رواية غوثهم الفصل المائة وتسعة وثمانون 189 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وتسعة وثمانون
رواية غوثهم البارت المائة وتسعة وثمانون

رواية غوثهم الحلقة المائة وتسعة وثمانون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل المائة وأربعة_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
“ومَاليَ غِيرُ بَابِ اللهِ بابٌ
وَلا مَولَى سِواهُ ولا حبِيبُ
كريمٌ منعمٌ برٌّ لطيفٌ
جَميلُ السِّترِ للدَّاعِي مُجيبُ
فيَا ملكَ المُلوكِ أقِلْ عثَاري
فإنِّي عَنكَ أنأتنِي الذُّنوبُ
إلهْي أنتَ تعلمُ كَيفَ حَالِي
فَهلْ يَا سيِّدي فَرجٌ قَريبُ”
_”النقشبندي”.
____________________________________
ياليت حكايتنا كانت تبدأ من النهاية ثم نلتقي عند البداية..
ياليتنا كنا معًا في نهاية الطريق كما كُنا في أوله، فليس عدلًا في تلك الحياة أن نجتمع ونحنا أغرب الأغراب،
ثم نفترق ونحنا أحب الأحباب، ولو كان الأمر بيدي أنا وأنا الضعيف لكنت ملكت باب قلبك كما ملكت باب المدينة منذ أول يومٍ لي بها، فأعلم أنا أن الطريق قد يكون شاقًا،
والبلوغ لقمة حُبك قد يكون مستحيلًا، لكنني لأجلك أصنع المستحيل بذاته، أفعل ما يحلو لي أمام العالم لطالما كانت الغاية هي نظرة من عينيكِ، أتعلمين؟
لم أكن يومًا من هؤلاء الضعفاء الذين وقعوا بفخِ العشق، لكني كنت قويًا وأنا اختاركِ أنتِ من بين العالم بأكمله لتكونين جيشًا لي، فلأجلك تُقام الحروب، وتُترك الدروب، لأجلك ينقلب كل أمرٍ حتى الرابح دون نظرة عينيكِ مجرد مغلوبٍ، فاخبريني هل القلب الذي أحبك كان ضعيفًا فيِّ أم أن الحُب كان عليه في اللوح هو المكتوب؟ رُبما اليوم أنا بعيدٌ عنكِ تفصل بيننا الكروب،
لكن كوني على يقينٍ أن الشمس تُشرق من جديد مهما طال الغروب، وشمس أيامي في عينيكِ ظاهرةٌ مهما كان الجفن عليه بمقلوب..
<“فداكَ أنا وقلبي ودمعي لطالما كنت بخيرٍ أمامي”>
هناك كلمات تشكل النجاة؛
وهناك أخرى هي الحياة، وهي كلماتها شكلت له الحياة بذاتها، انتشلته من غياهب الظلام لتجره جرًا نحو النورِ، أتت بربتةٍ فوق قلبه المكلوم لتمسح فوق الجراح الدامية به التي لم تبرأ قط، كانت ولازالت خير المدينة الآمنة لغريبٍ ضاع وتشرد من أقصى اليمين لأقصى الشمال روحةً وجيئةً ولم يجد ملتحدًا؛ إلا هي، وهي هُنا الاستثناء الوحيد لكل القواعد..
عناقٌ آمنٌ، حُلمٌ يكتمل، سُبيلٌ مرغوبٌ، مدينة أمنٍ تحاوط جسدًا يرتجف من فرط الخوف والهشاشة، رحمة أتت من الرحمن لقلبٍ أهلكه الوجع، كلمات أشبه ببلسمٍ فوق الجراح تشكل بالمقصد حياة جديدة في انتظاره كي يُكملها كما سُلبت منه في ماضيه، كان آخر ما وصله قبل أن يخطفها في عناقه:
_أنا حامل يا “يـوسف” حتى وأنتَ بعيد عني حتة منك كانت مشركاني قلقي عليك، مستنيينك يا “يـوسف” وبقينا هنا علشانك إحنا الاتنين.
طال العناق، وزاد الأمل تدفقًا، انعدمت بينهما المسافات، وهو الغريب الآمن في عناقها هي وتلك النُضفةِ التي تخفيها يرحمها لحين يأذن الخالق بموعد اللقاء بينهما، أبتعد عنها بعينين مغرورقتين بالدمعِ في عناق أهدابها كانت هناك بسمة أملٍ، أما هي فمدت أناملها تُكفكف له دمعه وقالت بصوتٍ باكٍ مُحشرجٍ:
_قولت أجيلك علشان حرام عليا أفرح لوحدي وأسيبك لوحدك هنا زعلان، كان عهدك ليا إننا مع بعض طول الطريق مهما حصل، وعهدي ليك دلوقتي إني معاك مهما حصل، أنا مستنياك ترجعلي تاني، سواء مهزوم أو كسبان كفاية إنك حاولت.
والحديث أملٌ، والصمت آفة اليائسين، وهو ليس بيائسٍ بقدر ما كان حُرًا يرغب في نيل الحُرية، راق له الحديث منها والنظرة من عينيها فكان جلَّ ما يريد منها هو سماع صوتها المرمري، لذا قال بصوت رجاءٍ يأمل في تلبية الحاجةِ منها:
_نفسي أسمع صوتك، وحشني أوي.
ابتسمت “عـهد” صائنة الوعد وأمسكت كفه تُجلسه على حافة الفراش ثم جلست بجوارهِ ورفعت كفها تمسح عينيه من أثر العبرات العالقة في مقدمات الأهداب ثم بدأت بأكثر المقاطع التي يعشقها هو منها فضلًا عن كل العالم:
_حبيبي جيت أنا ليه في الدنيا ديا إلا علشان أحبك،
يا حبيبي جيت أنا ليه في الدنيا ديا إلا علشان أحبك
علشان يدوب عمري من جرح غدرك بدري،
علشان يدوب عمري من جرح غدرك بدري،
شمعة ورا شمعة وتعيش أنتَ لفرحك،
_يا حبيبي فداك أنا وسنيني اللي جاية
فداك قلبي اللي حبك،
يا حبيبي فداك أنا وسنيني اللي جاية
فداك قلبك اللي حبك،
امشي فوق همي،
فوق دمعي وغني، ولا تنزلش دمعة
ليلة فوق خدك،
حبيبي فداك أنا وسنيني اللي جاية
فداك قلبي اللي حبك..
هكذا كانت تُطرب أذانه كأنها تخبره أنها معه، هي والطريق والعمر وكل ما فيها فداءً له هو، وهو بعد أن وصله المقصد وجد نفسه يميل حتى احتضن منطقة الخصر لديها ثم وضع رأسه بقرب بطنها يتكيء عليها كأنها الجدار الآمن له، حالة ضعف وارتياع وهلعٍ وتيهٍ وفرحٍ، مشاعر متضاربة ومتفاقمة مع بعضها، لذا ترك دمعه يعلن عن نفسه ويترك له الحُرية من الأسرِ بينما هي فتنهدت كي تقطع السبيل على البكاء ثم مدت كفها تمسح فوق رأسهِ بحنوٍ وقلبها يخبر قلبه:
“أنني فقط ودومًا لأجلك هنا،
ولأجلك نحاول ألف مرة بألف طريقٍ”
كان “أيـوب” بالخارج مع “جـواد” بعد أن شاركه ما حدث تفصيلًا ما بعد الإجمال، وقد جمع بينهما الحديث والمشاورات والكلمات، وقد وقف “أيـوب” بالخارج يطرق الباب بترددٍ كأنه يخشى هذا الفعل، يخشى أن يقترب من حقل الألغام، فنيفجر به بغتةً، ظل يُدرب نفسه على ديباجةٍ يعتذر بها ويوضح سبب فعله، لكن العقل كان فارغًا، كل شيءٍ خلىٰ من المنطق ولم تبق إلا الترهات فقط..
فُتِح الباب بواسطة “عـهد” التي خرجت بعدما ودعت زوجها الذي طالعها بأكثر نظرة تقتل المرء العاشق؛ ألا وهي نظرة الفقد من بعد الأنسِ، كان يخبرها بصمتٍ أنه سوف يبقى مستوحشًا بدونها، بينما هي فلأجله تحاملت باسمةً وودعته بنظرة وعدٍ ارتشقت في قلبه، وما إن خرجت ولج مكانها “أيـوب” له ووقف بترددٍ يبحث عن الحديث المعقول، حاول أن ينطق لكن لسانه لم يسعفه إلا حينما قال بيأسٍ من إيجاد الحل:
_كان غصب عني والله، أنا عمري ما أقصد أخونك وأخرج سرك اللي أمنتني عليه برة، حقك على راسي بس صدقني والله…
انقطع الحديث حينما وضع “يـوسف” كفه على فم صاحبه وقال بنبرةٍ هادئة بعض الشيء بعدما تنهد بعمقٍ تنهيدة متقطعة بقدر عُمقها:
_عارف، عارف إنه كان غصب عنك وإنك مش هتخون الأمانة اللي أمنتك عليها، وواثق ومتأكد إنك عمرك ما تقصد تزعلني، بعدين أنتَ كنت وش الخير عليا، أنا هبقى أب، “عـهد” حامل يا “أيـوب” وربنا كرمني برحمته الواسعة للمرة اللي مش عارف عددها، صدقني والله مش زعلان منك، بالعكس يمكن دا الخير ليا.
طالعه “أيـوب” بعجبٍ في أمرهِ كأنه يراه للمرةِ الأولى فإذ برفيقه يقول بلمحة صفوٍ سكنت بعينيه الصافيتين ونبرته الرائقة:
_﷽
“وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”
تأكّد أنّ الله سيختار الأصلَح لِقلبك وإن خانتك إختياراتك،
”لن يذهبَ شيءٌ كُتبَ لك ولو كرهتَه ..
ولن يأتيك شيءٌ لم يُكتَبْ لكَ وإن تمنيتَه… ”
– عسَى أن يكونَ الخيرُ فيما كرِهتُ والشرُّ فيما أحبَبت.
كان الحديث بنفس نمط “أيـوب” في الحديث، لبرهةٍ المستمع سيظن أن المُتحدث هو “أيـوب” وليس إلا، لكن يبدو أن أثره عَلُق في قلب صاحبه حتى أصبحا مُتشابهين، ابتسم له “أيـوب” بينما “يـوسف” قال بصدقٍ من قلبه دون أن يُزيف حديثه:
_مش دا اللي أنتَ علمتهولي؟ صدقني أنا بقيت مسلم أمري لربنا خلاص وزي ما تيجي تيجي، مش عاوز أشغل نفسي بحاجة مش داري بيها وفي علم الغيب، الخير ربنا أراده إنهم يعرفوا علشان “عـهد” تجيلي ويفرحني وسط اللي أنا فيه دا كله، صدقني متزعلش نفسك وتشيلها الذنب، كفاية اللي أنتَ فيه..
في تلك اللحظة كان “أيـوب” هو الذي يحتاج رفيقه، كان يحتاج أن يتكيء عليه، فمن قال أن الجدار لا يرغب فيمن يُسانده؟ أحيانًا يحتاج الجدار أن يجد من يتكيء هو عليه قبل أن يسقط، لذا عانقه “أيـوب” بقوةٍ يتشبث به وقد كان صوت القلوب مسموعًا بدلًا من أصوات الأفواه التي لن تصف بلاغة المشهد سوى بقول:
“بحر الدنيا موجه عالٍ، ورفيقي كان طوق النجاة”..
في مكتب “جـواد” كانت “عـهد” تجلس معه تستعلم عن حالة زوجها، الواجب حتَّم عليها ذلك فلم تهرب من واجبها ضده ولا حتى تتخلى عن مهامٍ تراها حقًا منها له هو، فبعد الاستفسار بنبرةٍ قلقة كان الجواب منه لها يُطمئنها بقوله:
_كنت متأكد إنك هتيجي هنا، ثقته فيكِ كانت في محلها دايمًا، عمومًا مش عاوزك تقلقي يا مدام “عـهد” كل الحكاية إن “يـوسف” هنا علشان آخر خطوة في علاجه تتم، كان لازم ييجي هنا ويتعمله الجلسات اللي بنعملها دي علشان هو يخرج اللي جواه كله، لازم يفرغ البركان اللي هو شايله بقاله سنين جواه، هنا بيخرج كل اللي جواه، بيصرخ وينفعل ويعيط ويعاتب ويحكي ويلوم، بيعمل كل اللي نفسه يعمله، عارف إنه وضع صعب بس لا مفر منه.
رطبت شفاها بعد أن جفت المياه من فمها كأن روحها تصحرت من الخضار الذي كان يسكنها في ربيع الأيام معه، لذا أتى سؤالها بصوتٍ مهتزٍ كأنها ترجف بداخلها:
_طب هو لما تعب هنا كان السبب إيه؟ مش دا ضرر عليه؟.
أدرك هو أنها تود الاطمئنان عليه هو كحبيبٍ وليس الاطمئنان على نفسها كزوجةٍ له، لذا جاوب بثباتٍ يُفسر لها الأمر بقوله:
_يومها كانت جلسة مهمة جدًا كان بيحكي فيها عن الليلة الأولى ليه هنا لما عمه جابه وسابه لوحده، الليلة دي في حياة “يـوسف” مش بينساها، القهر فيها على نفسه، زعله على شبابه، كان ساعتها جاي بعدما استلم شهادته من الجامعة وبقى مهندس زي ما والده كان بيتمنى والحج “نَـعيم” ساعده يحقق، وقتها كل حاجة عنده اتدمرت وضاعت، علشان كدا كلامه يومها كان صعب، فضل يصرخ ويقول كلام يمكن وقتها مقدرش يقوله، علشان كدا بعدها جاتله نوبة هياج عصبي وفقد السيطرة لحد ما وقع من طوله، بس متقلقيش طول ماهو بيتكلم ويخرج اللي جواه يبقى هو كدا تمام جدًا.
أومأت له موافقةً ثم استندت على المقعد وتلك المرة وقفت بثباتٍ وقوةٍ كأنها بدأت تتسلح لأجله هو بالحماية المفرطة له هو، خرجت وخرج خلفها “جـواد” حتى وقفت هي عند مقدمة الرواق فوجدتهما سويًا ويبدو أن “يـوسف” كان مُنصتًا لرفيقه فالتفَّت للخلف لتجد الطبيب وحينها سألته بعجبٍ ساورها:
_هو ليه “يـوسف” وثق في “أيـوب” بالذات؟.
كان السؤال غريبًا منها لكنه لم يكن غريبًا عليه، لذا قال بشيءٍ من العملية المُطلقة:
_لو عاوزة جواب الطب النفسي فالفكرة كلها إن “يـوسف” كل اللي في حياته شبهه، بنفس صفاته وطريقته وكلامه وعنفه وصوته، فكان جديد عليه إن شخص زي “أيـوب” يقبله ويصاحبه حتى نزلة السمان كلهم هناك أقويا وليهم هيبة وسُلطة تخليهم شبه طريقة “يـوسف” ولو عاوزة جواب “يـوسف” نفسه فهو لسه مش قادر يتقبل التغيير الجذري اللي حصله..
تباينت ملامحها بسؤالٍ قطع استرساله ليقول بتفسيرٍ:
_بمعنى إن باباه كان راجل مثالي، رباه على الأخلاق والقوة والكرم والتدين لدرجة إن “يـوسف” بيصلي طول عمره بسبب تأثره بباباه والوعد اللي قطعهوله، ففكرة إنه يشوف حد زي “مصطفى” الله يرحمه وحبه بطريقته دي كان شيء غريب عليه، والسبب إن “يـوسف” طول عمره عنده اعتقاد إن باباه لو كان شافه كدا كان هيزعل منه، إنما تقبل “أيـوب” ليه والصداقة اللي بينهم خليته شايف صورة والده في صداقته بـ “أيـوب” ودا شيء ساعدنا أوي، لأن “يـوسف” كان مفتقد السند اللي في صورة باباه.
أومأت له موافقةً وما إن تلاقت عيناها بعينيه وجدته يبتسم لها ثم تحرك مقتربًا منها وشبك كفه بكفها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ وبسمةٍ لم تفترق عن مُلتقى ملامحه:
_روحي وخلي بالك من نفسك، وأنا علشانك وعلشانه هاجي على نفسي أكتر لحد ما أخرج وأكون واحد يستاهلك ويستاهل وجوده أو وجودها في حياتي، هخرج من هنا زي “مصطفى” ما كان معايا، ادعيلي ربنا يقدرني.
أنهى الحديث ثم طبع قُبلة حنونة فوق جبينها أمامهما حتى تورد وجهها خجلًا بينما “أيـوب” فالتفت ومعه “جـواد” للخلف وحينها احتضنته هي بقوةٍ وكأن الأمل يُعانق الحياة،
فمن قال أن الحياة عدوة الأمل لم يكن على معرفةٍ بتلك القصة التي كلما طرق اليأس أبوابها أغلق الحُب في وجهه المقاصد بأكملها، هُنا حيث الأمل في عناق الحياة،
هُنا حيث الحياة بذاتها ترسم معنى الأمل..
____________________________________
<“لو لم أكن حُرًا لكنت أصبحت قتيلًا على يدِ الضعفاء”>
إن الحريةَ حقٌ..
والحُر له كامل الحُرية في العيش بكامل إرادته، فلو لم يكن المرء حُرًا لكان قُتِل بلا شكٍ ذات يومٍ على يدِ ضعيفٍ، لذا كُلما ضاقت بك السُبل ارفع رأسك وتذكر أنك طيرٌ نال الحُرية وطار وارتفع، أتظن أن الطير من فرط حريته قد يسقط ويقع؟..
غرفة ضيقة هزت الصرخات زواياها بالكامل، غرفة مُظلمة تشبه ظلام القلوب القاسية، نظرات انتقامٍ كانت ترصد نظرات هلعٍ وخوفٍ، ارتعادٌ سكن في القلب من آخرٍ كان قاسيًا لا يرحم ولم يُبالِ، كان “إيـهاب” جالسًا أمامه يمدد قدميه فوق مقعدٍ صغيرٍ وفي يده سيجاره وكوب الشاي وآنات “ماكسيم” تطرب أُذنيه وهو يتألم من فرط العذاب الذي تعرض له..
ولج له يقطع وصلة الشرود “سراج” يحمل ابنة شقيقته فوق ذراعه وهي ترتجف بخوفٍ بسبب الصراخ المستمر القادم من تلك الغرفة، وقد وقف أنزل “إيـهاب” قدميه معتدلًا بذهولٍ وهو يرى الصغيرة هُنا وقد حدج الآخر بنظرات حادة فقال “سـراج” بثقةٍ:
_دي تربيتي متخافش عليها، بصيلي يا “چـودي”.
حركت الصغيرة رأسها بتروٍ نحو “ماكسيم” صاحب الخريطة الدامية في وجهه وجسده وقد شهقت بخوفٍ فربت خالها فوق ظهرها ثم قال بثباتٍ:
_متخافيش، دا حقك وحقي بيرجع.
دارت بعينيها في المكان بخوفٍ لمحه “إيـهاب” فسحب قميصه يرتديه فوق سترته ثم حملها من خالها واقترب بها من “ماكسيم” المكبل بأصفادٍ يغلفها الصدأ ثم جثى على إحدى رُكبتيه وهي تجلس فوقها ثم أشار نحوه وقال بصرامةٍ:
_دا مش ظلم، دا العدل بذاته، طول ما أنتَ في حالك وكافي الناس شرك هتعيش مرتاح، لكن لما غيرك ينكشك وييجي على سكتك أوعى تسكتله، اللي خد منك حق خُده منه حقوق، واللي سحب منك راحة بالك اسرق منه النون من عينيه، واللي هو سبق وعمله أنا بعمله أضعاف مُضاعفة قدامك أهو، أوعي تخافي، أرفعي راسك وبصي في عينيه خليه يعرف إن إحنا واللي زينا مالناش آخر.
حديثه رغم حدته بدا فلسفيًا وكلماته رغم قسوتها ظهرت كأنها حقٌ في النضال، حدة الصوت رغم ثباته كانت عميقة من عقلٍ واعٍ، لذا حركت هي رأسها تواجه الغريم بعينيها، ليس مجرد غريمٍ لخالها فقط، وإنما هو غريمٌ لوطنٍ بأكمله، غريمٌ للماضي فينهبه، غريمٌ للحاضر فيخطفه، غريمٌ للمستقبل فيسرقه، غريمٌ للطفولةِ فيقف وحشًا أمامها، لذا بنظراتٍ حادة تشبه نظرات ابن المناضل في ميدان الثورةِ طالعته هي ورفعت رأسها تُجابه نظراته وهو أمامها يركع على رُكبتيه فازدادت عيناها قسوة أمامه ثم تشبثت بكفها في قميص “إيـهاب” لتسرد الصورة عناق الحاضر للمستقبل عوضًا عن الماضي المسروق…
حينها همست في أذنه بجملةٍ جعلته يضحك مرغمًا ثم مسح عينيه ورفع رأسه نحو خالها يسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_تصدق تربيتك فعلًا؟ تعالى شوف عاوزة تعمل إيه.
اقترب منهما وعقد حاجبيه مستفسرًا بملامحه فوجدها تلتفت له وهي تقول بجرأةٍ تُجيد الامتياز بها في صفاتها:
_عاوزة أتف في وشه يا أخويا، مش دا العِرة اللي خطفك؟.
توسعت عينا خالها وبدت ملامحه في أوج غرابتها كأنه يقف أمام دمية مُصممة بالذكاء الاصطناعي، لذا مد إصبعه يفرك أذنه اليسرى ثم قال بدهشةٍ:
_يخربيتك، الصوت مش راكب على الصورة.
راقصت له حاجبيها فضحكا سويًا ثم وقف بها “إيـهاب” وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_تفي يا حبيبتي في وش عمه، دا يا بخته.
فعلتها الصغيرة وبصقت في وجهه فضمها “إيـهاب” بقوةٍ وقال بفخرٍ وفرحٍ بها وبشجاعتها:
_روح قلب عمهم ونور عيوني عمهم كمان.
ضحكت الصغيرة ثم لثمت وجنته بعدها كررت الفعل مع خالها وفد حملها “إيـهاب” من جديد ثم لثمها ووضعها فوق كتفيه وخرج بها من الغرفة المشؤومة تلك، وما إن مر ببهو البيت ولمحته صغيرته صاحبة الأشهر الستةِ ظلت تفرك بجسدها فوق قدمي أمها وتُغمغم مناديةً عليه وقد فهم هو أنها توده هو، لذا حمل الأخرى ثم احتضنها ولثمها أمام “دهـب” التي ظلت تصرخ وتود الذهاب إليه وما إن تجاهلها بكت بصوتٍ عالٍ أمام الجميع..
ضحك واقترب منها يحملها وهو يقول بحنوٍ معتذرًا منها:
_حقك عليا يا بابا، حقك عليا أنا وحش.
حملها وظل يربت فوق ظهرها حتى هدأت من نوبة البكاء ووضعت رأسها فوق كتفه فضحك هو بسعادةٍ ثم أمسك كفها الصغير يُلثمه، وقد لمحته “سمارة” فرفعت حاجبيها بتعجبٍ ثم ضربت كفيها ببعضهما حانقةً منه ومن تجاهله لها، وبعد مرور ما يُقارب النصف ساعة صعد لشقته حاملًا صغيرته وخلفه زوجته، ولج للداخل يضع ابنته بالفراش الخاص بها ثم هزه برفقٍ ولثمها ثم تحرك من الغرفة بعد أن ترك الضوء الخافت، بينما “سـمارة” فوقفت في الخارج تشن هجومها عليه..
تلاقت الأعين ببعضها فقالت هي بحدةٍ:
_وآخرتها طيب؟ هتفضل مطنشني كدا؟ سايبني آكل في نفسي وأولع أنا بسبب عمايلك؟ مش خايف على نفسك برضه، بس المرة دي أنا خايفة، خلاص حق أخوك رجع وطفيت نارك؟ سيبه يغور في داهية، أنتَ مش حر نفسك علشان تعمل كدا، عندك بنت صغيرة، بنت لو مش واخد بالك مش هينفع تتربى من غيرك، عاوزها تكون زيي؟.
وقف أمامها فقير الكلام بينما هي بكت رغمًا عنها ثم قالت بخوفٍ استقر في القلب فذهبت منه الراحة مغادرةً للأبدِ:
_أنا خايفة عليك والله، ماليش غيرك أنا وهي، عاوز تضر نفسك وتسيبنا؟ فكرت هي هتعمل إيه من غيرك؟ دي لما بتشوفك معدي من المكان من غير سلام بتعيط وتبهدل الدنيا، عاوزها تكبر من غيرك؟ أبوس إيدك سيبه، أقولك؟ سلمه للحكومة هما أولى بيه، كفاية بقى نفسي أتطمن عليك وأنتَ معايا.
ومابين حدة الانتقام ورغبة الثأر، وما بين الحُب والحياة في عينيها ضاعت به السُبل فلم يعد كما هو بنفس الثبات، لذا اقترب منها بخطواتٍ وئيدة ثم ضم رأسها لصدرهِ فاستقرت هي باكيةً وقالت بصوتٍ مختنقٍ:
_والله العظيم خايفة عليك، أنا ماليش غيرك.
مسح فوق رأسها بحنوٍ ثم طبع قبلة حنونة أقرب للامتنان ثم قال مواسيًا ومُطئنًا لها:
_حقك عليا يا “سـمارة” دي في رقبتي أنا.
ابتعدت عنه للخلف حتى يتسنى لها رؤيته فوقع بصره على عينيها الباكيتين فاقترب يُلثم كلتيهما ثم قال بهدوءٍ:
_عيونك الحلوة دي متعيطش، خسارة يعيطوا حتى لو علشاني.
ضربته في كتفه بقبضتها ثم قالت بعتابٍ:
_محدش بيعيطني غيرك أصلًا.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها من جديد وقبل أن تتحدث حملها فوق ذراعيه وكأنها الحركة المفضلة لديه معها وقد ضحكت هي مرغمة فوجدته يقول بشقاوةٍ مرحة متصنعًا للبراءةِ:
_هصلح غلطتي علشان متعيطيش تاني بسببي.
ضحكت لأول مرةٍ معه وقد قررت العفو عنه،
أصبحت تعلم أنها كأنثى أذكى منه في إدارة العلاقة، فرجل مثله لن يأتيها بالعندِ، ولن يوافقها بالحرب، وإنما مجرد احتياجٍ لأمانه تصرح هي به فيرد عليها ويأتيها بما ترغب هي، لذا أدركت أن السياسة معه أسلم الحلول وأجودها في النتائج العائدة عليها..
____________________________________
<“يبدو أن السُحب اجتمعت لتُنزل غيثًا في صحراء العمر”>
يبدو الطريق متصحرًا..
وتبدو الطُرقات قاسية، ثم الأيام تمر بقسوة العُجاف، والحياة تضغط وتدهس بين الأنيابِ، ومن ثم يشاء الخالق أن ينزل الغيث على فقراءٍ في حاجةٍ للارتواءِ، يشاء أن تنتهي الأيام العُجاف فتثمر الأرض وتخرج خيراتها كما ظهرت السنابل الذهبية، لذا مهما زادت قسوة الطريق، تأكد أن العُجاف لن يدوم..
انتهت صلاة العشاء بالمسجد..
وقد وقفت سيارة “نَـعيم” بأسرته أسفل بناية “جـنة” كان “مُـحي” بها بجوار والده وفي الخلف شقيقه بزوجته، نزلوا من السيارة حاملين الهدايا معهم وقد ابتسم “مُـحي” بحماسٍ ما إن ارتفعت نظراته للأعلى نحو شُرفة الشقة المُضاءة ترحيبًا به، لاحظ شقيقه نظراته فقال بسخريةٍ:
_ماهي أولها تيت وآخرها زعيق وصويت.
رمقته زوجته بسخطٍ ثم أستغفرت ربها في سريرتها بعد أيامٍ مرت بينهما في مشاكساتٍ لا تتوقف ومشاجرات في الأغلب تنتهي بخدعةٍ منه تجعلها تحتضنه في نهاية الأمر فينعم هو بسلامٍ، لذا غمز هو لها ثم مال يهمس بعبثٍ في أذنها:
_بلاش البصة دي علشان في الآخر بتيجي في حضني لوحدك وشكلك بيبقى بايخ أوي، بلاش النظرة دي.
لكزته في بطنه بمرفقها ثم جاورت حماها الذي أمسك ذراعها يُساندها بينما “مُـحي” فكان يسبح في لقاء الآثم بجنته، لقاء المطرود من النعيم لحظة مقابلته بالنعيم، فكان سابحًا وشاردًا في عالمٍ آخرٍ، صعدوا، وولجوا، وتم الترحيب بهم، وعيناه تبحث عنها هي وحدها، عن عينيها الخضراوتين بحقلٍ مزهرٍ بخيوطٍ من عسلٍ، نظير عينيه الرُماديتين كأنه طريقٌ قاحلٌ رماده تناثر فوق أهداب العابرين..
خرجت تحمل الحلوى وقدمتها لهم ثم رحبت بصديقتها وباركت لها وعادت تجاور أبيها وقد طاف “مُـحي” بعينيه في وجهها وترك الحديث لوالده يتولاه هو، وقد قال كبيرهم بأدبٍ وتقديرٍ متناسيًا عن عمدٍ طريقته السابقة:
_بص يا حج “بهجت” أنا راجل بفهم في الأصول، وجاي هنا طالب أيدك بنتك لابني الصغير، وربنا يعلم إنها هتكون بنتي أنا كمان زيها زي “آيـات” عندي بالظبط، ولو إن كلامي ممكن يتفهم غلط بس أنا هقوله، “مُـحي” غالي عليا أوي، وصية المرحومة أمه قبل ما تموت، وصتني أرجع الغايب وأراعي الحي، علشان كدا مرات ابني تبقى بنتي، علشان هي بترعى مكاني، وأنا بعد كرم ربنا عليا وفضله بنتك كانت سبب في صلاح حال ابني، قولت إيه؟.
ابتسم له “بهجت” وربت فوق رُكبة “مُـحي” بعدما تقدم للأمام بجسده ثم وقال بمشاعر صادقة:
_والله يا حج أنا شوفت بعيني محدش قالي، وأنا ربنا مأرادش ليا خلفة من بعد “جـنة” هي عوضي في الدنيا كلها، ماليش غيرها، وربنا يعلم إني بعتبره ابني وأتمنى اللي فات كله ننساه ونشوف فرحتنا، وأنا عارف إنك ابن أصول وبنتي معاك في أمان.
ضحكت هي بخجلٍ وضمت كفيها معًا، بينما “نَـعيم” فقال بنبرةٍ هادئة يقترح عليهم جميعًا كأنه يشتري رضاهم بحديثه:
_شوف يا حج شقته في البيت عندي في الدور التالت بعد أخوه، لو عاوز ليها شقة تانية هنا في الحارة أنا معنديش مانع بس ييجوا يقعدوا فيها هنا كل فترة، بس يفضلوا في البيت معايا، دول عزوتي وسندي وعكازي في الدنيا، شوف يرضيك إيه.
احتار “بهجت” في أمره لكنه نظر لزوجته فقالت هي بأدبٍ وصوتٍ هاديء كأنها تتحدث بلا تطفلٍ منها:
_شوف يا حج أنا مربياها طول عمرها بنتي وصاحبتي وحبيبتي وماليش غيرها، بس خلينا واقعيين، أي بنت مسيرها لبيت جوزها، فليه شقة تانية وتكاليف؟ أنا وقت ما أعوز أشوفها هاجي لحد عندها وواثقة إنك مرحب بينا، ربنا يسعدهم.
ابتسم لها بتقديرٍ ثم حرك رأسه نحو الفتاة يسألها بحنوٍ:
_وعروستنا رأيها إيه طيب؟.
دارت في الأوجه بحركةٍ أعربت عن التوتر ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ طغت عليه مشاعر الخجل من هول الموقف:
_اللي حضرتك تشوفه، المهم الشخص مش المكان.
في تلك اللحظة رفع “مُـحي” رأسه بزهوٍ ثم غمز لها وقد انفضت الجلسة بأحاديثٍ دارت بين الرجلين الكبيرين وبين الفتاتين والسيدة والأخوين معًا وقد اقترب “مُـحي” يجلس بجوار حماته ثم قال يمازحها بقوله:
_أقسم بالله أنتِ ست الستات دي كلها، أرد جميلك دا إزاي؟.
ضحكت له وقالت بفطرة أمٍ تحب من كل قلبها:
_راعي ربنا في بنتي، مش عاوزة منك غير كدا، لولا إني عارفة إنك بتحبها بجد ماكنتش حاربت علشان تكون نصيبك، بنتي غلبانة وطول عمرها لوحدها ملهاش حد، خليك صحابها وأهلها، أنا وأبوها مسيرنا نمشي وهي هتفضل معاك، خليني أتطمن عليها إنها مع واحد حاططها في عينه.
تأثر بحديث الأم، حديث الأم في المطلق يؤثر به بشكلٍ ملحوظٍ، تلك العلاقة التي لم يختبر مشاعرها قط بحياته كُلما رآها نُصب عينيه عاد وتعجب من تلك المشاعر الغريبة التي تجتاحه، لذا ولأجل سمو تلك المشاعر قال يقطع العهد لها:
_في عيني، والله العظيم في عيني، دا أنا على يدك طفحت الدم واتضربت واتذليت علشان أوصلها، خسرتها مرة واتنين، كنت غريق في الذنوب والمعاصي وبسببها ربنا فتحلي باب التوبة، ادعيلي ربنا يرزقني الثبات، وأفضل زي ما أنا.
أومأت له ببسمةٍ حنونة ثم تحركت تقدم واجب الضيافة للجميع، بينما هو لاحظ “جـنة” وهي تخرج من الداخل بأكواب العصير وقد جلست بعد أن قامت بتوزيع المشروب؛ فاقترب منها هو وسحب باقة الزهور التي أتى بها لها وقد كتب فوق الزهور على الشارطة الموضوعة فوق الباقة:
_الآن قد حان للآثم أن يدخل الجنة بقدميهِ،
فاقبلي توبة العاصي، وافتحي له أبواب الجنة بعينيكِ..
رأت الزهور الخضراء الغريبة وقد تكون مرتها الأولى في رؤية وردٍ بهذا اللون، وما إن رأت الحديث المكتوب تورد وجهها خجلًا ثم عادت تخفي عينيها عنه فوجدت بطاقة صغيرة وسط الزهور مكتوبٌ بها:
_الزهور الخضراء هي الأنسب لكِ على الإطلاق،
فعيناك عزيزتي تخبرني أن هناك مكانٌ لي بالجنةِ،
فعسى ندخلها سويًا بسم الله هانئين
وللآخرةِ سويًا رايحين..
طالت النظرات بينهما وهي تبتسم له بعينيها أولًا، بينما هو فاومأ بأهدابه لها كأنه يخبرها أنه سيظل يحاول كي يكون التائب الذي تستحقه فتاة مثلها، فلو كانت هي ربحه بالدنيا، عليه أن يكون هو سببًا للربحِ بالآخرةِ، ومابين طريق الآثام المظلم وطريق التوبة المُضيء يظل الإنسان أوابًا حتى تستقر روحه بأمر ربها في سُبل الهدىٰ..
___________________________________.
<“ولو أن البحر واحدٌ، لكن السمك به أشكالٌ متنوعة”>
في كل شيءٍ ستجد الاختلافات والتنوعات..
لن تجد التطابق أو حتى مجرد التشابه، كل الأطراف مختلفة وغريبة وكل القصص متنوعة ولن تجد تلك الحكايا التي تتشابه كل اللحظات بها، فلولا التنوع لما كُنا أكملنا ولولا الطريق المختلف لما كُنا لاحظنا التنوع بذاته..
في بيت “عبدالقادر”..
في الحديقة كانت “نِـهال” تجلس مع ابنها وهي تذاكر معه دروسه وقد أصبح شغوفًا تجاه الدراسة عن السابق، معدلاته ارتفعت بشكلٍ ملحوظٍ، اهتمامها به رغم كل شيءٍ تمر هي به كان سببًا في تحسين حالاته المزاجية خاصةً مع مروره ببدايات فترة المراهقة المتنوعة الصعبة، وهي لأنها على درايةٍ كافية بهذه الشؤون أجادت فن التعامل معه..
وقد ولج لهما “أيـهم” يحمل أطباق الطعام وخلفه “هـدية” تحمل أكواب العصير وقد وضعته ثم سألت بهدوءٍ:
_عاوزة حاجة تاني يا مدام؟.
ابتسمت لها الأخرى وقالت بحنوٍ:
_تسلم عيونك يا قمر، أطلعي ارتاحي شوية.
تحركت الفتاة بوجهٍ بشوشٍ وقد حقًا شعرت بالألفة وسط الجميع هنا، الجميع يحبونها ويعطفون عليها، الجميع بلا شكٍ حتى “أيـهم” يترك ابنه بصحبتها يمزح ويضحك ويشاركها ألعابه وهي تختبر الحياة للمرات النادرة في الحياة، كان فقط ينقصها رؤية رفيقتها “عـزة” كي تكون معها في تلك الحياة الجديدة حتى يطمئن بالها عليها، لذا جلست عند الدرج بالحديقة ثم أمسكت الصورة تحدثها بقولها:
_طاقة القدر ربنا كرمني بيها، البيت دا جميل أوي، أهله طيبين أوي يا “عـزة” تخيلي باكل براحتي وبصلي وليا أوضة نضيفة وتلفزيون كبير، عارفة؟ كل حاجة حلوة هنا حلوة أوي بس وحشة من غيرك، إن شاء الله قريب ترجعي ليا وتكوني معايا هنا، أنا قولت للحج وهو قالي هيجيبك ليا، وهيساعدنا، يارب يجيبك ليا بسرعة بقى، دا أنتِ كنتِ كل أهلي.
بكت وهي تخاطب الصورة الوحيدة التي جمعتها برفيقة عمرها، الشخص الوحيد الذي كان لها بمثابة العائلة الكاملة، لذا تركت العبرات تعانق الصورة وجلست هكذا تمعن النظر في ملامح البريئة الثانية وحتى تلك اللحظة لم تعلم ما يختبيء خلف الأسرار المكتومة ولا حتى كيف تصل لتلك الرفيقة؟..
أما “أيـهم” فجلس بجوار ابنه يحل معه مشكلة مادة الرياضيات صاحبة العلامات الحسابية المعقدة خاصةً في مادة الجبر بالصف السادس الابتدائي كانت مشكلة عويصة لابنه، وقد زفر ابنه بحنقٍ وقال:
_لا خلاص أنا زهقت، روحوني.
طالعه والده بسخريةٍ ثم ضربه بخفةٍ فوق رأسه حتى قالت زوجته تحذره من تماديه في المزاح معه:
_متمدش إيدك عليه لو سمحت، سيب ابني في حاله.
لوح لهما بكفيه ثم أغلق الكتب وألقاها فوق المقعد المقابل ثم جلس في المنتصف يحشر جسده بينهما ثم ضم رأسيهما لكتفيه وقال بمزاحٍ:
_اللي ذاكر ذاكر خلاص، نام ياض.
حينها دس ابنه جسده في جسد أبيه ثم ضحك بينما أمه فقالت بعتابٍ لتركه دراسته واستماعه لنصائح والده الخربة:
_والله؟ بتسمع كلامه طب خليه ينفعك بقى، دا اللي هيضيعك.
غمز لها الصغير ثم ضم والده الذي عانقه بقوةٍ ثم ضمها له ولثم جبينها كأنه يقطع عليها السُبل قبل أن تتحدث وتعارض، وفي الحقيقة هو كان يحتاج لجلسةٍ هادئة مثل هذه، يحتاج للدفء من قلبيهما، يحتاج لموطنه بعد خروجه في النهار وسط الناس، وفي الخارج من جهة الباب الصغير كانت “أمـاني” تراقب الوضع بعينين باكيتين ولهفةٍ على رؤية الصغير الذي كُلما كادت السُبل أن تتقابل بينهما كان يتهرب منها ويتعمد أن يبتعد عن مُلتقى عينيها، فيبدو أنها نست أن الندم لا يُفيد…
عند بوابة البيت وصلت “آيـات” بعد أن أتى بها “تَـيام” إلى هُنا، وقد رمقته بغيظٍ وهي تقول بعجبٍ لكونه أتى بها إلى هنا:
_أنتَ جيبتني هنا ليه؟ مش كنت معترض؟.
ضحك لها باستفزازٍ ثم قال يزيد المشاكسة بقوله:
_بمزاجي يا ستي أنا حر، بعدين أنا هسيبك تباتي هنا لوحدك بقى وريني مين بليل هيخلي باله منك لما تتعبي ببطنك دي.
حركت “آيـات” كتفيها وهي تقول بلامبالاةٍ كأنها لا تكترث به:
_عادي يعني، هنام في حضن بابا، علطول كنت بنام في حضنه لما بكون تعبانة روح عند مامتك أنتَ وخليك في حالك.
وبخبثٍ اقترب يتحدث بصوتٍ خافتٍ عابثٍ تمامًا مثله:
_أبقي خلي بابا بقى يحضن هو بليل ويظبط المسائل.
ابتعدت عنه فوجدته يُرسل لها قبلة في الهواء وحينها ضربته فوق كتفه وهي تضحك على وقاحته وقد أتى “أيـوب” في تلك اللحظة وأوقف السيارة وما إن ترجل منها هرول لشقيقته يرحب بها وهو يطمئن عليها وقد سأل عن سبب الوقوف هكذا، فقال زوجها بشقاوةٍ مرحة:
_شوفها بقى يا سيدي، بقولها هروح أبات عند أمي بتقولي خليك معايا أومال مين هيحضني بليل؟ ما تشوف حل في أختك كدا عيب بقى.
شهقت هي بدهشةٍ من حديث زوجها بينما شقيقها وزع نظراته بينهما فقالت هي بضجرٍ من الحديث:
_كداب والله، معرفش بقى سافل ليه اليومين دول.
ضحك “أيـوب” بسخريةٍ وردد خلفها مستنكرًا:
_بقى؟ هو من يومه كدا، أنا كنت مستغرب أصلًا إنه كان مؤدب قدامك لحد ما أقنعك، اشتغلك يا خايبة.
ضحكت هي رغمًا عنها بينما هو اقترب منها من جديد:
_بقولك إيه، ما سفالة بسفالة هاتي بوسة قبل ما أروح.
دارت بعينيها بعيدًا عنه بينما هو التفت لشقيقها ثم قال بنبرةٍ ضحوكة يمازحه بقوله:
_لامؤاخذة يا أبو نسب ودي وشك الناحية التانية.
التفت “أيـوب” يفتح الباب بينما “تَـيام” فاختلس قبلة من خدها الأيمن وأخرى من الخد الأيسر وقبل أن يفعل أي شيءٍ التفت له “أيـوب” بنظرات نارية جعلته يحمحم مُحرجًا ثم لوح لهما ورحل، بينما هي فكانت سعيدة بتلك المشاكسات والتنوع الذي طرأ عليهما، كانت سعيدة بتلك الطريقة التي أصبح يتعامل بها بعد أن تخلى عن قناع الأدب لتظهر لها حقيقته الوقحة، بينما شقيقها أدخلها البيت واطمئن عليها ثم صعد للأعلى..
كان يعلم أن شقته فارغة منها، يعلم أن قمره تغيب عن البيت والسماء أصبحت فارغةً ومعتمة بدونها، ولج بضيقٍ كارهًا تلك الخطوات لبيته بدونها، وما إن ولج الغرفة وجدها تنام بوضع الجنين المتكور برحم أمه، اقترب منها بهدوءٍ فوجد حرارتها مرتفعة وجسدها يرجف حينها رفعها من على الفراش فوجدها تبكي…
حينها أدرك أن التعب لم يكن جسديًا بل كان نفسيًا، السبب كان في البكاء الذي ظلت تبكيه حتى خارت قواها بهذا الشكل وتورمت بسببه عيناها، لذا سألها بعتابٍ:
_ليه يا “قـمر” تعملي كدا في نفسك؟ ليه بس؟.
انتحبت باكيةً ثم قالت بصوتٍ واهٍ بسبب البكاء:
_علشان مش راضي تخليني أروح أشوفه، دا أخويا يا “أيـوب” مش عدوي هروح أكسره علشان لما أظهر قدامه يتوجع، ما أنتَ بتروحله كل يوم وبتكون معاه وبتشوفه، أنتَ ليه مخرجني برة كل حاجة كدا؟.
ضم جفنيه فوق عينيه ثم قال بعتابٍ بعدما أبتعد عنها للخلف:
_أنتِ مش سايبالي فرصة حتى أعمل علشانه أي حاجة، النهاردة كنت شايفها في عينيه وهو بيسأل ألف سؤال وبيداريهم بالكدب، بسببك مراته عرفت وراحتله، حتى محافظتيش على سره وسري، قولتليها كأنك عيلة صغيرة مش قادرة تكتم سر؟ وآخرتها برضه بتعيطي وبتشيليني ذنبك، كأني جاني عليكِ ؟؟.
نزل الدمع منها مدرارًا أمامه وفرغ فاهها وما إن عاتبها هبت منتفضة أمامه وهي تقول بصوتٍ عالٍ وقد انفجرت في وجهه:
_علشان أنتَ مش عارف حاجة، ومش فاهم حاجة أصلًا، كان لازم “عـهد” تعرف علشان تروحله ومايكونش هناك لوحده زي قبل كدا، كان لازم هي تكون معاه علشان هو بيرتاح لما يكون معاها، هو حكالي قبل كدا إنه بيرتاح علشان هي معاه، وقالي لو هيرجع المكان دا تاني هيكون علشان “عـهد” معاه، كان لازم هي تروحله، مش هنبقى بعيد عنه إحنا الاتنين.
رمش ببلاهةٍ وفرغ فاهه بينما هي سقطت على طرف الفراش وظلت تبكي وقد اقترب منها يسألها بنبرةٍ جامدة رغمًا عنه:
_أنتِ بتعيطي ليه تاني؟ هو أنا جيت جنبك؟.
هنا وحقًا سقط القناع عن وجهها، بدت الحقيقة واضحة وهي تصرخ في وجهه حينما وقفت من جديد تقول بما لم تستطع كتمه أكثر من ذلك وهو يؤذيها:
_بعيط علشان تعبت، بعيط علشان أنا خلاص فاض بيا واللي فيا كتير وساكتة، دا أخويا مش حد غريب عني، اللي هو فيه دا يوجعني ويتعبني، بعيط علشان اللي كان السبب في كل دا عايش متهني ومبسوط وإحنا مكتوب علينا التعب وبس، تقدر تقولي “يـوسف” ذنبه إيه في كل دا؟ تقدر تقولي مين السبب غير عيلة “الراوي” اللي ضيعوا منه كل حاجة حتى راحته وهو كبير؟ بعيط علشان والله العظيم تعبت وأنا بسند الكل وأنا من جوايا بتقطع علشانهم كلهم، بعيط علشان حتى أنتَ في ملكوت لوحدك بعيد عني وسايبني لخوفي مع نفسي، بعيط علشان مش عارفة مالي ومش عارفة أقول إني محتاجة أعيط…
احترم لحظة الانهيار، قدر كونها تبكي وتصرخ وتصرح بما قي قلبها، احترم كونها تعبر عن الانهيار الذي سكن قلبها، لذا اقترب هو منها ثم ضمها لصدره ووضع رأسها يتوسد جسده ثم مسح فوق ظهرها وقال بحنوٍ:
_أنا آسف يا “قـمر” حقك وحقه عليا أنا.
رفعت عينيها له وقالت بصوتٍ قتل كل الثبات فيه:
_أنا تعبانة يا “أيـوب” وخايفة، خايفة أوي من غيركم.
عاود ضمها من جديد ثم اقترب من الفراش وهي بين عناقه ثم ضمها لجسده كأنه يحميها من الخوف، ظل مُغلقًا عليها في حضنه وهي ترتجف باكيةً حتى أغمضت جفونها وهي تتشبث بكفه، بينما هو فمسح عينيها بطرف إبهامه ثم ضمها بحمايةٍ وقال بأملٍ في رحمة الخالق:
_اللهم إني اسألك قلب زوجتي وما به..
كان يتألم معها، يشعر بما تشعر هي به، كان يعلم أن قلبها مكلومٌ على نصفها الآخر ويعطيها كامل الحق حتى وهي غاضبة وصاخة ومنفعلة معها كل الحق، وهو لأجل الحق الذي يحمله لأجلها في عنقه عليه أن يكون القائد للبيت والربان لسفينة حياتهما معًا، لذا دثرها بالغطاء ثم لثم جبينها وتركها بين ذراعيه لعل تلك العاصفة التي هاجت هي بها تكون سببًا في عودة الطقس لطبيعته..
____________________________________
<“شمس الحُرية لا تغيب في عين الحُر ولو كان أسيرًا”>
الحُرية مطلب، والكرامة واجب، والحق فريضة، والعدل حقٌ..
لكن في غابةٍ حُبِست فيها الأسود وتُرِكت بها الضباع لن تجد أيًا من الأشياء السابقة، فقط سوف تجد ماهو بخلاف ذلك، الضباع تقود والظلم يسود، والحق يغيب والعدل يخبو والفساد يميض، هنا فوق الأرض لن تجد إلا كل ما يُفسد الحُرية في عين الأحرار..
حل المساء، وبدأت هي تستفيق وتعود لوعيها، رمشت حتى أعتادت على الضوء ثم انتفضت فجأةً تلهث بعنفٍ وصوتٍ مسموعٍ ثم دارت برأسها في تلك الغرفة، هذا الشيء المبدأي، أما الثاني فكان في جسدها الذي أخذ يتألم بسبب حاجته لجرعةٍ من المواد المُخدرة، أدركت أنها أصبحت هنا في محطة العلاج، لذا بكت بقوةٍ وظلت تصرخ وتهزي وتتحرك بعنفٍ فوق الفراش دارت بالغرفة ذهابًا وإيابًا وهي تشعر أن جسدها يشن ضدها حربًا، كانت تصرخ بألمٍ من جسدها، وتصرخ بألمٍ من التيه، كل شيءٍ فجأةً أصبح كما الدوامة التي تسرق السَّباح في لحظةٍ خاطفة وهو خانته قدرته على كل شيءٍ..
ظلت تصرخ من وجع جسدها، وتضرب الباب ثم صرخت باسمه هو أخيرًا، ظلت تُناديه وكأن لسانها فقد أبجدية الحروف إلا اسمه هو، ظلت تكرر الاسم “بـاسم” وهي تضرب الباب حتى سقطت تستند على الباب تضم جسدها بوهنٍ وضعفٍ ثم تكورت فوق الأرض والعبرات تنزل من عينيها ولسانها يردد اسمه بصوتٍ خافتٍ…
أما هو فأراد الهرب، أراد أن يثبت لنفسه أنها بكل تلك المساويء التي بها لم تؤثر به بمثقال ذرةٍ، لذا في لحظة ضعفٍ منه قرر أن يعود لما كان يفعل قبل أن يقابلها، نزل من الدراجة الخاصة به ثم وقف أمام ملهى ليلي يهرب فيه من لحظة الاجتياح التي طالته، في السابق كان يأتي هنا من باب الخديعة لرجال الشرطة، أما اليوم فهو يخدع نفسه، لذا ولج وجلس على مقعدٍ بجوار واحدةٍ من الفتيات الساقطات التي ترتدي ما يُظهر أكثر ما يخفي ثم حاول أن يُصرفها عن عقله، حاول أن يرى أخريات غيرها لعله ينساها ويهرب من مطاردتها له، حاول وحاول وكل المحاولات تبوء بفشلٍ عظيمٍ، جلس هُنا حتى وجد فتاة تقترب منه بوضعٍ فجٍ جعله ينتفض فجأةً…
طالت النظرات بينه وبين الأخرى التي أجادت فن الاغواء عليه كي تؤثر به، أما هو فقبل أن يتأثر عقله دوى بجرس الإنذار يخبره أن مهما كانت زوجته فعلت فهي لا تستحق ما يفعل، حتى ولو كانت سيئة فهي لا تستحق الخيانة ولو بطرفة عينٍ، وهنا استفاق القلب من سكرته وردد كلمة زوجته كأنه يتعجب من الصفة، تلك اللحظة التي تحكم به شيطانه فيها جعلته على شفا حفرةٍ من الخطايا، لذا دفع الفتاة بعيدًا عن وجهه ثم خرج من المكان لاهثًا…
وقف بالخارج ضائعًا، وقف بتيهٍ، كل الخطوات فقدها فلم يعد بقادرٍ على السير، تغرب عن حاله لوهلةٍ يسأل نفسه، من هو، ما الذي أتى به إلى هُنا، كيف هي ملامحه، يقرب من؟ غريمٌ لمن؟ من هو؟ لحظة العقل ضاع فيها ثم عاد له ليستغفر ربه ثم عاد من طريق الضلال، عاد لبيته بحي “السيدة زينب” ثم ولج الشقة لخالته التي كانت تجلس تسند خدها فوق كفها بيأسٍ، حينها اقترب ووضع رأسه فوق حجرها يقول بضعفٍ:
_أنا ليه خليتها تعمل كدا فيا؟ ليه دي بالذات أحبها وأتوجع علشانها؟ هو أنا كان ناقصني وجع تاني؟ ليه دي مش غيرها؟.
ربتت فوق ظهره وقالت بقلة حيلة:
_علشان دي نصيبك، ربنا كرمها بيك وكرمك بيها، هي محتاجة حد يحميها ويكون في ضهرها ويساعدها، وأنتَ محتاج حد يكون معاك ويونسك، مافيهاش ليه، فيها الحمدلله على الرزق والنصيب.
أغمض عينيه بقوةٍ ثم تنفس بحدةٍ وآخر ما تفوه به كان:
_بس هي وحشتني أوي.
_والله يابني وحشتني أنا كمان، البيت سجن من غيرها.
هكذا جاوبته قبل أن يرفع عينيها نحو باب الغرفة التي كانت تسكنها في فترة جلوسها معهم، كان يأمل في خروجها من الغرفة بخجلٍ كما كانت تفعل دومًا وهي تتجاهله بالعين وقلبها ينصب له الشباك كي يسقط في حلو طُعمها، تحرك نحو الغرفة الخاصة بها ثم فتحها وأول شيءٍ داهمه كانت رائحة عطرها المميز وملابسها صاحبة الماركات الشهيرة، وكل شيءٍ يخصها تركت فيه بصمتها، لذا اقترب من الفراش الخاص بها ثم نام فوقه يضم دُميتها القطنية “بـاندا” وضحك بحزنٍ وهو يتذكر حديثًا دار بينهما في السابق ذات مرةٍ:
“هو أنتِ علطول حاضنة البتاع دا؟ لو خلفتي هتجيبي عيل شبهه على فكرة”
“والله هو محدش شبهه غيرك أنتَ، مالكش دعوة بيه”.
“براحتك أنا بنصحك بس علشان عيالك محدش يتنمر عليهم”
“محدش متنمر غيرك أصلًا، يا رب تتجوز واحدة شبهه.
“أيوة صح، أنتِ أهو حتى مش محتاج أدور برة”..
وحينها ضربته بتلك الدمية في وجهه ثم أغلقت الباب في وجهه فوجدته من الخارج يضم الدمية ثم قال بوقاحةٍ وعبثٍ:
_بس سيبك أنتِ حضنه حلو أوي، ولا ريحته تحفة ابن اللعيبة.
حينها ضحكت في الداخل ووصله صوت ضحكاتها، وقد وقف هو ضاحكًا ثم أخرج قطعة حلوى من مفضلاتها ثم وضع فوق ذراعي الدمية وتحرك من المكان بعدما ترك لها الحلوى، كانت ذكرى سعيدة تعمدها في يومٍ ولم يعلم أنه هو من سيحتاج لتلك الذكرى، وتلك الذكرى سنبقى كما الزهرة المحفوظة بين صفحتي كتابٍ ولازال أثرها عالقًا بها..
____________________________________
<“اليوم أراكِ فخرًا لي، فياليت العمر كله كان بنظرة منكِ”>
قاتلٌ، سالب الأرواح، مجرم في البلُدان
ظالم لكل بريءٍ، مظلومٌ من كل مجرمٍ، لكن أين العدل في ظلم عينيكِ؟ أين العدل يا مليحة الوجه ووجهك يقتل حتى بدون سلاحٍ، أين العدل وأنتِ عيناكِ تبرع في ظُلمي كأني عدوها، أين العدل وقلبك يفرض عليَّ الظُلم وأنا في حكاياه المظلوم؟..
قاعة واسعة، مؤتمر كبير، العدد وصل لما يقارب الخمسمائة بجلسةٍ واحدة، صفقات عالية، تصفيقات حارة، نظرات فخرٍ وابتسامات مجاملة، حديث كثيرٌ، رسمية طاغية، عملية مُطلقة، وهي تقف على المسرح الكبير أمام المئات وأكثر تتحدث عن الصحة النفسية منذ مرحلة الطفولة حتى الشيخوخة..
تقف وهي تتحدث بطلاقةٍ ومهارة طبيبة نفسية تُجيد ما تتحدث عنه، ترتدي بذلة نسائية بيضاء اللون تضفي عملية فوق مظهرها، تتحدث “فُـلة” أمام الجميع وتخبر الشباب الحاضرين من الجامعة، كانت تتحدث عن التراكمات ووحوش الطفولة التي تكبر مع مرور أيام العمر فتزداد تلك الوحوش قسوةً، وفي النهاية وقبل الختام تلاقت عيناها بعينيه، لحظة فخرٍ منه وهو يقف في الخلف يتابعها بعيدًا عن الزحام، فابتسمت هي له ثم عادت للحشد تقول بنفس العملية:
_مرة حد عزيز عليا من الأبطال اللي واجهوا وحوش الماضي قالي إن الإنسان علشان يخرج من الجحيم لازم يمر في طريقه، بمعنى إن الإنسان علشان يتعالج من التراكمات والأزمات النفسية اللي بيتعرض ليها، لازم يواجهها، لازم يقف قدامها ميهربش، على الأقل علشان يخرج من طريق الجحيم لازم يمر فيه حتى نهايته، الحقيقة إن الشخص اللي قالي كدا هو أكتر شخص واجه الجحيم وواجه أشباح الماضي والحاضر كمان، وهو المُلهم الأول ليا في الحياة والسبب علشان أكون مكاني هنا.
ابتسم بسعادةٍ ووقف يطالعها مبتسمًا بفخرٍ ثم أخرج هاتفه يلتقط لها الصور والمقاطع التصويرية توثيقًا للحظة فخره بها، وقف هكذا بدون مللٍ وقد التقط له “جـواد” تلك الصورة وصورة أخرى لشقيقته كي يوثق هو الذكرى بينهما، وما إن أنهت الحديث وعلا صوت التصفيق الحار لها ركضت هي نحو الخلف تحتضن “مُـنذر” الذي ضمها بقوةٍ ثم قال يخبرها بصدقٍ:
_فخور بيكِ أوي، مبسوط إنك مراتي وإنك صاحبتي وحبيبتي وشريكة عمري، مفيش حد غيرك يستاهل إننا كلنا نفتخر بيه وبكل حاجة وصلتي ليها بعد اللي حصل، أنتِ كتير عليا.
عادت للخلف تطالعه بعينين مغرورقتين ثم رفرفت بأهدابها تخفي أثر العبرات ثم قالت بصوتٍ مختلط المشاعر:
_محدش كتير على حد، أنا ليك وأنتَ ليا، صاحبي وحبيبي وجوزي وشريكي في كل خطوة، فأنا منك وأنتَ مني.
ضحك “مُـنذر” ثم ضمها بقوةٍ ودار بها كأنها فراشة في فصل الربيع تحلق بين الزهور وتنقل الرحيق هنا وهناك وهو الذي يحتاج لرحيقها كي ينسى رائحة تفشي الظلم والفساد.
في مكانٍ آخرٍ..
تحديدًا بداخل مشفى استثماري كبير كان “نـادر” يجلس فوق مقعدٍ يلقي رأسه للخلف أمام سرير “عـاصم” بعد أن قهرته سُلطة النوم، بينما الآخر فكان في حالةٍ يُرثى لها، وقد فُتِح باب الغرفة بهدوءٍ وولج الزائر بخطواتٍ زاحفة، خطوات بطيئة سار بها حتى اقترب من الفراش ثم اقترب من الجارور يفتحه كي يسحب منها مفاتيح “عـاصم” وبعض متعلقاته الخاصة، وما إن نال ما ود، التفت كي يغادر فلمح ابنه ينام فوق المقعد هكذا، ابتسم “سـامي” بسخريةٍ تهكمية ثم خرج من الغرفة بما سرق..
خرج وركب سيارته ثم أخرج هاتفه يتحدث مع محاميه ثم قال:
_المفاتيح معايا وكل حاجة تخصه، الورق يخلص بكرة، عاوز كل حاجة في بيت “الراوي” وكل جنيه عندهم يرجعلي، كفاية أوي اللي خدوه مني، بكرة الصبح كل حاجة تكون باسمي، ودي لعبتك بقى، توكيل “عاصم” ليا معاك، أتصرف بقى.
وها هو من زعم أنه صديقٌ ينقلب عدوًا،
أو ربما هو كان عدوًا منذ البداية والقلب لم يعلم،
فمتصنع الود تفضحه الشدائد،
وكاذب الطباع تكشفه الظروف.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)