت الشمس، فاقترب يحمله بين ذراعيه ثم أشتم رائحته المميزة، كل شيءٍ منذ أن ظهر فيه هذا الصغير أصبح بلون الحياة، لثم جبينه، ثم لثم قبضته، ثم أعاده لذراعي زوجته التي ابتسمت لهما وقالت بصوتٍ هاديءٍ:
_كنت خايفة ميطلعش شبهك، بس شكلنا هنشوف معاه أيام فُل بوضع نومه اللي ميرضيش ربنا دا، وأظن السهر دا طبع متأصل فيك، علشان كدا أبقى أسهر بابنك أنتَ، أنا مش هقدر أسِد كتير.
صفف خصلاته في المرآة يتجاهل حديثها، ثم التفت وقال:
_براحته، عاجبك عاجبك، مش عاجبك روحي عند أمك وخليني أنا وابني مع بعض، إن شاء الله حتى ينيمنا في الشارع، مضايقك ليه؟.
شهقت بدهشةٍ فيما كتم هو ضحكته ثم اقترب من الصغير ولثم كفه من جديد، كان يكره لحظة خروجه من البيت لمواجهة العالم وتركه لحبيب أعينه، كان مجبرًا على الرحيل وترك غيمات السلام، ليواجه أمطار الحروب، أشبع عينيه بصغيره والتقط له صورة قبل أن يرحل، وتلك هي العادة الجديدة لديه، في كل مرةٍ يضطر لمفارقته، يلتقط له صورة أخيرة، وقد اعتدل ثم مال ولثم جبين زوجته وقال بحبٍ وامتنانٍ:
_بهزر معاكِ فمتزعليش مني، أنا وهو مالناش غيرك أنتِ، ووعد بس أفوق من اللخبطة دي شوية وهسهر أنا بيه، خلوا بالكم من نفسكم، ومتسنيش تصوريهولي لما يصحى.
ضحكت بيأسٍ، فهي بالطبع لن تنسى غذاء روحه اليومي، ففي اليوم الواحد ترسل له ما يقارب العشرين صورة، وهو لا يشبع البتة، بل يتساءل عن المزيد والجديد، لذا أومأت موافقةً ثم ظلت تدعو له بالتوفيق والتيسير، وقد وضعت صغيرها في فراشه بهدوءٍ ثم تحركت تقوم بالتنظيف، وتلك يبدو أنها قاعدة في قانون الأمهات الحديثات، وهي أنهن وقتما نال الصغير قسطًا من الراحة، تستغل هي وقتها فيما لا يُريحها..
ساعات قضاها في عمله الأول وسط مباركات وتهنئنات..
ثم قام بتوزيع الحلوى وبعض المال للعاملين بالشركة فانهال عليه وابل الدعوات، كان سعيدًا وهو يجبر بخاطر البسطاء هناك، ثم زملاء العمل الذين وصلهم الحلوان حدَّ مكاتبهم، والجميع فقط يتحدثون عن المهندس الغامض صاحب كبار المصائب في الخمسةِ وعشرين محافظة داخل الجمهورية، كيف أصبح بهذه الوداعة، بينما هو فجلس بارتخاءٍ وتذكر اللقاء الأخير بينه وبين “جـواد” بعدما خرج عنوة عنه..
وقتها استقرت الأمور إلى حدٍ كبيرٍ، حيث استعاد المال من “نـبيل” والد “نـورهان” بتدخل “نـزيه” الذي رفض أفعال شقيقه، وتصدر حتى قام بنزع الشراكة بينهما واضطر “يـوسف” لسحب المال من حوزة “عـاصم” ثم أعطاه للمذكور الآخر، وقتها شيءٌ أنذره بضرورة العودة للعيادة كي يتلقى العلاج، فذهب لهناك، وطلب مقابلة “جـواد” الذي خرج له بملامح مقتضبة، فقال بثباتٍ له:
_حقك تزعل بس كان لازم أخرج، وجودي هنا وهما برة لوحدهم كان هيخلي كل حاجة تضيع، بس لما خرجت رجعت اللي أقدر عليه، عاوز تزعل براحتك، عاوز ترجعني تاني هنا مفيش مشاكل، عاوز نشوف حل تاني معاك، بس علشان مش عاوز أفضل كدا، مع إني ملاحظ فروق كتيرة.
وقتها فعلًا كان قطع المسافة الكبرى في العلاج، وظهر ذلك من خلال رد فعله الحكيم _للمرة الأولى على عكس المعتاد_ وقد ظهر ذلك فوق ملامح “جـواد” الذي جلس أمامه وقال بثباتٍ:
_خروجك من هنا مكانش عمره هيتم من غير موافقتي، وأنا لو مش موافق والله ولا كنت قدرت تخرج من هنا، بس كان لازم اختبرك، كان لازم أعرف أنتَ فعلًا تقدر تتحكم في نفسك ولا لأ، وأظن دا اللي حصل أهو، خرجت واتصرفت من غير عنف وضرب وتكسير، ودا الهدف من علاجك، وبكدا أنتَ نجحت، صحيح مرضك مالهوش علاج أكيد، بس على الأقل نقدر نحتوي نوباته، يعني نتحكم في رد الفعل قدر المستطاع.
بان التيه فوق ملامح المستمع، كأنه من عالمٍ ثانٍ، ثم كرر باستهجانٍ تامٍ:
_يعني إيه، مش هفضل تاني هنا؟.
نفىٰ ذلك الطبيب وعدَّل الحديث بقوله:
_لأ، وجودك هنا هيخليك تنتكس، بص يا “يـوسف” علشان نجيب الناهية يعني، كل السبب اللي جواك كان بركان غضب، تراكمات فوق بعضها ورد فعلك تجاهها كان مجهول أو يمكن متخزن لوقت تاني، ومع أقل صدمة ليك بتخرج الرد العنيف دا، بس هنا لما خدت الجلسات وخرجت اللي جواك، فضيت جواك مساحة تخليك تستقبل الفعل وتفكر في رد الفعل من غير ما يكون أسلوبك حاد وعنيف، لأنك في المقام الأول كنت بتأذي نفسك، ولما الفعل جواك صعوبته زادت، بقيت بتأذي كل الناس اللي حواليك، فالأفضل نكتفي بجلسة كل أسبوع لو تحب، عاوز تتعامل طبيعي مفيش أي مشاكل، بس وجودك هنا، حرام عليا.
وقتها نال الحُرية بالفعل، خرج سعيدًا يستعد للحياة بعد معرفته بخبر حمل زوجته، لكن سعادته لم تدم كثيرًا، حيث أتى الحادث الشنيع وقلب كافة الموازين فوق رؤوسهم، خرج من شروده على صوت هاتفه فزفر بقوةٍ ثم تحرك من مكتبه لشركة العمل الخاص بعائلته..
وصل لهناك نحو مقر الإجتماعات ينتظر قدوم البقية، ثم فتح هاتفه ليرى الصور المرسلة لابنه، ومنهم واحدة وأمه تُلثمه، ابتسم وقتها ثم رد على تلك الصورة بوقاحةٍ:
_يا بختك يا ابن المحظوظة.
وجدها ترسل له صورة أخرى وهي تضمه لعناقها وهو ينام دافنًا نفسه في عناقها وهي تضمه بكفها الصغير، فزادت البسمة توسعًا ثم كتب لها بسخريةٍ اقتبسها من أغنية شهيرة:
_”وقوليله ياخد باله منك، خليه ينفعك”.
_”هينفعني يا بابا، أومال مين هينفعني أنتَ يعني؟”.
هكذا دار الحديث بينهما، وهو يبتسم بسعادةٍ والغرفة الواسعة لم تسع أجنحته من كثرة فرحته، ظل يطمئن على صغيره ويستمع لتفاصيل يومه التي لم تزداد عن تغيير الملابس والرضاعة والنوم، ومكالمة أفراد العائلة حتى يرونه وكأنه سببٌ لعيش كل يومٍ
____________________________________
<“لعلكِ سرٌ كتمته في ليالي الهوىٰ، فسقط قلبي وهوىٰ”>
بعض الأسرار لن تبقى في الخفاء كثيرًا..
تظهر بظهور الشمس للعيان، ومن ضمن هذه الأسرار، سر عاشقٍ كتم حبه، فتحدثت عيناه تسرد عن حاله الضعيف في حربٍ مسلوبة الراء أمست حُبًا..
في الخارج كان “عُـدي” في طريقه للداخل حيث غرفة الإجتماعات، وأثناء مروره كان يبحث عن زوجته، مشط المكان بعينيه فلم يجدها، وقبل أن يغير مساره وجد إنعاكسها فوق الحافة الرُخامية، عاد بظهره للخلف فوجدها تجلس فوق رُكبتيها تُطعم هرتين صغيرتين، وقف يراقبها مبتسمًا وهي تفتح حقيبتها وتضع طعامها في صحنٍ أمام الهرتين، لم يستطع مقاومة مظهرها فاقترب على مهلٍ منها..
جلس بقربها ثم فتح الهاتف على مقطعٍ صوتي جذب انتباهها:
_ليه يا حبيبي من يوم ما قابلتك وأنتَ في كوم والدنيا كوم؟.
التفتت له تحدجه بتعجبٍ فيما أغلق هاتفه وقال بصوتٍ هاديء:
_سايبة شغلك وقاعدة هنا؟ بتستغلي إنك مرات المدير؟ وبتقولي بكره الوسطة؟ دا أنتِ لو واسطتك رئيس وزرا مش هتبقي بجحة كدا، بعدين عاوزة تعطفي على حد، قدامك مسكين أهو محتاج الرحمة.
ضحكت بيأسٍ ثم وقفت تمسح كفيها بمحارم ورقية، بينما هو ظل جالسًا بقرب الهرتين حتى اقتربت ووضعت الماء لهما، ثم قالت بصوتٍ خفيضٍ:
_الرحمة بكل اللي حوالينا واجبة، ولو أنتَ مش لاقي الرحمة خليك رحيم كفاية مع كل حاجة حواليك، يمكن يكون حد مستني الرحمة دي علشان يقدر يقف من تاني، كل شيء بقى حواليك حتى لو وردة، ودي قطط ضعيفة مامتهم ماتت للأسف، بس شكلهم حلو إزاي؟ بس ضعاف.
مرر كفه فوق هرة منهما ثم قال وعيناه لم تبرح وجهها:
_يبقى الحمدلله على رحمة ربنا بيا إنه جعلك نصيبي، هي دي الرحمة اللي كنت مستنيها بصراحة، الواحد برضه كان يخاف يخسرك، خسارة مفيش حاجة ينفع تعوض وجودها.
أخجلها بالحديث كما عادته، لكنها اعتادت عليه، لذا خطفت زهرة من خلفها ثم وضعتها بكف يده وقالت بخجلٍ فطري:
_كل مرة بتجيب ليا ورد وبتستنى الود، وأنا بقولك الود بالود والورد بالورد، ودي وردة مني ليك، خلي بالك منها.
التقط الزهرة ثم وضعها في جيب سترته من الداخل بجوار قلبه وقال بثباتٍ يخفي مقصده الأكيد من كلماته:
_دا مكانها الصح، زي مكان صاحبتها.
مرت دقائق بسيطة، بعدها بدأت غرفة الإجتماعات تمتليء، حتى ولجت “ضُـحى” وجلس في المنتصف وولج خلفها “نـادر” يتحدث في محادثة إلكترونية مع زوجته وهو يبتسم دون أن يهتم بمن هم حوله، فوجد تلك القنبلة الموقوتة تميل عليه وهي تهمس له بمشاكسةٍ:
_دا أنا ليكِ بغني غنوتين..
غنوة عن الآهة والحنين
وغنوة لعينيكِ يا حنين..
وقتها ضغط فوق قدمها بقدمه، فرفعت كفها تضربه فوق كتفه وهو يتصنع اللامبالاةِ، حتى انتبه لهما “يـوسف” و “عُـدي” فنطق الأول بجمودٍ وصلدةٍ:
_مبدأيًا “ضُـحى” و “نـادر” ميقعدوليش جنب بعض، يلا.
نالت جملته سخرية الجميع، فبالطبع هم ليسوا بالروضةِ حتى يفرقهما في الجلوس، وقد وصلته همهمات ساخرة وهمسات ضاحكة، فكرر الحديث بجمودٍ أكبر:
_كلامي مفهوم !! ابعدولي عن بعض لحد ما نشوف آخرتها.
ابتعدت “ضُـحى” بحنقٍ، ليس لأنها تنصت ووديعة، ولكن حتى تضغط فوق قدمه وهي تتحرك، فتجاهلها “نـادر” الذي توعد لها بعينيه، وقد حمحم “يـوسف” يستعيد ثباته حتى قال من جديد بعمليةٍ طارحة:
_دلوقتي خلال كام يوم الشركة للأسف هتتعطل، ودا لأن أكبر الموظفين فيها كلهم هياخدوا إجازة، “عُـدي” و “رهـف” و “ضُـحى” و “نـادر” وأكيد الضغط دا هيعمل كوارث، ومش طبيعي أخليهم يقطعوا شهر عسلهم وأحلى أيام عمرهم علشاني، فهنلجأ خلال الأسابيع دي لحلول وسط، يعني مدام “مادلين” هترجع هنا تاني، وأنا هحاول أغطي على قد ما أقدر، وفيه حد تاني هعتمد عليه في المهمة دي، علشان للأسف ماظنش الخلل دا حد يقدر يسد عليه..
انتبه له “نَـادر” فسأله بثباتٍ عن هوية المذكور:
_مين دا يا “يـوسف”؟.
_أعوذ بالله من كلمة أنا، بس أنا.
ولج بهدوءٍ لهم كما هو دائمًا، بينما “يـوسف” ابتسم باطمئنانٍ لأن الرفيق لم يخذله، لذا التفت يشير عليه وقال بفخرٍ:
_الباشمهندس “أيـوب العطار” جوز أختي وشريكي هنا والمدير الجديد لحد ما كل حاجة ترجع لطبعها، تقدروا تقولوا كدا هو الغوث لينا في الفترة دي، علشان لولاه مش هنعرف نعمل حاجة..
ظن به خيرًا، ففاجئه بكل الخير..
هذا هو “أيـوب” المنقذ، غوثٌ للجميع بغير مقابل، لطالما كان سببًا لمعاونة الناس هو لم يبخل، وقد دار الحديث بالعين بينهما، وكلاهما يشرد في ذات الذكرىٰ، نفسها الذكرى الوحيدة التي جمعت بينهما في أصعب الحالات، حيث أحدهما بين الحياة والموت، والآخر بين جدران السجن..
وقتما استفاق “أيـوب” من الغيبوبة القصيرة تلك وسأل عن رفيقه لم يجده، أخبروه عن سجنه واتهامه بالقتل، فلم يجد سوى الغضب والثورة، ثار وهاج وماج في وجوههم كي ينل حريته ويخرج من المشفى، ومع الرفض عاند أكثر، حتى وقع على ورقة حملت مسئوليته كاملةً إذا أصابه أي ضررٍ أو مات، وهو لم يكترث، وجعه على “يـوسف” كان أكبر من كل ذلك..
أخذ السيارة الخاصة بشقيقه، طلب مجيء “جورج” المحامي معه، طلب مجيء “عادل أبو الحسن” كي يوفر له زيارة في مقر النيابة التي اُحتُجِزَ به رفيقه، ومع بعض الإجراءات الصعبة، ولج غرفة وكيل النيابة يجلس فيها ماسكًا موضع جرحه الذي اشتد عليه الألم فجأةً، بينما “يـوسف” فكان ينكفيء في ركنٍ على نفسه، كما ورقة ختامٍ سقطت من كتابٍ فلم يكترث القاريء بها، حتى تم استدعائه للزيارة، فخرج منكبًا على أنفاسه..
ولج بخطى ثقيلة، لم يتخيل هوية الزائر، رفع عينيه بثقلٍ لتتسعان بسرعة البرق، وجد “أيـوب” أمامه يستند على حافة المكتب ويكابد كي يظل واقفًا، فبدون وعيٍ ارتمى عليه يضمه بقوةٍ، ضمه كأنه في حُلمٍ وقال بوجعٍ فاض به كيله:
_أنتَ بقيت كويس؟ طمني عليك فيك حاجة؟ جيت ليه وإزاي؟.
حاول “أيـوب” أن يتمسك به رغمًا عن ألمه، ففعل بقدر ما سمحت له عضلاته المتألمة، ثم عاد للخلف وقال بانكسارٍ:
_جيت علشانك، إزاي دا يحصل؟ أنا اللي زقيته علشانك، والمخزن فيه كاميرا أكيد جايبة كل حاجة، بعدين دا كان دفاع عن النفس، هو اللي بدأ وهجم الأول وضرب “نـادر” ابنه، يعني فيه مليون سبب يخلوك تخرج منها..
تألم بمجرد أن انفعل، فبُهِتت ملامح “يـوسف” ثم أجلسه وجلس أمامه وقال بهزيمةٍ سحقت روح المُثابر فيه:
_تعرف إنهم اتهموا أبوك بخطفه؟ وبات معايا هنا ليلة في الحجز؟ لولا ستر ربنا وإن “نَـادر” قال إن هو اللي خاطف أبوه علشان حاول يعتدي على “قـمر” كان زمان أبوك معايا هنا.
توسعت عينا “أيـوب” وسقط قلبه من محله..
يبدو أن كل أحبابه تعرضوا للظلم في غيابه، أهي كانت نومة أهل الكهف حتى يحدث كل ما حدث لهم؟ شعر بعمق تصدع روح “يـوسف” فقربه له يضمه بقوةٍ، ليجد الآخر يتمسك به ويُبلل ثيابه بعبراته الساخنة، باتت الأمور فوق قدر المعقول فلم يعد يتحمل، لذا بكى في عناق الرفيق الذي يُطمئن الروح ويُغيثُها..
وحينها ولج العسكري وأمر بعودة “يـوسف” وقد اقترب يسحبه بكفه من عناق رفيقه الذي رفع صوته بقوله المُحشرج:
_معاك يا “يـوسف” مش هسيبك، أنا في ضهرك..
_خلي بالك من اللي ليا يا “أيـوب” ولو لفوا حبل المشنقة حوالين رقبتي ابني أمانة في رقبتك، أنا متطمن إنه مش هيكون زيي علشان أنتَ معاه، خلي بالك منه يا “أيـوب”..
الرد والجواب في غاية القسوة..
الموقف من الأساس يصعب للغاية على المعايشة،
فأحدهما يقف مكبل الأيدي يقيده ألمٌ شديدٌ عليه،
والآخر تم جره من كفه كما المُجرم؛
ليقارن ما هم ليسوا بأشباهه…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)