رواية غوثهم الفصل المائة وثلاثة وتسعون 193 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وثلاثة وتسعون
رواية غوثهم البارت المائة وثلاثة وتسعون

رواية غوثهم الحلقة المائة وثلاثة وتسعون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل المائة وثمانية_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_______________
أوبت إليكَ يدفعُني رجاءٌ
يدفعُني رجاءٌ .. يدفعُني رجاءٌ
فبارك أوبتي .. فبارك أوبتي ..
فبارك أوبتي و اقبل متابي..
وأهلل العفوَ دومًا يا إلهي
و أهلل العفوَ دوماً يا إلهي..
لأحظي بالخلود..لأحظي بالخلودِ و بالثوابِ
أوبت إليكَ يدفعُني رجاءٌ
يدفعُني رجاءٌ .. يدفعُني رجاءٌ
فبارك أوبتي .. فبارك أوبتي ..
فبارك أوبتي و اقبل متابي..
وأهلل العفوَ دومًا يا إلهي
و أهلل العفوَ دوماً يا إلهي
لأحظي بالخلود..لأحظي بالخلودِ و بالثوابِ
_”نصر الدين طوبار”.
____________________________________
يا قمر الليل الغائب..
أخبرني كيف رضيتها لي أن أكون بدونك وحدي؟
أخبرني كيف رضيت أن أتوه بين السائرين أخشى لقاء الحقيقة واسمك بين المفقودين؟ أترضاها لي أن أعيش قسوة الغياب وتصبح روحي في رحيلك كما الفُتات؟
ألم أخبركِ أنا أنني في السابق عانيت من قسوة الغياب،
وهجر الأحباب؟ واليوم هجرني حبيبٌ كنت أراه الدنيا بأكملها ولم أعد بقادرٍ منه على الغياب؟..
قُل لي يا قمرٌ أنار لي عتمة الأيام، هل ما أعيشه أنا اليوم كابوسًا طغى على ألوان الأحلام؟ أم هي مجرد خبالٍ نسجها عقلٌ تعب من كثرة الأوهام؟ أتدرين أنتِ أنني لم أقدر على كل ما فات، ولولا وجودك معي لكنت الآن مجرد أشلاءٍ بين الرُفات؟..
أخبرني يا قمر تركت لي السماء بدونك فارغة ومُعتمة أرضيت لي أن أسير بين الناس بأعين مُظلمة؟
أترضاها لي أن أفقد نفسي بفقدانك
وأنا الذي وجدت نفسي بوجودك؟..
أخبرني يا قمرٌ غاب عني وترك لي لوعة الليل وحدي،
كيف السبيل لوصالك وهو المقصود ..
وكيف أصل لبابك وإن كان هو عني الموصود؟..
<“يوم استرداد الحق، اصفع صافعك صفعتين”>
العين بالعين..والسن بالسن والبادي أظلم..
لذا وأنتَ تسترد حقك عليك الإدراك أن من بدأ بالظلم لك هو الذي يستحق الصفعات المتوالية، بغير رحمةٍ أو شفقةٍ، حتى، فلا تأمن غدر خائنٍ، ولا تألف صُحبة ندلٍ، فقط كل ما عليك فعله أن تغلق عن قلبك أبواب الشفقة، ثم رد الصفعة بعشر أمثالها، والظلم بظلمات..
اقتربت الفتاة من “سـامي” في محاولةٍ للتقرب أكثر من ذلك فوجدته يدفعها بغضبٍ من جواره وهو يهينها بسبابٍ لاذعٍ وقبل أن يتحرك خطوة واحدة قفز أحدهم فوق سطح اليخت ثم وقف أمام “سـامي” الذي توسعت عيناه وفرغ فاهه وحينها ظهر نصل السكين الحاد من المدية المفتوحة وقال “يـوسف” حينها يُنذر بشرٍ قادم:
_مكتوبالك يا ابن العالمة تموت على أيدي.
حينها هب “سـامي” منتفضًا من مكانه وأخرج سلاحه من جيبه وهدر فيه بغضبٍ أعمى بعدما وجده هنا في المكان الذي فر منه إليه:
_مش هتلحق يا “يـوسف” المرة دي مش هتلحق.
وقبل أن يفعل أي شيءٍ قفز الثاني وقال بشرٍ:
_لو هو لوحده ماشي لكن مش في وجودي.
وها هي النسخ الصغيرة من الأعداء الكبيرة تظهر له، في الماضي قد فعلها غريماه والآن في الحاضر يفعلها ابنا غريميه، لذا نطق مُستنكرًا بعدما ظن نفسه تحت سطوة الخمر:
_”يـوسف” و “أيـوب”..!!
_ومعاهم عمهم يا حيلتها.
هكذا أتاه الجواب من “إيـهاب” الذي أتاه من الخلف فالتفت له برأسه فوجده يقف وفي يده استقر السوط الجلدي فهوى قلبه وتيقن أن النهاية على أيديهم قد حانت، لذا ظل يزحف مستندًا على مرفقيه بخوفٍ منهم بينما الفتاة فصرخت بملء شدقيها، فخطفها “إيـهاب” ثم دفعها للأسفل وقال بصراخٍ:
_أنزلي أنتِ علشان اللي جاي للرجال فقط.
دفعها فوق درج المركب فنزلت تصرخ بخوفٍ وهي تهرول هرولة الناجي من الحريق، لم تكترث بأي شيءٍ سوى أن تهرب منهم بعدما ظنتهم قراصنة البحار، بينما “إيـهاب” فهجم كما الأسد فوق عنق “سـامي” وسحب منه سلاحه الذي ارتخت عنه يده بعدما لمحهم، وفي طرفة عينٍ دفعه “إيـهاب” فوق الأرض ثم ضغط على رأسه بقدمه…
ما إن ارتفع صوت صراخه العالي ضغط “إيـهاب” بقوةٍ أكبر ثم هدر بصراخٍ أعرب عن عنفه وغضبه الكامن بين جنبات صدره:
_دلوقتي بتصرخ يا حيلة أمك؟ دا أنا هخليك تتمنى حد يسمعك.
أنهى حديثه ثم نزل بالسوط الأول على جسده يباغته بتلك الضربة القاسية، يتصرف كأنه فقد السيطرة على نيران ثأره وبالتالي أُعميت بصيرته، أصابه العمى عن سُبل الرحمة فلم يعد يلمح بعينيه سوى نيران الجحيم وفقط، نيرانٌ نُشبت فيه سوف يُأجج بها جسد عدوه دون أن يرف له جفنٌ، صرخته زلزلت المكان والقلوب الضعيفة أيضًا، لذا لم يتأثر أيًا منهم، حتى “أيـوب” كان يُدرك أن هذا هو العدل بعينيه، أن يثأر لنفسه من ظلم الظالم..
قام “إيـهاب” بجذب خصلات “سـامي” وهو يرى الذُل والتقهقر في عينيهِ فزاد هو انتصارًا وفرحًا، بينما “يـوسف” فنزل يجلس على عاقبيه أمامه ثم وضع المدية بنصلها فوق كف يده وقال بقسوةٍ من بين أسنانه المتلاحمة:
_فين الفلوس والتوكيل اللي “عـاصم” عملهولك؟ ورحمة أبويا في تربته لو فاكر إني هسيبلك جنيه واحد تبقى عبيط وأهبل، ومش هتلاقي حد يرحمك من أيدي، اللي هعمله فيك مش هييجي في خيالك، هطلع القديم والجديد عليك، أنطق الحاجة في أنهي خرابة تاخدك؟.
كان حينها التعب بلغ مبلغه ووصل أشده..
لم يعد “سـامي” يتحمل تجبر “إيـهاب” عليه، لم يتحمل وضعه وهو أسفل قدمه ذليلًا بهذا الوضع المزري، لذا اتقد الشر بعينيه وهو يرمقه، زادت النظرات تحديًا سافرًا بين طرفي الحق والباطل، ولأن الحق هو الأقوى فكان “إيهاب” هو الأقوى حينما زادت ضغطته قوةً فوق عنقه بقدمه يسب في طريقه لفعل ذلك “سـامي” الذي صرخ متأوهًا عوضًا عن الحديث، وحينها أدرك أن خبر اختطاف “قـمر” لم يصلهم، لذا ابتسم تلك البسمة الكريهة الخاصة به وطالع وجه “أيـوب” _بالطبع بقدر ما سمحت له رأسه بالتحرك_ وقال بتهكمٍ كأنه لا يُبالي:
_وأنتَ كمان مش عاوز تقول حاجة؟.
رمقه “أيـوب” بسخطٍ ثم اقترب منه ونزل على عاقبيه يهتف بصلدةٍ أمامه وجمودٍ قاسٍ قصده وتعمده أمامه:
_أنتَ عارف كويس أوي إني مرضاش بالظلم، ولا أقبل الذل لحد، بس أنتَ بالذات مش هقدر أسيبك تعيش حر أكتر من كدا، ولولا إني بخاف ربنا كان زماني ولعت فيك حي علشان تعرف قيمة حجم النار اللي كانت بتاكل فينا كلنا بسبب عمايلك.
أنهى الحديث ثم جثى أمامه يهتف يسأله بقهرٍ:
_كان ليه دا كله من الأول؟ ما كنت مرة واحدة بس عيش كأنك إنسان، بس أنتَ عامل زي اللي مكروا على ربنا، المرة دي نهايتك ملهاش بداية جديدة، كدا كدا أنتَ هلكان، ومظالم العباد عندك كتيرة، وماظنش فينا ملاك يقدر يسامحك، بالعكس كلنا نفسنا نخلص عليك دلوقتي قبل بكرة.
زادت نظراته حدةً حينما تذكر أمر اختطافه لذا، قبض فوق فكيه بقبضتين قويتين فما كان من الآخر إلا أن يرمقه بسخطٍ ثم ضحك، ضحك حتى أثار تعجبهم واستفزازهم على حد السواء، ظل يضحك بتلك الصورة الهيستيرية كأنه مجذوبٌ بعقله، وما إن لمح نظراتهم له قال بتهكمٍ:
_تصدقوا أنتوا أغبيا؟ علشان جايين ماسكين فيا أنا وسايبين “ماكسيم” اللي خاطف القمر بتاعكم؟ طب روحوا أعملوا النمرة دي عليه هو يمكن تلحقوه قبل ما ياخد “قـمر” معاه..
أنهى الحديث وظل يضحك كما هو بنفس الطريقة المخبولة، كان يضحك غير مكترثٍ أو آبهٍ بالنيران التي اشتعلت بجوفهم، لذا هبط لمستواه “يـوسف” وأمسك عنقه يهدر فيه بصراخٍ:
_بتقول إيه يا *** خطف مين؟ أنطق يحرق *** استفزاز أهلك.
ظل يضحك بقوةٍ أكبر حتى رفعه “إيـهاب” بغتةً ثم وضعه على حافة المركب وضغط فوق عنقه بغلٍ وغضبٍ أعمى وهدر صارخًا بآخر ذرات التعقل لديه:
_أقسم بالله لو ما نطقت وقولت قصدك إيه لأكون مخلص عليك وراميك في المياه وبرضه هجيبك بعدها، ماهو مش بالساهل هسيبك تمون وترتاح مني، أنــطق !!.
كانت زعقته غاضبة كما رياحٍ أتت تقتلع في طريقها كل شيءٍ ولم تترك ذرة خيرٍ واحدة، كانت النيران تأكل فيهم جميعًا ناهيك عن “أيـوب” الذي وقف محله صريعًا في كهف الخبر، وقف يخشى مرور الثواني عليه أكثر من ذلك، لذا اقترب “يـوسف” وقام بغرس سكينه في ذراع “سـامي” الذي صرخ متأوهًا وقال رافعًا صوته بجنونٍ رسمي:
_أنطق، بدل ما أجيب بيها رقبتك في إيدي…
حينها أدرك أن الحديث لا يجب أن يُكتم أكثر من ذلك خاصةً مع اختطاف “أيـوب” له من بينهما ثم أطرحه فوق أريكة المركب وجثم فوقه يصرخ بصوتٍ عالٍ كأنه وصل لحافة الجنون:
_اسمع !! أنا مش هطبطب زيهم، أنا عندي يا قاتل يا مقتول، والمرة دي أنا ناويهالك أكون قاتل، أنطق بدل ما أنطقك أنا..
أنهى الحديث ثم ضربه في كتفه موضع الضربة التي تركها “يـوسف” له وحينها كلما ضغط “أيـوب” ازداد صراخ “سـامي” الذي قال من بين ألمه وتأوهاته:
_مـ..”ماكسيم” خطف “قـمر” من الحارة بعدما جيت أنا هنا..بس مش عارف المكان فين، بس تقريبًا هيسفرها زي ما عملها وسفر مليون واحدة غيرها…
جن حينها جنون “أيـوب” وفقد كل العقل الذي كان يملكه وجل ما استطاع أن يفعله أنه أرخى قبضتيه فوق جسد “سـامي” وعاد للخلف لا يُصدق ما استمع إليه من حديثٍ كان كما السكين الحاد ينخر في نحره بغير شفقةٍ أو رحمة، كان الحديث كما الجريمة المرتكبة بكل شناعةٍ وبغير رحمةٍ أو رأفة بحاله..
لذا الآتي كان معلومًا حينما هجم “يـوسف” وسحب “سـامي” من عنقه يجره كما تُجر البهائم، توقفت العقول عن العمل والقلوب أصبحت لا تعرف سوى النبض بالخوفِ فقط، أما “أيـوب” ما إن ترك المركب ووقف بجوارهم، أدرك خطورة الحديث الذي قيل لذا خطف الهاتف الخاص به يطلب رقم شقيقه وما إن جاوب على المكالمة دوى صوته بصراخٍ:
_”قـمر” فين يا “أيـهم” ومتخبيش عليا.
حينها لم يجد شقيقه ردًا غير الصدق له، فكان جوابه صادمًا بقوله:
_بندور عليها يا “أيـوب” وهنلاقيها..
كان “أيـوب” أغلق الهاتف في وجه شقيقه وما لبث ثوانٍ حتى ركب السيارة بجوار “إيـهاب” الذي تولى مهمة قيادة السيارة بعدما وضع “سـامي” في حقيبتها وأغلق عليه، بينما “يـوسف” فكان في الخلف يصارع، ربما يُكابد، كان في أصعب لحظاته وهز يجلس هكذا قليل الحيلة منفردًا بكآبته والحرب فيه تُعلن انتصارها عليه هو، لذا ظل يُحرك رأسه نفيًا كأنه يتحدى نفسه ألا يستسلم ويسقط من محله..
____________________________________
<“رحلة الإفاقة كلفتني عمري بأكمله كي استوعب”>
بعض الرحلات التي نفيق منها تُكلفنا عمرًا بأكمله..
كأننا بين ليلةٍ وضُحاها أصبحنا رُفاتًا، وما نلناه من الأشياء الكاملة كان فُتاتًا، فوقفنا نبكي على ما ضاع وعلى ما فات،
تلك الرحلة التي استيقظت منها على فاجعةٍ كبرى، لا شك أنها كلفتني عمري بأكمله كي أظل بهذا الثبات…
بزغ الفجر، الشمس شقت الطريق كي تشرق..
القمر اختفى من السماء وظلت بدونه فارغة حتى ظهرت الشمس بخيوطها اللامعة، أمل بدأ يعود للنفوس؛ إلا من تلك التي كانت تخشى انتهاء الليل قبل أن تصل لمُرادها، فمع ظهور الخيط الأبيض من النهار وبداية نثر الأمل في القلوب، كانت هناك قلوب أخرى تتلظىٰ بنيران القلق والفراق..
أما هي القمر الغائب عن سماء المُحبين…
وآهٍ منها تلك المغدورة بحقها، كانت غافيةً فوق الفراش البغيض وقد تراقصت مقلتاها خلف الجفون وهي تستوعب وضعها وما حدث لها كي ينتهي بها الأمر هنا، فتحت عينيها على وسعيهما ما إن نُذرت بخطرٍ طرق أبواب عقلها وقد انتفضت من موضعها لتجد خصلاتها مكشوفة ومضمومة بجديلةٍ واحدة..!!
رمقت المكان حولها تراقبه بعينيها الهلعتين فهوى قلبها من موضعه ثم تلاطم بموج الصدمات ليسقط فُتاتًا، تركت الفراش ونزلت تدور بتلك الغرفة التي تضم الأساس الفرعوني وبعض الديكورات التي ترجع الحضارة المصرية، انقبض قلبها وارتمت فوق الأرض تتذكر كيف أتت لهنا..!!
[●عودة للأمس قبل الاختطاف●]
بحارة العطار كانت تتجول برفقة زوجة خالها التي كانت تبتاع معها بضعة أشياء خاصة بالبيت من أماكن مختلفة ومعها “قـمر” التي تعاونها بدون تذمر أو كللٍ ومللٍ، لذا أخذهما الحديث سويًا حتى وصلت “أسماء” أسفل بنايتها فقالت بتذمرٍ:
_يوه !! الكلام خدنا ونسيت أوصلك، تعالي يلا.
كادت أن تتحرك لكن “قـمر” مدت كفها توقفها عن التحرك ثم قالت بضحكةٍ يائسةٍ ترفض بها فعل زوجة خالها:
_يا خالتو ليه البهدلة دي؟ روحي يا ستي شوفي حالك وأطلعي ريحي شوية وأنا هرجع البيت علشان “آيـات” و “نـهال” لوحدهم ويدوب ألحق أعملهم لقمة، يلا أطلعي.
ابتسمت لها الأخرى وهي تدعو الله أن يمن عليها بالعوض الصالح ويكرمها هي الأخرى بأولادٍ صغار، وقد تحركت “قـمر” مبتسمة لوهلةٍ حينما تذكرت حمل “عـهد” في ابن شقيقها وتلك الفرحة التي غمرت قلوبهم بعد هذا الكم الهائل من الأحزان، وأثناء تحركها نحو البيت أوقفتها إمرأة مُسنة عجوز بصوتٍ بالكاد يُسمع فانتبهت لها “قـمر” والتفتت تخطو نحوها..
ما إن اقتربت قالت العجوز بتوسل لها:
_والنبي يا بنتي، بنتي مستنياني عند شارع عمر بن الخطاب، وأنا معرفش بيروحوه إزاي وكل ما أسأل حد ميرضاش يقفلي، معرفش الناس جرالها إيه بقت وحشة أوي، ينوبك ثواب تعرفيني الطريق إزاي؟.
أشفقت عليها “قـمر” ورق قلبها لأجل تلك العجوز لذا مسكت كفها تستعد لمعاونتها وقالت تتضامن معها بحنوٍ وهي تتحرك بها وتقودها للمكان الذي سبق وذكرته العجوز:
_صوابعك مش زي بعضها يا أمي، أنا هوصلك وهقف معاكِ لحد ما بنتك تيجي، بس أنا آسفة يعني حضرتك شكلك كبيرة مينفعش تمشي لوحدك في الشارع، بنتك ليه سايباكِ تروحي لوحدك وتمشي وتعدي الطريق كدا؟.
زفرت العجوز وقالت بألمٍ وغُلبٍ كأنها حقًا تعاني:
_الحوجة يا بنتي وحشة أوي، هي قلب أمها جاية من الشغل وشايلة عيلة على قلبها وساحبة اتنين وراها، قولتلها هعدي أنا وخلاص، بعدين ربنا وقفلي بنت حلال زيك أهو توصلني.
ابتسمت لها “قـمر” وهي تستعد بها لعبور الطريق، بينما العجوز فأخذت تُجاريها بالأحاديث والكلمات المُشتتة كي تُلهي عقلها عن أي شيءٍ، بينما “قـمر” فهي لم تُسيء الظن فيها ولو لوهلةٍ، كانت تتعامل بكل أريحية وطيبة قلبٍ وبالأخص في هذا الموضع كما كان ذَّكرها “أيـوب” بتلك النقطة وهي مساعدة الضعيف وتغيير النوايا، لذا عبرت بها للجهة الأخرى ثم وقفت معها، حينها التفتت لها العجوز تسأل بطيبةٍ:
_روحي يا بنتي خلاص شوفي حالك، متأخذنيش عطلتك معايا.
ابتسمت لها “قـمر” وهي تقول بصوتٍ أعرب عن البشاشة:
_لا عطلة ولا حاجة، هقف معاكِ لحد ما بنتك توصل، وبعدين أنا بعمل خير مش نيتي وحشة يعني، ولا عاوزاني أمشي؟.
ضحكت لها العجوز تنفي بذلك ظنها ثم كادت أن تسقط فوق الأرض فوجدت “قـمر” تساندها وحينها سقطت العجوز عمدًا و “قـمر” معها، وآنذاك اجتمعن مجموعة من النسوة وهجمن عليهما فآخر ما تذكرته “قـمر” في الحدث أن إبان سقوطها هجمت عليها واحدةٌ منهن وكممت فاهها بقطعةٍ من القماش وحينها لم تستعب ما حدث سوى بمرور دقائق فقدت فبها الوعي..
بينما حينها صرخت إمرأة من بينهن وهي تشير للأخريات:
_تعالوا ألحقوا البت، البت حامل وهتروح فيها.
حينها وقفوا الناس يتابعون بشفقةٍ وذهولٍ وقوف “قـمر” أثناء فترة الإغماء عليها وحينها قالت المرأة التي تمسكها من ذراعيها بعدما رفعتها من فوق الأرض وهي تقول بتصنعٍ برعت في رسمه أمام الغرباء حتى تُثير الشكوك والريبة نحوها:
_غيتونا يا خلق، أختي وقعت من طولها، دي حامل يالهوي.
حينها تدخل رجلٌ من بين الجميع يعلن معاونته لهم وما هي إلا دقائق مرت وكانت “قـمر” بداخل السيارة التي هي بالطبع مُختارة ومُنتاقاة لأجل هذا الموقف وما إن ولجوا جميعًا رحلت السيارة بسلامٍ دون أن تُثار الريبة حول الحادث، لذا كان المصير مُنتهيًا بها في تلك الغرفة وهي تجلس هكذا بين رُفات الواقع.
خرجت من شرودها على دمعة حارة لمست وجنتها وهي تنحدر من عينيها تزامنًا مع فتح الباب ودخول “ماكسيم” عليها الغرفة وحدها فانتفضت أمامه من مرقدها بخوفٍ بينما هو فبمجرد رؤيتها أمامه وقف مُبتسمًا بعينيه الجريئتين وهو يتفحصها..
حينها كانت بين أضغان الخيالات تقف بخوفٍ من القادم بأكمله، كل شيءٍ حولها كان يُثير الخوف في نفسها، كانت مشاعرها في غاية الصعوبة، حيث كانت تتمنى لو أن كل شيءٍ حولها مجرد كابوسٍ ويمضي، كانت بالفعل تظن نفسها داخل كابوسٍ ولم تنتهِ الإفاقة أو منه، أو رُبما طال سقوطها بداخله، فهل ذات يومٍ اختبرت مشاعر قاسية وغلبك بعدها النوم العميق ومن ثم تستيقظ على كارثةٍ كُبرى؛ ألا وهي أن كل ما فات لم يكن كابوسًا وإنما كان هو الواقع بذاته..
اقترب منها بخطى وئيدة يتلذذ بهيئتها المذعورة، بينما هي فخطفت رداءً تضعه فوق خصلاتها قبل أن يلمح هو شلالها الممزوج بسحرٍ أسود يخطف أنظار الجميع، أما هو فابتسم بتلذذٍ أكبر ثم قال بوضاعةٍ وسُفهٍ:
_أنا شوفت ومليت عيني من كل حاجة، مش محتاجة تخبي حاجة عني يا “قـمر”.
توسعت عيناها حد الجحوظ وهي ترمقه بخوفٍ وقد من عليها الله بجزءٍ من الشجاعة حتى ولو كانت كاذبة وغير متواجدة كي تسأله بصوتٍ مهتز:
_هو..هو أنتَ مين؟.
اقترب حينها المسافة المتبقية وقال متلذذًا بما ينطق:
_قدرك، أنا المفتون بيكِ يا “قـمر”.
حينها هوى قلبها من موضعه ووقفت عاجزة حتى عن الرمش بعينيها أمامه، بينما هو فرفع رأسه يقول مباشرةً دون أن يُراوغ في القول:
_مصر فتنت شيوخ كتير جدًا، كل العلماء والشيوخ والمؤرخين اللي نزلوا مصر اتفتنوا بسحرها وجمالها، تبان بلد عادية وبسيطة وفيها فقر وزيها زي غيرها، بس اللي يحبها بجد يعرف إنها بلد مفيش منها، مصر حقيقي جميلة جدًا، تفتن أي حد ييجي يزورها وتجبره ييجي تاني لحد عندها، أنتِ شبه مصر أوي يا “قـمر”.
كان ينطق اسمها بنغمة مهووسٍ بينما هي كانت تأمل في الخلاص والنجاة من ربها، لذا وهي أمامه تمنت لو كانت تلك هي لحظتها الأخيرة في عمرها بينما هو فأضاف مُكملًا ومُتابعًا:
_عارفة أنتِ شبهها ليه؟ علشان أنتِ فتنتي الشيخ “أيـوب” وبقيتي أول حاجة تخليه يخون طريق زُهده، الإمام الشافعي لما نزل مصر كان معجب جدًا بيها، وكل شيوخ العالم سواء العربي أو الغربي مصر كانت بتسحرهم، علشان كدا لما شوفتك حسيت إنك صورة عن جمال مصر، نفس إحساسي الأول لما شوفت الأهرامات وسحرها واتفتنت بيها..
ترك حديثه مفتوحًا ثم أضاف مُتابعًا:
_أول مرة جيت مصر ماكنتش عاوز أرجع منها، كنت بتمنى أكون منها وليها، كان نفسي أوي يكون اسمي محفور على كل جدرانها ومعابدها، تاريخ عريق وحضارة زي اللغز، كل دا علشان يتفهم محتاج أكبر علماء الآثار والتاريخ علشان يفهموه ويوضحوه للعالم، بس لما شوفتك أنتِ اعتبرتك جمال مصر، أنتِ الإسقاط الوحيد قبلت أقارنه بالجمال المصري، علشان كدا أنتِ شبه مصر يا “قـمر”.
كان يحدث ميتة أو أقرب في وصفها لمن أصبحت ضمن عداد الموتى، لم تكن تتخيل أن تلك المشاهدة الخيالية التي تراها في أفلام ومسلسلات القتلى المُتسلسلين تراها بأم عينيها؛ بل وتُعايشها في الواقع، لذا التزمت الصمت، مثل هذا المخبول لن ينل حتى شرف سماع صوتها والنظر له بعينيها، حينها أخفت وجهها عنه تكتم عبراتها وتقتضي بنساء الإسلام في صبرهن وفي سريرتها كانت تُردد:
_”قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا”
هكذا كان عقابه منها كما ظن هو..
فهي تحرمه من قربها بل ومُطالعة الضوء بعينيها، كانت غسقًا يجذب الأنظار فَتُسلب به العقول، لذا أدرك أن هي تُعاقبه والعقاب منها أشد وجعًا من آلام جسده المُتفرقة بسبب تلك الضربات التي استقرت إثر ضربات “إيـهاب” له..
ولج الغرفة الأخرىٰ وجلس بها ثم سحب من جواره من الطاولة الصغيرة حبة من المواد المُخدرة، ظل يُقلبها هكذا بين أنامله كأنه خبيرٌ بالمواد الكيميائية وحينها زاد الوغز والألم في جسده، فرماها داخل فمه كي تنطلق لجوفه مباشرةً فتُسكن آلامه وألم جسده وحينها ارتخت عضلاته المُتشنجة وجلس فوق الأريكة بأعصابٍ مرتخية، كان كما وصفوا في السابق أن طاهي السم يتذوقه، وها هو يتذوق سُمًا صنعه بيديه وأعطاه للشباب ودمر به عقولهم كي تصبح كما الصلصال يسهل عليه تشكيله بأي نمطٍ أراد، ولتوهِ غرق في التفكير وصورة تلك الـ “قـمر” لم تبرح خياله قط..
بينما هي في الداخل فكانت تتعجب من صمتها وصبرها..
تعجبت من قدرتها على ابتلاع تلك الكارثة بل الجلوس بهذا الهدوء تواسيها فقط الدمعات الساخنة، كأن نيران القلب أججتها فباتت بتلك السخونة، كانت ترجو ربها أن يفك كربها، ترجوه بصمت اللسان وكثرة الحديث من القلب المكلوم..
ظلت تدعوه وترجوه وما إن طال الرجاء وشعرت حينها بفاجعتها بكت بحرقة وهي تقول بصوتٍ مسموعٍ متقطعٍ:
_ربي إني فوضتك أمري، فأرجوك أن تنظر لي بعين الرحمة،
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين…
وكانت تلك هي نهاية الحديث منها..
قالت أبلغ ما يُقال في وضعها حيثما فوضت أمرها لربها، ولا شك أن يقينها كان هو السبب الأكبر في صبرها على هذا البلاء، لذا وكلته في أمرها ومصابها وأصبح الأمل فقط في رحمة الخالق وحده بها وبقلة حيلتها..
____________________________________
<“فعلنا ما يراه العالم خاطئًا لكننا نراه صحيحًا”>
لا يصح إلا الصحيح..
حتى ولو كل العالم يرى غير ذلك، فلا يصح إلا ما تراه عين القلب واجبًا ويحق فعله، فلو كانت كل الأفعال تسير بإرادة البشر ورغباتهم فما كان اختار فردٌ شيئًا طواعيةً منه وإنما كان فعل كل ما يُنقص من عقله ومروءة طباعه..
انشقع النور، بزغ الصباح من بعد فجرٍ، الناس انتشروا في الأرض بأكملها، الجميع بدأوا يسيرون خلف عجلة الحياة الروتينية باعتيادية شديدة تصب في قلوبهم الملل صبًا لكن لولا الواجبات لما كانت الحقوق رُدت لأهلها، وأثناء هذا الروتين كان الخبر انتشر في حارة العطار بأكملها، الجميع علموا بأمر القمر الغائب عن سمائهم، والقلوب زادت لوعةً وقهرًا..
كانت “غالية” تبكي وتصرخ ويرتفع صوت عويلها، وتتضامن معها “أسماء” التي انفطر قلبها على صغيرتها، ودب الرعب في قلب “ضُـحى” وظلت تبكي لأجل أختها، و”عُـدي” يقطع المسافات منذ الفجر ركضًا ذهابًا وإيابًا ثم يعود محمل بالخيبات خلف ظهره المحني، أما “فـضل” فكان يركض بهلعٍ في زوايا المنطقة من أقصاها لطرفيها ثم يعود معبء الجوف بالعلقم المرير..
الحال كان مُحزنًا يشبه صباح سقوط غرناطة والأندلس على يد الصليبين، كان اليوم مليئًا بالهزائم كصباحٍ استيقظ فيه العالم على سقوط الأندلس واختفاء أكبر أثر للعرب والمسلمين من خارطة العالم..
بينما في وكالة “العطار”..
كان “عبدالقادر” يجلس مهزومًا وهزيمته أشبه بهزيمة سابقة عاشها في الماضي يوم أن رحل عن عالمه أخوه “مصطفى” واختفى عن عالمهم “يـوسف”، لكن اليوم الهزيمة تصيب قلب ابنه الذي من المؤكد أنه لأجلها سوف يُلقي بنفسه في النيران فقط لأجل إيجادها سالمةً بكل خيرٍ، ولج له “أيـهم” وخلفه “بـيشوي” وعلامات الإرهاق كانت مرسومة فوق ملمح وجهيهما فرفع “عبدالقادر” عينيه نحوهما وهمهم سائلًا عن النتيجة، فكانت النتيجة الخزي بالعينين والصمت باللسان..
حينها ضرب بعصاه فوق الأرض ثم هب منتفضًا وقال بصرامةٍ:
_قولتلك إنك غلطت يا “أيـهم” وغلطتك كبيرة، أنتَ عارف من نص الليل وبتدور وجاي تعرفنا الصبح؟ أكيد مش هتلاقيها، دي بقالها ٢٤ ساعة ملهاش أثر وأخوك ربنا يسترها عليه بقى، أديني قاعد حاطط أيدي على قلبي من وجعي عليهم كلهم.
وقف أمامه “أيـهم” يقول بصوتٍ عالٍ أعرب عن نفاذ صبره:
_وهو إيه الغلط اللي أنا عملته؟ مش فاهم يا بابا، أنا مقصرتش واللي عملته كان الصح علشان محدش يقلق ويتخض بزيادة، أديك شايف حالة أمها وعيلتها، ولا “أيـوب” نفسه اللي محدش عارف يوصله ولا عارف أثر ليه، كان إيه الحل غير اللي عملته؟ دلوقتي أنا اللي يهمني أعرف “أيـوب” راح فين هو و “يـوسف” خايف يكونوا بيعملوا مصيبة توديهم في داهية.
جلس “عبدالقادر” من جديد وهو يُنكس رأسه للأسفل والنيران في قلبه تحرق ألف مدينة ظالمة، جلس والهزيمة ترتمي بثقلٍ على كتفيهِ حتى انحنى ظهره للأمام بعجزٍ كأنه كبر أضعاف عمره بين ليلةٍ وضُحاها..
أما في الأعلى فكانت “عـهد” تقوم بدور الراعي لتلك العائلة وهي تحاول الوصول لزوجها عبر الهاتف خاصةً حينما أخبرها “جـواد” بأمر رحيله المفاجيء بتلك الصورة، والكارثة الأكبر هي اختفاء “قـمر” التي تمثل له نصف الروح، الجزء الثاني من العقل، السبب الأول لاستمرار نبضات القلب، الهدف في استمرار حياته رغم كآبة ليلها ووحشة دربها، أما اليوم فمن المؤكد أن الوحش الكامن فيه سوف يخرج ويدمر المدينة؛ بل ويحرقها بأكملها..
____________________________________
<“لأنكِ مني ومن قلبي، قلبي بأكمله لكِ أنتِ”>
إن الذكرى مؤرقة لمن كانت ذكراه حياة..
فالذكريات ما إن تذبل كما الورود يصبح أثرها أشواكًا في القلب، وإن الذكريات لا تُصيب الإنسان في مقتلٍ إلا إذا كانت تصل لقلبه وتتمركز به، فهل يُؤلَم الإنسان إلا مما يُحب؟ هل توجعه فاجعة الفقد بقدر ما كان يؤلمه أن المفقود هو النصف الآخر من الروح..؟
كانت السيارة تشق طريقها للعودة إلى القاهرة، طريقٌ طويلٌ السيارة فوقه تطير ولم تكتفِ فقط بالسير، كان “أيـوب” يتولى مهمة قيادتها وبجواره “يـوسف” الذي كان يمسك هاتفه ويتابع فيه الأخبار الأخيرة عن شقيقته، وفي كل مرةٍ يتأكد كم عدم ظهورها؛ كان يشعر كأن النيران تمسك بقلبه وتتأجج فتصعد نيرانه للعقل وتتصدع الجمجمة بكسورٍ لن تلتئم وتترك جروحًا لن تبرأ مهما حدث..
عاد بذاكرته للخلف حيث ذكرى أرقت هدوئه حينما ترك الهاتف وضم كفه بقبضةٍ قوية يضغط بها على كفه بأظافره الحادة، كانت الذكرى تخصها حينما كانت تجلس أسفل الأريكة وهو فوقها يقوم بصنع السُنبلة في خصلاتها الطويلة وهي تضحك كما طفلة صغيرة بعدما انتصرت عليه في فعل ما ترغب هي، كاد أن يتذمر لكنه مال عليها يهمس بحنقٍ:
_بقى أنا سايب مراتي لوحدها في البيت وقاعد هنا أسرحلك شعرك؟ ياريتني ما عديت على هنا، بت قومي روحي لجوزك.
التفت هي له حينها تُراقص حاجبيها بشقاوةٍ ثم قالت برفعة أنفٍ وتعالٍ مفتعل منها له:
_على فكرة فدايا وبراحتي، بعدين جوزي في مركز الصيانة وهيرجع متأخر، بعدين براحتي، أعمل اللي يعجبني، هو أنا هشحتك يعني؟ روح أنتَ يا أخويا للعسولة بتاعتك وأنا هكمل.
وقتها ضحك رغمًا عنه ثم أكمل ما يفعله وما إن انتهى اقترب يُلثم قمة رأسها ثم مسح فوق خصلاتها وهو يقول بصوتٍ هاديءٍ وملامح وجه باسمة:
_أعملي اللي بهواكِ كله وأنا علشان خاطرك أعمل اللي يرضيكِ.
كانت تبتسم بسعادةٍ ثم وقفت واقتربت تجلس بجواره وهي تقول بنفس السعادة البادية فوق ملامحها المنبسطة:
_عارف؟ أنا لو في النار وكل الناس خايفة عليا، أنا هكون متطمنة علشان متأكدة إنك معايا وفي ضهري مهما حصل، عارفة إني بتقل عليك كتير وبتدلع برخامة، بس أنا ماليش غيرك أحس معاه باللي ضاع مني، بحس إن الدنيا أمان بوجودك معايا، قوم روح لمراتك وأنا هقولها إنك كنت معايا هنا.
ابتسم لها بعينيه أولًا..
ثم ابتسم بشفتيه تزامنًا له مع سحبها داخل حضنه فجعل رأسها يتوسد صدره ثم تنهد بقوةٍ وقال بحنوٍ بالغٍ:
_أنا كلمتها وقولتلها إني معاكِ وهي موافقة، بعدين مالك هتقلبي القاعدة غم ليه هي ناقصة سواد؟ عدي يومك كدا ومشي ليلتك، بعدين مني غير نكد وحزن أنا علشانك أرمي نفسي في النار يا “قـمر” مش بس أعملك حاجة نفسك فيها، المهم متحرمش من الضحكة الحلوة دي.
أشار بجانب فمها نحو الحُفرة العميقة بخدها فضحكت هي ضحكة واسعة ثم ألقت رأسها فوق صدره وتشبثت به وقالت بصوتٍ خافتٍ وصله حينما مال برأسه نحوها أكثر:
_ربنا ميحرمنيش منك يا “يـوسف” وتفضل في ضهري دايمًا، أنا بحبك أوي ليه كدا؟ وليه أنتَ بالذات بكون قدامه كدا؟ ما تتبناني أعيش عندك ومش هعمل صوت، وهات “أيـوب” معايا ومش هيعمل صوت.
نزل بعينيه لها يرمقها بسخطٍ ثم تهكم بالقول:
_كدا أنا اللي هعمل صوت، وصوت يزعلك.
ألقى جملته فوجدها تضحك بصوتٍ عالٍ فضحك معها وكأنها وحدها من تستطع ترويض الوحش بداخله، كان كلما شعر بالقبح في نفسه يعود لها هي، كلما تكالبت عليه الحياة بكوارثها عاد لها هي وحدها لتهذب له نفسه وتُعيد لها برائتها، لذا حينما خرج من شروده داهتمه نوبة، نوبة غضبٍ لم ترحمه بينما عصفت برأسه وجعلته في مواجهة الألم وحده، كاد أن يصرخ ويبكي ويرفع صوته؛ لكن عوضًا عن كل ذلك فقد الوعي بكل شيءٍ حوله وهو في السيارة حتى أن رأسه ارتمى للخلف..
كان يعاني من جحوظٍ في العينين، تعرق في الوجه بأكمله، تندى جبينه وزادت ضرباته قوةً، زادت الأصوات في عقله وبدأ كل شيءٍ حوله يتحول تدريجيًا لما يُشبه طنين البحر وصوت الأمواج العاتية حينما تضرب رأسك فتصيب أذنك بعاصفةٍ عاتية..
انتبه له “إيـهاب” أولًا فاندفع للأمام يتفحصه ثم صرخ به بملء صوته وهو يُدلك له موضع نبضه، بينما “أيـوب” فانتبه له حينما وجد “إيـهاب” يحاول معه كي يستفيق من تلك النوبة، فما كان أمام “أيـوب” إلا أن يصف السيارة بمنتصف الطريق ثم مال على رفيقه يضغط بأظافره في كفه بين لحم أنامله وأظافره، حتى عاد “يـوسف” لوعيه لاهثًا بصوتٍ متقطعٍ وأنفاس قد تبدو مسلوبة كأنه ركض خلف أحلامه ولم يصل بها..
عاد لوعيه يطالع المكان حوله بعينين جاحظتين ثم ارتمى على المقعد وتحدث بصوتٍ واهٍ بالكاد يُسمع كأنه أقرب للهمس:
_أطلع يا “أيـوب”..
لم يجد الاستجابة الفورية لحديثه فهدر بصراخٍ:
_قـولت أطـلع..!!.
عاد “أيـوب” للقيادة المتهورة من جديد كأنه ولج في تحدٍ سافرٍ مع الطريق أسفل إطارات سيارته، كان قد حصل على المكان من فم “سـامي” بأعجوبةٍ فقرر أن يذهب كي يلحق زوجته، والخالق وحده يعلم كيف مرت الساعات التالية عليه وكيف قطع الطريق حتى أوقف السيارة عند تلك “العوامة” المذكورة بالعنوة والغصب، لذا ترجل من السيارة راكضًا نحو المكان بهرولةٍ قطعت أنفاسه، وخلفه سار الاثنان بنفس الخطوات الواسعة، وما إن وصل وجد الباب مفتوحًا والمكان فارغًا..!!
طاف بعينيه في المكان وجاب بنظراته في الزوايا وكل شبرٍ ثم ركض للداخل يصرخ باسمها، كان يهرول بين الغرف ويسير بتيهٍ على عماه، كان قلبه يأكله من خوفه عليها، لذا بدون تعقل وبغير فهمٍ أو إدراكٍ غادر المكان ثم اقترب من سيارته يفتح حقيبتها، وفي طرفة عينٍ أخرج “سـامي” من السيارة بحركةٍ خاطفة ثم وضع رأسه عند مؤخرة السيارة يضغط عليها وهدر بصراخٍ:
_أقسم بربي اللي مش هحلف بيه كدب، لو ما نطقت وقولت مراتي راحت فين هي والزفت اللي مشغلك لأكون مطفحك تراب الحارة كلها، أنـطق ومتراهنش على صبري كتير، راح بيها فين؟.
حاول “سـامي” أن يتحدث فخرجت همهمات كلماته بقوله:
_معـ…معرفش، معرفش وغلاوة أمي.
ابتسم “أيـوب” بسخريةٍ تزامنًا مع خروج الاثنين وقال بتهكمٍ وهو يضغط فوق ذراع “سـامي” الذي كُسِرَ في يديه بسبب عنفه معه:
_طب أحلف بحاجة عليها القيمة وتتصدق.
ما إن أنهى سخريته ارتفعت صرخات “سـامي” بسبب ألم ذراعه، بينما “يـوسف” فزادت النيران في صدره بسبب فعل “سـامي” وغدره بهم، فانقض عليه يخطفه من يد “أيـوب” ثم قال بانفعالٍ وغضبٍ أعمى:
_لو بتلاعبنا علشان تأخرنا وتعطلنا أنا هسلمك دلوقتي بتهمة النصب والتحايل، ومش بس كدا، أنا قبل ما أسلمك هفضحك فضيحة بجلاجل تخليك تتكسف ترفع عينك في حد بعد كدا، أنطق هو غار بيها فين؟ ومن غير ما تكدب علشان مفصلش روحك عن جسمك.
_معرفش، صدقني معرفش، هو خلاني مشيت وسيبت العوامة هنا علشان محدش يعرف طريقه عن طريقي أنا، ولما مشيت فيه واحد من رجالته كنت ملاغيه يعرفني بيحصل إيه في غيابي، وساعتها قالي إنه خطف بنت اسمها “قـمر” وعاوز يعملها حفلة تشريف يليق بيها، وبس دا كل اللي أعرفه.
توسعت الأعين وسقطت الأفواه وعُميت الأعين بل وغُشيت العقول ولم يدرك أيًا منهم فادحة القول، أما “أيـوب” فكان رد فعله في قمة الغضب والإندفاع حينما ضرب بقبضته سطح السيارة فتجعد كأنها صدمة قوية مع جدارٍ وليست مجرد قبضة فقط..
ومن جديد تلاحقهم الخيبة واليأس يُزين لهم الطريق..
كان “يـوسف” تائهًا وحائرًا، و”أيـوب” عنيفًا وغاضبًا، و”إيـهاب” بينهما يحاول أن ينتهج الرشد ويتخذ منه سبيلًا في أي فعلٍ يفعله قبل أن يحدث ما لم يُحمد عقباه، وتلك المرة حقًا أُرهِقت الخيول ورُبما خسرت المعركة بأكملها، تلك المرة زاد الحمل فوق الخيل فلم يعد مالكًا زمام أمره كما السابق…
لذا وإن هُزم وخسر تلك الجولة لن يجد من يلومه،
فما جُرم الخيل إن كانت حربه غير شريفة؛ فزاد عليه الحمل؟..
____________________________________
<“أضعنا تاريخًا كان دليلًا للأحرار من بعدنا”>
ويح المرء لو وقف أمام نفسه خاسرًا ما كان له ربحًا..
فالمرء تجده مضياعًا للحياة ماسكًا بيديه في حبال الموت كأنه في هواه أهتوىٰ، فبيديه يُضيع تاريخًا كان الكون له فسيحًا، فأصبح في زواياه يتحسر باكيًا،
كان تاريخه مجدًا عظيمًا فأصبح،
وبنفسه واراه خلف التراب وجلس بجانبه نادمًا..
لقاء أشبه بلقاء السحاب..
القاتل مع الساحر في لقاءٍ يجعل الأعين مُتأهبة للقاء المزيد بعد، مجرد رسالة واحدة بتهديدٍ من الساحر وصفا للقاتل جعلته يترك كل شيءٍ في يديه ويركض مهرولًا للقاءٍ أصبح يريده بقدر ما كان يكرهه ويبغضه، لذا كان يقف كما الفرخ المُبتل في ليلةٍ ماطرة بوابلٍ من السيول، وقف في انتظار سالب عمره وراحة باله والمقطع التصويري الخاص بواحدةٍ من جرائمه يتكرر أمام عينيه..
وبقرب منطقة الأهرامات التي ظهرت قمتها بجوار الاثنين فشكلت صورة حضارية ضمت الماضي بعراقته والحاضر بوضاعته في نفس اللوحة، وحينها اقترب “ماكسيم” بخطى وئيدة من “مُـنذر” الذي تصنع الثبات وهو يسأله بجمودٍ:
_لخص وأرمي اللي عندك، عاوز إيه؟.
ضحك “ماكسيم” بسخريةٍ على طريقة الآخر معه ثم رد عليه:
_بقيت شقي وقليل الأدب أوي، أنا علمتك تكلم الأكبر منك كدا؟.
_للأسف تربيتك كانت تربية وسخة، أخلص قاصدك إيه بالفيديو؟.
ظهرت إمارات الاستمتاع على وجه “ماكسيم” وهو يقترب منه أكثر ثم سحب نفسًا عميقًا وقال ببرودٍ كأنه حقًا يملك الحق فيما يفعل ويقول:
_حلين مالهمش تالت معاك، يا أسلِم الحاجات دي ويتم القبض عليك هنا بما إنك قاتل وليك جرايم كتيرة هنا منها مدير الدار اللي لسه قضيته محفوظة وبمجرد مطابقة سلاحك بالرصاصة اللي دخلت جسمه هتتعرف بسهولة، وعلى فكرة، تقرير الطب الشرعي اثبت إن القاتل كان بيستخدم أيده الشمال، ومين غيرك أشول وهو بيقتل؟..
توسعت عينا “مُـنذر” واشتدت قبضته بكفه بينما “ماكسيم” فابتسم بسعادةٍ أكبر ثم أضاف بمزيدٍ من التشويق والاستمتاع:
_يا إما يا سيدي تسمع كلامي في اللي هقولك عليه، ونصيحة مني ليك بما إني بعتبرك ابني، أنتَ في كل الحالات خسران، كدا كدا أنتَ ميت يا “مُـنذر” مسيرك تتقتل، يبقى تسمع كلامي وتلحق نفسك، علشان أنا هنا لو جرالي حاجة، عيلتي واللي ورايا مش هيسموا على حد، وأنتَ وحبايبك هتروحوا في الرجلين، أظن أنتَ بقيت إنسان وليك ناس وعيلة وزوجة وناس بتحبك، تحب بقى تخليك هنا وتخسرهم كلهم؟ ولا تحكم عقلك شوية؟..
طالعه الآخر بعينين مُتقدتين بنيرانٍ متأججة والدفع يهدده بقوله:
_وربي لو قربت من حد فيهم لأكون قـ…
_مش هتقدر، روحك بقت في أيدي، قولي هتعمل إيه أنتَ؟ ولا أي حاجة، لو فيديو واحد بس ليك خرج ولا حتى ملفك حد شافه أنتَ يا هتتعدم هنا في أرضك اللي بقيت بتحارب علشانها، يا هتترمي طول عمرك في السجون برة وكل دولة ليها عندك حق هتطلب تسليمك بما إنك مجرم وهربان من العدالة، اختار بقى روحك أنتَ ولا روحهم هما؟ “مُـحي” وربنا كرمه ولسه فيه النفس، و”تَـيام” وربنا كرمه بعمر جديد لما أخوه فداه بروحه، الدور الجاي على مين؟ فكر براحتك بس أديك شايف أخواتك في غزة بيحصل فيهم إيه والكل بيتفرج، العالم ظالم مبينصفش ضعفاء، كله بينصف نفسه وبس وقت ما المصلحة بتحكم…
قبل أن يُكمل “مُـنذر” حديثه كات “ماكسيم” قاطعه بهذا الحديث السابق الذي جعله يقف متذكرًا صوت الصرخات والعويل والرشقات النارية وهي تصيب خيام الضعفاء، كانت الأصوات تتردد في سمعه والمشاهد تتكرر في عينيه، قضية “غـزة” لم تك تبرح خياله حتى ينساها، لكن ما إن تستمع للحقيقة من فم ضبعٍ جريءٍ أمام أسدٍ ضعيف الطبع، فبالطبع جُرأة الضبع ستجبرك على الصمت أو الخضوع..
لذا تنهد “مُـنذر” بقوةٍ ثم سأله بإيجازٍ:
_فين “قـمر” مرات “أيـوب”؟.
وببسمةٍ مراوغة جاء الرد من الآخر:
_مالكش دعوة بقى، هتبصلي في رزقي زي ما بيقولوا؟.
رمقه بنظرة احتقارٍ وبغضٍ فتجاوز عنها الآخر وقال:
_روح شوف ناوي تعمل إيه، بس مش هستنى كتير، لو مالقيتش رد منك، الدكتورة القمورة هتيجي جنب أختها، وساعتها وريني تقدر تعمل إيه، وخليك فاكر إن روحك دلوقتي في أيدي.
انقبض قلبه، زاغ بصره، أجبر على الخضوع والذُل، كل شيءٍ أنقلب فوق رأسه رأسًا على عقبٍ كأن المدينة بأكملها تبحث عنه بتهمة السرقة، وقف بمكانه يحاول البحث عن حلٍ غير هذا الحل الوضيع الذي يجبره عليه “ماكسيم” لكن كل الأبواب كانت موصدة في وجهه، لذا تابع إنسحاب “ماكسيم” من أمام عينيه بصمتٍ وظل يفكر أي النارين يختار؟ أيختار نارًا تحرقه وحده؟ أم يختار نارًا تحرق الجميع ولو كانوا أحياءً؟ وقف في أرضه خائفًا أمام تجبر معتدٍ على أوطانٍ حُرة، فأخفض رأسه ذليلًا بقهرٍ وظلت خلفه الأهرامات مرفوعة قمتها بشموخٍ..
وقف بخزيٍ مع نفسه كأنه مجبورٌ أن يخضع لذل الاحتلال دون أن يُدافع عن نفسه وأرضه، كان فاقدًا لمروءة طباعه وجُرأته وكل ما قد يفعله، عاد ماضيه وتعدى على حاضره كي يُدمر له المستقبل الذي ظنه سيحلو له، لذا تلك اللحظة كانت أشد قتلًا على نفسه من أقوى رصاصة بالعالم،
فما أصعب أن يُختبر المرء في طباعه وأخلاقه؟..
____________________________________
<“تلك المرة الهزيمة كانت مُتجهة لروحي”>
وهل يُبتلى المرء إلا فيما يُحب؟..
لكن تلك المرة كان الابتلاء أكبر مني، أقوى من قوة تحملي، كانت الهزيمة ساحقةً لي ولروحي، ابتليت في فقد عزيزٍ وآهٍ من فقد الأعزاء، كنت أرغب في الصراخ لكن فمي كان مُكممًا، رغبت في البكاء فوجدت عيني فارغة، أردت الارتكان فوق جدارٍ فوجدتني أنا الجدار الذي يتكيء عليه الجميع،
أردت أن أنام، فوجدت النوم يهجرني..
في حارة العطار..
عاد “أيـوب” خاوي الوفاض خاسرًا كل شيءٍ، هزيمته باتت ساحقةً وهو يرجع للحارة بدون قمره، السماء فارغة وألوانها باهتة وكل شيءٍ فقد لونه وحياته في عينيه، خرج من السيارة وولج المسجد، ولج لمكان راحته يظهر ذله لرب العالمين، ركع على رُكبتيه باكيًا يحدث ربه عن فقد حيلته، أصبح لا حول له ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، شكى ضعفه وقلة حيلته وهوانه على الناس، لأول مرةٍ يستثقل الحمل بتلك الطريقة عليه حتى كاد أن يفقد صوابه..
ولج خلفه “يـوسف” فوجده في المحراب يُناجي ربه مُتضرعًا ومُطالبًا بعودة زوجته له، جلس بجواره “يـوسف” بصمتٍ وما إن شعر به الآخر مسح عبراته ثم هرب من لقاء المُقل ببعضها، فمسح فوق ظهره “يـوسف” وهو يقول بحنوٍ وهدوءٍ:
_المرة دي بالذات مش هينفع أنتَ تميل وتقع، أنا صالب عودي علشان عارف إنك موجود، أبوس إيدك يا أخي أصلب طولك متحسسنيش إني عاجز، المرة دي مش هينفع أكون لوحدي، لو هي تخصني قيراط، تخصك أربعة وعشرين قيراط، مش هينفع.
أغمض “أيـوب” جفونه ثم ارتكن على العامود الخلفي وقال بصوتٍ مبحوحٍ بعدما ملأ اليأس قلبه رغم قوة إيمانه، كأن شيطانه غلبه في لحظة ضعفٍ:
_ يا أخي طلعت صعبة أوي، ماكنتش أعرف إن كل ما العمر يجري بيا هنا هعيش في التعب دا كله، ليه كل حاجة صعبة عليا كدا؟ أنا عمري ما رضيت بالظلم لحد، وعمري ما آذيت حد، حتى هي طيبة أوي، طيبة وغلبان وعمرها ما زعلت حد، يا ترى هي عاملة إيه؟ هي بتخاف أوي، بتخاف من كل حاجة، وأنا وعدتها معايا تفضل في أمان، طلعت مش قد وعدي ولا كلمتي، وقاعد حاطط أيدي على خدي، أجيبها منين ومين يبرد ناري؟..
بكى بعد أن أنهى حديثه، هذا الذي لم يجد شيئًا يُبكيه طوال عمره، اليوم يبكي بسبب الحب، بكى بلوعة الفراق والقهر على الغياب، كان يجلس مهزومًا فاقد الحيل بأكملها ولم يواسيه سوى كتف “يـوسف” حينما خطف رأسه وألقاه فوق كتفه وظل كلاهما يُشدد أزر الآخر، ترك “أيـوب” نفسه لتلك اللحظة وظل متشبثًا بذراعي “يـوسف” الذي آن له الوقت أن يصبح هو الجدار لرفيقه كي يرتكن عليه عند مصابه..
____________________________________
<“ترك الفارس الحرب ورمى سيفه، لعله يجد نفسه”>
لم تكن مجرد حرب عابرة ونتيجتها كانت الهزيمة..
وإنما كانت حربًا قاسية، حرب هُزِم فيها البطل أمام الجُبناء، حرب ترك فيها الفارس المعركة بأكملها وغادرها،
حرب ظل أثرها محفورًا في العقل والقلب وكأنه لا يُنسىٰ..
في منطقة نزلة السمان كان الخبر انتشر، حينها ترك “إسماعيل” المشفى وتحرك نحو أماكن العمل التي وقعت في يد “بـاسم” فأصبح هو يدير الكافة وحده، وما إن ذهب له اعتذر منه بقوله اليائس:
_حقك علينا بس أنتَ عارف اللي فيها، “مُـحي” لسه لحد دلوقتي مفاقش و”إيـهاب” تايه مع “يـوسف” وزادت وغطت بخطف “قـمر” الدنيا بايظة معانا كلنا وحياتنا خربانة يا “باسم”.
عذره الآخر وفهم سبب الحديث لذا قال يتضامن معه:
_من غير ما تقول حاجة، أنا عارف اللي فيها بس معرفش حوار خطف “قـمر” دا، المهم أديني بس المفاتيح اللي أنا محتاجها وروح أقف معاهم وأبقى طمني، ومتقلقش “عزيز” معايا هنا مش سايبني ولو عطلت بروحله هو.
ربت “إسماعيل” فوق كتفه ثم وقف معه يناوله المفاتيح الخاصة بشؤون العمل وقد دار بينهما الحديث سويًا ثم شكره “إسماعيل” وعاد للمشفى من جديد كي يقف بمحاذاة “نَـعيم” الذي لم يبرح المشفى ولو لسويعات قليلة، بينما “بـاسم” فشعر بحجم الكارثة وفداحة الموقف، لذا جلس من جديد فوق المقعد ثم أخرج حافظة نقوده وفتحها ليرى صورة “حمزة” معه بحفل التخرج الخاص بهما من كلية الإعلام، ابتسم بشجنٍ وعاد للماضي يتذكر أيام الصبا والشباب؛ فأرقت الذكرى مضجعه وضربته بسيفٍ باترٍ في قلبه لذا قام بقلب الصورة وقرأ المكتوب خلفها بخط يده:
_ما هو مات ما بین إيديّ ولسه في حضني أنا مخبیه
لو كان فهم كلامي لو كان لصوتي سمع
لو كان عرف إن كل نقطة فيّ دموع ووجع
على فارس واللي قبله واللي هیروحوا بعدیه
على أحلام غرقت وراحت جوة البحر اللي مداریه
لو بس حس عذاب غیابه اللي سایبنا فیه
أو لو بس قرا جواب نبیل اللي كتبه لیه..
_أنا مش بلومك أنا ولا بلوم البحر
بس اللي باقي لنا منك حزن وألم وقهر
كان نفسي تشوف ولادي كان نفسي أشوف ولادك
كان نفسي ربي یجعل معادي قبل معادك
كان نفسي ولسه نفسي أشوفك تاني عن قریب
ونفسي ماشُفش فارس تاني عن صحابه یغیب..
الحاضر ذكره بالماضي وبالفقيد، غياب “مُـحي” عن الوعي ولوعة “يـوسف” ونيران “أيـوب” وحرقة قلب “إيـهاب” على شقيقه جميعهم ذكروه بالفقيد الراحل في سبيل الحرية، تألم قلبه وشعر أن نيران الثأر تأججت فيه، ففي قلب الأحرار لن تجد عليهم أصعب من السجن والأسرِ، وهو الآن يرى كرب الأحرار وأسر المناضلين، جميعهم صورة واحدة لوطنٍ حُرًا والشباب له أسمى العناوين..
في المشفى بغرفة “مُـحي” بدأ يستفيق حينما تراقصت المُقل خلف الجفون وبدأ يتنفس حتى ظهر رزاز تنفسه في القناع الطبي، بدأ يهمهم بصوتٍ بالكاد يُسمع وقد لاحظته الممرضة فضغطت فوق الزر تستدعي الطبيب الذي ولج لها مسرعًا فلاحظ استفاقة “مُـحي” وحينها بدأ يقوم بالرعاية الطبية له، وما إن لاحظ استقرار الحالة ابتسم وأخبر الممرضة بهذا الخبر، فخرجت مهرولةً لهم تزفه لهم الخبر السعيد فانتفض “نَـعيم” و “تَـيام” سويًا وقبل أن يركضا نحو الغرفة خرج لهم الطبيب يوقفهما ثم أضاف بعمليةٍ طاغية:
_للأسف مش هينفع حد فيكم يدخل، نتأكد بس إن الحالة استقرت ومفيش تباعيات تانية وأنا بنفسي هسمح بالدخول، بس حاليًا مش هينفع، أهم حاجة أطمنوا هو حاليًا بخير ولسه هنتطمن أكتر خلال الساعات الجاية.
ظهرت همهمات الحمد والشكر بينما “تَـيام” فسجد فوق الأرض يحمد ربه ويشكره على سلامة نصف الروح الثاني منه، كان منحنيًا أسفل الاقدام تعظيمًا وإجلالًا لربه القادر على كل شيءٍ، ظل يحمده ويشكره ثم هب منتفضًا يحتضن والده باكيًا بصوتٍ مكتومٍ، بينما “نَـعيم” فكان يكتم سيل عبراته وهو يحتضن ابنه الأول وفي انتظار اكتمال العناق باحتضان النصف الثاني منه
أما “جـنة” فبكت فرحًا وارتمت في عناق أبيها الذي ضمها له بقوةٍ وظلت تكرر ببكاءٍ:
_الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، الحمدلله يا رب، الحمدلله على استجابة الدعاء، وسماع الضعفاء.
بدأ الليل يزيد عتمةً، الظلام حاوط المكان وبدأ اليأس يتسلل للقلوب، الليل زاد كآبةً، وأصبحت الأرواح مستوحشة، كل شيءٍ كان غريبًا ومُريبًا وأكثر صعوبةً من الانتظار، كانت الحارة مظلمة ولم يظهر في سماها قمرٌ، الجميع يسيرون يضربون الكفوف ببعضها في حالة إشفاقٍ وحزنٍ على الفتاة الغائبة، وكأنه الليل الأول من بعد سقوط غرناطة…
كان “أيـوب” بجوار شقيقه في قسم الشرطة يقدم البلاغ باختفاء زوجته بعدما يأس من المحاولات الكثيرة، ومعه كان “يـوسف” يجلس بصمتٍ مريبٍ ونظرة عينٍ مكسورة، قهر الرجال بدا جليًا عليهما سويًا وهما يجلسان هكذا، وفي الخارج كان “عُـدي” يصول ويجول بين الطرقات بحثًا عنها في كاميرات المحلات والشوارع وأي شيءٍ، لكن وبكل أسفٍ لم يجد شيئًا يجعله بمثابة طرف الخيط له، وها هو الليل ينقضي وهي لم تظهر قط..
في بيتٍ قديمٍ مهجورٍ كانت “قـمر” تجلس فوق الأرض ضامة رُكبتيها بكفيها الواهنين وهي تردد ما حفظته من كتاب الله جل جلاله، كانت تتصبر بقوة الإيمان وصبر النساء المؤمنات في الإسلام، نعم هي تخاف جلوسها هكذا لكنها أيضًا تثق في رب العالمين، لذا ما بين التضرع والدعاء وبين قراءة القرآن وتذكرة نفسها بعظمة الخالق، كانت تقطع السبل هكذا كي توصد في وجه اليأس كل الأبواب قبل أن يطل قلبها…
فجأةً فُتِح الباب عليها فانتفضت وتلقائيًا رفعت كفيها تضبط حجاب رأسها، بينما “ماكسيم” فوقع تحت أثر المخدر الذي تناوله، تناول حبوب مفعمة بمادة “الدوبامين” المحفز للخلايا الدماغية، تغيب عقله وسار معميًا خلف شهواته، ونظرًا لما يعانيه من آلامٍ فهو لم يشعر بشيءٍ؛ لطالما كان تحت أثر المخدرات، لذا أغلق الباب بقوةٍ وما إن تراجعت هي للخلف زاحفةً اصطدمت بظهر الفراش فصرخت بخوفٍ..
بينما هو فكان في غاية الانتشاء، حورية ساحرة كما وصفها تجلس كما الفريسة، وغرفة فرعونية مُزينة بتاريخ الحضارة المصرية بأكملها، كان يجمع كل شيءٍ يحبه في مكانٍ واحدٍ، والآن هو لا يهمه سوى متعته فقط، لذا انقض فوق “قـمر” التي صرخت وحاولت بملء إرادتها أن تبعده عنها وصراخها يعلو ليلًا وهي تستغيث، لكن وبكل أسفٍ الأذن لم تكن صاغية والصفعات تسقط فوق وجهها تباعًا كي يُخرسها..
كانت تصرخ ومع كل صرخة تُسرد حكايا كثيرة، ولوجه يشبه ولوج العدو الإسرائيلي للأراضي الطاهرة المُقدسة ومن ثم يعتدي على مواطنيها أصحاب الأرض، ويستبيحون حُرمة نسائها، كانت تصرخ وكل صرخة منها تعبر عن قهر وطنٍ سُرق ماضيه وبُيعت حضارته وسُجِن شبابه، تصرخ وفي الخلف يعلو صراخ الأطفال مذعورين بصوت الطلقات النارية وهي تقتحم غرفهم الآمنة فينتهي بهم المصير في الخيام، تصرخ هي مستغيثة وفي الخلف يعلو صراخ النساء المعتقلات في بقاع الأراضي العربية، هي تصرخ ومعها تصرخ الأمهات المكلومات على أبنائهن المناضلين، هي تصرخ وصراخ الأحرار يعلو وهم يحاولون الثبات في أرضهم قبل أن تهتز بالغزو..
هي تصرخ والأراضي المغتصبة تهتز لصرخاتها، تصرخ كي تجذب الأنظار نحوها فتجد الأعين تضع عصابة فوقها كي لا ترى، تصرخ كي يصل صوتها للناس فتجدهم يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يستمع أحدهم لصوتها، ترفع كفها وتلوح لمن هم على البر فتجد الجميع يخشى البلل بينما هي تغرق في عمق اليم، هي الجمال المغتصب من عيني الطامعين، هي حرية الأوطان المغلقة، هي الصراخ الهادر دون أن يُسمع، هي الصرخة العالية للبلد المغتصبة والمحتلة..
هي التي أعطاها من لا يملك لمن لا يستحق..
وها هي تصرخ بملء شدقها كي تجذب الأنظار وآخر ما استطاعت أن تصرخ به وهي تحاول أن تدفعه عنها وعن حرمة جسدها بعدما استباحه لنفسه:
_يـــا رب…يــا رب…
آخر ما استطاعت أن تتفوه به بعدما يأست من الخلاص والنجاة، بينما هو فلم يرغب في البعد عنها إلا بتحقيق ما يريد، لذا تجاهل صمتها وصمم على فعل ما رغب وحينها أدركت هي أن سبيل الخلاص بات مستحيلًا لها، لذا وقبل إتمام هذا الفعل المُشين شعرت بسقوط الضوء على وجهها بعدما أُزيح “ماكسيم” عن جسدها فجأةً، شُل جسدها وشُلِت حركتها، بينما مغيثها رفعها عن الأرض بين ذراعيه وهو يصفعها بخفةٍ ثم ظل يناديها مذعورًا بهلعٍ، فارقت جفونها بتعبٍ لتجد أمامها آخر من توقعت ظهوره، فهمهت بصوتٍ خافتٍ تستنكر هويته:
_نـ..”نـادر”..!!.
____________________________________
<“ياليت الرصاصة كانت أصابتني منك أولًا”>
في بعض الأحوال قد يتمنى المرء أن يقتله حبيبه..
يتمنى أن يفعلها ويصيب قلبه برصاصةٍ قبل أن يتسبب له في تلك المشاعر القاسية القاتلة، فياليت الرصاصة كانت أصابت قلبي قبل أن ينطق لسان عزيزٍ على قلبي بما تحدث به وتسبب في قتل قلبي بدلًا من المرة الواحدة مئات المرات،
فلو خُير الإنسان بين القتل بالكلام من لسان عزيزٍ وبين رصاصة من سلاحه، لأجزم أن الرصاصة من سلاحه أهون..
كانت تتجول في المناوبة الليلة الخاصة بها بين أروقة المشفى، أنهت الإشراف الخاص بها ثم خرجت تتوجه للحديقة تبحث عنه بعينيها، اختفى منذ منتصف النهار ولم تلمح له أثرًا، لذا جلست في الحديقة بشرودٍ وقد لمحت الضوء من غرفة مكتبه، فتنهدت حينما أيقنت أنه بها، لذا تركت موضعها تتجه نحو الغرفة، ولجتها باسمة الوجه فوجدتها فارغةً منه، حينها اقتربت من مكتبه فوجدت خطابًا مكتوب فوق ظهره اسمها..
ظنته خطابًا كما سابقه لذا خطفته بسرعةٍ كُبرى وبسمتها تلقائيًا تتحول لأخرى مليئة بالشجنِ، فتحت الخطاب فلمحت عبرة بمنتصف الورقة خالطت الحبر، لكنها صعدت بعينيها للأعلى تقرأ الخطاب، فوجدته كتب:
_المرة دي كلامي جاي من القلب، مش متذوق ومش هتلاقيه صعب، كلامي هيكون حقيقة مني، جايز حبيتك ومعرفتش الحب غير معاكِ، بس أنا الدنيا مبتحبنيش، يمكن ماكنتش أعرف يعني إيه حب بس لو أنا مش عاوز غيرك من الدنيا ومش عاوز غير بصة من عيونك ومش حابب قرب حد مني غيرك ولا حتى مآمن لحد على روحي غيرك، يبقى هو دا الحب وآه بحبك يا “فُـلة”، بس الحب في دنيتنا دي مش كفاية، فاكرة لما قولتلك إني لو هختار بين روحك وروحي يبقى هختار روحك أنتِ؟ أنا النهاردة اخترتك أنتِ، اخترت روحك بدل روحي، اخترت ليكِ الأحسن…
هنا كانت العبرة نزلت بالفعل تُزيل الحديث، فوقع قلبها من موضعه وهوىٰ كمن فرد ذراعيه كي يسقط في شلالٍ واسعٍ، سرقت بعض الجرأة كي تكمل الخطاب فوجدته أكمل بخطٍ أعرب عن ارتجافة يده:
_سامحيني يا “فُـلة” وياريت ماتنسينيش، وأنا عمري ما هقدر أنسى في يوم من الأيام أني ماحسيتش إني إنسان غير معاكِ أنتِ وبس، بس المرة دي أنا مجبور على إني اختار بيني وبينك والمرة دي أنا اخترت إنك تعيشي حرة، اللي جرب حياة العبودية زيي مش هيقدر يقبلها لحبايبه، يمكن دي آخر مرة أكلمك فيها وأقولك حاجة، بس دي أصعب مرة قتلت فيها حد، سامحيني يا أغلى حد في حياتي، وخليكِ متأكدة إني لو فيا الروح لسه أكيد هختار أني أموت بين أيديكِ، يمكن ربنا مكاتبش ليا الحياة معاكِ، بس أتمنى إن موتي يكون عندك أنتِ…
بكت وهي تقرأ الخطاب ونزلت للسطر الأخير تقرأ المكتوب:
_إلى مليحة الوجه، جميلة الروح، أكتب لكِ وداعي الأخير والأقسى من بين كل الوداعات..أنتِ طالق يا “فُـلة”..
توسعت عيناها وفرغ فاهها وهي تُطعن بكلماته في قلبها، كانت مشلولة عن الحراك والفعل وكل شيءٍ قد تفعله في تلك اللحظة، قرأت الخطاب مرة وثانية وثالثة وربما عاشرة وفي كل مرة كانت الطعنة تزداد قسوةً عليها، فأطلقت صرخة عالية تعبر عن قهرها وهي تسقط أرضًا على قدميها وتضم الخطاب كأنها في كابوسٍ لم تفق منه حتى باسيتقاظها من تلك النومة المشؤومة..
في مطار القاهرة الدولي..
كان يرتدي ثيابه السوداء وعلى ظهره حقيبة شبابية يرتديها بذراعٍ واحدٍ وهو يتجه نحو شرفة الختم على جوازات السفر، قبل أن يقترب أمسك صورتها معها في يده ثم ابتسم بحزنٍ تهكمي ووضعها في ظهر الحقيبة، ومن ثم اقترب من النافذة الزجاجية وحصل على ختم جواز السفر وبسمة مجاملة وحملة وداع:
_رحلة سعيدة يا فندم، اتفضل.
التقط جواز السفر بصمتٍ ثم ولى المكان الدبر وتوجه نحو مكان الطائرة، لآخر مرةٍ ألقى نظرة وداعٍ للبلاد والمكان والناس وكل شيءٍ ثم صورة الحبيبة المغدورة، ورحل، رحل تاركًا خلفه قلوب تحترق وأرواح تلتاع، وهو فقط أراد النجاة لنفسه من هلاك الطوفان..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)