رواية غوثهم الفصل المائة واثنان وتسعون 192 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة واثنان وتسعون
رواية غوثهم البارت المائة واثنان وتسعون

رواية غوثهم الحلقة المائة واثنان وتسعون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل المائة وسبعة_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_______________
فكم باتت ليالي الشوق ظمأي
وكم تاقت .. وكم تاقت
وكم تاقت إليكَ خطى الشبابِ
يؤرقُني الحنين ..يؤرقُني الحنين
يؤرقُني الحنينُ إليكَ ربي..
وقد سئم الضمير
و قد سئم الضميرُ من اغترابي
توارى الإثم بعض العمر..
توارى الإثم بعض العمر
توارى الإثم بعض العمر ..
لكن ..
لكن ضميريَ قد صحا بعد الغيابِ ..
و أوبت إليك يا رب العالمين.
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
لقد كنت دومًا أخشى لحظة الوداعِ..
أخشى أن أقف أمامكِ عند مفترق الطرق فاختار بين وداعكِ وبين وداع روحي، فإما أربحك أنتِ من كل العالم؛ وإما أخسر نفسي بكل العالم، فلقد خشيت على قلبي من كل شيءٍ يضره
وأنا أيضًا من تركته يختار درب العشق بطواعيةٍ منه، ولم يُخيل لي يومًا أن روحي ستغادر جسدي بدون وداعٍ منكِ، لقد ظننت أن الحياة يسيرة وهي تفتح لي أبواب الجنة كي ألوذ بنفسي في عالمكِ بعيدًا عن جحيم الآثام، اليوم أصبحت صريعًا في دياري ولم أرى عينيكِ، فارقت الروح جسدي وسقطت على عاقبي وأنا من ظننت نفسي سيسقط مُنعمًا في دنياكِ أنتِ، حبيبتي العالم لم يكن رؤوفًا بي، لم يحترم حتى محاولاتي،
لكنني لم أندم قط على حُبي لكِ، ولا توبتي..
اليوم أرى نهايةً بعيني وأتمنى من الخالق أن يرأف بي ويكتبها لي أن ألقاكِ بجنة الخُلدِ كما جمعنا اللقاء في دنيا فانية،
رُبما كان اللقاء بيننا مجرد لقاءٍ عابر كي أنعم معكِ بالحياة الدائمة، لذا وصيتي لكِ ألا تبكين إن كان الفراق قد حان،
لعل المُلتقى بإذن الله تعالى في الجِنان،
اليوم قد أرحل أنا وأترك لكِ قلبي،
وقلبك لي من بين الخطايا كان جنة الأمان..
<“كان صريعًا في الهوىٰ سقط وما اهتوىٰ”>
ويوم وداعنا بتلك القسوة، لازلت أذكر كم كان المشهد قاسيًا..
لازلت أذكر كم كان قلبي يوصل لسمعي وجيف فرحته، ثم أنقلب الأمر وزاد رجيف خوفه، كانت ضحكات عالية تُجلجل بالمكان كأنها مدينة “غـزة” وسط يوم عيد التحرير تترك الأطفال في الشوارع والطُرقات، ومن ثم أتت الأعيرة النارية تصاحب الرشقات الصاروخية فتصيب الطفولة في قلبها، تمامًا المشهد يتطابق مع الآخر، فبعدما جلجلت صوت الضحكات، علا عليها صوت الصرخات، والسؤال المطروح هُنا؛ من يُعيد للمدينة روحها، بعدما سُلبت منها الروح؟..
تذمر “تَـيام” واستعد للرحيل حينما أولاه ظهره وفي تلك اللحظة قفز “مُـحي” فوق ظهره ضاحكًا وحينها أراد “تَـيام” أن يسقطه أرضًا في نفس لحظة خروج “نَـعيم” وبجواره “إسماعيل” و”إيـهاب” ومعهم “سـمارة” تحمل ابنتها فوق ذراعيها وهي تضحك على الأخوين، حينها تعانقا سويًا أخيرًا..
وفي تلك اللحظة صدح صوت الأعيرة النارية تخترق الأذان وتُزلزل البيت بأكمله، أنقلب البيت رأسًا على عقبٍ ودب الذعر في قلوب الجميع خاصةً حينما استقر أحد الأعيرة النارية بجسد واحدٍ من الأخوين، حينها اهتزا الجسدان مع بعضهما وسقطا أيضًا مع بعضهما فوق الأرض…
هرول الجميع عدا “نَـعيم” الذي وقف في حالة صدمة، شلل أصاب جسده فعجز عن الحراكِ، هو وحده من يخشى الاقتراب، يخشى أن يرى الماضي يُعاد بأم عينيه، يخشى لحظة كشفه لفراش صغيره حينما وجده فارغًا منه، يخشى أن يقترب فيرى الماضي من جديد، اليوم الماضي يقف في حاضره يتعدى عليه وهو لازال يخشى الاقتراب فيجد جسد أحدهما كما الفراش خاليًا من الروح، ولوهلةٍ تمنى لو أن الرصاصة اخترقت جسده هو قبل أن يقترب ويرى بعينيه فراق الروح منه، لكن وحدها صرخة من فم أحد أبنائه باسم الآخر زلزلت القلوب بصراخٍ مقهور:
_”مُـــحي”..!!.
وفي هذا الحين علم “نَـعيم” أي الروحين غادرت الجسد كما سبق وغادرت روحٌ الفراش والبيت، سقط على رُكتبيه ما إن اخترقت الصرخة سمعه، وكل ما تلى ذلك مجرد غرقٍ في البحر، سمعه توقف عن التقاط أي حديثٍ آخر وكل ما كان يصله أشبه بطنين الموج فقط، هبطت العبرات فوق وجهه وهو يرى “تَـيام” يضم رأس شقيقه ويصرخ باسمه بينما “إيـهاب” و “إسماعيل” كلًا منهما ظل يحاول فتأوه “مُـحي” بصرخةٍ عالية ثم تقطعت أنفاسه بعدها…
عاد له “تَـيام” يتوسله وهو يحتضنه بقوله:
_لأ علشان خاطري، علشان خاطري أنا ما صدقت لقيتك…متمشيش يا “مُـحي” وتسيبني، علشان خاطري..
علا صوت شهقات الموت منه وآخر ما استطاع أن يتفوه به كان:
_اد..ادعيلي..مالحقيتش أصلي.. العصر..كان نفسي أروح وأنا مصلي..
فرغ فاه “تَـيام” وهو يرى سقوط رأس شقيقه في عناقه تزامنًا مع ارتفاع صوت الآذان عاليًا، حينها طارت الطيور وهجرت البيت، توقفت القلوب من شدة الخوف، علا صوت الصرخات والعويل، و”إيـهاب” ظل يصرخ حتى حمل جسد “مُـحي” يهرول به بغير تعقلٍ، لا يهمه أي شيءٍ سوى من يحمله فوق يديه، ويغيثه..
في نفس التوقيت انتشرت المجموعة المُلثمة التي تشبه الجراد فوق الأرض ثم ولجوا للداخل حتى وصلوا لـ “ماكسيم” المكبل ثم حرروا وثاقه عن طريق إطلاق النيران فوق الأصفاد الحديدية ثم حملوه وخرجوا به من الباب الخلفي للبيت بعدما أطلقوا العيار الناري على قفله، استغلوا حالة الهرج بالخارج وخرجوا من البيت غير آبهين بقلوبٍ احترقت وتلظت بنيران الفراق..
فلو أدرك كل إنسانٍ قسوة الفراق على قلوب الأحبةِ لما كان تجرأ فردٌ ونزع وجود أحدهم من حياة الآخرين، فماذا عن أبٍ سقط فوق رُكبتيه غير قادرٍ على الوقوف وملاحقة جسد ابنه؟ ماذا عن أخٍ يعيش أسوأ كوابيس حياته في مشهدٍ بتلك القسوة وهو يرى وداع نصف الروح بعيدًا؟ ماذا عن أخوةٍ ورفقة قلوبهم احترقت وأصبحت رمادًا رأوا فراق جزءٍ من بينهم؟..
ماذا عن سيرة الفراق وهي تقتحم صفو المُحبين فتختار من بينهم عزيزًا تقترن به؟ ماذا عن شبابٍ قتلوا بالغدرِ على يد شياطينٍ تجلت الرحمة عن قلوبهم؟ ماذا عن حبيبةٍ غائبة ترسم العالم الوردي في انتظار فارس الأحلام كي تدخل معه عالمه؟ لماذا وألف لماذا؟ لكن من يلوم الطير على هجر عُشه إن كانت المباني تُهدم فوق رأسه؟..
ظل “نَـعيم” قرابة الربع ساعة فاقدًا للوعي وهو يجلس على رُكبتيه، لازال خاضعًا لأسر اللحظة المُفجعةِ، وقد رجع له “إسماعيل” يُسانده وما إن انتبه له الآخر بكى، بكى حقًا وكأن قوته لم تعد موجودة كما هي، لذا وقف بجسدٍ هزيلٍ وتحرك بقلبٍ باكٍ روحه تهفو خلف الحبيب..
____________________________________
<“لعنة الله على كل شيطانٍ في هيئة إنسٍ”>
لازال العقل يتوقف عند قدرة البشر على إيذاء غيرهم..
تصاب الدماغ بحالة إنكارٍ عند رؤية العالم يُصدر الإيذاء للغير، فماذا عن حقوقٍ تُغتَصب بغير وجه حقٍ؟ ماذا عن قلوبٍ يسكنها السواد فتعمى بها البصيرة عن الرؤية؟ ماذا عن براءةٍ تُقتل بمهدها؟ وماذا عن حدائقٍ تحاوطها الغربان السوداء فتصب الخوف صبًا في قلوب السامعين؟..
شقة على النيل، يطلق عليها باللغةِ الدارجة “عوامة” يتم الوصول لها بممر أشبه بجسرٍ خشبي يصل الضفتي ببعضهما، كان يجلس فيها “سـامي” في انتظار قدوم رجاله على أحر من الجمرِ المُلتهب، يجلس كي يرى بعينيه نجاح خطته في استعادة مأموره، كام يدخن السجائر بشراهةٍ وهو يهز ساقيه بعنفٍ وفي هاته اللحظة صدح صوت هاتفه فتأهبت حواسه واقترب مُسرعًا وما إن لمح اسم المتصل زفر بقوةٍ وجاوب بصوتٍ ملولٍ:
_خير يا سيدي ها؟.
_”عـاصم” بين الحياة والموت، جاتله جلطة وكل شوية يفوق ويرجع تاني غيبوبة ومفيش جد معاه خالص، بس أخته لسه جاية وواقفة مع الدكتور أهيه، تحب أعمل حاجة؟ أخلص دلوقتي؟.
انتفض بلهفةٍ قاطعة مُسرعًا قبل أن يتهور الآخر ويفعلها:
_لا لأ مش عاوز غباء دلوقتي، خليه، المهم بس خليك متابع “يـوسف” وشوف هترسى على إيه، وشوف المحامي هيقدر يعمل حاجة فعلًا ولا لأ، علشان لو حصل وقدر يعمل حاجة هتبقى بقلبة دماغ للكل.
_أوامر يا باشا، عن إذنك.
أغلق معه مساعده، وبعد مرور نصف ساعة وما يزيد عنها بدقائق قليلة مرت صدح صوت هاتفه برقم رجاله فهب منتفضًا ثم خرج للجهة الأخرى وفتح الباب فولجوا مُساندين “مـاكسيم” الذي بدا كأنه ضمن عداد الموتى، كان قاب قوسين أو أدنىٰ من الموت الأكيد، بملامحه هذه لا يظهر عليه إلا علامات الموت..
طالعه “سـامي” بعجبٍ ثم جلس على الأريكة وسأله مستنكرًا:
_هو اللي عمل فيك كدا “إيـهاب” بس؟.
رمقه “ماكسيم” بطرف عينه ثم تجاهل الجواب، بينما الآخر فسقط قلبه من محله وهو يجلس هكذا يُخيل له ما قد يحدث له على يد شابٍ واحدٍ فقط من الشباب بالأخص فيما فعل مؤخرًا، شرد وغرق في بحر أوهامه ولم يخرجه على شاطيء الواقع إلا صوت “ماكسيم” وهو يسأله بحدةٍ:
_عملت اللي قولتلك عليه؟ “تَـيام” لازم يروح فيها.
خشى “سـامي” أن يجاوبه بما حدث، خشى أن يخبره أن المقتول راح نتيجة خطأٍ، وما إن لاحظ الآخر طيلة صمته رفع رأسه نحوه وهو يسأله بجمودٍ قبل أن يطلق عليه غضبه:
_هو أنتَ معملتش اللي قولتلك عليه؟ إيه خيبت وإيدك تقلت مبقيتش قد اللي بيتطلب منك؟ عملت إيه أنتَ ورجالتك؟.
علم أنه كي يهرب من نيران بركانه عليه أن يُفصح له بما حدث، لذا جاوبه بثباتٍ كاذبٍ كي يكون اسفنجة تمتص غضبه:
_الواد “مُـحي” لمحهم وتقريبًا ضحى بنفسه علشان أخوه، الطلقة جت فيه هو والله أعلم هو عاش ولا ميت، بس تقريبًا مات وراح فيها، دا اللي باين في الفيديو اللي اتبعتلي.
هدأت نيران “ماكسيم” واستقر فوق الأريكة من جديد ثم مرر كفه فوق خصلاته الشقراء ثم قال بتذبذبٍ ما بين الإنتصار القليل والبُعد عن الهزيمة بمسافةٍ كُبرى:
_مش مهم، المهم إن “نَـعيم” قلبه يتحرق، راسه تتكسر علشان شكله ناسي أنا مين، نسي إن أنا مبسكتش، لو ليا حاجة باخدها، ومش بعد كل الخساير دي والتضحيات هطلع من غير حاجة، المعبد هيتفتح، واسمي هيتحط عليه، والمتحف قبل ما يظهر للناس هكون خدت اللي أنا عاوزه منه، كلها أيام والحكومة تبدأ تقفل منطقة نزلة السمان دي خالص علشان يبدأوا المشروع، وأنا هكون موجود.
تنهد “سـامي” بقوةٍ وقبل أن ينطق أو حتى يُعارضه وجده يقطع عليه السبيل بقولهِ ناهيًا دون أن يقبل النقاش أو حتى مجرد
حديث عابرٍ بشأن التفاوض:
_أعمل حسابك أنتَ هتروح اليخت بتاعك تقعد فيه، أنتَ قولتلي إن محدش يعرف حاجة عنه، روح خليك هنا علشان محدش يدور وراك، وأنا هروح أسوان، فيه رجالة هناك شغالة في مقبرة ولازم أوصلهم قبل ما يخرجوا الحاجة، كفاية التمثال اللي طار من هنا بسبب “إيـهاب” واللي عمله، وكدا “إيـهاب” حسابه معايا، زي ما أنتَ حسابك مع “يـوسف” هنخلص على الاتنين بس مش دلوقتي، ليهم روقة.
تعجب “سـامي” من إصراره الغريب في إيذاء الشباب لذا سأله بعجبٍ في أمره كأنه حقًا لا يعلم سبب هذا الإصرار:
_هما ليه دول بالذات؟ ليه الشباب كلهم أنتَ غاوي ليهم الأذى؟.
ظهر الشر جليًا في نظراته وسرعان ما عاد جسده يرتخي للخلف وقال بحالمية تشبه حالمية السارق لبيتٍ مهجورٍ مكتظٍ بالذهبِ والمال:
_الإسقاط، فلسفيًا هما عاملين في دماغي إسقاط رهيب يخليني اُستفز كل ما أشوفهم، لو خدت بالك منهم كل واحد فيهم صورة رهيبة لمجال قوي، مجموعة هايلة تخرج ألاف الكتب والمُجلدات، هما تكتل قادر يخرج إبداع رهيب، تخيل كدا “أيـوب” دا صورة وإسقاط رهيب للدين، أي دولة من غير الرموز اللي زيه تقع، يختل توازنها، عندك “يـوسف” دا صورة وإسقاط للعلم، شاب مبهر في ذكاء تفكيره وقدراته العقلية الفائقة، عندك مثلًا “إسماعيل” دا إسقاط لوحده على الحضارة والتاريخ، تخيل دولة من غير رمز زي “إسماعيل” ملهاش بداية؟ عندك “إيـهاب” دا لوحده رمز القوة والنفوذ، إسقاط للقوة والجبروت، شخص ميقدرش حد يحجمه، عندك “تَـيام” رمز الحرية، شاب زي طير حُر يطول السحاب بجناحه، عندك “مُـحي” دا إسقاط على الطفولة، كلهم زي الأركان القوية اللي بتقوم الدولة ومن غيرهم مفيش دولة تقوم، حتى “مُـنذر” و”نـادر” و “عُـدي” دول رموز قوة وعنفوان، علشان كدا لما بشوفهم دايمًا بحس إني لازم أكسرهم، اللي زيهم رمز استفزاز ليا.
ضحك “سـامي” على نظرته وحكمه على الأمور بتلك الطريقة، ظل يضحك بصوتٍ عالٍ ثم عاد من جديد لجديته وقال بتهكمٍ:
_لو فاكر إنك لما تخلص على دول ومش هييجي غيرهم أحب أقولك إن بلدنا ولادة، لا أنتَ ولا مليون زيك يقدروا على الشباب في مصر، دي عيال معدنها أصيل، تربية خيول يا خواجة.
افتر ثغر “مـاكسيم” ببسمةٍ مغترة ثم قال بثقةٍ:
_ما هما علشان فيه غيرهم الحرب ضدهم مش هتخلص، بس تصدق هما صعبانين عليا؟ أصل لو أنا مسئول وعندي زي دول كان زماني اتحديت العالم كله بيهم، بس هما زيهم زي الآثار اللي هنا محطوطين في المكان الغلط، وبالتالي قيمتهم مش معروفة..
أنهى الحديث وقد تعجب منه “سـامي” من الكلام حقًا..
فحقًا صدق من قال “خذوا الحكمة من أفواهِ السُفهاء” تمامًا كما لو أنك تجلس مع سارقٍ فتجده يحدثك عن عنف الناس مع السارق متغاضيًا عن جريمته الشنعاء، تحرك “سـامي” ولأول مرةٍ كأبٍ يشعر أن الخطر يحاوط ابنه، لكنه فعل كما المثل الذي قال باستخفافٍ “إن آتاك طوفانٌ ألق له ابنك” وها هو يلقي ابنه في وجه الجحيم دون أن يكترث به..
أما في الداخل فسحب “ماكسيم” الهاتف الموضوع بجواره على المقعد ثم طلب رقمًا مجهولًا وما إن وصله الرد قال بصرامةٍ ونظراتٍ تقطر شرًا:
_في أقرب وقت نفذ، بس استنى الوقت الصح مش عاوز تهور.
أتاه الرد خاضعًا بموافقةٍ، فأغلق الهاتف ثم ألقاه بعيدًا وما إن جلس هكذا عادت صورتها ترتسم في عينيه، صورة تلك الشرقية التي شبهها هو في مخيلته بفاتنةٍ مصرية، صورة تشبه جمال مصر بحضارتها بسحرها وعراقتها، لذا ابتسم متلذذًا يلقاها بخياله، لعل المُلتقى يكون قريبًا..
____________________________________
<“لعل الخير كان في شرٍ تهرب أنتَ منه راكضًا”>
لعل ما تهرب أنتَ منه يكون هو الخير بذاته لك..
ولعل ما ترجوه أنتَ يرجوك هو أيضًا ويكون ساعيًا إليك، لذا عليك أن تأخذ هُدنة من تفكيرك وقسوته عليك، فقد يكون الشيء الذي ترغبه أنت يُحضر لكَ..
حالة هرج ومرج كانت تملأ الرواق، أصوات الصياح المرتفع يخرج من الأفواه فيصل لبقية الطوابق، حالات ترقب بداخل المشفى والجميع على شفا حُفرةٍ من الانهيار الأكيد بسبب الإنتظار، كان “تَـيام” يجلس فوق المقعد وكفيه كانا مبسوطين فوق رُكبتيه ولازالت دماء شقيقه عالقةً بكفيه..
ظل على تلك الحالة وآخر ما يتردد في سمعه كان قول شقيقه وهو ينازع للبقاء على قيد الحياة حيث خرج حديثه مشوهًا بالكاد فسره هو:
_”كان نفسي أروح وأنا مصلي”..
ارتجف جسده ونزل الدمع من عينيه مدرارًا، كان يجلس بين الغرفتين وهو يختبر مشاعر اليُتم من جديد، غرفة العمليات بنهاية الطابق احتوت جثمان شقيقه، وفي الغرفة الأخرى بنهاية الطابق استقر جسد والده الذي أصيب بهبوطٍ حاد في الدورة الدموية إثر صدمته بابنه، وفي تلك اللحظة ولجت “نجلاء” تهرول له وقد صرخت باسم ابنها الذي رفع رأسه نحوها فوجدها تقترب منه وهي تضمه بين ذراعيها، حينها صرخ هو بصوتٍ عالٍ وبكى بخوفٍ رأته في عينيه لأول مرةٍ وهو يتشبث بها بتلك الطريقة يخشى لحظة الفراق التي دمرته أول مرةٍ ولم يعد قادرٍ على تكرار نفس التجربة القاسية..
ولج “عبدالقادر” بابنيه معًا وخلفهما “عبدالمعز” وفي المقدمة “جـنة” تسبق الجميع وهي تجري بخطواتٍ مُشتتة كما جريان الدمع فوق وجنتيها، كانت تبحث بعينيها عنه بين الناس ولم تلمحه، كان قلبها يخبرها أن تلك ماهي النهاية التي ترغبها هي وحلم بها هو، أتاها الخبر من والدها كوقع الصاعقة فوق الرأس فلم تدر بنفسها إلا وهي تركض خلفه كي تلحق الحبيب المغدور به.
لمحت بعينيها “تَـيام” يجلس بجوار أمه فهرولت نحوه وهي تقف باكيةً، والأكثر سببًا في قتلها كان مظهر الدماء فوق كفيه، فحتى تلك اللحظة كانت تتمنى أن تراه حيًا، ربما مجرد مزحة سخيفة منه، ربما أي شيءٍ إلا ما تراه هي بعينيها، لقد فسرت الموقف والمشهد، فنبست بخوفٍ من السؤال:
_هو عايش صح؟ لسه فيه النفس؟.
انتبه لها “تَـيام” ووقف أمامها وما إن لمحها عادت ضحكة شقيقه تتراقص فوق شفتيه أمامه، صوت ضحكاته الرنانة صدح عاليًا حينما يشاكسه، تذكر أخر جملة هتفها بين ذراعيه قبل أن يغيب عن الوعي، لذا هرب من الجواب وتركها هي تسقط فوق الأريكة المعدنية وهي تبكي بقوةٍ كأنها فقدت أملها في الحياة، زاد البكاء قوةً وفقدت القدرة على أي فعلٍ حنى لحقها والدها وضمها بقوةٍ..
في داخل غرفة “نَـعيم” كان يتسطح الفراش غائبًا عن الوعي، صوت ابنه ظل يتردد في سمعه، ملامح ابنه تتكرر في نومته، مشاكسته للجميع تتكرر حينما يفرغ من عمله ويشاجر الجميع، عناقه لـ “دهـب” الصغيرة وهي تضحك بين ذراعيه، خروجه للمسجد مؤخرًا كي يلحق صلاة الجماعة، الكلمة الأخيرة التي نطقها للمرة الأولى تكررت على السمع وهو يقول:
_”هتوحشني”..
وفجأةً ظهر صوت الأعيرة النارية يخترق نومته وعقبها مظهر الدماء وسقوط كلا الجسدين معًا، وكما تعدى ماضيه على حاضره، تعدى حاضره على نومه فانتفض صارخًا باسم ابنه:
_”مُـحي”..
ركض له “إسماعيل” يطمئن عليه وقد ولج “تَـيام” الذي كان يجلس بالخارج ووقف بجوار أبيه الذي استفاق وأدرك أن ما رآه كان واقعًا ولم يكن مجرد كابوسٍ ومَّر، نظر لنفسه فوق الفراش ويده الموصولة بالمحلول الطبي، وأول ما بدر لذهنه كان منظر ابنه فحرك رأسه تجاه الآخر يسأله بصوتٍ مبحوحٍ:
_هو دا مكانش كابوس؟ أخوك اتضرب بالنار بجد؟.
رطب “تَـيام” شفتيه وبحث عن الجواب لكنه لم يجد، فكان الرد من والده بصرخةٍ هادرة:
_راح؟ راح مني تاني؟ هو قالي هتوحشني، كان حاسس طيب؟.
ضمه “تَـيام” لعناقه بقوةٍ فحاول والده أن يضمه بذراعين واهنين وترك لعينيه حرية البكاء، بكى لأن الألم أضناه، أتعبه الفراق وضياع الجزء الهام في لوحته، كان يشعر بالفراغ يستحوذ عليه، في برهةٍ تحرك من مكانه، دفع جسده بعيدًا عن الفراش ودفع الجميع ثم تحرك مسرعًا غير آبهٍ بالنداءات خلفه، جلس فوق المقعد بجوار باب غرفة ابنه..
الغرفة التي تفصله عن الروح الغائبة، لا يعلم هل لازال ابنه حيًا أم أنه غاب ورحل تاركًا عالمه له، هل يعقل أن يكون عالمه لا يجوز أن يبقى كاملًا؟ هل كتب عليه النقصان في أركان حياته؟ هل لا يحق له أن يكون حُرًا سعيدًا؟ هل كتب عليه أن يكون كما الوطن المحتل تُمنع عنه شمس الحُرية؟..
كان “إيـهاب” يقف منزويًا في محاضرة جلدٍ للذات، وقف وهو يحمل ابنته بجوار زوجته، وقد صرخت الصغيرة ببكاءٍ بسبب الفوضى التي ملأت المكان فاقترب منها “يـوسف” وحملها عن ذراع أبيها ثم ربت فوق كتفه كي يُطمئنه على ابنته، بينما “إيـهاب” فانتبه لجلوس “نَـعيم” ووقوف الشباب حوله، فتحرك هو نحوه وجلس على رُكبتيه أمامه ثم سحب كفه يضمه بين كفيه وهو يقول بلهفةٍ:
_حقك عليا، سامحني علشان خاطري، أنتَ عارف إن دا مكانش قصدي، أنا كنت برجع حق “إسماعيل” منهم وأنتَ عارف، والله العظيم لو كنت أعرف دا هيحصل كان زماني وقفت كل حاجة، سامحني علشان خاطري، بصلي وقولي طيب إنك مسامحني، رد عليا متسيبنيش كدا لدماغي، قولي إنك مسامحني، قول أي حاجة…
أغمض “نَـعيم” جفونه وأطبقها فوق بعضها، فارخى “إيـهاب” قبضتيه فوق كف “نَـعيم” ونكس رأسه للأسفل بخزيٍ، لم يدرِ بنفسه إلا والأسواط تجلده حيًا وهو يتحمل عقدة الذنب لما اقترف وارتكب من خطايا، جلس على رُكبتيه وكاد أن يبكي، لكن قول “نَـعيم” الصارم زلزله، اهتز كيانه وثباته حينما وصله الحديث:
_قوم وأقف على رجلك، أصلب طولك وروح هات حق أخواتك، وعظيم بيمين لو مرجعتش بيه تحت رجلي وطفيت ناري، ساعتها لا هتبقى ابني ولا أعرفك، عاوزني أصفالك وأسامحك هاتهم تحت رجلي هنا وردلي حق ولادي كلهم.
والحديث كان كما شعلة نورٍ وسط حقلٍ مظلمٍ، عادت العزائم تسكن قلبه، ودون أن ينتبه لنفسه وقف واستقام والنيران تندلع في عينيه قبل قلبه، وقف كما الأسد الجريح وسط غابةٍ مليئة بالضباعِ، ولأن كل ابتهاجٍ لدى الأسود يؤلم الضباع، هو يستعد لجلدهم جميعًا..
بينما “يـوسف” فغمز وأشار لكلًا من “عُـدي” و “نـادر” فاقتربا منه الاثنان وحينها قال بهدوءٍ:
_خدوا “سـمارة” وبنتها ودوها البيت عند أمي، وخلي “ضُـحى” تنزل تجيب حاجات لـ “دهـب” وهدوم علشان معاهاش حاجة، يلا وأبقوا طمنوني، ومحدش فيكم يسيب التاني، خليكم مع بعض، أنا مش ناقص، يلا ولما توصلوا هناك طمنوني.
أومأ له “عُـدي” ثم اقترب من “سـمارة” يشير لها أن تتحرك معهما بينما هي نظرت لزوجها تنتظر منه الجواب فوجدته حائرًا في أمره كأنه في عالمٍ آخرٍ، وحينها أناب “يـوسف” عنه في الرد وأمرها بقوله:
_اتحركي معاهم علشان بنتك اللي اتبهدلت دي، روحي البيت عندنا علشان نكون متطمنين عليكِ، يلا يا “سمارة” الله يكرمك.
أومأت له بانكسارٍ ثم اقتربت من “إيـهاب” تمسك كفه كي ينتبه لها وما إن تلاقت المُقل ببعضها وجدها تعتذر منه بعينيها بسبب رحيلها عنه، فقال هو بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيه:
_روحي علشان “دهـب” وعلشان مفضلش قلقان عليكم هنا، على الأقل كدا هكون متطمن أكتر، روحي وخلي بالك من نفسك.
تحركت خلف “عُـدي” بينما “نـادر” حمل الصغيرة ثم خلع سترته يُدثر جسدها الصغير بها حينما وجد الرياح القوية هجمت فجأةً وهي ترتدي ثياب لا تتناسب مع كتل الرياح تلك، جلس بها في السيارة بجوار “عُـدي” وهي لازالت بين ذراعيه، أخفض عينيه لها وابتسم لحجمها الصغير وقد تذكر ابنه الصغير الذي حرمته منه “شـهد” حينما أجهضته، فلو كانت إنسانة ولو لمرةٍ واحدة من المؤكد كان حاله اختلف الآن..
____________________________________
<“ليس كل ما تتمناه تناله،.ليس كل مُرادٍ منك أنتَ له”>
هناك فارق كبير بين ما يرغب المرء ويتمناه وبين ما يكون نصيبًا له، الفارق تمامًا يُشبه الاختلاف بين السماء الصافية وبين أخرى ملبدة بالغيوم، اختلاف أشبه باختلاف الليل والنهارِ والأمان هنا والخوف هناك، تمامًا كما لو كنت تجلس عند شاطيءٍ في شمس الظهيرة فتسحرك همساته؛ وآخر في ليلٍ مظلم فتأكلك وحشته..
كانت “عـهد” في غرفتها بعد عودتها من عند الطبيبة بعدما أمرتها أمها وحماتها بالخضوع للكشف فذهبت معهما مضطرة إلى ذلك، لقد تمنت أن تذهب معه وتشاركه كل الخطوات القادمة بهذا الشأن؛ لكن تأتي الرياح دومًا بما لا تشتهي السفن، حيث حدث ما حدث فرحل هو والجميع من هُنا، أما هي فاضطربت مشاعرها خوفًا من القادم، لم يُخيل لها أن تعيش حياةً تملؤها كل تلك الصراعات، لم يُخيل لها أن تكون رحلتها مليئة بهذا الكم الهائل من التحديات…
غرقت بفكرها ثم عادت تفكر في الحبيب ذاته..
فماذا عنه هو، ماذا عن الحياة التي يعيشها هو بهذا الكبد؟ ماذا عن أحلامه المسروقة وماذا عن حياته المنهوبة؟ كل شيءٍ في الأغلب ضده، حتى وقت أن شارفت الفرحة على الولوج من أبوابه أتى الحزن يغلق الأبواب في وجهها، زادت همًا فوق همومها بسببه هو، شعرت بالقلق عليه فلم يكن أمامها إلا أن تتضرع بلسانها وقلبها كي يعود هانئًا وسالمًا من كل شرٍ..
أثناء ابحارها في بحرٍ لا مرسى له ولجت أمه هو، حينها اعتدلت فوق الفرش تبتسم لها بينما هي تطلعت لها بحنوٍ ثم قالت بهدوءٍ:
_جيت أتطمن عليكِ، أنتِ كويسة يا “عـهد”.
أومأت لها موافقةً وقبل أن ترد جلست “غالية” وهي تقول بصوتٍ هاديء:
_أنا عاوزة أقولك إني طايرة من الفرح، بس لولا العيبة واللي حصل لابن الحج كان زماني ماشية أقول للكل إني فرحانة، عارفة؟ “مصطفى” لما ربنا رضانا بـ “يـوسف” وكأن أول فرحتنا كان دايمًا حاسس إنه هيكون لوحده، كان نفسه يكون عنده أخ ليه، علطول كان يتمنى يجيب عيال وعزوة يعوضوه عن قسوة عيلته معاه، ولما ربنا كرمنا بـ “قـمر” كان متعلق بيها أوي، مكانتش بتفارقه، علشان كدا طول عمرها بتصعب عليا، مجربتش حنان الأب، متفتكرهوش، بس “فـضل” عمره ما حسسها إنها يتيمة، كان أبوها بجد، أنا اللي دايمًا كنت موجوعة، طول الليل صاحية بفكر في الغايب، وطول النهار قلبي معاه وبيدعيله…
زفرت بتشنجٍ ونزلت عبراتها فوق وجنتيها ثم قالت بصوتٍ باكٍ:
_كنت دايمًا حاسة إنه هيرجع، كل مرة كنت أدور في مكان كنت برجع شايلة الهم أكتر، اتحرمت منه ومن العيشة معاه، حرموني من حقي فيه، كنت فاكرة إن النار جوايا مش هتطفي طول العمر، بس ربك بيعوض، عوضني بيه وبيكِ، ودلوقتي كتبلي فرحة العوض بعيالكم، عارفة دلوقتي؟ أنا مش زعلانة خالص، ولا حتى على ساعة واحدة في حياتي، عوض ربنا نساني كل حاجة، ومتأكدة إن اليوم اللي “يـوسف” هيشيل فيه عوضه على إيديه هيفرح أوي وينسى كل اللي فات، أنتِ رزق لابني، ورزق ليا.
بكت “عـهد” أمامها ثم مالت للأمام تحتضنها، وقد ولجت لهما “مـي” في تلك اللحظة فابتسمت لهما أولًا ثم قالت بصوتٍ هاديء:
_طب بعد إذن وصلة الحب دي، “عُـدي” واقف برة ومعاه مرات “إيـهاب” وبنتها، تعالوا شوفوها علشان “أسماء” نزلت تجيب حاجات مع “قـمر” علشان هتروح بيتها تقعد مع “آيـات” هناك و”ضُـحى” طلعت من شغلها على المستشفى تكون معاهم.
خرجت لها كلتاهما وقد جلست “سـمارة” بتعبٍ بلغ أشده عليها، أرهقها الموقف والصراخ والوقوف هكذا فجلست تحمل ابنتها وكل فكرها أصبح منصبًا على زوجها، تفكر بماذا هو فاعلٌ كي ينجو بنفسه من عُقدة الذنب، ما هي نهاية الموقف الذي يعيش هو فيه؟ لقد رأت في عينيه جحيمًا ونظرة أشد رُعبًا من السابق، لذا أصبح قلبها يتعلق به هو وحده، بينما “غـالية” ما إن خرجت لها أخذت منها صغيرتها تضعها فوق ذراعي “عـهد”..
كانت “سـمارة” تائهة وحائرة وكل شيءٍ حولها يدعوها للصراخ، خاصةً مشهد أخيها الصغير وهو غارق بالدماء، عادت تبكي بصوتٍ بعدما علا النحيط وظهر له صوتٌ، فضمتها “غـالية” بين ذراعيها تطمئنها وكذلك فعلت “عـهد” مع الصغيرة التي استقرت بين ذراعيها..
في بيت العطار..
كانت “آيـات” تجلس وحدها بعدما رفض الجميع ذهابها للمشفى، وأولهم زوجها الذي بكلمةٍ واحدة فقط أمرها أن تبقى بالبيت، جلست تقرأ القرآن وتتضرع للخالق بيقينٍ في أمر رحمته، تتضرع لأنها تعلم أن الدعاء يغير الأقدار ولعل دعائها يكون سببًا في أمرٍ ترجوه هي والجميع، كانت تذكر “مُـحي” في سرها وجهرها وكُلما دعت له تهاوت العبرات فوق وجنتيها..
أتت “نِـهال” وجلست بجوارها ثم سألتها بلهفةٍ:
_ها مفيش جديد؟.
كانت أنهت صلاتها بالفعل لذا حركت رأسها نافيةً وهي تبكي، فضمتها الأخرى تربت فوق كتفها، فازداد البكاء أكثر وهي تقول بصوتٍ متقطعٍ:
_كان حنين أوي عليا، كنت بعتبره أخويا الصغير هناك ولما كان يلاحظ إني متضايقة كان بيفضل يوصي “تَـيام” عليا، خايفة عليه أوي، معملش حاجة وحشة لحد، بقاله فترة عامل زي الأطفال الصغيرة، وربنا كتبله التوبة والهدى، يا رب يكون ابتلاء صعب، ربنا يردله عافيته وصحته من تاني.
مسحت فوق كتفها وهي تردد معها، بينما “إيـاد” فكان يهرب من لقاء “نِـهال” يخشى أن يقف أمامها فيفتضح أمره، يخشى أن يخبرها أن الحنين غلبه بمجرد أن وجدها تبكي، لكن بين تيه الطرقات القاسية عليه وبحر الذنب الذي غرق هو فيه، ركض إليها ووضع رأسه فوق فخذها، شعرت هي به فمدت كفها الآخر تمسح فوق ظهره ثم خللت أناملها في خصلاته حتى وجدته يشدد قبضته على كفها فتنهدت هي بقوةٍ وعلمت من تلك الحالة، أنه من المؤكد تواجه مع أمه بالخارج..
بمجرد أن سيطرت تلك الفكرة عليه لم يهمها من الأمر كله سواه هو، شغلها التفكير به وبمشاعره البريئة خاصةً في حملها وهي شارفت على الولادة بعد أيامٍ قليلة لا تُذكر، لذا هي الآن تخوض تحديًا صعبًا عليها وما عليها فقط سوى أن تنجو به بسلامٍ..
وهنا بدأ الليل يظهر..
بدأت كآبة الظلام تزداد قسوةً،
والغريب أن السماء اليوم بدون قمرٍ
وكأن القمر تخفى خلف غلافٍ يُخفيه،
فأي ليلٍ هذا نقضيه بدون قمرٍ..
____________________________________
<“لو أدركنا قسوة الفراق، لما كان بيننا المشتاق”>
لما ينوي الناس بأنفسهم الرحيل؟.
لما لا يبحثون يومًا عن البديل؟ لما دومًا كل الطُرقات تكتب لها نهاية واحدة وهي الفراق في نهاية المطاف؟ لو كل مرءٍ فينا أدرك أن كل شيءٍ سيفارقه بتلك القسوة من المؤكد كانت أغلقت أبواب القلوب عن الحب، كانت صدت الأبواب في وجه كل طارقٍ، لكن القلوب في حد ذاتها ليس عليها بسلطانٍ سوىٰ قوتها في قيادة الأمر، فحتى لو رغبنا في الهرب، سطوة القلوب توقعنا بالفخِ..
في المشفى حيث جلوس الجميع في الإنتظار والترقب، كانت “جـنة” تتذكره ملامحه التي لم تبرح خيالها، تذكرت يومياته بمقر عمله وهو يقرأ القرآن الكريم يوميًا، تذكرت هرولته للمسجد كي يلحق المُصليين، تذكرت عبارته ذات مرةٍ حينما كان يجاوب أمها فجاء الرد منه بأدبٍ:
_إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والقرآن بيهذب قلوب الناس، علشان كدا لما صليت مكانش ينفع أقابل ربنا بكل المعاصي دي، ولما قرأت القرآن أتهذبت، ربنا يرزقنا الثبات والجنة و”جـنة”.
بكت من جديد وهي ترى الجميع هنا على شفا حفرةٍ من السقوط في بئرٍ عميقٍ مظلمٍ، تخشى لحظة الإفاقة على فاجعة فقده، لذا التزمت الصمت ببكاءٍ مزق روحها لفتاتٍ، وعيناها تطلعت لشقيقه الذي يشبهه لحدٍ كبيرٍ، نفس الملامح بنفس لون العينين بنفس الهيئة القوية والتكوين الجسدي، لكن الحبيب لم يكن هو، هي تبحث عنه في الوجوه بأسرها وهو يغيب عنها..
خرج الطبيب من الغرفة بعدما غاب لساعاتٍ كثيرة، وقد تأهبوا وانتفضوا فقال هو بنسبة هدوءٍ:
_إحنا حاولنا وربنا قدرنا، بس لسه علشان الرصاصة جت في مكان قريب من القلب، الساعات الجاية هتحدد، وبالنسبة للدم الأستاذ “سـراج” طلع نفس فصيلته واتبرعله، هو حاليًا هيخرج من العمليات لأوضة الرعاية، عن إذنكم.
زفرة ارتياح أتت من بعد الإنتظار..
هدوء نسبي جعلهم يرتاحون ولو قليلًا من الطوفان القاتل الذي عصف بهم، أعين عاد الأمل يوهجها بدلًا من الإنطفاء، وقلوبٌ عادت تردد عبارات الحمد والامتنان، كل شيءٍ أصبح أكثر هدوءًا وقد جلس “نَـعيم” وسانده “عبدالقادر” الذي لم يتركه حتى الآن، وجد فيه الأخ والصديق وأدرك لما كان “مصطفى” يعشقه بتلك الطريقة، وجد فيه ملاذًا قويًا أرسله له الخالق، فقال بصوتٍ هاديءٍ:
_أتعودت طول عمري أكون حيطة الكل يسند عليها، النهاردة بس كنت عاوز أسند على حد، أدعيلي ربنا ميوجعش قلبي عليه، كفاية وجعي على أخوه واللي حصلي من غيره، أدعيله.
ربت “عبدالقادر” على كفه ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_”لا يُبتلى الإنسان إلا فيما يُحب”..
الله ابتلاك في فقد عزيز ثم عوضك برجوع العزيز، ابتلاك بفقد الزوجة ثم كرمك بوجود الأبناء، ودلوقتي يختبر صبرك ورضاك، قل الأمر كله لله، إن أراد شيئًا يكون، لا تجزع من صبرك لعل صبرك دواء عجاف كان هيصيبك، احمد ربك على كل شيء، وأدعي بيقين، الدعاء بيغير القدر، ربنا يردلك ابنك ويطمنك عليه..
رفع “نَـعيم” رأسه للأعلى يطلق عنان البكاء وقلبه يردد التضرع والنداء للخالق، بينما “أيـهم” فالتفت لشقيقه يهمس له بصوتٍ خافتٍ:
_طالما الحكاية كدا هروح الحارة أأمن الدنيا وأخلي “بـيشوي” يظبط الرجالة هناك وأشوف البيت أخلي الشباب تقف عنده، مراتك فين علشان أبقى عارف بس؟.
انتبه له وقال بهدوءٍ كي لا يلفت الأنظار:
_كدا أحسن، روح أنتَ وأنا هتابع معاك، و”قـمر” روحت البيت علشان تقعد معاهم وتخلي بالها من “آيـات” روح بس وكلمني طمني عليهم، ولو احتاجت حاجة كلمني.
رحل “أيـهم” في هدوءٍ من أمامه، وأنسحب من بين الجميع، قصد الحارة كي يتجه إليها، وما إن ذهب ووصل بعد مرور أكثر من ساعةٍ وقابل “بـيشوي” ودار الحديث بينهما أخبره صديقه بثباتٍ:
_متقلقش، كل اللي عاوزه هنعمله، أبقى بس طمني لو حد كلمك يطمنك على “مُـحي” الواد ربنا يعلم أنا بحبه إزاي ومن ساعة ما جه الحارة محدش شاف منه حاجة وحشة، ربنا قادر يشفيه ويردله عافيته، اتحرك على البيت أنتَ أرتاح شوية وأنا هكلمك.
نحرك بالفعل نحو البيت وما إن ولج هرعت إليه “آيات” باكيةً فطمئنها بنظراته ثم قال بحديثٍ هاديء:
_خرج من العمليات ودلوقتي دخل العناية، و “سـراج” طلع نفس فصيلته واتبرعله، روحي أنتِ ارتاحي شوية لحد ما أغير هدومي ونتعشى مع بعض علشان علاجك، ومتقلقيش “تَـيام” كويس وهناك بخير مع باباه.
أومأت موافقةً فيما ولج هو المطبخ فوجد زوجته تعاون “هـدية” في التحضير فألقى التحية ثم وقف يطمئن عليها وعلى أحوال البيت فقالت هي بصوتٍ غلفه الحزن:
_كلنا كويسين بس قلقانين، ربنا يسترها عليه، المهم أطلع غير هدومك وهات “إيـاد” من فوق علشان ياكل، نام من غير أكل.
أومأ لها موافقًا وحينما لمح الساعة تقترب من الثانية عشر منتصف الليل التفت يسألها بتعجب:
_هي “قـمر” فين؟.
ضيقت جفونها وعقدت حاجبيها وهي تردد الجواب بلمحة استنكارٍ بدت في حديثها وهي ترد:
_هي مش هنا أصلًا، تلاقيها عند مامتها.
شرد لوهلةٍ وتذكر حديث شقيقه، لكن في تلك الحالات الخطرة تلك التي تحاوطهم جميعًا كان لابد من القلق أن يطرق أبوابه، وقف يُجمع الخيوط ويُشبكها ببعضها فتضافرت ضفيرة للحقيقة أمامه ووقتها دوى الصوت بعقله ينذره، حينها قال بلهفةٍ وهو يستعد للرحيل:
_بقولك إيه اتعشوا أنتوا وخلوا بالكم من نفسكم.
_رايح فين؟ تعالى طيب أنتَ مالحقيتش.
صعد لشقة شقيقه يطرق الباب بقوةٍ وهو يُنادي عليها باسم شقيقه لعلها تفتح له، ثم حاول أن يحدثها هاتفيًا لكنه هاتفها كان مُغلقًا، حينها قد كان بالفعل هرول وخرج من البيت، أخذ السيارة الخاصة به وشق بها الطريق ليصل في مرور دقيقتين عند بناية “يـوسف” وقد تحرك بالمصعد ووصل لشقة “غـالية” وقف يهندم ثيابه ويضبط أنفاسه الثائرة ثم ضغط فوق زر الجرس، فخرجت له “غالية” التي طالعته بتعجبٍ لحظي ثم سألته بهدوء:
_أهلًا يابني، خير حصل حاجة؟ “مُـحي” كويس؟.
أومأ لها موافقًا ثم قال بنفس الهدوء والثبات:
_بخير يا ست “غالية” الحمدلله خرج من العمليات، أنا جيت علشان أتطمن عليكم ولو عاوزين حاجة عرفيني، و”يـوسف” هناك مع الحج “نَـعيم” وقولتله إني هتطمن عليكم علشان “عُـدي” راح البيت يجيب حاجات من هناك.
أومأت له بتفهمٍ ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ:
_ربنا يكرمك يا بني ويسترها عليكم، تسلم يا رب كل حاجة هنا ولو احتاجت حاجة هكلمك أكيد، أنتَ بس لو عرفت حاجة طمني بالله عليك، الواحد خلاص أعصابه باظت، ربنا يطمن قلب أبوه عليه.
أومأ موافقًا لها ببسمةٍ هادئة وكاد أن يرحل بحركةٍ مفتعلة، ثم تصنع التذكر وعاد لها من جديد يتصنع الجهل بالأمر:
_بقولك يا ست “غالية” معلش أنا لسه مروحتش البيت لو “قـمر” عاوزة تروح البيت تيجي معايا بدل ما تروح لوحدها، “أيـوب” كان قالي إنها عاوزة تروح البيت.
عقدت حاجبيها أمامه وبدا الاستنكار جليًا فوق ملامحها وهي تقول:
_تسلم يا رب بس هي راحت مع “أسماء” من بدري تجيب حاجات وطلعت على البيت، وبعتتلي رسالة إنها وصلت بس هتعمل أكل ومشغولة وهتكلمني، ومستنياها تكلمني بس هي شكلها نامت في الجنينة زي عادتها.
وياليتها ما تحدثت، الحديث كان كمطرقةٍ سقطت فوق رأسه، تبدلت ملامحه واحتقن وجهه واحتبست الدماء في وجهه، هوى قلبه من فوق جبلٍ ورأسه راحت ترسم الخيالات الصعبة، فجل ما استطاع فعله والنطق به كان:
_طب كويس، عن إذنك علشان متأخرش عليهم أكتر من كدا.
أومأت له ولم يخف عليها تغيره بينما هو فركض يصارع ذرات الهواء، حمل في طرفة عينٍ همًا ثقيلًا عليه، حمل هم شقيقه وهم زوجة شقيقه، كل شيءٍ أنقلب في طرفة عينٍ، وقف تائهًا لثوانٍ وقد بدر عقله باسم رفيقه، فأخرج الهاتف يطلب رقم رفيقه فجاوب “بـيشوي” عليه بنبرةٍ ناعسة يعبر عن سخطه:
_أبو أم معرفتك، عاوز أنام فكك مني.
_ مش وقته الساعة داخلة على واحدة ومعرفش “قـمر” فين.
ولأن الآخر لم يستعب الحديث ظنه يمزح معه فعدل رأسه فوق الوسادة ثم رد عليه بفتورٍ كأنه لم يكترث:
_طب دور على شمس.
حينها صرخ “أيـهم” بانفعالٍ فيه وقد تلفت أعصابه:
_أنا مش بهزر، بقولك مش لاقي “قـمر” مرات “أيـوب” وهو فاكرها في البيت وأمها فكراها في البيت عندنا، أنزل بسرعة.
توسعت عينا “بـيشوي” وترك مكانه مهرولًا من فوق الفراش بسرعة البرق، وقد لاحظته “مهرائيل” وقبل أن تتحدث كان ترك البيت ورحل حينما سحب متعلقاته وغادر الشقة، وما إن نزل وجد رفيقه يقف بتيهٍ وعيناه تسرد عليه مواضيع حيرته، ومن جديد يجتمع الصديقان مع بعضهما في رحلة بحثٍ جديدة،
رحلة بحثٍ في منتصف الليل عن قمرٍ ضاع
وتخفى وبدت السماء موحشةً بدونه..
في العوامة أو تلك الشقة الموصولة بالجسر الخشبي..
كان “ماكسيم” يجلس فيها يفرد قدميه وسيجاره البني بين أصابعه وقد شكل الدخان هالة رمادية تحاوطه والكأس في يده وعيناه تراقب الساعة، لحظة انتصارٍ جلس فيها مبتسمًا.
لا تهمه العواقب بقدر ما تشغله لحظة انتصار شهواته،
يبيع كل شيءٍ نظير شهواته ونفسه وارتياحه، لذا ترك موضعه بعدما أطفأ سيجاره في المنفضة ثم ولج بخطى بطيئة يسير الهوينة متلذذًا كمن يسير في طرقات الأحلام، كان يسير ويطلق صفيرًا بغيضًا ثم فتح باب الغرفة المُطل عليها..
أو كما وصفها هو باب السماء المُطل على “قـمر”..
تلك الفاتنة الشرقية المصرية..
أول من نافست جمال مصر في عقله، فتاة واحدة تعني له جمال “مـصر” بكل أثارها، فلو كانت فتنته هي الحضارة المصرية، فما أشد منه هي “قـمر” ولو فلسفته القوية تعني الإسقاط فمن المؤكد أن “قـمر” هي رمز الجمال المصري الذي يتطلع إليه كل معتدٍ، اقترب منها يجلس على طرف الفراش، يراقبها بعينيه وهي تنام متوشحة بفستانٍ فضفاضٍ يشبه رفرفة العلم المصري على الأراضي الحرة، صورة أخرى للجمال يراها فيها هي، لو لم تكن الأجمل، فهي الأحق، الأحق بقلبه المفتون بها وحدها..
مرر أنامله البغيضة التي اعتادت سرقة ما ليس له فوق وجنتها الناعمة، ظل يراقبها بكل ما فيها وانفاسه الكريهة تعلو أكثر بجوار أذنها، رائحتها المميزة رغم عدم استخدامها للعطور من الأساس ذكية وتوغلت في أوردته، ظل يبتسم لها وهو يقترب منها ثم همس بشرٍ بعدما رسم له عقله أفج الخيالات المحرمة:
_محظوظ “أيـوب” أوي إنه مالك الجمال دا كله لوحده.
ولما وجد أنه يتعدى حدودًا رسمها ووضعها ترك الفراش ووقف يراقبها بعدما نجح في خطفها وأتى بها إلى هنا دون أن يتحرك حتى وحينها ابتسم بغرورٍ ثم جلس أمامها يتطلع إليها كما يتطلع لقطع الآثار في صندوقها الزجاجي، يتمنى إزالة الحدود والاقتراب لكن ما يمنعه عنها هو نومها، لذا عليه أن يتريث قليلًا حتى تقبله هي بكامل إرادتها وتقبل به، وإلا سيفعلها هو وحده..
اليوم الحدث جلل..
السماء بلا قمر، والقلوب بلا رحمة،
العقول مُغيبة، الأحرار مكبلون، السماء مُبلدة بالغيوم،
النجوم اختفت فلم ترشد التائهين،
والأحلام تحولت لكوابيسٍ بشعة،
والأمال خفت ضوئها،
والأحلام ضاع بريقها،
لكن لازال للُحلم بقية..
____________________________________
<“أو كل جبانٍ طاغٍ ينل متعة الحرية؟”>
إن الحُرية شمسٌ..
لا ينل شرف النظر لها إلا من عاش بقلبٍ سليمٍ، هؤلاء الشرفاء الذين عاشوا باحثين عن الحُرية، هم فقط من يحق لهم التشبيه بحرية الطير، هؤلاء الذين يمسكون القلم فيوجهون العقول لقبلة الحق هم فقط من يحق لهم نيل الحُرية، فلو كانت الحرية شمسًا، فالقلم كان ولازال بحرًا، والبحر يوم أن يثور تهب له الرياح،
ولكن تلك المرة هي رياح الحق..
أنهى “بـاسم” العمل في أملاك الشباب بعدما علم بما حدث، وقد عاونه في ذلك “عـزيز” الذي وقف يخبره بكافة التفاصيل الخاصة كي يتولى هو مهمة كهذه، ولأنه يتمتع بسرعة بديهة فائقة كان حقًا أدرك كل شيءٍ حوله، لذا أجاد الصنع والفعل وما إن أغلق الأماكن قابله “عـزيز” وقال بهدوءٍ:
_أنا كلمت “سـراج” وقالي إنه خلاص اتبرع بالدم وقالي إن “مُـحي” خرج من العمليات بس دخل العناية لحد ما حالته تستقر، عمومًا أنا هروح أرتاح شوية وبكرة هطلع على المستشفى الصبح بدري.
أومأ له موافقًا وقبل أن يرحل أوقفه “بـاسم” بقوله:
_هو إيه اللي حصل؟ علشان “مُـنذر” مش بيرد عليا.
_”مـاكسيم” بعت رجالته ضربوا نار ودخلوا البيت وفيه طلقة جت في “مُـحي” ولما البيت كله اتجمع الرجالة دخلوا من الباب التاني وخدوا “ماكسيم” النار قادت من تاني، بس المرة دي “إيـهاب” مش هيسكت بجد، هيجيبه ولو في بطن الحوت، “مُـحي” أخونا الصغير كلنا، وخصوصًا الفترة الأخيرة من ساعة ما اشتغل وحاله اتبدل، أدعيله.
هكذا جاء الرد عليه من الآخر، بينما “بـاسم” فوقف بعينين تقطران قهرًا، نظرات حزينة كللت عينيه ثم قال بحسرةٍ على شبابٍ ضاع وشاب رأسه قبل أوانه:
_عارف اللي يوجع إيه؟ إن مفيش حد من اللي اتأذوا في البلد دي يستاهل الأذىٰ، مينفعش حد يتأذي لمجرد إنه بيحلم، زي ما بالظبط مينفعش حد يقرب من عش الطيور يهجرها من مكانها، اللي زي “مُـحي” و “إسماعيل” وأي شاب مصري عايش يدور على السلام وأحلامه كلها مش بتأذي حد، بس مين يتلام بقى؟ ولا مين يجيب حق اللي راح؟ دا حتى الصحافة وقعت ومبقاش ليها لازمة.
وقف “عـزيز” أمامه بيأسٍ ثم قال بخيبة أملٍ:
_عارف؟ أنا من ساعة ما خلفت وربنا رضاني بقيت بشيل ذنب ابني، بقول حرام إني جيبته في دنيا زي دي كل شبر فيها ظلم وفساد، وفضلت كتير أفكر كدا لدرجة إني كنت خلاص يأست، بس برجع تاني وأقول ربنا أرحم عليه مني، ربنا يكرمه ويقويه وأنا هعمل اللي عليا كله، نفسي تنضف قبل ما يكبر، نفسي يكبر يلاقي نفسه إنسان متقدر، مش عاوزه يكون ضايع ومش لاقي نفسه، نفسي أشوفه حاجة تشرف العين، نفسي يفتخر إنه مصري ودي بلده، مش عاوزه يكبر خايف زيي.
وقف كلاهما أمام الآخر وقد كان “بـاسم” في أوج لحظات يأسه، تذكر حينما كان في حصار المعتقل حينما حدث شجارٌ بينه وبين أحد الضباط الطغاة فقهره وذله حينما دهس رأسه بقدمه وضغط عليها وقال بتجبر:
_اللي زيك لازم يخرس، لسانه يتقطع علشان المركب تمشي، اللي زيك **** ابن ***** فاكر إنه هيغير الكون كله، بس اللي زيي واقعي، ويا أنا يا أنتَ يا فاجر يا ابن ***، *****
كان السباب بأبشع الألفاظ وأكثرها صعوبةً وهو يهينه بأمه، كان عبارة عن صورة للطغاة المتجبرين حينما يقطعون السبيل على الأحرار، كلما تذكر قسوة التعذيب في المعتقل شعر بيد القهر تمتد لقلبه فتضغط عليه فتجعله ينزف دمًا، لذا أغمض عينيه وتذكر رواية سياسية قرأها ذات مرةٍ وآخر ما علُق بذهنه منها كان:
_”أصبح من المتوقع كل شيءٍ؛ أن تهب الرياح فتقلع كل شيءٍ وتزلزل الأرض زلزالها ويثور بركان لا ينطفيء، وتقوم ثورة لا يعلم مداها إلا الله، فمتى تهب الرياح؟”..
سار والسؤال فيه يخلق دوائر مفرغة وهو يدور حولها..
متى يحين الموعد كي يُضيء الأمل الدروب المعتمة؟ متى يحين الموعد كي يزداد الحلم سعةً؟ متى تهب الرياح فتقلع كل شيءٍ فاسدٍ في أرضٍ صالحة؟ متى يحين الموعد فتسقط الثمار الفاسدة من جوار الأخرى الناضجة؟
متى يرمي النخيل الثمار
ومتى تمتليء الأرض بالأحرار؟
____________________________________
<“كان العقاب ما يحتاجه فاسدٌ هو بتر آداة الفساد”>
يقولون إذا أردت أن تعاقب لصًا..
عليك أن تبتر يديه، وإذا أردت أن تُعاقب فاسدًا فعليك أن تحرمه من الاختلاط بذوي النفوذ، وإذا أردت أن تنتقم من عدوٍ رافق عدوه، وإذا أردت أن تسترد حقك فعليك ألا تكون جبانًا، إما إذا أردت أن تكون عاشقًا فاعشق ليلًا يؤتيك ويكون لكَ بقمره خلانًا..
الليل زاد وحشةً، القمر تخفى بين أحضان السماء، كآبة الظلام وقسوة الإنتظار كلاهما يجتمع مع الآخر يفتك به، صوت همسات في الليل فوق سجادات الصلاة وهمهمات المُصليين المتضرعين تعلو، خبر الاختفاء كتمه “أيـهم” ومنع انتشاره كي لا تفزع القلوب، واكتفى فقط بإجابة واحدة طمئن بها أمها وزوجها أثناء رحلة بحثه:
_لقيتها في الشقة بس كانت نايمة وكملت نوم.
رغم عدم الاقتناع بالجواب إلا أنه أقنع كل سائلٍ واكتفى فقط بالبحث وحده هو والشباب بالخارج، كان كما الطفل الصغير الذي خرب أجهزة بيته وجلس في انتظار أمه بكل خوفٍ، ورغم ذلك هو يخشى أن يتصرف بدونها، كان يأمل أن يجدها قبل أن يعود شقيقه، وها هو الفجر على مشارف البزوغ ولازال هو يبحث..
بينما في المشفى كان “مُـنذر” يقف بجوار الغرفة التي يقبع فيها جسد ابن عمه، عيناه لم تبرح الزجاج وهو يراه هكذا، وقف يتذكر بعض المواقف بينهما وآخرها كان أول أمسٍ حينما رأى الصورة التي كان يلتقط بها صورة لزوجته وهي تناقش الندوة الطبية النفسية، فولج له يقول بمزاحٍ:
_الله الله الله، دا إحنا اتغيرنا خالص، الصورة جامدة والله، اللي صورها ليكم فنان، عقبالي يا رب أتصور زيها في فرحي، مع إني مش هكون فاضي للصور والكلام الفارغ دا، أنا يوم ما آخدها من بيتها مش هقف حتى أسلم عليكم.
ضحك له وقتها “مُـنذر” ثم قال بصوتٍ هاديء:
_أنتَ قربت خلاص أهو، الراجل ربنا هداه علشانك، وبصراحة بقى أنتَ عاوز تتأدب، كل شوية تدخل تخنقه وتقوله عامل إيه يا حمايا، بنتك عاملة إيه يا حمايا؟ باعتله فيديو عبيط زيك وتقوله وريه لبنتك؟ والله شكله هيرجع في كلامه.
_طب يعملها علشان أخطفها وأتجوزها وأخليك أنتَ تسوق بيا العربية وتدوسه، صبره عليا بس آخد بنته منه وأنا ناويله نية؟.
هكذا كان الجواب من الآخر فرد عليه هو:
_بس أنا ماليش دعوة وهبيعك.
توسعت عيناه بهلعٍ لكنه قفز على ابن عمه وظل يضربه حتى ضحك معه “مُـنذر” وانقلبت الآية حينما أصبح هو فوقه وأصبح هو من يُكيل له الضربات ليضحكا سويًا بعد ذلك ثم تبدأ المشاجرة من جديد لكن تلك المرة في حدودٍ أوسع حينما أنسحب “مُـحي” وخطف الآخر بين ذراعيه، كانت حلبة مصارعة ضيقة تحملهما وحينها ولج لهما “تَـيام” وفصل بينهما ظنًا منه أنه شجارٌ فعلي، ووقتها قاما سويًا بضربه هو وهما يضحكان مع بعضهما..
كانت الذكرى الأخيرة له بينهما حينما ضمهما سويًا وظل يضغط عليهما بذراعيه فدفعه كليهما وصوت الضحكات الرنانة ظل يصدح عاليًا لينتهي الأمر بهم جالسين معًا أمام الخيول يرتشفون الشاي، وقد أتت في تلك اللحظة “فُـلة” برفقة شقيقها ووصلت لزوجها وما إن جاورته وجدته يقول بصوتٍ أقرب للهمس:
_كنت بعتبره كل عيلتي، الوحيد اللي قدرت أحكيله كل أسراري ومقدرتش أخبي حاجة عنه، كان نفسي يكون عندي أخ طول عمري، ولما لقيته هو بقيت اعتبره عيلتي كلها، خايف يسيبني، مش هقدر أرجع غريب تاني في غيابه..
كانت تعلم كيف هي مشاعره لذا ربتت فوق كتفه وهي تحاول أن تطمئنه بينما هو فعلق عينيه باللوح الزجاجي وظل يناديه بقلبه، ظل يتمنى أن يقوم ويفعل ما يفعله دومًا وهو يشاكس في كل مارٍ عليه، اليوم هو يتمنى أن يعود له الأخ الأصغر كي يعود هو لنفسه، لكن حقه عليه أن يعود أولًا قبل أن يفيق أخوه..
في مكانٍ آخرٍ..
تحديدًا في مركبٍ تستقر عند مرسىٰ البحر وسط غيرها من المراكب المظلمة كانت من بين الجميع واحدة مُضاءة ليلًا، وفيها جلس “سـامي” فوق سطحها في مدينة “العين السخنة” وبجواره فتاة ساقطة ترتدي ثيابًا كاشفة، كانت مجرد وسيلة كي يستغلها في إفراغ غضبه، كانت تجاوره بصمتٍ وهو يتجرع الخمر في كأسه خاصةً بعدما علم باختطاف “قـمر” من قبل “ماكسيم”..
اقتربت منه الفتاة في محاولةٍ للتقرب أكثر من ذلك فوجدته يدفعها بغضبٍ من جواره وهو يهينها بسبابٍ لاذعٍ وقبل أن يتحرك خطوة واحدة قفز أحدهم فوق سطح اليخت ثم وقف أمام “سـامي” الذي توسعت عيناه وفرغ فاهه وحينها ظهر نصل السكين الحاد من المدية المفتوحة وقال “يـوسف” حينها يُنذر بشرٍ قادم:
_مكتوبالك يا ابن العالمة تموت على أيدي.
حينها هب “سـامي” منتفضًا من مكانه وأخرج سلاحه من جيبه وهدر فيه بغضبٍ أعمى بعدما وجده هنا في المكان الذي فر منه إليه:
_مش هتلحق يا “يـوسف” المرة دي مش هتلحق.
وقبل أن يفعل أي شيءٍ قفز الثاني وقال بشرٍ:
_لو هو لوحده ماشي لكن مش في وجودي.
وها هي النسخ الصغيرة من الأعداء الكبيرة تظهر له، في الماضي قد فعلها غريماه والآن في الحاضر يفعلها ابنا غريميه، لذا نطق مُستنكرًا بعدما ظن نفسه تحت سطوة الخمر:
_”يـوسف” و “أيـوب”..!!
_ومعاهم عمهم يا حيلتها.
هكذا أتاه الجواب من “إيـهاب” الذي أتاه من الخلف فالتفت له برأسه فوجده يقف وفي يده استقر السوط الجلدي فهوى قلبه وتيقن أن النهاية على أيديهم قد حانت، لذا ظل يزحف مستندًا على مرفقيه بخوفٍ منهم بينما الفتاة فصرخت بملء شدقيها، فخطفها “إيـهاب” ثم دفعها للأسفل وقال بصراخٍ:
_أنزلي أنتِ علشان اللي جاي للرجال فقط.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)