روايات

رواية غوثهم الفصل المائة واثنان وثمانون 182 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة واثنان وثمانون 182 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة واثنان وثمانون

رواية غوثهم البارت المائة واثنان وثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة واثنتان وثمانون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع وتسعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
‏اللهم يا من كفانا كل شيء،
اكفِني ما أهمّني من أمور الدنيا والآخرة،
وثبتني اللهم على ما يرضيك،
وقربني ممن يواليك،
واجعل غاية حبي وبغضي فيك،
ولا تقربني ممّن يعاديك،
وأدم علي نعمتك وبرك،
ولا تُنْسِني ذكرك،
وألهمني في كل حال شُكرَك،
وعرِّفني قدر النعم بدوامها،
وقدر العافية باستمرارها
_”ابتهال”
____________________________________
وأنا ليس الذي يهرب من شيءٍ يؤذيه..
وأنا ليس الذي بجبانٍ عن قول الحق أمام الناسِ، أنا الذي يقف ويواجه حتى لو كانت النيران تندلع في جوفه، كل الأشياء التي لطالما هرب منها الناس كانت هي بذاتها التي أقف أنا في مواجهتها، كنت أنا الذي يواجه النيران في حين أن كل المدينة كانت تهرب خوفًا منها، كنت أقف في وجه الأمال الكاذبة وأنا أعلم أن الألم هو سوف أُجنيه منها فقط، كنت أحاول وأنا أعلم أن المحاولة لن تنفعني بشيءٍ لكني كنت أفعل ما بوسعي حتى أقف أمام نفسي وأنا أعلم أنني ذاك الشخص الذي فعل كل شيءٍ بوسعهِ، أعلم أن الأمر يشبه قصة حزينة تُسرد ببقايا طاقة نافذة لكن الأمر لم يكن بغاية الألم مثلما كنت أحاول،
فذات مرةٍ وأنا في الصِغر كنت أحب كأسي المفضل، ولم أشتهِ أن أرتشف في كأسٍ غيره، ويوم أن كُسِر هذا الكأس ركضت عليه ألملم شتاته من فوق الأرض رغم تأكدي من جرحه لي، إلا أني كنت على يقين أن تلك المحاولة نابعة من صميم القلب المُحب..
حينها ركضت بأقصى سرعتي ألملم الكسور وقلبي يُضاهيها كسرًا وهشيمًا، وقتها كان بإمكاني أن أتخلى لكني لم أكن ضعيفًا بل كنت أحاول لأجل عزيزٍ..
<“مرة واحدة تقصدك الأعين بلهفة مستغيثٍ”>
الأعين نواطق ولو السهام روامق..
لذا ستجد في الأعين نظرات تقصدك أنتَ وتوجه الحديث لك حتى لو كانت سهامها ترمقق أنتَ، الأعين دومًا تصيد مقصدها من بين الجميع ونصيب هدفها، لذا مهما كانت النظرة التي أمامك تهرب منك، لطالما وصلت لقلبك وشعر بها، فتيقن أن تلك النظرة مقصودة، وربما من بين كل المقاصد قصدتك أنتَ تستغث بك..
_يومين وهنتحرك، فيه حاجة مهمة هنا هخلصها للحج “عبدالقادر” وعياله، ودا لو طلب مني روحي مش هبخل بيها عليه، ممكن تمشي أنتَ وخليني أنا هنا ولما أخلص أحصلك.
وقبل أن يرد عليه “مُـنذر” ويرفض الحديث أو يستعلم السبب، صدح صوت هاتفه برقمٍ غريبٍ جعله يعتدل في جلسته وملامحه المتأهبة جعلت “يـوسف” ينتبه له ويضم جبينه، بينما “مُـنذر” قال بعجبٍ في الأمر:
_دا “مارسيلينو” واحد من رجالتي في إيطاليا.
توسعت عينا “يـوسف” واعتدل في جلسته، بينما الآخر جاوب على المتصل بثباتٍ وانتظر الرد منه، فجاء الحديث الصادم بقوله الذي جعله ينتفض من موضعه وينتصب في وقفته حتى وقف نظيره “يـوسف” بخوفٍ ثم انتظره حتى تلاقت الأعين ببعضها، فقال هو بصوتٍ مهتز الوتيرة:
_”ماكسيم” خطف “نـادر” وسلمه لـ “سـامي” في إيطاليا..
توسعت عيناه من هول الصدمة عليه، وفرغ فاهه مُستنكرًا عبور تلك الكلمات من سمعهِ، بينما “مُـنذر” فكان يقف بصمتٍ وهو يرى ملامح “يـوسف” باهتة لهذا الحد وقد سأله بصوتٍ خافتٍ كأنه لم يفق بعد حتى تلك اللحظة:
_يعني إيه خطفه؟ “نادر” هناك في شغله أصلًا، خطفه إزاي دا؟.
كان يردد الحديث بصدمةٍ بدت قاتلة له، بينما “مُـنذر” ففسر الفعل بقوله المُخمن لهذا الفعل:
_ممكن يكون متابعه أصلًا وأول ما لقى الفرصة مناسبة خطفه، وعمومًا الفعل دا سهل أوي عليهم، دا راجل عنده أسطول في كل بلد وكلهم تحت أمره مفيش حد يقدر يقوله لأ، بس فكرة إن “نـادر” في إيديه دي صعبة، لأن أصلًا “سـامي” هناك معاه يبقى فيه كارثة بيحضروا ليها، الفكرة كلها “نـادر” يخرج من هناك إزاي؟.
ارتمى “يـوسف” فوق المقعد ومسح فوق وجهه بكلا كفيه ثم حرك رأسه نفيًا بيأسٍ وهو حقًا لا يعلم ماذا يفعل في مصيبة مثل هذه، الأمر يتطلب منه قدرة فائقة للتحمل في حين أنه على شفا حُفرةٍ من نيرانٍ مُضرمة نبشت في صدرهِ، وأضحى قاب قوسين أو أدنى من انفجارٍ أكيدٍ، بدأت الأصوات تعلو والتفكير أخذ يزداد في رأسه وصورة عمته وهي تستغث به تدور في عقله، وهو أضعف من أن يترك ابن عمته هكذا، لكن ما العمل إن كان فقد كل الحِيل من كلتا يديه ولم يعد بقادرٍ على أي فعلٍ؟..
أما “مُـنذر” فأوقف تدفق مشاعره لوهلةٍ وبدأ عقله يتولى مهمته، ولى التفكير حقه وسُلطته ثم فتح هاتفه من جديد يُراسل “مارسيلينو” وهو يخبره بما يتوجب عليه فعله حتى لا تساورهم الشكوك تجاهه، والآخر كان يوافقه في كل شيءٍ ثم تحرك من مكانه كي يبدأ التنفيذ مُباشرةً..
في “إيطاليا” حيث بيت “ماكسيم”…
تحديدًا بغرفة “نـادر” الذي ظل حبيسًا بها يجلس بجوار الفراش فوق الأرض يضم رُكبتيه بكلا كفيه ونظرات عينيه تحكو عن حاله، عيناه الهالعتان تظهر منهما الشكوى وخيبة الأمل في والده ورجائه، كان جالسًا بتيهٍ والبكاء رغمًا عنه كان أسيرًا بين الجفون، سؤاله بقى عالقًا في رأسه وهو يدور بخلده كيف هان قلبه على أبيه؟
كيف يعلم أنه بهذا الوضع ووحده فيتركه…؟
كيف تركه في الطوفان وولى الدُبر عنه تاركًا إياه في بئرٍ عميقٍ مُظلمٍ وروحه تحترق من الداخل؟ كيف هان عليه ذاك الجزء من قلبه وتلك القطعة من روحه؟ كيف استطاع أن يكسر بخاطره أمام نفسه ضاربًا بعرض تلك المحبة التي كانت بينهما عرض الحائط؟ كيف حتى تلك اللحظة لم يمت وظل يتنفس كارهًا أنفاسه تلك التي تخرج وتدل على أنه لازال حيًا..
فُتِحَ الباب فجأةً ثم أغلق من جديد بالمفتاح..
بينما “نـادر” فأطبق جفونه فوق بعضهم حتى لا تخونه عيناه وتُطالع وجه الوالج له بينما “مارسيلينو” فوقف يُطالعه من علياءه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أنا جاي ليك من طرف “مُـنذر” وهخليك تكلمه.
توسعت عينا “نـادر” وارتخت أعصابه وهو يفرق لقاء كفيهِ ويرفع عينيه لمن يحدثه فجثى الآخر فوق ركبتيه ثم قال بنبرةٍ خافتة:
_بص أول حاجة مينفعش تتكلم معايا برة مهما حصل، ولازم يحصل بينا خلاف قوي علشان يخلوني أسيطر عليك، دي سياستهم هنا، يخلوا العدو مسيطر على الطرف الضعيف، وعلشان كدا بقولك لازم يحصل بينا خلاف قوي علشان أكون ملازمك زي ضلك، تاني حاجة محدش يعرف إني بتكلم عربي أو مصري، أنا هنا “مارسيلينو” من إيطاليا، بالبلدي كدا يا ابن عمي لو عرفوا هينفخونا.
فرغ فاه “نـادر” وهو يُطالع الشاب الذي تختلف ملامحه عن لهجته الشعبية كأنه عاش في موطنه سنوات عمره بالكامل، بينما الآخر أخرج هاتفًا صغير الحجم يضعه في قبضة “نـادر” ثم همس له بخفوتٍ:
_الموبايل دا فيه رقم “مُـنذر” متخصص للعصابات هنا، مبيخرجش أي صوت مهما حصل، خليه معاك تكلم منه “مُـنذر” وهتلاقي رقمي معاك برضه، عمومًا متقلقش، أنا معاك هنا لحد ما ترجع تاني بلدك، بس لازم تسمع كلامي كله.
أنهى حديثه وكاد أن يرحل لكن صوت “نـادر” المستفسر بشكٍ قال يوقفه في محله:
_وأنا إيه يضمنلي إنك مش جاي تورطني معاهم؟.
التفت له الآخر فابتسم بسخريةٍ يضيف لها تهكمًا بقولهِ:
_لو مش واخد بالك أبويا اللي عامل فيا كدا، هأمنلك أنتَ؟.
وبوجهة النظر الصحيحة،
هو حقًا يؤخذ بقوله، كلامه كان صحيحًا، لذا وقف أمامه الطرف الآخر يخضع له بالقول ويوافقه الرد:
_في دي معاك حق، بس لو مش واثق فيا يبقى كلم “مُـنذر” وهو هيقولك اللي فيها وعمومًا مش من مصلحتي أضرك، عاوزك تخرج من هنا كويس وأسلمك لأهلك كويس كمان، تمام؟.
وثق به “نـادر” تلك الثقة اللحظية التي تشبه ثقة الغريق بتلك القشة المارة فوق سطح المياه، رغم علمه التام أنها لن تنفعه قدر الكفاية لكنه كان يترك في نفسه أملًا أن الغرق في هذا الطوفان لابُد له من مخرجٍ بقلبٍ يتقِ خالقه ويثق في رحمته الواسعة، وفي تلك اللحظة بالتحديد أتته البُشرى بقول “أيـوب” الذي عاد لذهنه من جديد كأنه نورٌ يُنير ظُلمة حاله:
_لو كانت دُنيا دايمة للعباد مكانش ربنا خلق جنة ونار،
كان سابنا في الدنيا دي نتعلم وناخد عِبر ودروس بس، لكن من رحمته إنها هي الدنيا بذاتها، والخير في الأمر أن العذاب فيها مش دايم للمؤمن، كل يوم بنصحاه بيكون فرصة جديدة ببداية جديدة بحياة جديدة لينا نبدأ من تاني، طالما مش خسران نفسك في معصية وهلكة نفس يبقى أنتَ لسه حُر، ولو كل مرة تحس نفسك غريق والدنيا مقفولة عليك في وشك ردد دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:
_”يا حي يا قيوم برحمتك استغيث،
أصلح لي شأني كله ولا تَكلني إلى نفسي طرفة عينٍ”.
في تلك اللحظة كان عقله عاد لوعيهِ..
بدأ يستفيق للدنيا حوله فلم يرهقه الأمر كثيرًا، تذكر أنها دنيا وتمضي والمرء فيها مأجورٌ على البلاء وعلى التعب، لذا سلم أمره للخالق وظل يردد الدعاء ألا يتركه ربه لنفسه فتهلكه، خشى أن يفقد صوابه هُنا لذا كان يتمنى الموت أهون عليه من معصيةٍ فادحة يقع فيها مجبورًا..
____________________________________
<“ستأوىٰ روحك لمن كانت تألفه حتى لو نساه عقلك”>
إن الروح تأوىٰ لمن تألفه..
وتستقر بين رحابة الارواح التي تُحبها، ولأن الروح باقية فالحُب منها يكون كذلك باقيًا، فحتى لو تغربنا وتقطعت الأسباب بنا وقرقتنا المُدن وأصبحنا سيرة تلوك في فاهِ كل مارٍ يشفق على تلك القصة، الأرواح من جديد ستتلاقى، في مكانٍ ما وسط زحامٍ ما بين الغرباء المارين ستلتقط عيني مقصدها من بين كل العيون والروح ستألف الروح ولو وسط كُربة الغُربة…
الساعة وصلت السابعة بالتحديد وهو وصل معها..
صف السيارة أسفل البناية ثم خرج منها يقف أمام البوابة الحديدية ينتظر طَّلتها عليه بروحٍ تتأهب للرؤية مُتلهفًا، كانت هناك لمحة فضولٍ _غير مُبررةٍ لديه_ في رؤية ما سترتديه، كان يأمل الرؤية حتى وجدها بالفعل أمامه وهي تبتسم بسعادةٍ لم تفلح في إخفاء أثرها..
بينما هو فوقف يشملها بعينيه وهي ترتدي فستانًا أسود اللون يرسم جسدها بشكلٍ مقبولٍ وليس مُلفتًا للأنظارِ، وزينته الفصوص اللامعة الرقيقة من عند الأكمام الرقيقة وكذلك حول الرقبة، ثم صعد بعينيه نحو عينيها المرسومتين بشكلٍ مُبهر صنيعة يد “عـهد” التي ساعدتها في إطلالتها حتى تُعيده لها من جديد..
وقف مُحملقًا بها لا يصدق أن تلك التي تقف أمامه هي بذاتها التي نساها هو وعاد عنها غريبًا لكن روحه تألفها، يشعر أن غربته عنها تلك مؤقتة وهي لم تكن بتلك الغريبة عنه، لذا اقترب منها يقف أمامها ثم سألها مشدوهًا بعينيها:
_هو كل دا علشان العروسة صاحبتك بس؟.
كان يقصد بحديثه هيئتها بينما هي ابتسمت ما إن أدركت سبب خطفه بهذه الطريقة ثم قالت بثباتٍ كأن هذا أقل ما لديها من فعلٍ، وكأنها لم تتعمد أن تفعلها:
_عادي يعني دي أقل حاجة عندي، هو الإنسان لازم يكون حلو علشان خاطر حد؟ إحنا بنحلو علشان خاطر نفسنا مش أكتر، وعلشان لازم نكون أصلًا حلوين علشان نفسنا يا “إسماعيل”.
أومأ لها موافقًا ثم التفت يفتح لها باب السيارة المجاور له بينما هي فجلست بصمتٍ تامٍ تنتظر فعله القادم بتأهبٍ أجج النيران بها، جلس وجلس هو بجوارها وشرع في قيادة السيارة وهو يتعجب من صمتها، ومن رغبته في لثم وجنتها وكأنه اعتاد هذا الفعل دومًا، صارع نفسه وتجاهل تلك الرغبة الوقحة كما فسرها وخرج من المكان بصمتٍ حتى وصل لمقدمة الشارع العام فوجده متكدسًا، حينها أوقف المحرك وانتظر حتى تعود حركة السير بانتظام، وما إن طالت المدة التفت يسألها باهتمامٍ:
_خايفة تتأخري؟.
انتبهت له تحرك رأسها نفيًا وكأن الأمر لا يُعنيها وقد انتبه هو لها من جديد، كأن بها السحر الخاص الذي يجبر عينيه ألا تُحيد عنها مهما كانت قوة إرادته وعظمة ثباته، إلا أن عينيها لها السحر الخاص بها، ودون أن يعي لنفسه أقترب منها يُلثم وجنتها بعمقٍ حتى أجفل جسدها من قربه منها، بينما هو عاد يستقر فوق المقعد ثم صارحها بقوله:
_بقالي ربع ساعة عاوز أعمل كدا بس كنت خايف، شكل “إسماعيل” حبيبك كان شقي أوي يا “ضُـحى”.
ضحكت رغمًا عنها حتى اصطبغ وجهها بحمرةٍ فانية وارتفعت درجة الحرارة في وجهها ففتحت النافذة بجوارها كي يلفح الهواء وجهها ويُناقض السخونة التي تدفقت لها، لذا كان جلوسها بقربه مُهلكًا لأعصابها وهي تراه بجوارها والمسافات تفصل بينهما كأنهما غريبان في أول عهود اللقاء المُصمت..
بعد مرور بعض الوقت وصلا سويًا مع بعضهما لقاعة الزفاف تزامنًا مع وصول العروسين فبدأ الاحتفال لتوهِ، العروس مثل زهرة بيضاء وسط حقلٍ يحتفل بها، والعائلة تتكاتف بمباركات وتهنئات لبضعهم البعض والسعادة تبسط ذراعيها وتضم المُحبين في كنف ليلةٍ لا تنسى ومقصدها “ليلة العمر”..
وما بين ليلة لا تُنسى وليلةٍ لم تنسَ..
كان القلب عالقًا في حبالٍ واهية يعرض على العقل ذكرى شبيهة لهذه، فما بين شعور اليوم وأمل الأمس قد يفقد الإنسان تلك الأشياء التي ظن بها موته؛ لكن جلل الأمر كان في فقده لتلك الأشياء وهو لازال حيًا، لذا وقفت “ضُـحى” تبتسم رغم حزنها حينما تذكرت أمر زفافها المغدور وتلك الليلة الغابرة التي طرأت في حياتهما لتدمر كل شيءٍ وتحول الأمال إلى آلامٍ..
لاحظ “إسماعيل” تبدلها وحزنها فمال عليها يسألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة؟ حصل حاجة زعلتك؟.
انتبهت له وحركت عينيها نحوه فأشار برأسه نحو وجهها كأنه يخبرها أنه فهم سبب تحولها من تلك الملامح التي تغيرت، فأغصبت شفتيها على بسمةٍ مجبورة ثم قالت كاذبة الإدعاء:
_لأ متقلقش محصلش حاجة تزعلني، أنا كويسة، أنتَ كويس؟.
_لحد دلوقتي آه علشان معاكِ، الله أعلم كمان شوية بقى.
ابتسمت لجوابه عليها ثم اقتربت منه أكثر تسير بجواره نحو الداخل خلف الحشد المتجمهر احتفالًا بالعروسين، بينما هو فكان لا يفهم شيئًا من حوله، كل الوجوه عابرين عليه منهم من كان مألوفًا ومنهم من كان غريبًا، كل الناس حوله يصافحون ويرحبون به حتى هي تركته وذهبت للفتيات تقف معهن وتلتقط الصور وهو يجلس بصمتٍ ولأجل هذا الشعور كره التواجد هنا..
مرت عليه فتاةٌ بفستانٍ عارٍ يُبرز الكثير من تفاصيل جسدها وجيدها، رائحة عطرها قوية لفحت أنفه حينما اقتربت منه وهي ترحب به بصوتٍ مسموعٍ وسعادةً لرؤيته:
_إزيك يا “إسماعيل” عامل إيه مبسوطة أوي إنك جيت الفرح، “ضُـحى” كانت قالت إنكم مش هتيجوا علشان عندك شغل ضروري، بس مبسوطة إنك جيت والله، الفرح منور بيك، عقبال يا سيدي فرحكم اللي كل شوية يتأجل دا، شكلك مش ناويها.
رفع حاجبيه مستنكرًا هويتها وهو يحاول أن يفهم من هذه التي تتحدث بتلك الأريحية معه وكأنه تعرفه خير المعرفة؟ وقف تائهًا أمامها وهي تبتسم له بسمة غريبة لم تُريح روح الرجل بداخله، لذا قرر أن يوجز في الحديث معها بقوله:
_والله كل شيء نصيب ولسه ربنا مأرادش، بس قريب هيحصل.
ابتسمت هي له ثم قالت بفضولٍ لم تُحجمه عيناها:
_لأ ربنا معاكم، صحيح أخبار صحتك إيه دلوقتي؟ كنت عرفت إن حصل أزمة صحية وأنتَ تعبت شوية، أتمنى تكون بقيت أحسن دلوقتي يعني.
ومن هُنا كره حقًا التواجد والحضور فلم يجد ردًا مناسبًا..
بينما الفتاة وقفت تنتظر جوابه حتى أتت “ضُـحى” وهي تقول بجمودٍ قصدته وتعمدته معها:
_خير يا “مروة” يا حبيبتي؟ فيه حاجة.
التفتت لها الفتاة تبتسم باصفرارٍ وهي تقول:
_لأ خالص، أنا كنت بتطمن على “إسماعيل” مش أكتر، عقبالكم يا حبيبتي قريب نحضر فرحكم، بس أبقي أعزميني بس متبقيش ندلة يعني وتعملي نفسك متعرفينيش، ولا إيه يا “إسماعيل”؟.
وجهت آخر كلماتها له بينما هو فسكت عن الرد وكذلك فعلت “ضُـحى” حفاظًا على زفاف رفيقتها، بينما الأخرى انسحبت من المكان حينما وجدت “ضُـحى” تتجاهلها وهي تجلس بجوار زوجها، فجلس “إسماعيل” حائرًا ثم سألها باهتمامٍ:
_هو “إسماعيل” حبيبك كان موقفه إيه من البت دي؟.
لاحظت هي تحدثه عن نفسه بصفة الغائب فتنهدت بقوةٍ ثم قالت بجمودٍ وعزوفٍ أتيا رغمًا عن روح الأنثى بها:
_”إسماعيل” حبيبي مكانش بيطيقها ولا بيطيق ست غيري في كل الدنيا، ودي بالذات مكانش بيرضى يخليني حتى أقف معاها علشان مياعتها دي، لو الرجالة اختفت من الدنيا محتواها هيضيع، ولما كان يعرف إني حتى أتكلمت معاها كان بيتضايق ويقولي إنها مش شبهي خالص، ها ارتحت؟.
ابتسم رغمًا عنه حينما وجدها تنفعل بتلك الطريقة في وجهه ثم مال يهمس بمرحٍ قاصدًا التلاعب بها حينما استنبط غيرتها عليه:
_أنا بقول بالراحة علشان وشك ميكرمش بدري، بعدين سبحان الله نفس الشعور بيني وبينه، حاسس إني مش طايق حد هنا غيرك أنتِ وبس، ما تيجي نخرج برة علشان زهقت بصراحة.
ابتسمت له بعينيها ثم تحركت أمامه وهو خلفها حتى اعترض طريقها أحد زملائها بالمكان وهو يقول بدهشةٍ من رؤيته لها بهذا الوهج بعدما كانت أنطفأت ملامحها:
_عاملة إيه يا “ضُـحى” إيه الحلاوة دي كلها؟ زي القمر يخربيتك.
وقفت هي بخوفٍ وحركت رأسها للخلف فوجدت “إسماعيل” يضرب الأرض الخطوات الفاصلة بينهما ووقف أمامها يفصلها عن الآخر وقال بجمودٍ وصلدةٍ:
_بخير، المدام بخير يا أستاذ طالما مع جوزها، عن إذنك بقى.
قبض فوق يدها وهو يسحبها خلفه وهي تحاول أن تُجاري خطواته الواسعة وهو يتحرك بها حتى سحبت يدها من يده حينما تعرقلت خطواتها في السير وقالت بصوتٍ عالٍ:
_بالراحة يا “إسماعيل” هقع كدا.
وقف عن السير ثم التفت لها فوجدها تترنح وهي تقوم بضبط حذائها صاحب الكعب المرتفع، وقد وقف بجوارها ثم مد ذراعه لها يأمرها بصوتٍ حادٍ رغم لينه ورفقه:
_اسندي على دراعي أهو واظبطي الكعب براحتك.
رفعت حاجبها له وقالت بتلقائيةٍ كما هو طبعها دومًا:
_ما الحيطة أهيه يا عم الرومانسي، أسند عليها أولى.
اشتد قبضته فوق ذراعها بينما هي فضحكت رغمًا عنها تنتهج نهج قلب الطاولة عليه قبل أن ينفعل هو وقد أسندت بالفعل فوق ذراعه وقامت بانتعال الحذاء من جديد ثم استقامت في وقفتها فخرج بها من جديد يجلس في الفراغ معها وقد استقرا فوق مقعدٍ مع بعضهما وقد تنفس هو بقوةٍ ثم رفع رأسه يُطالع السماء بنجومها اللامعة، فاقتبس منها ضوءًا أدخله لقلبه فنتج الحديث منه بقول:
_عارفة؟ وأنا وسط الكل جوة عرفت إنك مش غريبة عني، يمكن العقل ناسيكِ ومسقط كام تفصيلة بس وأنا وسط الناس متأكد إنك مش غريبة عني، وسط الناس كلها بحس إني محتاج أهرب، مش عاوز أكون معاهم، بس أنتِ غير الكل، دايمًا حاسس إني منك وليكِ، عاوز أكون معاكِ علطول، القلوب بتحس بدفا حبايبها، وأنا قلبي حاسس بالدفا ناحيتك.
وجملته تلك تشبه جملة قد كان كتبها هو ذات مرةٍ في السابق لأجلها فأخرجت هاتفه تضعه نصب عينيه ثم قالت بنبرةٍ هادئة على صورة عقد قرانهما يوم أن أشهره عبر صفحته بصورتهما سويًا داخل مرآةٍ تحمل تاريخ العقد ثم أضاف:
_القلب بيحس بدفا قلب صاحبه،
وأنا قلبي اختار قلبها يصاحب.
ابتسم للذكرى الغائبة عن مدار العقل بينما هي تنفست بعمقٍ ثم رفعت كفها على استحياءٍ تمسح موضع قلبه وهي تقول بشجنٍ أتى من عاطفتها له:
_الذكريات بينا بترجعك ليا من غير ما أحس، من غير أي مجهود آجي بيه عليك أو عليا أنتَ بتفتكرني أهو، وأنا كمان برجع القديم معاك، الناس اللي بتحب بجد ما بتصدق تلاقي فرصة ترجعها لحبايبها، ما بتصدق المسافات تقل وتتمحي، ودا بحد ذاته الفرق بين اللي ما هيصدق يخلص منك وبين اللي عاوزك فعلًا ومستعد يكمل طريقه معاك، وأنا كنت متأكدة إن اللي جواك ليا كبير.
ابتسم لها بحنوٍ ثم رفع رأسه من جديد للأعلى واشتم الهواء النقي لداخل رئتيه بينما هي وضعت رأسها فوق كتفها بترددٍ وما إن تلاقت الأعين ببعضها بينهما قالت بصدقٍ وهي حقًا لا تخفي عليه ما في قلبها:
_أنتَ فعلًا وحشتني، وحشني صاحبي اللي مكانش بيسيبني.
_اعتبري صاحبك بيرجعلك أهو.
ووعده صادقٌ كما نظرة العين..
بريءٌ كما براءة قلب الصغير الذي ولد لتوهِ، كان يقطع الوعد بنظراتهِ وقلبه يؤكد لها أن من يجلس أمامها ليس بحانثٍ للوعود، لذا طال الصمت المُطبق بينهما وطالت النظرات الصادقة وهي تتمسك بوعده تأمل في حياةٍ جديدة معه هو بدلًا من تلك السابقة التي دمرها الخريف وسرق ربيعها؛
لذا عاد الرأس يستقر فوق الكتف، فمهما ثقل الحمل ومهما زاد الكتف ضعفًا لن يُثقله يومًا رأس المحبوب
____________________________________
<“وكأنني أناضل من جديد في حقي بكِ أنتِ”>
لأنك خُلقتي حُرة تستحقين أن يُدافع عنكِ كل حُرٍ..
لذا كنت أنا أول المنتفضين لأجل الدفاع عنكِ وعن حقك، كنت أول الثائرين لأجلك، كنت ولازلت أول من يقف في مواجهة الصفوف حتى استرد حقكِ من بين أنياب الأسود جمعًا..
كانت في تلك الغرفة التي خُصِصت لأجلها في تلك الشقة التي تشبه بيتًا أثريًا في حي السيدة زينب، حيث كانت “نورهان” تستقر بجوار الخزينة بعدما تناولت تلك الجرعة المُقززة من المخدرات، كانت تكره نفسها لكن ضعفها كان أقوى منها، حنثت بوعدها الذي قطعته لأجله وخانت أول عهدٍ له وهي تعود للطريق الضال من جديد، كانت ترتجف بخوفٍ منه إن علم أنها فعلت هذا الشيء من جديد، فتلك المرة لو ألقاها بالشارع لن تملك الجرأة كي توقفه، لكن كيف تخبره عن رغبة جسدٍ يُلح مُطالبًا بشهوة المخدرات؟..
بكت وهي تجلس بجوار الخزينة بعدما انتشى جسدها بسريان تلك الجُرعة لجسدها الهزيل وظلت ترتجف بألمٍ سار في مفاصل العظام بسبب ألمها السابق حينما ظلت تقاوم دون أخذ جرعتها، لذا ما إن طُرِق الباب انتفضت هي تجاوب بصوتٍ مبحوحٍ، ثم انتفضت تُلملم آثار جريمتها قبل أن يكتشفها هو، وما إن فتحت الباب له وطالع وجهها هربت من عينيه بينما هو مد يده لها بالطعام وهو يقول بصرامةٍ:
_”كِـنز” قالتلي إنك مش عاوزة تاكلي من الصبح، ياريت تاكلي علشان علاجك شديد ولازم الأكل يصد اللي أنتِ بتاخديه دا، بس أنتِ شكلك عامل كدا ليه؟ أنتِ كويسة؟.
ارتبكت أمامه وهي تحاول اختلاق كذبة توشي بما يستفسر عنه لكنها صمتت، فابتسم بسخريةٍ ثم ترك الطعام وقال بقسوةٍ وعزوفٍ عنها لمحته هي في نظراته الكارهة لها:
_الأكل كدا مالهوش لازمة، هعملك كوباية عصير علشان تظبط مع دماغك، مفيش فايدة، أنا تعبت وأنتِ إرادتك ضعيفة كدا، عمالة تتحججي ومش عاوزة تروحي المصحة، وبتاخديني على قد عقلي؟ طب وآخرتها طيب؟ هتعملي إيه في حياتك الجاية كدا؟ هنكمل بالوضع دا؟.
هرع الدمع من عينيها مدرارًا بينما هو زفر بقوةٍ ثم ولاها الدُبر وتركها تقف متسمرةً محلها بينما هو خرج من الرواق بخطواتٍ واسعة فلحقته هي بسرعةٍ كبرى وهي تناديه مُلتاعةً فتجاهل هو النداء وخرج يقف عند الباب بعدما اصطدم بكتف “كِـنز” التي خرجت بلهفةٍ من الداخل تركض خلف خطواتهما، وفي تلك اللحظة صدح صوت جرس البيت فركضت تفتحه هي بلهفةٍ لتجد أمامها رجلًا تبدو عليه علامات الثراء وفي تلك اللحظة ولج ووقف أمام ابنته وهو يطالعها بنظرات نارية…!!
بينما هي تمسكت في قميص “بـاسم” وقبضت فوقه بخوفٍ كأنها ترجوه ألا يستغنى عنها، بينما هو فوقف بصمودٍ أمام والدها الذي ولج لهما وقال برفعة أنفٍ وشموخٍ:
_بقى هو دا المكان اللي سيادتك سايبة بيتك علشان تيجي تقعدي فيه؟ أنا دلوقتي اتأكدت إنك مجنونة رسمي وحركاتك كلها مش محسوبة، بقى فيه واحدة عاقلة تسيب بيت زي بيتك وتيجي هنا تقعد في حارة زي دي؟ قدامي اتفضلي يلا.
حركت رأسها نفيًا وبكت وهي تتوسل “بـاسم” ألا يتركها ورغمًا عنها ظلت تُثقل خطواتها بالأرض حتى يصعب عليه أخذها وقد صرخت بقهرٍ ترفع صوتها تستغث به:
_ألحقني يا “باسم” علشان خاطري، متسيبهوش ياخدني.
وهو في تلك اللحظة بدأ يستفيق لنداء الواجب،
تمامًا كما لو كان وطنه يُناديه مُطالبًا بثورته حتى يساعده ويخلصه مما هو فيه، لذا اندفع بجسده وحررها من قبضة أبيها ثم هدر بجمودٍ وصوتٍ عالٍ:
_مالكش حق تيجي تاخدها دلوقتي بعدما خليتها تتدمر، جاي بأي وش تفتكر إنك ليك بنت وعاوزها؟ كنت فين سيادتك طول الفترة اللي فاتت دي؟ جاي دلوقتي علشان خايف على منظرك صح؟ خايف على شكلك لما بنتك تقعد في مكان زي دا، بس أنا هقولها ليك وخد الناهية، أنا هتجوز بنتك، وهتبقى مراتي ومش هتخرج من هنا طول ما أنا عايش واسمها على اسمي، عاوز تكون موجود أهلًا وسهلًا فوق راسي، مش عاوز يبقى تنسى إنك ليك بنت أصلًا.
وقفت هي بفاهٍ فارغٍ وعينيها تحجر بهما الدمع وهي تُطالعه بنظراتٍ زائغة وقد أدركت الرفض القاطع من والدها وتصميمه على أخذها، لكنه أمامها طالع وجه كليهما بنظرات ثاقبة ثم قال بنبرة هدوء قتلتها كما لو كان مرر السكين فوق نحرها:
_بس ماتجيش تلومني ولا تسألني عن حاجة من أفعالها، وأنتِ تنسي إنك ليكِ أب وبيت وفلوس، وريني بقى هيصرف عليكِ منين، والبيت أخواتك هيروحوا يقعدوا فيه من بكرة، وياريت تبطلي مصايب شوية، أما أنتَ بقى فأنا مش هكرر كلامي ليك تاني إنك متسألنيش في حاجة تانية طول ماهي معاك.
والقتل أنواعه كثيرة لكن لا شك أن تلك الطريقة التي قتلها بها أبيها هي الأكثر قسوةً على الإطلاق، حديثه جعلها تقف وهي تُطالعه بملامح منكسرة ثم أطرقت رأسها للأسفل بخزيٍ وهي تكتم عَبراتها بينما “بـاسم” فلم يعجبه حزنها، لذا رفع صوته بإقدامٍ أمام والدها:
_مش عاوز منك حاجة، ومن الليلة دي خليك فاكر إنك أنتَ اللي شيلت إيدك من حياتها علشان مش هتدخلها بعد كدا لو من باب الصدفة، ومن دلوقتي بنتك دي تنساها وتنسى اللي يخصها، يوم الفرح هعرفك زيك زي الغريب، علشان تيجي وتبقى وكيلها غير كدا دورك مرفوض في حياتنا.
ابتسم له والدها بسخريةٍ ثم رحل من المكان بينما هي فوقفت لا تصدق الموقف ككلٍ، كيف استطاع والدها أن يحرق قلبها بهذا الشكل في حين أن الغريب الذي لم تجمعها به إلا معرفة شهور قليلة وقف يُنصفها؟ لذا كانت ترغب في أن تنشق الأرض وتبتلعها بداخلها لكنها فضلت الصمت المُطبق حتى رحل والدها وأغلق الباب خلفه فجلست هي فوق الأرض باكيةً بصوتٍ عالٍ جعل “كِـنز” تهرول نحوها وهي تضمها بلهفةٍ لعناقها وتمسح فوق ظهرها..
بينما “بـاسم” فوقف يُشفق عليها وهي وحدها وسط طوفان الأيام، كان يعلم أن براءة قلبها ستفشل أمام قسوة الآخرين، لذا جلس بقربها فوق الأرض ثم حرك خصلاتها للخلف بعيدًا عن عينيها الباكيتين ثم قال بصوتٍ متعبٍ لأجلها هي:
_هما ميتساهلوش وجودك، طالما هان عليهم خاطرك وقلبك يبقى محدش يستاهل قربك منه، أنا معاكِ أهو واعتبريني أهلك كلهم، قريب هنكتب الكتاب علشان كل حاجة تبقى صح، بس توعديني إنك هتسمعي كلامي أكيد؟ مش هنتكلم تاني في موضوعك دا.
أومأت له موافقةً بانكسارٍ ثم عادت تستقر فوق صدر “كِـنز” فتوقف هو الحديث وأبعد كفه عنها ثم تحرك من مكانه وترك لها الحرية كي تتحدث مع خالته التي ظلت تُعانقها وتمسح فوق رأسها وهي تدعو الله أن يجبر بخاطرها بعد أن كُسِرَ، وتلك هي الحياة بذاتها، يكسر بخاطر قلبك من كنت تحسب نفسك عليه عزيزًا، ثم يأتي غريبٌ ويجبر بخاطر قلبك الحزين فتتبدل الأدوار من تلقاء نفسها، حيث يصبح القريب غريبًا،
ثم يغدو الغريب من أقرب المُقربين لمركز القلب..
____________________________________
<“والجديد في أمر الحياة أنها لن تبقى للأبدِ”>
كيف للمرء أن ينجو من حربٍ بداخله إلا بالموت؟
وكيف ينجو المرء من تلك الحرب التي تنشأ في الرأسِ وتشكل جيشًا من الأفكار المُبهمة؟ لو كان الأمر سهلًا لكان فعلها كل فردٍ ونجا بنفسه من هلاكٍ يسكنه، لكنها وربي صعبة وأصعب من إخراج النفس بعد الغرق، لذا الأمر في الغرق بالبؤس لا ينتهي إلا بالموت..
فجرًا وعند بزوغ الفجر…
كان “أيـوب” في المسجد يجلس قبيل الفجر في انتظار المُصليين حتى يستعد لرفع الآذان لكن قدوم “مُـحي” له جعله يتعجب لكنه اعتدل في جلسته ورحب به حتى جلس الآخر أمامه وقال بتعبٍ:
_أنا قفلت متأخر علشان هاجي بكرة بعد العصر إن شاء الله، قولت أصلي الفجر هنا وأمشي على البيت، ولما شوفتك جاي هنا جيت وراك، بصراحة أنا عاوز أتكلم معاك، أنا مؤخرًا يعني بقيت برتاح وأنا جنبك وقاعد معاك، بحس إني في أمان معاك، بس أنا بقيت بتعب بسرعة، كل شوية دماغي تحاربني وأنا حربي شديدة عليا، صوت أفكاري عالي وبرجع لورا يا “أيـوب” ومش بس كدا، بقيت بستتقل نفسي دايمًا وخايف، الناس عمالة تشدني لذنوب وأنا مش قدها، كلام على الناس ونميمة ومعايرة بالذنوب وحروب ضد الناس وأحزاب، وأنا مش قادر، كل مرة أقول خلاص دي آخر مرة، ألاقي نفسي من تاني بقع في الذنب، مكدبش عليك مبقيتش زي الأول بس برضه لسه تعبان، غير كدا نظرات الناس ليا بتضايقني، اللي يقولي عامل فيها شيخ، واللي يقولي هتشوف نفسك الله يرحم، فبقيت أرد بكلام يجرح ويزعل الناس، نفسي أرتاح منهم كلهم، بقيت بستصعب الكلام معاهم..
تنهد “أيـوب” بقوةٍ ثم ربت فوق كتف “مُـحي” وقال بنبرةٍ هادئة يمحو بها شتات روحه المبعثر كما الرماد المحترق:
_طبيعي، طبيعي كل دا يحصلك وطبيعي يجيلك فتور كمان، بس اللي بيحصل بعد كدا من اختيارك أنتَ، لو ربطت حياتك بكلام الناس وفلان قال وفلان عاد هتلاقي نفسك قدام نفسك في الآخر بتخسر كل حاجة، رجلك بتسحبك في حفرة الخروج منها صعب، أصل كل المظالم بتترد إلا اللي بتيجي من الكلام في سيرة الناس، دي بتفضل في رقبة صاحبها، علشان كدا الكلام لو مش هتقدر تتحكم فيه، يبقى تصمت خالص، طالما الكلام هيجرك للذنب،
علشان كدا تذكر قول الله سبحانه وتعالى:
[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]
_أي أن كل كلمة يتفوه بها المرء تسجل وتدون ولا يظلم ربك أحدًا، كل كلمة وكل حرف منك بتتسجل وموجودة وهتتسأل عنها، ففكر في الكلام قبل ما تقوله علشان للأسف اللسان هو أول ما يسحب المرء نحو الهلاك، لذا الزم الاستغفار وهذب نفسك ولسانك قبل ما تتكلم، علشان كدا سيدنا “محمد” عليه أفضل الصلاة والسلام ذكرنا في أحاديثٍ عدة عن خطورة الحديث والقيل والقال، قال رسول الله ﷺ:
“مَنْ صَمَتَ نَجَـا”
– قال رسول الله ﷺ:
“أَمْسِكْ عليك لِسَانَكَ”
– قال رسول الله ﷺ:
“مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”
– قال رسول الله ﷺ:
“إنَّ اللهَ كـرِه لكم قيلَ و قالَ”
– قال رسول الله ﷺ:
“أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ آَدَمَ فِي لِسَانِه”
– قال رسول الله ﷺ:
“إنَّ العَبْـدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَـطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لها بالًا يَهْوِي بها في جَهَـنَّمَ”
_تخيل كل الأحاديث دي بس بتحذرنا من خطورة الكلام؟ علشان كدا لو لقيت الكلام بيكتر ذنوبك يبقى بطله، اكتفي بالكلام المفيد بس، عود لسانك على الذكر بس، اذكر ربك واستغفره وأعلن توبتك وربنا يتقبل منك، لكن غير كدا هتهلك نفسك وتدمرها معاك في الغلط، _وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“إذا فسد الزمن؛ ورأيت أن اختلاطك
مع النَّاس لا يزيدك إلَّا شرًا وبُعدًا من الله؛ فعليك بالوحدة”
الزمن بقى صعب أوي وتجيبيها يمين تجيبها شمال الحل في إنك تختلي بنفسك وتحارب للحفاظ على علاقتك بربنا، أي حاجة تانية مجردة نتمنى من ربنا يرزقنا بالعوض عنها، لطالما كانت دنيا وهذا هو عزائنا الوحيد…أنها دُنيا فانية.
تنهد “مُـحي” وأطلق أنفاسه الحبيسة ثم قال بصدعٍ معبرًا عن الحديث المُدار بخلده المُثقل بحيرةٍ من أمر الخلافات مع من هم حوله:
_أنا عارف إن مش منطقي إننا نقطع علاقتنا بكل البشر لكن بجد التعامُل مع الناس بقى مُتعب جدًا، كمية حوارات وقفش وقمص وجِدالات مرهقة مالهاش أي لازمة، وناس تتدخل في خصوصياتك وحياتك، وناس تانية تتهمك بدون وجه حق في حين إنك بتجاهد، وأنتَ بقى مُطالب تجادل مع دا وتبرر لدا وتشرح لدا وتصالح دا، وإحنا أساسًا فينا اللي مكفينا والطاقة اللي عندنا يادوب تمشينا، فأنا مش قادر ومش عارف وبالعافية بخسر نفسي وأنا بحاول، يبقى الحل إيه؟.
وكان الجواب يصطحب بسمة حنونة وهو يقول:
_أعفي الناس منك ومن وجودك طالما مش هتقدر تتعامل، مفيش حد بيتهذب في يوم وليلة، ومحدش بيقدر يعيش لوحده، لازم نوازن بين الأمور بس خليك فاكر إننا أولًا وأخيرًا لله سبحانه وتعالى، وخليك فاكر دايمًا قول “على بن أبي طالب” رضي الله عنه وأرضاه:
“النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت
إنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها
إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها
وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها”…
وحينها ردد “مُـحي” آملًا ومتضرعًا تلك العابرة مناجيًا بها ربه:
_”ياليت الذي بيني وبينك عامرٌ،
وما بيني وبين العالمين خرابٌ”..
____________________________________
<“تلك المرة جرحي كان قديمًا من يدٍ أعرفها جيدًا”>
في ليلةٍ ما تنفتح جراحٌ يعرفها المرء خير المعرفة..
تكون من أيدي يعرفها جيدًا ويعلم أن أثر الجرح منها قويًا لا يمر، جرحٌ واحدٌ فقط بمجرد أن يُفتح تنفتح خلفه باقة من الجراح التي تنزف بغير توقفٍ، جراح تأتي محملة بخيبة القهر في قلوب كان يظن نفسه أنه يعرفها لكنه في لحظةٍ ما يُدرك أنه لم يكن سوى غريبٍ مر من هُنا وما لبثَ حتى هُنيهة..
كانت ليلة قاسية أو ربما أشد قسوةً على مسكينٍ..
كان “يوسف” في مواجهةٍ دامية مع رأسه وهو يجلس فوق الفراش يحاول أن يصرف الفكر المزعج عن رأسه في سيرة “نـادر” المخطوف، وكلما حاول أن يتغاضى عن الفكر عاد عقله يذكره بشيئين كان يرغب في الهرب منهما..
أول الأمر أنه حقًا كان يتمنى أن يكون الأمر مجرد خُدعة وتمر، أو ربما يكون فخًا صُنِعَ له، لذا حينما ترك الفراش وخرج الشرفة صدح صوت الشر بعقله يذكره بقول:
_ربك مبيظلمش حد يا “يـوسف” صحيح “نـادر” غلبان وأهبل بس كان ماشي ورا أبوه، وكان لازم يدوق من اللي عمله، ماهو أنتَ ياما اتحرقت بناره كان حد شال همك؟ سيبها المرة دي متخاطرش علشان خاطر حد، وافتكر إن النار دي لما بتحاول تطفيها محدش غيرك بيتحرق منها، سيبه لأبوه أحسن.
وفي تلك اللحظة تدخل الصوت المحقون بالعاطفة:
_غلط يا “يـوسف” تفكيره دا، أكبر غلط كمان، “نـادر” أمنلك وسلم ليك واعتبرك أخوه، رمى نفسه في حضنك وقالك إنه عاوزك في ضهره، بس كلامك دا معناه إنك هتديه ضهرك؟ هتسيبه في الضيقة دي؟ هتسيبه لأبوه عديم الرحمة؟ طب وعمتك؟ بلاش كل دا، طب ووصية أبوك ليك؟.
وقع في ساحة العراك بين طرفين كانت الغلبة من نصيب كليهما، وهو الطرف الأضعف في الحرب بينهما، لذا حاول أن يقود الحرب هو بدلًا منهما لكن ثمة شيءٍ أتاه من باب التعب جعل الهزيمة تداهمه وتبرحه أرضًا، فسقط فوق الأرض يمسك رأسه من فرط الألم الذي نزل فوق عينيه وظل يردد متوسلًا برجاءٍ:
_كفاية، كفاية، كفاية بقى، بـــس.
صرخ بكلمته وهو يركل الطاولة المستديرة بالشرفة حتى يعلو الضجيج الخاص بها فوق ضجيج رأسه لكن حتى هذا الشيء لم يفلح فيه، فتعالى صوت خيبته حينما تعالى صوت رأسه من جديد وهو أضعف من مواجهة هذا الألم، فهنا لم يكن “أيـوب” حاضرًا كي يحتمي به، ولم تكن أمه متواجدة كي يرتمي بحضنها، ولم تكن “قـمر” بجواره كي يُضاحكها فيهرب مما هو فيه، حتى “عـهد” لم تكن هنا حتى يفرغ غضبه أمامها ثم يرتمي عليها فتحتويه، اليوم هو في أحضان مدينة غريبة عنه ولم يجد فيها مأوىٰ من حربهِ..
لكن رحمة الخالق بالعباد دائمًا موصولة بهم مهما كان الأمر، لذا فُتِح الباب عليه وولج له “مُـنذر” يناوله حبة الدواء ثم ساعده أن يرتشف المياه، وما بعد ذلك كان صوت الصمت المُطبق وصافرة مزعجة من أذن “يـوسف” انطلقت بعدما توقف الصوت المزعج بداخل رأسه، فتنهد “مُـنذر” بقوةٍ ثم مسح فوق رأسه وقال بهدوءٍ:
_أنا كنت في البلكونة سهران شوية وشوفتك وأنتَ بتزق الترابيزة وعرفت إنك مش كويس، العلاج دا حلو مؤقتًا لحد ما نرجع وتكمل علاجك، وعلى العموم متشيلش هم حاجة، “نـادر” هناك كويس أوي وبخير وأبوه سمحله يخرج كمان من الأوضة ودا كدا معناه إنه عاوزه جنبه مش أكتر، ومتقلقش رجالتي معاه هناك محاوطينه، وهيرجع قريب.
بدأ “يـوسف” يهدأ من أثر تلك النوبة فاستقام في وقفته ووقف يطالع أثر غضبه المشتعل ثم اعتذر من “مُـنذر” الذي وقف هو الآخر وابتسم له بغير تكليفٍ من باب الودِ، وحينها لمح هو الشروق فقال بصوتٍ مبحوحٍ:
_يلا نصلي الضحى، أنا ههدا شوية لما أصلي.
وافقه “مُـنذر” وأيده في القول والفعل ثم تحرك معه، بينما “يـوسف” فكان يعلم أن كل السقوط هزيمة إلا سقوطه ساجدًا للرحمن وحده هو الرفعة بذاتها، لذا كان يلقي بهمه وشكواه لربه وهو يتمنى ألا يتركه لنفسه القاسية عليه، وأن يجد الحل مما يعتل به صدره في أقرب وقتٍ، لذا تلك المرة ترك كل شيءٍ وسلم أمره للخالق وحده، مهما دبر وفعل وخطط لن يستطع أن يصل لحكمة خالقه في تصريف الأمور..
في ظهر اليوم..
كان “يـوسف” نزل من المكان الذي يجلس به وتوجه للقنصلية المصرية في تلك المدينة ثم طلب بمقابلة المسؤول الذي أبلغه عنه “أيـهم” لكي يعاونه في أمر طليقته، لذا قطع تلك المسافة وخاطر تلك المُخاطرة ثم قابل الرجل بشوش الوجه الذي رحب به قائلًا:
_يا مرحب بيك يا باشمهندس “يـوسف” صدقني أنا فرحان جدًا بحضورك هنا، بس استغربت لما قولتلي إنك من طرف “أكمل” خير إن شاء الله؟ فيه حاجة هنا حصلت معاك؟ حد ضايقك؟.
ابتسم له بمجاملةٍ يشكره على الترحاب الحافل ثم قال:
_شرف ليا مقابلة حضرتك، بس الحقيقة أنا مش جاي علشاني، فيه واحدة ست معرفة من بعيد شوية، تقدر تقول كانت جارتي في مصر واتجوزت شاب بعد إنفصالها الأول عن جوزها، والمهم يعني إنها سافرت وجت هنا مع جوزها بس للأسف طلع مش مظبوط ومشغلها في الدعارة، يعني اللي فهمته إنه بيصطاد راجل غني من الفنادق والشوارع وياخدهم البيت عندها، الأول مكانتش بتعمل حاجة وكانوا بينصبوا ويبيعوا الوهم، بس بعد كدا بقت بتتضرب ويتم إجبارها هي وبنت صغيرة معاها مصرية برضه، والغريب بقى إن الموضوع دا متكرر وبيحصل كتير وجوزها دا فيه ناس مشغلاه.
انقلبت ملامح الرجل وبانت إمارات التحسر على وجهه وقال بسخريةٍ تهكمية مريرة:
_والله يابني خايف أقولك إن دا الحال هنا عمومًا، وفيه هنا بنات أهلهم بايعينهم وقابضين تمنهم لرجالة في عمر جدودهم كمان، وآخرتها تطلق وتترمي في شوارع الغربة هنا، يا إما تنزل لأهلها بالهدوم اللي عليها، والأغرب هو مساعدة الناس ليهم، وخصوصًا الكبار اللي ليهم كلمة ومسئولين، بيساعدوا الفجر يزيد، بس أنا يا بني مش هقدر أسكت، أنا راجل وعندي بيت وليا عرض وشرف، قولي التفاصيل اللي معاك وأنا هتصرف.
استبشر “يـوسف” به خيرًا وصدق حدسه بالفعل لذا أخرج هاتفه وأخرج منه كافة التفاصيل التي أعطاها له “أيـوب” قبل أن يغادر موطنه، بينما الرجل فكان يصعب عليه كون أن هناك إمرأة في الغربة تواجه تلك الأشياء وحدها وهي لم تجد لها عونًا في هذه الأيام..
____________________________________
<“الخير في أيامي أنكِ مؤنسة الأيام والعُمر”>
قد يكون نصيب المرء في فردٍ ما..
في تواجد شخصٍ يكون هو الخير بذاته، لذا حتى لو كانت الأيام عجافًا سوف نجد دواء هذا العُجاف في نظرات أعين حنونة تخبرنا أن قسوة الأيام تلك لن تؤثر بنا بشيءٍ وإنما هي سوف تمضي وتعبر نظير النظرة الحنونة التي تمسح فوق قلوبنا..
في مركز الصيانة الخاص بـ “أيـوب”..
كان حاضرًا به منذ صبيحة اليوم يقوم بتصليح السيارات التي تحتاج جهدًا فائقًا منه، وهو كان ينتقل بين هذه وتلك يتحرك ويقوم بالصيانة بمعاونة الطاقم المسؤول عن المكان، أما “قـمر” فهي كانت تجلس بالمكتب الزجاجي بالأعلى تشاهد التلفاز بمللٍ وبين الحين والآخر تتناول مشروبًا من المبرد الصغير..
تركت مقعدها ثم وقفت تشرف عليه من الأعلى فوجدته يتسطح بجسده أسفل سيارةٍ ما وكفوفه تعمل بها بحزمٍ وقوةٍ وشغفٍ فسرته من تعمقه فيما يفعل، تعجبت من هيئته وعمله وظلت تراقبه وهو يعتدل تارة ثم يتسطح في الأخرى يراقب السيارة حتى اعتدل يفتح الغطاء من عليها ويُمعن نظراته وتركيزه ثم بدأ يحرك أنامله فوق المحرك والأسلاك ويوصل بعضها ببعضٍ ثم فتح بابها وقام بتدوير المحرك وفي تلك اللحظة عادت السيارة من عطلها ودار مُحركها، في تلك اللحظة ابتسم “أيـوب” برضاءٍ ثم حمد ربه وشكره على نعمته عليه..
أما الطاقم الذي يعاونه تحدث من بينهم واحدٌ يخبره بزهوٍ:
_قولتلك البريمو واحد بس اسمه “أيـوب” طب والله كنت عارف إنك هتفهملها، ها نكمل شغل فيها ولا كفاية كدا؟ هو صاحبها قالك إيه؟.
اعتدل “أيـوب” في وقفته ثم أغلق السيارة وقال بمزاحٍ:
_قال نبطل كسل يا سكر ونشوف شغلنا ونخلص العربية قبل الشهر الجاي، خلص اللي تقدر عليه وأنا هاجي أكمل من بعدك، بس أهم حاجة مش عاوز حاجة غلط، ولا حد يجيب حاجة بسعر قليل، قولي اللي يقف معاك وأنا بإذن الله هتصرف وأحل كل حاجة، يلا روحوا استريحوا شوية، ونصاية ونرجع نكمل.
خرجوا من المكان وتركوه وحده فتمم هو على المكان بالأسفل ثم صعد لتلك التي تقف تراقبه وما إن ولج وجدها تصفق له بكفيها وهي تقول بسعادةٍ كأنه ابنها الصغير ونال جائزةً ما:
_إيه الشطارة دي؟ سكر وعسل وأنا فخورة بيك.
ضحك لها ثم جلس فوق المقعد وقال بنبرةٍ هادئة:
_وأنا مبسوط إنك منورة المكان هنا، ومبسوط أكتر إنك مبسوطة ومش عاوزة تمشي، باين على وشك أوي علشان كدا هنكمل اليوم هنا كله لحد ما أخلص الحاجات اللي محتاجة مني وقت.
توسعت عيناها أمامه واشارت نحو نفسها بصمتٍ فحرك هو رأسه موافقًا ثم ابتسم لها باستفزازٍ جعلها تقترب منه وتجلس بجواره وهي تقول بخيبة أملٍ:
_بس أنا زهقت، عاوزة أروح البيت أغير هدومي دي وعاوزة أنام وافرد جسمي وأقعد كدا قعدة رايقة، هنا أنا متكتفة، ترضهالي دي يا “أيـوب” حبيبتك تفضل قاعدة مخنوقة كدا؟.
_بصراحة أرضاها عادي، طالما أنا مبسوط.
هكذا جاوبها حتى وجدها تضربه في كتفه فضحك لها ثم قربها منه يُلثم جبينها وقال بطيبةٍ تعهدها منه دومًا:
_حاضر هخلص آخر حاجة بسرعة وأروحك البيت، بس لو عاوزة تنامي ممكن تنامي هنا، “أيـهم” عامل الكنبة دي تتفتح سرير علشان لما كنت ببات هنا، تعالي ريحي شوية ومتقلقيش محدش هيطلع هنا طالما عارفين إنك هنا، دول كلهم تربيتي.
ضحكت هي له بينما تحرك يفرد لها الفراش ثم أغلق الإضاءة وترك الخافتة ثم وضع جهاز التحكم بجوارها ومال يُلثم جبينها، فضحكت هي بشقاوةٍ كما تفعل دومًا وقبل أن يتحرك انتفضت من موضعها تسأله بلهفةٍ:
_”أيـوب” هو ليه دايمًا بحسك مبسوط هنا؟ حتى وأنتَ بتشتغل هنا بحسك مرتاح وعندك طاقة وشغف، دا ليه علاقة بيك ولا عادي مجرد ملاحظة عادية مني؟.
تنهد هو بقوةٍ ثم ابتسم ببهوتٍ وقال بصدقِ دون أن يخفي أمرًا في سريرته:
_بصراحة يا “قـمر” المكان دا غالي عليا أوي، وشغلي هنا بحبه أوي علشان دي شهادتي الأصلية اللي بحبها، وياما أديتها من وقتي وطاقتي، لما كنت في المعتقل أول مرة وخرجت كنت تايه ولوحدي وكاره كل حاجة، والموضوع زاد كمان لما زقيت “آيـات” وعليت صوتي على أبويا قدام البيت كله، ساعتها بالحرف قولتله “خد عيالك وحِل عني أنا مش ناقص” وقتها هو مكانش مصدق إن دا أنا، كان تايه في عيوني وهو غريب فيهم، وساعتها “آيـات” خافت مني لما مسكتها من دراعها وفتحت باب الأوضة رميتها على “أيـهم”..
تثاقلت أنفاسه وانحدرت عبراته لكنه جاهد وقال بصوتٍ مختنقٍ:
_ساعتها بقى كنت مش قادر أعمل أي حاجة، وكنت بفكر جديًا أسيب كل حاجة وأمشي في وشي زاهد، حتى الصلاة في المسجد كنت بخاف منها، بس “أيـهم” وقتها خدني في نفس اليوم وداني بيت “رقية” وقالي إن علاجي هنا، وفضلنا هناك ٣ أيام مع بعض ولما رجعت لقيته جاب المكان دا وقالي أبدأ أرجع من تاني للحياة، وقتها بدأت أشتغل هنا وعملت المكان دا بكرم ربنا عليا، فضلت أحاول وأحاول لحد ما ربنا رزقني بأول عربية خلصتها في ١٧ يوم رغم إنها تخلص في شهر، بس كرم ربنا كان أكبر من قنوط عبد ضعيف زيي، علشان كدا بحب نفسي هنا.
ابتسمت له بحنوٍ ثم هامت في وجهه وهي تقول بهيامٍ:
_أنا كمان بحب نفسك هنا.
ضحك رغمًا عنه وضرب كفيه معًا بيأسٍ بينما هي عادت تتسطح ثم نامت بعدما أحكمت على نفسها الغطاء وفي داخلها تتمنى له دوام السعادة، كانت ترجو من ربها أن يديم له الصحة والضحكة البشوشة وراحة القلب وسلامة العقل وكما علمها هو أتت بذكر الجميع في الدعاء، لم تترك فردًا إلا وذكرته حتى سقطت في النوم أخيرًا وصوت القرآن خلفها يعلو في المكان ويطمئن النفس..
في بيت “العطار” بوسط النهار..
كانت “آيـات” أتت برفقة زوجها بعد المتابعة مع الطبيبة الخاصة بها، وقد ظهر بروز بطنها بعد وصولها للشهر الخامس في حملها وجلست بجوار “أيـهم” الذي ضمها لعناقه يطمئن عليها وهي تخبره عن أحوالها الصحية، بينما “تَـيام” فقال بقهرٍ مفتعلٍ:
_كله تمام لو بس هي تبطل عياط شوية وتبطل كل حاجة تبقى حساسية فيها أنا وهي والجنين هنرتاح، بس هي غاوية عياط وخلاص، قولها بالله عليك تبطل نكد، دا أنا عيني رمادي حتى، أومال لو كنت عادي زيك بقى كان حصل إيه؟.
لكزه “أيـهم” في كتفه فضحك وهو يبتعد عنه بينما هي ضحكت ثم سألته على زوجته فتنهد بقوةٍ ثم قال بيأسٍ من خوفها:
_هي كويسة بس خايفة، وبصراحة معاها حق، إذا كنت أنا خايف من اللي جاي ومش مستعد لأي حاجة تدمر حياتي، بس هحاول تاني علشان اللي عندي ميضيعيش، عمومًا هي راحت عند أهلها ومعاها “إيـاد” علشان تقعد مع أخواتها كام يوم، قولت بصراحة يمكن ترتاح شوية هناك وتبطل تفكير.
أعجبت هي بفعله فربتت فوق وجهه وهي تقول بإطراءٍ عليه:
_صدقني أنتَ عملت الصح، سواء مع “أماني” أو مع “نِـهال” ولازم تقدر موقف الاتنين، يعني الأولى دي ست في غربة لوحدها وبتواجه حاجة في قمة البشاعة، والتانية الحمدلله أخيرًا ربنا بيحقق ليها أحلامها فطبيعي تخاف على كل اللي عندها، دورك أنتَ كمان تحافظ يا “أيـهم” على اللي عندك وتمسك بإيدك فيه، وربنا يسعدك ويسعدهم، ويقويك.
ضمها من جديد يمتن لها كونها هي الوحيدة التي تمسح فوق قلبه وقد صدح صوت هاتفه بمكالمة من “يـوسف” فالتقط الهاتف يجاوب عليه ليقول الآخر موجزًا له:
_أنا عملت اللي قولتلك عليه، وبلغت وقدمت كل التفاصيل والظابط دا وعدني وقالي مش هيضرها وهيخليها ترجع تاني مصر متقلقش، وأنا هفضل هنا أتابع معاهم لحد ما أتأكد إن كل حاجة بخير أكيد، لو عاوز حاجة تاني عرفني وأنا تحت أمرك.
شكره “أيـهم” وامتن له بالقول ثم أغلق الهاتف ووقف بخوفٍ من القادم، يتمنى أن تكون طليقته تمسكت بجزءٍ من عقلها وألا تعود وتفسد عليه حياته بعدما جرب الاستقرار في حياته أخيرًا، الآن بعدما رست سُفنه يخشى أن يهيج البحر عليه ويُقيم الطوفان فتتدمر سُفنه ويغرق في المنتصف
____________________________________
<“لقد كان اللقاء يشبه لقاء الأسير بشمس الحرية”>
بعض اللقاءات تكون دواءً..
تمامًا كما رفرفة جناحي الطير فوق السماء بكل حريةٍ وبغير قيودٍ مفروضة، لقاءٌ يكون أثره أشبه بلقاء التائه لحضن أمه، أو لقاء الأحباب من بعد الفراق، لذا وإن كانت الروح مكلومة والقلوب معطوبة، قد يكون الدواء في لقاءٍ يُرمم كسورًا دامت لكثيرٍ..
بعد مرور أربعة أيامٍ..
كانت بعض الحركات موترة وغريبة في المكان، وكأن “سـراج” يجلس في مكتبه منكبًا على عمله بعدما هرب من العالم الخارجي وترك نفسه لقوقعة حزنه المصمت، وقد جذب أنظاره صوت جلبة بالخارج جعلته يترك مكتبه ثم خرج منه فوجد المكان فارغًا من الجميع، حينها تعجب من تلك الحالة لكنه وقف بصمتٍ وعقد حاجبيه ليجد “نـور” تظهر وهي تحمل قالب حلوى صغير الحجم احتفالًا بذكرى مولده، فرغ فاهه وأقترب منها يسألها بتعجبٍ:
_أنتِ بتعملي إيه؟ وفين الناس؟.
_مشيتهم علشان احتفل بعيد ميلادك.
هكذا جاوبته بتلقائيةٍ شديدة فطالع هو لوحة التقويم ثم سألها مستنكرًا بقوةٍ:
_عيد ميلادي اللي لسه فاضل عليه ١٢ يوم؟ أنتِ واعية طيب؟.
أدركت هي فعلتها وفي تلك اللحظة ولجوا له جميعًا وعلى رأسهم “إيـهاب” الذي قال بسخطٍ منه ومن تعنته:
_ما تبطل رخامة يالا، احتفل وأنتَ ساكت بقى.
رفع كلا حاجبيه بتعجبٍ والتفت يبحث عن المقلب المقام ضده لكن “إسماعيل” اقترب يحمل ابنة شقيقه ثم قال بهدوءٍ:
_والله قولنا محدش ضامن الظروف وطالما فاضيين نيجي نحتفل بيك بدري بدري، كبرت وبقيت شحط قد الدنيا أهو، عندك ٣٢ سنة ولسه زي ما أنتَ عديم رباية، مفيش فايدة فيك.
في تلك اللحظة صدح صوته بسبابٍ نابٍ من بين شفتيه يعبر عن اعتراضه ثم قال بوقاحةٍ:
_هو أنتوا جايين تقلوا أدبكم عليا هنا؟ بعدين فين الهدايا فين الفلوس فين الأخلاق؟ فين العيد ميلاد، ولا هي طولة لسان وبس؟ بعدين أنا مش هقدر أحتفل و “چـودي” مش هنا، مش هقدر.
في تلك اللحظة حدجه “نَـعيم” بنظرةٍ ساخطة ثم رفع صوته ينادي على الهدية، وفي تلك اللحظة ولج كلًا من “مُـنذر” وبجواره “يـوسف” وبينهما “چـودي” التي وقفت تناديه بلوعةٍ ورغمًا عنها تهدج صوتها وهي تقول:
_”سـراج” وحشتني أوي..
التفت هو لمصدر الصوت وما إن لمحها ركض مهرولًا ناحيتها ثم تلقفها بين ذراعيه يدور بها في المكان وهو يضغط عليها كأنه يخشى فرارها من حضنه، لم يصدق أنها عادت له من جديد لذا ضرب الدمع مقدمة أهدابه بينما هي فبكت في عناقه بقوةٍ، مهما أحبت لن يجرؤ أحدهم أن يقترب من مكانته لديها، لذا بكت وابتعدت تطالعه وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_كنت خايفة أوي معرفش أشوفك تاني يا بابا.
وتلك الكلمة الأخيرة منها حياة خاصة به،
لذا عاد وضمها بعدما فقدت الأحرف السبل وضلت الكلمات مقصدها فاكتفى فقط بتلك الضمة وترك العنان لعبراته ودمعاته تنطلق من محبسها كأنه يضم فيها أخته الراحلة ووالديه معًا، كانت آخر الإطارات التي تحمل في عينيها صورة عائلته الغائبة، حينها فقط شعر أن حقه في الحياة استرد وبقوةٍ..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى