روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وثمانية وثمانون 188 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وثمانية وثمانون 188 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وثمانية وثمانون

رواية غوثهم البارت المائة وثمانية وثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وثمانية وثمانون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل المائة وثلاث_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أستغفرك ربي عن كل غيبة ونميمة
وهمز ولمز وعقوق الوالدين
وتأخير الصلاة
والنظر للحرام والرياء والغش
والكذب وعن كل الذنوب والمعاصي
والخطايا ما علمت منها وما لم أعلم،
اللهم إن كثرت ذنوبي فاغفرها
وإن ظهرت عيوبي فاسترها،
وإن زادت همومي فأزلها
وإن ضلت نفسي طريقها فرُدّها إليك ردًا جميلاً..
“مناجاة”..
____________________________________
ياليتها المُدن أخبرتنا أننا سنفترق..
وياليتني كنت أعرف أن تلك هي المرة الأخيرة التي ألمح فيها عينيكِ قبل أن أعود لغُربتي بعيدًا عنهما، ياليتني أعلم أن تلك المرة وأنا أودعكِ أن وداعي سيطول اللقاء من بعدهِ،
أتعلمين كم هو قاسٍ هذا المشهد وأنا أقف للمرةِ الأخيرة معكِ ولم أعلم أنها المرة الأخيرة؟ ياليت العالم كان أكثر حنوًا معي بدلًا من تلك القسوة التي تجرعتها من القلوب كما يتجرع المرء المياه من الكؤوس؛ أتعلمين؟ رغم أنني في الفراغ وحدي إلا أنني أشعر كأن كل المكان حولي أصبح ضيقًا، كأن الكون لم يعد يسعني رغم وسعهِ، اليوم دعيني أخبرك أنني فقدت نفسي ما إن فقدت النظر لعينيكِ، وحدي أصبحت بعيدًا عن نفسي وكأنني لم أجد نفسي إلا فيكِ، لكن صدقيني وأنا أخبرك أننا سنعود؛
حتمًا سنعود وستكون تلك المرة بلا فُرقة،
وسيكون أُنسنا بلا غُربة، سنجتمع سويًا ونكون لحننا كما تجتمع كلمات فيروز مع بعضها تتناغم مع الألحان،
سنبقى معًا وكأننا لم نفترق، وسنعبر كامل الطريق بلا مُفترق،
بأي وصفٍ وأي حديثٍ وأي كلامٍ سأكون معكِ أنا،
زاهدٌ، غريبٌ، قاسٍ، قاتلٌ، شريدٌ، عاصٍ، ظالمٌ، وحيدٌ، سجينٌ، ضريرٌ، مظلومٌ..
وبأي وصفٍ يُقال سأكون معكِ أنا،
وأنا لأجلك أكون ما أردتِ أن أكون.
<“لو كنت أعلم أن تلك هي مرتي الأخيرة، كنت عانقتك”>
كل الطُرقات مُختارة لطالما العين تُبصر..
فما ظُلم أحدٌ إلا من نفسه هو، أيعقل أن يلوم الإنسان الحياة على ظلم نفسه وهو من ظلم نفسه بنفسه؟ أيعقل أن يختار المرء طريقًا بمحض الإرادة ثم يعود ويبكي آسفًا على ما اختار ورغب؟
عليك يا صديقي أن تتقبل شيئين، أولهما أن العالم لم يظلمك؛
ثانيهما أنك من ظلمت نفسك بنفسك..
أنهت “مادلين” الحديث ثم رفعت حقيبتها تعلقها في ذراعها وقبل أن ترحل عادت له تقول بقوةٍ وثقةٍ في حديثها:
_على فكرة !! أنتَ اللي حكمت على نفسك بكدا، ماتجيش تزعل وتلوم على الناس والدنيا، دور الضحية مش هيفيدك بحاجة يا “عـاصم” علشان أنتَ ظالم ومفتري، وأنا اللي اتظلمت واتسابت، وبرضه مصمم تشوف نفسك ضحية عليا، يبقى بقى أنا ظالمة ومعنديش مانع أكون القاسية والمفترية في حكايتك، وأقولك؟ أنا حتى مش هبرر ليك أي حاجة، بس هسيبك للدنيا والأيام تخلص حقي منك تالت ومتلت.
اختفت من أمامه بمجرد أن أنهت الحديث بينما هو وقف يُطالع أثرها بصمتٍ وهو يشعر أن الأرض تميد به، بدأ المكان يضيق عليه رغم أنه يقف في البهو وحده، كانت نظراته تشرد في نقطة رحيلها وقلبه يؤلمه والجميع حوله انسحبوا وفرغ عليه المكان تمامًا، بدأ الألم يستقر في صدره والاختناق يسكن في حلقه وهو يحاول أن يُخلص نفسه مما هو فيه؛ وكل المحاولات كانت فاشلة حتى سقط فوق الأرض ووجهه تحول للون القُرمزي من شدة الاختناق وحاول أن يستغث بأحدهم لكنه لم يفلح أبدًا..
ظل هكذا وحده حتى فقد أنفاسه وهو وحده،
اليوم ينام فوق الأرض يتمنى لو يلمحه أحدهم ولو بمحض الصدفة ونظراته مُثبتة على الأرض وكفه يحاول أن يرتفع عن الأرض، لكن يبدو أنه استسلم وسلم للأمر ورفع الراية..!!
ظل هكذا يحارب وحده في الليل مُلقى فوق الأرض وظل هكذا يحارب كي يحافظ على أنفاسه لكن قلبه كان أضعف من تحمل هذا الوضع، لفترة من الزمن ولم يفق، بل فقد أنفاسه تمامًا وهو على شفا حُفرةٍ من الموت الأكيد، كان قاب قوسين أو أدنىٰ من الموت ولم يعد يرى ملمحًا للحياة، لكن إرادة الخالق كانت أرحم عليه من ضعف نفسه حينما ولج عامل النظافة بمحض الصدفة فوجده مغشيًا عليه فوق الأرض الرُخامية، حينها صاح بملء شدقه وهرول له بعدما رمى كل ما كان في يده..
رفعه عن الأرض فوجد أنفاسه شبه مفقودة وكأنه حقًا فارق الحياة، وما بين هذا وذاك لازال أمره مجهولًا وهو وحده من أوصل نفسه لهذا الطريق، اجتمع حوله العُمال وهم يهرولون خلف بعضهم حتى يغيثونه قبل أن يموت، على الرغم أنه لم يكن يومًا ما بمقدرٍ لهم، لذا ما بين التردد من بعضهم، والقبول من أحدهم كان وحده بين الغُرباء، وتلك المرة لن ينفعه الندم..
____________________________________
<“هذا الذي اتألم لأجله كان هو كُلي”>ط
إن ألمي في نفسي لم يكن يومًا لي..
وإنما كل ألمٍ شعرت به كان بسبب أحبائي، هؤلاء الذين أحببتهم من كل قلبي ويوم أن يمسهم الضرر يمس قلبي، اليوم أشعر وكأن الجرح الذي مس أحبائي بتر قلبي،
فياليت المكلوم هو قلبي أنا والسليم هم أحبابي..
حينما رأتها لم تستطع إنكار ما عرفته، كانت تود مشاركة الجرح مع غيرها قبل أن تُجن ويُسلب منها عقلها، كانت على مشارف الإصابة بجلطةٍ دماغية جعلتها تقف حينها مُصمتة عن التحدث، كانت صدمة احتلت القلوب وتمركزت بالعقل تصبه بشللٍ عن العمل، أما الروح فهي بلا شكٍ كانت تتألم، تصرخ وتبكي بقهرٍ على ما أصاب حبيبٍ يسكن بالفؤادِ.
اجتمعت “قـمر” مع “عـهد” في غرفةٍ بالشقة وسألتها الثانية بصوتٍ مبحوحٍ بانت في أثار البكاء المكتوم كأنها تتأكد من صدق ما قيل لها:
_أنتِ بتقولي إيه يا “قـمر”؟ “يوسف” مين دا اللي في مصحة وبيتعالج؟ أنتِ اتجننتي !! دا مسافر شغله وهو قالي كدا، أنتِ اتهبلتي ولا بتخرفي؟..
كانت تُكذب وهي تلجأ للإنكار، جزءٌ منها يخبرها أن الحقيقة قد قيلت بالفعل، وجزءٌ منها يخبرها أن هناك ثغرة بالحديث لم تجدها هي كي تستدل على منطقية الكلام، بينما “قـمر” فكلما حاولت أن تخفي الخبر عاد القلق على شقيقها يأكل قلبها حتى فتته إلى أشلاءٍ، لذا قالت تجاوب بصوتٍ باكٍ:
_مش بخرف، أنا عرفت بالصدفة أصلًا، محدش كان معرفني حاجة، لولا إن حصل موقف صدفة خلاني استغربت ولما…لما سألت “أيـوب” قالي بطلوع الروح، أكيد “يـوسف” هيكون محتاجك جنبه.
نزل الدمع مدرارًا من مُقلتي “عـهد” ووقفت مقتولةٍ في مطرحها بصدمةٍ وأدت كل قوتها، كانت ترغب في الركض والصراخ والعويل وإنما كل شيءٍ حولها كان أغرب عليها من سقوط رجلٍ من الفضاء لكوكب الأرض، بينما “قـمر” فارتمت عليها تعانقها بقوةٍ وهي تبكي وتتشبث بها حتى ضمتها “عـهد” وبكت هي الأخرى وصوته وهو يصرخ يتكرر في سمعها، كانت تشعر بحاجته لها منذ اللحظة الأولى في غيابه عنها، والتفسير الوحيد لها بدا واضحًا الآن أن الشبيه الذي لشبيهه اطمئن،
قد حان الوقت كي يبكي لأجل هذا الشبيه..
في محل عمل “أيـوب” بشارع المُعز..
كان يجلس بملامح مُكفهرة والضيق يُخيم عليه ويحاوطه، كُلما حاول أن يتهرب من تلك اللحظة التي جمعته في المفترق بكشف السر الخاص به وبرفيقه، عاد للخلف يمسك رأسه المتألم يدلكه بعنفٍ وأغمض عينيه عن واقعه كي يهرب لرحلة قصيرة في حدث الأمسِ..
قُـبيل الفجر بساعة أو أكثر..
كان “أيـوب” يتجهز للنزول إلى المسجد وزوجته في غرفتها نائمة، تركها دون أن يوقظها حتى لا تقلق ويهجرها النوم، وأثناء تحركه صدح صوت هاتفه في غرفته فتحرك نحو الداخل مُسرعًا قبل أن يوقظها وما إن لمح اسم “جـواد” في هذا التوقيت هرول نحو الشرفة يجاوبه بقلقٍ وهلعٍ من فكرة الاتصال:
_خير يا دكتور؟ حصل حاجة دلوقتي؟.
وقد كان الجواب قاتلًا حينما أخبره الطبيب بقلة حيلة:
_للأسف يا “أيـوب” بكلمك دلوقتي علشان أقولك إن “يـوسف” أتعرض لنوبة صعبة أوي سببتله هياج عصبي وكان لازم ياخد أي نوع مُهديء، وبكرة هنشوف تباعيات النوبة دي وربنا يسترها وميكونش فيه ضرر حصل.
حينها صُدِمَ “أيـوب” وجاوبه مندفعًا بنيرانٍ موصدة اتقدت في صدره ثأرًا لرفيقه الغائب عن عينيه والحاضر في قلبه:
_يعني إيه ؟ مكانش فيه اتفاق إن “يـوسف” يتأذي يا دكتور، قولتلي الحل دا هيساعده يعيش حياته ويفوق شوية من اللي هو فيه قبل ما يروح فيها، بس مقولتش إن “يـوسف” هيتعرض للتعب دا، إحنا بنخاطر ليه؟ بنخاطر بعمره وروحه؟.
في الخلف وقفت “قـمر” ترفرف بأهدابها والسكين ينغرس في قلبها على هيئة كلمات صادمة جعلتها قاب قوسين أو أدنى من فقد الوعي، بينما زوجها قال بصوتٍ مغلوبٍ على أمرهِ:
_وآخرتها طيب؟ هنفضل نجرب ونجازف كتير؟ خليه يخرج يا “جـواد” خليه يخرج ويفضل معايا وسط أهله ومش عاوزينه يتعالج، يا سيدي هو حلو كدا، طالما حاجة بتتعبه وبتضغط عليه يبقى يسيبها، يعتزل الأذى دا وخلاص كدا.
ولأن تلك اللحظة هي لحظة الغضب، تحكمت به عواطفه ولم يعد ذاك الحكيم الذي يقود ويُفكر، وإنما كان آخرًا غيره تحكمت به العواطف وقادته للإندفاع دفعًا؛ فأتاه الجواب المُصمت لضجيج العقل الفوضوي:
_أنا متأكد يا “أيـوب” إنك متضايق علشان صاحبك، بس صدقني دا مش حل، عارف إنه بيواجه كتير وبيوجع نفسه بس الصعب إنه يرجع تاني بعد كل دا، مش برضه ربنا محذر عباده ألا يُلقي بأنفسهم للتهلكة؟ “يوسف” رمى نفسه في الهلاك من سنين لما رفض يتعالج، ساب المرض ياكل فيه وفي عقله لحد ما بقى شخص مشوش وضايع، قولي الحل إيه غير إنه لازم فعلًا يتعالج؟ لازم يخرج البراكين اللي جواه علشان يفوق لحياته..
في تلك اللحظة قد ظهرت “قـمر” ووقفت أمام زوجها بعينين باكيتين وقبل أن يكذب عليها قالت هي بصوتٍ متهدجٍ كأنها تُكذب ما فهمته من مقصد الحديث:
_هو أنتَ بجد بتكلم “جـواد” بخصوص “يـوسف”؟ أخويا فين يا “أيـوب” وأنتَ وهو بتجازفوا بإيه؟ رد عليا وقولي بتجازفوا بإيـــه؟.
صرخت بعنفٍ وهي تدفعه بكفها في صدره وقد قدر هو لحظة انهيارها فالتزم الصمت وأغلق الهاتف بينما هي ظلت تهزي بعنفٍ وهي تصرخ في وجهه بعنفٍ:
_مقولتش ليا ليه؟ ليه خليته لوحده؟ هو راح المصحة تاني صح؟ راح يعيش اللي عاشه قبل كدا من تاني لوحده؟ وأنتَ كنت عارف ومخبي عليا؟ سايبني كل دا قلقانة عليه والنار بتاكل فيا كل مرة أسمع صوته فيها وأنتَ كنت بتكدب عليا؟ جالك قلب؟.
وقف أمامها بتيهٍ ولا يعلم كيف يتحدث أو يُبرر لها بينما هي دفعت كفه بعيدًا عن يدها حينما حاول أن يمسك مرفقها وقالت بصوتٍ مقهورٍ أعمته غريزة الأخت الفطرية بها:
_علشان كدا كل يوم كنت بتنزل وتغيب عن البيت وترجع الصبح وتقولي إنك في مشوار مهم تبع باباك؟ يعني كنت بتكدب عليا كل يوم وأنا بقولك قلبي واكلني عليه؟ مش مسامحاك والله يا “أيـوب”.
أنهت الحديث ثم أولته ظهرها بينما هو وقف خلفها يطالع أثرها بصمتٍ، يتعجب ويُذهل من كل شيءٍ انقلب في طرفة عينٍ هكذا، لحظة طاحت به من فوق الطواحين وألقته فوق الرمال يبتلعها بفمه، تحرك خلفها آنذاك فوجدها تجلس باكيةً وهي تضم رُكبتيها فوق الفراش بشكلٍ ألمه، تحرك مقتربًا منها ثم جلس على عاقبيه ورفع كفها يُلثمه بحنوٍ ثم قال معتذرًا منها:
_حقك عليا، بس دي أمانة في رقبتي هو أمني بيها، تعرفي عني أني أخون أمانة يا “قـمر” أو أطلع سر حد مأمنلي؟ أخوكِ حط أمله فيا ومش عاوز حد معاه، وأنا احترمت رغبته وكنت معاه مقصرتش، بلاش بالله عليكِ تشيليني فوق طاقتي، أنا اللي فيا مكفيني.
هربت بعينيها من لقاء عينيه ونزلت بأهدابها نخو الأسفل تخبره أنها لم ترغب في الحديث، بينما هو استقام بتروٍ ثم لثم جبينها ورحل من أمامها وتركها خلفه تبكي لأجل الشقيق الذي كلما تعذب وصل العذاب لقلبها، وكلما تألم تألمت هي بأرضها، كانت تجلس باكيةً وصورته أمامه بأبشع الخيالات والعقل لا يرحم في تلك اللحظة..
خرج من شروده على صوت هاتفه برقم “عـهد” وقد تعجب أولًا قبل أن يُجيب وسرعان ما جاوب على المُكالمة بتوترٍ فوجدها تقول بصوتٍ باكٍ:
_ساعدني علشان أشوفه يا “أيـوب” مفيش غيرك هيخليني أشوفه، هو لو محتاج حد دلوقتي هيكون محتاجني أنا، خليني أروحله لو هو فعلًا صاحبك وأخوك، مبتخلش عليه باللي يساعده.
اهتز ثباته بمجرد أن وصله الرجاء..
كان حقًا كمن حُبِسَ بين نارين وكلا الاتجاهين أشد قسوةً، لم يجد ما يُجيب به ولم يجد ما يفر به، وإنما التزم بالصمت المطبق والتزم بعدم الكلام وجَلَّ ما استطاع أن يُجيب به كان:
_قولي يا رب، لو بأيدي أساعده مش هبخل، عن إذنك.
أغلق الهاتف وهو على يقينٍ أن عواطف زوجته غلبت العقلانية لديها، كان على يقينٍ أنها لن تقدر على تحمل السر وحدها، لذا التزم بالصمت وكل ما كان يشغل فكره هو “يـوسف” ورد فعله حينما يعلم أن سره خرج من المخبأ وأصبح علنًا لأهم أطراف حياته، رمى رأسه فوق مكتبه يضربها بندمٍ وألمه وذنبه كلاهما أخذ يتفاقم…
____________________________________
<“لو كان القانون حلًا لما كان هناك ثأرًا”>
ليس كل حقٍ منتظرًا..
وإنما هناك بعض الحقوق تُسلب من عين سارقها، تؤخذ بالقوة والإجبار، بعض الحقوق لا ينتظر المرء انتقامها كي يكون باردًا، وإنما يأخذه ولو كان على صفيحٍ ساخنٍ فوق النيران، فحتى لو عودة الحق حرقتك أنتَ، سيثلج الانتقام روحك..
صوت صرخات عالية، غُرفة كبيرة واسعة تتخللها بعض الآشعة من الخارج عبر ثقوبٍ صغيرة الحجم، وجسدٌ مُعلقٌ بجروحٍ نازفة تتقطر منها الدماء فتنزل على الجسد والوجه وتترك حديثها عن أثر العذاب المتواصل لمدة ستة ساعات متواصلة، صوت صرخات واستغاثة تخرج بين الحين والآخر، مع خروج شتائم نابية وسُبابٍ لاذعٍ، كل شيءٍ كان يدل أن هناك جريمة تُحاك هُنا، أما صاحب الحق فكلما تعبه جسده، رممته لذة الانتقام..
كان “إيـهاب” في الغرفة الخاصة التي يحتاجها لمثل تلك المواقف، كان بالسترة القطنية البيضاء فقط وجسده يتصبب عرقًا بعدما ترك أثر يده في جسد “ماكسيم” كي يُشفي غليل قلبه، كان يُعلقه بالوضع المُغاير لطبيعة البشر وانهال عليه بالضربات المُبرحة حتى كاد أن يفقد الآخر وعيه، بينما “إيـهاب” فجلس وفي يده سيجاره وعيناه ترصد العدو حيث موضعه، رآه هكذا يُذل لرحمته فرمى سيجاره ثم وقف وحاوط موضعه وهو يقول بتشفٍ:
_عارف؟ منظرك كدا مكيفني أحسن من ١٠٠ سيجارة، مبقاش ليها طعم قدامك وأنتَ زيك زي الخروف كدا متعلق وأيدي الحلوة دي عمالة تعلم عليك، بس صدقني مفيش حاجة هتقدر تشفي غليلي غير إنك تفضل كدا مذلول تحت رحمتي، وأنا وكيفي بقى.
ضحك “ماكسيم” ببرودٍ يقصد استفزازه ثم قال بصوتٍ ظهر فيه أثر التعب بسبب العذاب الذي تلقاه:
_أعمل ما بدالك، كفاية إني خدت اللي أنا عاوزه وأخوك كان تحت رحمتي بحركه زي ما أنا عاوز، اللي بتعمله دا طبيعي أوي، بس مش هينفعك بحاجة، هترجع تندم يا “إيـهاب” وهتقول حقي برقبتي.
في تلك اللحظة كان “إيهاب” وصل ذروة الغضب، النيران اتقدت به وفقد كل التعقل ولم يبقَ ولو مثقال ذرةٍ فقط، لذا هدر بعنفٍ اهتزت على أثره جدران المكان وكأنه أتى بعاصفةٍ زاعقة:
_”مــيكي” هات القمشة بــسرعة.
وتلك المذكورة ما إن استمع لها “ماكسيم” كان فقد صوابه هو الآخر، تلك الآداة التي تلقى منها العذاب لمدة ساعات وهو هكذا بنفس الوضع المُزري، وقد أتى “مـيكي” بها حقًا ووضعها في يد صاحبه الذي خطفها منه ثم قال بصوتٍ أجش غليظٍ:
_لو عاوز تعرف دي إيه عينيا ليك، دي القمشة، بنأدب بيها الخيول الهجينة اللي ملهاش أصل وبتتمرد على خَّيالها، الحركة اللي الخيل دي بيعملها هي إنه بيرفع رجله يضرب بيها الخيال وهو بيدربه وممكن يكسر ضلوعه، ساعتها اللي زيي بياخده في أوضة زي دي ويأدبه بالقمشة، كورباج جلد محفور بسن علشان يسيب أثره تمام، أنتَ بقى علشان خنزير مبتحسش عملتهولك بمسامير، وأنتَ ونفسك الطويل بقى..
أنهى حديثه وفجأةً نزل بالسوط الحاد فوق رقبته حتى صرخ “ماكسيم” واستمر صراخه طويلًا بغير توقفٍ، كانت صرخاته جاذبة للمارين من كل حدبٍ وصوبٍ حتى ولج “نَـعيم” وخلفه “إسماعيل” و “سـراج” وقد قال “إسماعيل” مستفسرًا بقلقٍ:
_بتعمل إيه تاني يا “إيـهاب”؟ ما قولنا خلاص.
التفت له شقيقه يرشقه بنظراتٍ نارية ثم هدر فيه بعنفٍ:
_مفيش خلاص، الحاجة الوحيدة اللي هتخليني أوقف هي طلوع روحي، وجهز نفسك علشان تاخد حقد بإيدك، أنا معودتكش إني بجيبلك حقك، تعالى أنتَ.
توسعت عينا “إسماعيل” بينما “سـراج” تقدم يخطف الآداة من يد “إيـهاب” ثم قلب رأسه بعدما انخفض بمستوى جسده قليلًا كي يُصبح بنفس طول الآخر وما إن تلاقت الأعين المُتشابهة ببعضها بخلاف النظرة ومصدرها شعر “سـراج” أن الانتقام يزداد لهيبًا في صدره، لذا عادت صورته وهو مكبل الأطراف وكان عاجزًا عن الحِراك، تذكر عجزه وقهره على رفيقه قبل نفسه، تذكر الخسائر الفادحة التي تعرض لها، طالت النظرات ومعها تدفقت الذكريات وحينها استقام بوقفته ثم عاد للخلف ومن ثم هجم فجأةً على الآخر بالسوط ونزل به على جسده أمام الجميع حتى صرخ “مـاكسيم” وارتعد جسده من هول الضربة عليه.
حينها تحرك “إيـهاب” يخطف شقيقه من تسمره محله ثم دفعه للأمام ووضع السوط بيده ثم أمره بلهجةٍ صلدة أمام الجميع كأنه حقًا لن يقبل النقاش مهما كان من يناقشه:
_أقسم بالله لو ما جيبت حقك بإيدك أنتَ كمان لا أكون قاطع معاك، أنا معلمتكش تبقى خايب، حقك علمتك تجيبوا بإيدك لنفسك يا “إسماعيل” وإذا كنت بعمل حاجة فدا علشان ناري تهدا من ناحيته، بس ناري مش هتهدا منك لو خليت بيا.
وقف “إسماعيل” أمام شقيقه في حالة تيهٍ وخدرٍ بينما “سـراج” فسحبه من كفه وقال بثباتٍ على عكس طواحين النار التي تدور برأسه:
_اللي إحنا شُفناه منه مكانش شوية، خد حقك منه.
أمسك “إسماعيل” السوط في يده ووقف أمام الجميع بحيرةٍ وهو يفكر ما يتوجب عليه فعله كي يسترد حقه، لكن ما إن لمح عيني “ماكسيم” عاد قلبه يؤلمه؛ لذا تحرك بعدما رمى السوط من يده أمام الجميع وقبل أن يصرخ “إيـهاب” ويوبخه كان عاد بالفعل وفي يده زجاجة بلاستيكية ثم اقترب فجأةً وقام بفتحها ثم سكب ما فيها على جسد “ماكسيم” ليعلو صوت صرخاته عاليًا، فانتشى “إسماعيل” ثم مال عليه يهمس بشرٍ:
_لو ضربتك بزيادة تاني هبقى غبي علشان جسمك متعود على اللسعة الأولى خلاص، إنما اللي يرضيني إني أخلي الجروح اللي فيك تصرخ من الوجع، علشان كدا هسيبك منك لـ “إيهاب” هو يضرب وأنا آجي أولع الجروح دي أكتر بالبنزين دا، يمكن ناري تنطفي.
أنهى حديثه ثم قام بسكب المتبقي فوق جسد الآخر الذي ظل يصرخ بصوتٍ عالٍ ولأول مرةٍ يتوسلهم أن يتوقفوا عما يفعلون، كان صوت صراخه عاليًا ومرتفعًا وهو يهتز بعنفٍ بسبب المقود الذي وضع فوق الجروح الحية، أما “إيـهاب” فتنهد لأول مرةٍ براحةٍ حينما وجد “سـراج” يُكمل ما بدأه هو، وما إن تلاقت الأعين مع بعضها بنظرات “نَـعيم” أخفى فخره وبسمته ثم غمز له خفيةً ورحل.
____________________________________
<“كان المصير معلومًا منذ الخطوة الأولى”>
بين المكروه والمرغوب قد تضيع السُبل..
نتوه ونفقد ما كان فينا من أملٍ ونورٍ لشيءٍ آخرٍ أطفأ الزمان فيه روحه، لقد كنا بالأمس مجرد حُلمٍ واليوم نحن والحُلم ضعنا، لكن حتمًا سيأتي اليوم ونكون فيه ما أردنا أن نكون، فلا الدرب انتهى من السير ولا القلب توقف عن النبض..
في اليوم التالي كل شيءٍ هدأ عن أمسٍ ولم تكن تلك إلى مرحلة هدوء كا قبل هبوب الرياح العاتية التي تقلب موازين الجميع، مرحلة هدوء غريبة مرت على الجميع في ليلةٍ كتمت الأخبار في سريرتها كي تنكشف في اليوم التالي، لذا كان “بـاسم” في السيارة وبجواره “نورهان” النائمة على كتفه وفي الأمام قاد السيارة بهما “مُـنذر” الذي كلما تلاقت عيناه بعيني رفيقه هرب منه..
كان “بـاسم” يخشى عليها من المرحلة القادمة وهو طريقه بها للمصحة العلاجية من الإدمان والمخدرات وقد قبض على كفها بقوةٍ كمن يخشى هروب الأحلام من يديه، كان يخشى الفراق الذي لم يعرف غيره طوال حياته، لكن فراقها يعني له فراق شمس الحرية بذاتها، لذا بين الحين والآخر كانت فكرة التراجع تعود وتراوده المخاوف وحده في الخوف عليها من عودتها لذاك الطريق، لذا رفع كفها يُلثمه وقد لمحه “مُـنذر” وقرأ الخوف في عينيه فقال بهدوء:
_متقلقش عليها هتكون بخير والمكان هناك أمان، عارف إن صعب عليك تتحمل حاجة زي دي بس صدقني أنتَ لازم تساعدها وتلحقها، هي بتضر نفسها فعلًا ولازم حد يكون معاها.
تنهد “بـاسم” بثقلٍ ثم قال بغلبٍ على أمره:
_وأنا علشانها هكون معاها لآخر لحظة لو فيها موتي كمان.
بعد مرور ما يقرب نصف ساعة أوقف “مُـنذر” السيارة ثم نزل منها يحمل الأشياء بينما “بـاسم” حمل زوجته فوق ذراعيه ثم ولج بها للداخل حتى أخذها منه الطبيب والطاقم، بينما “فُـلة” فركضت لهما وقالت بلهفةٍ:
_متقلقوش عليها هتكون بخير والمكان هنا مضمون جدًا، الدكتور “مُحرم” هنا زميل “جـواد” وميقلش عنه في الأمانة والضمير، هي بس الوضع هيكون صعب عليها في الأول بس أهم حاجة الدعم النفسي، وأنا متأكدة أنك هتكون معاها ومش هتسيبها.
كانت توجه كلامها لـ “بـاسم” الذي أومأ بصمتٍ وظل يبحث بعينيه عنها بعدما تم أخذها منه، وقد فهمت هي سبب نظراته فقالت:
_متقلقش هي هتكون بخير بس الدكتور حاليًا خدها علشان التحاليل وعلشان يتطمن على الوظايف العضوية، متقلقش كل حاجة هتكون كويسة وأحسن ما بتتمنى.
عاد بعينيه يلاقي عينيها وقال بأملٍ:
_المهم هي تكون كويسة، مش مهم حاجة بعدها.
قال جملته ثم تحرك نحو الطبيب ما إن لمحه، بينما “مُـنذر” فظل واقفًا بصمتٍ حتى وجد زوجته تقترب منه وقالت بهمسٍ خفيضٍ:
_أنتَ وحشتني.
ابتسم مرغمًا ثم قال بصوتٍ هادىءٍ:
_وأنتِ وحشتيني أوي كمان، بس أنتِ عارفة الدنيا بايظة إزاي وكل حاجة ماشية عكس، بس كفاية إني بشوفك في آخر اليوم علشان يكون ختامها فُـل.
ضحكت له ثم أخرجت له دفترها الصغير بحجم قبضة اليد ثم وضعته في يده بحماسٍ وقالت تشاكسه بقولها:
_أنا جيبت النوت دي جديدة وعاوزة منك ذكرى حلوة فيها ليا.
ضيق عينيه نحوها بشكٍ ثم فتح أولى الصفحات وكتب فيها لها بقصدٍ منه كي يخبرها عن جُرم عينيها في حقه وهو البريء المظلوم في حكاياه:
_قاتلٌ أنا وتربيت على القتال فمالي أمام عينيكِ أكون صريعًا؟.
كتب لها جملته ثم اختتمها بأكثر التوقيعات غرابة
“مع تحيات القاتل للمجتمع، والمقتول من عينيكِ” ثم وضع الدفتر بيدها وغمز لها قبل أن يتركها ويتجه نحو رفيقه، بينما هي فتحت الدفتر وما أن قرأت الجملة قفزت من محلها عدة مرات ثم صفقت بكفيها معًا وقالت بسعادةٍ طاغية:
_بحبه، والله العظيم بحبه وبموت فيه كمان.
في الداخل تم وضع “نـورهان” بداخل غرفة خاصة مجهزة كي تليق بفترة جلوسها هنا، كانت فوق الفراش في عالمٍ آخرٍ وعيناه لم تبرح موضعها، كان مشفقًا عليها أولًا قبل أي شيءٍ، قلبه كان يؤلمه لأجلها وهي تنام هكذا والقادم عليها أصعب ما يكون، تنهد بثقلٍ ثم تحرك نحوها ومال عليها يُلثم جبينها وما إن فعلها تذكر نفس الفعل يوم أن لثم جبين أمه قبل أن يواري جسدها التراب.
أرهبه الفعل وخوفه الموقف فاستقام سريعًا ثم مسح وجهه ونظر لها يعاتبها بقوله:
_أنتِ مين وظهرتي ليه في حياتي؟ أنا ماكنتش ناقصك أنتِ كمان علشان حياتي تتشقلب، حبيتك ليه وأنتِ غريبة كل الغرب عن اللي توقعته، بقيت ليه خايف عليكِ كأنك مني كدا؟ عملتي فيا إيه خلاني أرضى بظلمك ليا وأنا جريء وأطالب بسجنك وأنا حُر؟.
وقف يطرح الأسئلة ولم يجد جوابًا،
لذا قرر أن يرحل قبل أن تفيق هي ويعود عن قراره، ترك لها فوق الجارور خطابًا كتبه بالدمعِ قبل القلم ثم لثم كفها ورحل مسرعًا قبل أن يعود ويأخذها وهو يلعن في خاطره المخدرات وصانعيها وكل من ساهم في توصيلها للشباب، رحل من المكان وقلبه يأمل ويتضرع للخالق أن تستطع مواجهة الطوفان ومجاراة الموج، رغم علمه أيضًا أنها كما الفراشة في عمق المحيط، ترفرف بجناحين ضعيفين.
____________________________________
<“واقعه كان مكروهًا بما يكفي كي لا يفيق”>
العقل يرفض والقلب يرغب..
وما بين تلك الرغبة وهذه الحقيقة توقف الجسد عن العمل، كأن هناك هدنة مفروضة كي توقف الحرب بين المرء ونفسه قبل أن يُهلك، خاصةً حينما يكون وحده في الطريق وحربه تلك قاسية عليه قد يفقد الحياة في عين نفسه..
كان كما الغريق الذي اضطر أن ينجو بنفسه كي ينقذ غريقًا على الشاطيء، خرج من نوبة حزنه ووقف بالمشفى مع خاله يتابع حالته بعد أن علم بالأمر من العمال بالشركة فركض له مهرولًا كي يكون هناك معه، وقف منذ باكورة الصباح في المشفى وخاله “عـاصم” بغرفة الرعاية المُشددة بعد أن أصيب بأزمةٍ قلبية واشتباه بجلطةٍ دموية في القلب، مع الإصابة بقصور في الشريان التاجي وتأزم وضعه الصحي.
كان “نـادر” يجلس في الرواق بضياعٍ لا يعرف أي الخطوات يتوجب عليه أن يتخذها؟ هل يترك خاله وحده يعاني في المكان؟ أم يخرج كي يلحق ما يمكن له أن يلحقه بسبب غياب والده بعدما هرب هو من براثنه وخوفه على ذويه، أم يذهب ويقابل “حنين” لعلها ترشده من ضياعه؟ كان حقًا فاقدًا لصوابه، حتى أتت “مادلين” له بالمبلغ المالي المطلوب ثم قالت بحزنٍ على الوضع العام:
_الفلوس اللي طلبتها أهيه علشان حساب المستشفى، وعمومًا لو عاوز حاجة تاني عرفني الفلوس معايا لسه متوردتش، بس نصيحة ليك أعمل بأصلك لآخر مرة بعدها سيبك منه، خالك أصله ناكر الجميل، بيشوف نفسه على الناس ويتعوج عليهم، علشان كدا بقولك خليك معاه رغم إن هو اللي خسرك بأفعاله من الأول، ومش أنتَ بس، لأ ومعاك “يـوسف” كمان، أدفع الفلوس وأمشي وخليه يقدر قيمتكم لما يعيش لوحده ويتعب لوحده ويقضي الباقي من عمره لوحده.
تنهد “نـادر” بقوةٍ ثم قال مرغمًا على الحديث:
_كل واحد بيختار أفعاله بأيديه، وهو اختار للأسف إنه يخسرنا، بس مش هقدر أخليه لوحده هنا وأنا بعيد، على الأقل يخرج من هنا بعدها هو حُـر يعيش زي ماهو عاوز، بس أنا ماكنتش أعرف إنه بيحبك أوي كدا لدرجة إنه يجيله جلطة بسببك.
ابتسمت بسخريةٍ موجعة ثم قالت بتهكمٍ:
_خالك مبيحبش حد غير نفسه، أناني وبياخد بس، فضل يستغل فيا وخد مني كل اللي يخليه مبسوط ومحقق اللي هو عاوزه، بس لما خلاص مبقيتش قادرة أديه حاجة رماني، ولما حس إني بضيع منه راجعلي ندمان من تاني؟ خليني أشوف حياتي بقى يا “نـادر” وأعيش مرتاحة، خليني أتنفس وأشوف نفسي، ضيعت كتير عليه وكرهت الكل فيا بسببه وبسبب أفعاله، بس أنا متربيتش أكون ضعيفة، أنا اتربيت أني أكون قادرة على أي حاجة، جايز بتعب شوية وبغلب شوية بس مبقعش، أكبر وقعة في حياتي هي إني سلمت حياتي لـ “عـاصم” بس دلوقتي لأ، علشان كدا بقولك أعمل بأصلك لآخر مرة بس متخليهوش يحس إنك مضمون كفاية.
أغمض عينيه بقوةٍ ثم جلس فوق المقعد بتعبٍ بلغ عليه أشده بينما هي حقًا شعرت به لذا تحركت من مكانها كي تعود للعمل الذي من المؤكد سيتعرض لأمواجٍ عاتية في غياب رب العمل.
بينما في حارة العطار..
كان “مُـحي” بمقر عمله مع الطبيب الذي جلس مرتاحًا عم السابق بعد حصوله على الموافقة بالزواج منها، ولولا نصيحة ذاك العابث ما كان خطى خطوة واحدة نحوها، وقد جلس بشرودٍ مبتسمًا حتى قال “مُـحي” بنبرةٍ ضاحكة:
_أهل الحب صحيح مساكين.
انتبه له الطبيب ضاحكًا ثم حرك كتفيه ثم أشار نحو الخارج بقوله العابث الذي يماثل نبرة المتحدث:
_طب خلي بالك علشان الحب داخل علينا أهو.
ظهرت “جـنة” بخمارها الأخضر وهي تبتسم بخجلٍ ثم وقفت تمد يدها بورقة طبية فابتسم هو لها ثم قال بنبرةٍ هادئة يرمي جملته العبثية:
_لأ بس الأخضر اللهم صلِّ على النبي سواء اللي فوق العين ولا اللي جوة العين يجيبوا أجل المسكين.
طالعته بدهشةٍ ثم قالت بصوتٍ خافتٍ بعدما أخفت عينيها عنه:
_مفيش فايدة فيك، مش قولنا نغض البصر؟.
_ورب الكعبة غاضض البصر، بس هي البصيرة اللي شقية شوية عندي، دعواتك، بعدين اعتبريها من الرؤية الشرعية اللي أنتوا واكلينها عليا دي، بس برضه مش هسيبك.
ابتسمت رغمًا عنها ثم أخذت منه دواء والدها ورحلت من المكان بينما هو كما الفقير وقف يلتقط منها نظرة عينٍ تُغنيه على فقر حاله، تنهد بقوةٍ ثم رفع رأسه للأعلى يقول متضرعًا:
_يا رب قربلي البعيد، عبدك ضعيف.
هكذا تفوه بلسانه، بينما حديث قلبه كان:
_أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا….
وأناجيك بقلبٍ يأمل في رحمتك ورجاك وأنتَ خير المُعين، أدعوك وأرجوك ولي فيكَ رجاءٌ لا يخيب ألا تَكِلني إلى نفسي طُرفة عينٍ ولا تتركني لغربة حالي، أنتَ المُغيث فأغث قلبي من نفسه ومن دُنيته وأطلب منك بكل أملٍ أن تعني عليِّ فأني أخشاني، أنا عدو نفسي الوحيد وأنتَ المُنقذ القدير، وأطمع في رحمتك وفي قولك:
‏﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾
فاللهم بعطفك ورحمتك أرجوك أن تقضي أمري بأمرك كُن فيكن بمشيئتك أنتَ وحدك، ربي إني عبدٌ ضعيف لا يملك حيلةً سوى الدعاء لكَ والحديث معكَ وأنتَ الجبار السميع.
____________________________________
<“لقد تعاهدنا على السير سويًا، وعهدي لك ألا أخون”>
غريبان أرادت لهما الدنيا أن يلتقيان سويًا، كلٌ منهما يختلف عن الأخر وكأنهما مقطوعة موسيقية مختلفة الأوتار جمعهما لحنٌ واحدٌ ليظهر الجمال في وجودهما معًا، حزنها وبؤسها أمام غربته وضعفه ليقف كل منهما للأخر حاميًا له وتلك المرة تعلنها هي لأجله: “أنا هُنا….حتمًا أنا هُنا، إذا زاد حملك ومال كَتفك أنا هُنا، وإذا زار الخوف أحلامك لا داعي للقلق فطمأنينتكَ بجواري هُنا، وإذا فُرضت عليَّ الحروب بأكملها لا مانع أخوضها لأجلك أنتَ و أعود لك من جديد لأخبرك؛ أنني فقط ودومًا لأجلك هنا.
كان “يـوسف” يجلس في الغرفة وحده تحديدًا بالشرفة لعله يقترب من شعاع الشمس بالأملِ، يجلس منفردًا بحزنه ووحدته وقلبه يؤلمه تزامنًا مع ألم رأسه، لازال في محاولة التعافي من النوبة الماضية التي تسببت في حالة اهتياج لم يتوقعها هو، كان يسرد عن ليلةٍ عصيبة وهي أولى لياليه في المصحة النفسية وكيف أثرت تلك الليلة في حياته وشكلت المتبقي منها، كان يسرد ويواجه ويتحدث ويعبر عن أوجاعه وكأن ما لم يفعله يومها، فعله في هذا التوقيت..
رمى رأسه للخلف وتنهد بثقلٍ وقد شعر بكف أحدهم يوضع فوق كتفه، وتلك المرة كان الكف ناعمًا وهو يعرف تلك اللمسة جيدًا، حاول أن يكذب نفسه لكنه ما إن التفت ولمحها فرغ فاهه، بينما هي أغصبت شفتيها على بسمةٍ مجبورة ثم جاورته فوق الأرض وهي تقول بعتابٍ:
_جيت لوحدك؟ هو دا وعدنا لبعض؟.
ترقرق الدمع في عينيه وهو أمامها بهذا الضعف وقلة الحيلة ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ كأنه يتحدث لأول مرةٍ:
_ماكنتش حابب تشوفيني كدا.
لمعت العبرات في عينيها هي الأخرى ثم قالت بصوتٍ مكتومٍ:
_بس أنا في أي وضع بحب أشوفك، ماليش غيرك أحب أشوفه.
طالعها بتعجبٍ ثم خطفها في عناقه فجأةً بعدما استقام واقفًا، بادلته العناق بمثيله وكأن كلاهما يأمن في وجود الآخر، كان هو في أشد الحاجةِ لها ولهذا العناق كأنه غريبٌ عاد لموطنه ووجد مدينته تفتح ذراعيها وهي تستقبله بأحر الاستقبال، وكأنه لتوهِ أدرك فكرة تواجدها فعاد للخلف يسألها بلهفةٍ قلقة:
_جيتي ليه يا “عـهد” هنا؟.
تنهدت بقوةٍ ثم سحبت كفه تضعه فوق بطنها وهي تقول بصوتٍ أقرب للبكاء رغم محاولة تمسكها بالثبات أمامه وألا تبكي:
_علشان أقولك إننا بقينا اتنين مستنيينك ترجع.
حرك رأسه نحو كفه الموضوع فوق بطنها بينما هي ابتسمت بأملٍ وقالت بصوتٍ هاديءٍ يبث الأمل فيه بثًا:
_أنا حامل يا “يـوسف” حتى وأنتَ بعيد عني حتة منك كانت مشركاني قلقي عليك، مستنيينك يا “يـوسف” وبقينا هنا علشانك إحنا الاتنين…
في تلك اللحظة خطفها في عناقه من جديد بقوةٍ وتلك المرة تهاوت العبرات من عينيه رغمًا عنه وهي معه تشاركه الأمل والحُلم والحياة مهما كان الطريق شاقًا عليهما هي تتحمل وهو معها يُساندها ويتكيء عليها، كل شيءٍ هنا بالجوار معها مهما كانت صعوبته يبدو سهلًا، وهو لأجلها يفعل المستحيل..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى