رواية غوثهم الفصل المائة وأربعة وتسعون 194 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وأربعة وتسعون
رواية غوثهم البارت المائة وأربعة وتسعون

رواية غوثهم الحلقة المائة وأربعة وتسعون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل المائة وتسعة_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_______________
اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي،
وإسرافي في أمري،
وما أنت أعلم به مني،
اللهم اغفر لي جدي وهزلي،
وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي،
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت،
وما أسررت وما أعلنت،
وما أنت أعلم مني،
أنت المقدم وأنت المؤخر،
وأنت على كل شيء قدير..
_”مناجاة”..
اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد.
____________________________________
أخبرني يا عزيزي كيف لي أن أكتب لكَ؟.
كيف أخبرك عن الأحداث وأنا قلبي مليءٌ بالقهر؟..
كيف أقول لك أن الحدث في مدينتنا بات جللًا..
فاليوم أمست السماء فارغةً بلا نجوم، ليلُنا أتى بلا قمرٍ..
بطلنا المغوار رمىٰ سيفه وغادر البلاد، اليوم يا عزيزي أسرد لكَ عن قسوة الحال، فالمدينة اليوم أنطفأت أضوائها، راح عنها الفرح، وليس فقط بذلك؛ وإنما احتلت الكآبةُ معالمها من أطرافها لأقصىٰ المدينة، اليوم علت صرخات القهر أمام قسوة الظُلم، الليلة كان البطل فيها أكثر الناس بُغضًا وكُرهًا، اليوم استصعب الحال على الأحرار، خصيصًا ذاك الذي فقد نفسه وصوته في سبيل الحُرية ورثاء الفقيد..
لعلك لا تعلم لكن الأمر حقًا يُحزنني، أشعر بالقهر وأنا أكتب لكَ عن أرضٍ حُرة أُتيحت حدودها لمعتدٍ عاث بها فسادًا..
فكيف أسرد لكَ عن صرخات الصغار؟ وكيف أوصف لك غياهب الظلام في قلوب النساء؟ كيف أصف لك ذُل الأحرار؟
وكيف أكتب لك عن قهر الرجال؟
كيف أصف لكَ قسوة الحال وتغييره الجذري شبه محال؟.
لعلك غيبت عن مدينتنا وابتلعتك الغُربة في جوفها،
لكنك من المؤكد ستعود، ولعل عودتك تلك المرة تكون في صورة صغارٍ نرى بهم المستقبل المخبوء، فياليتك هنا يا عزيزي،
وياليت بلادي لازالت بعز خيرها، لكن هذا ما حدث وهذا ما صار، الخير في بلادي أصبح ركامًا بداخل الغار..
<“لعل خسوف القمر كان سببًا في حُب الضوء”>
لعل العالم يسمع صرخات المغدورين..
يصله خبرٌ بقهر الضعفاء، وألم النساء، لعل العالم يرى صورة أخرىٰ من تلك الحقوق الخيالية التي يدافعون عنها، فياليتهم انتبهوا للمواطنين بدلًا من حرقتهم لأجل المستوطنين، ياليت العالم يعلم، وياليت الأصوات تصل..
كانت صرخاتها تشق الليل شقًا..
الصفعات توالت فوق وجهها حتى نزفت منه الدماء، محاولة اغتصاب كانت ستبدي بحياتها وهي تُنتهك بهذا العنف، كانت تناجي ربها صارخةً أن يرحمها مما هي فيه، بدأت تفقد وعيها وتدخل في مرحلةٍ أكثر خطورة.
_يـــا رب…يــا رب…
آخر ما استطاعت أن تتفوه به بعدما يأست من الخلاص والنجاة، بينما هو فلم يرغب في البعد عنها إلا بتحقيق ما يريد، لذا تجاهل صمتها وصمم على فعل ما رغب وحينها أدركت هي أن سبيل الخلاص بات مستحيلًا لها، لذا وقبل إتمام هذا الفعل المُشين شعرت بسقوط الضوء على وجهها بعدما أُزيح “ماكسيم” عن جسدها فجأةً، شُل جسدها وشُلِت حركتها، بينما مغيثها رفعها عن الأرض بين ذراعيه وهو يصفعها بخفةٍ ثم ظل يناديها مذعورًا بهلعٍ، فارقت جفونها بتعبٍ لتجد أمامها آخر من توقعت ظهوره، فهمهت بصوتٍ خافتٍ تستنكر هويته:
_نـ..”نـادر”..!!
كان هو بالفعل مُغيثها، أرسله الخالق لها كي يلحقها من أذى إن أصابها لن يبرأ جرحها منه، وآخر ما استطاعت أن تضيفه كان:
_شـ..شرفي يا “نـادر”..شرفي.
سقطت رأسها للخلف تفقد وعيها بينما هو ظل يناديها بصوتٍ مذعورٍ مرتجفٍ وحينما أدرك الوضع حملها فوق ذراعيه يهرول بها للخارج فوجد في وجهه “عُـدي” يضرب أحد الرجال، كما أن رجاله الذين أتوا معه قاموا بفرض سيطرتهم على الوضع بالكامل، لذا ما إن خرج صرخ مناديًا “عُـدي”..
التفت له كي يراها فوق ذراعيه غافيةً، هرول مقتربًا بعقلٍ متوقفٍ وعقله لا يرحمه من الخيالات، فهدر “نـادر” بصوتٍ عالٍ:
_أنا لحقتها، يلا بسرعة على العربية..
ركض بها بينما سبقه “عُـدي” الذي فتح باب السيارة وجلس بها ثم حمل “قـمر” الغافية بقلبٍ ملتاعٍ وعينين باكيتين وهو يناديها ويمسح فوق وجهها المنتفخ بلونٍ قرمزي إثر الصفعات التي توالت فوق وجهها، بينما “نـادر” فعاد للداخل كما الأسد الحبيس الذي نال حريته، ولج ليجد رجاله قاموا بتدمير الجميع حتى “ماكسيم” وقع في قبضة أحدهم، حينها اقترب منه سحبه من خصلاته جرًا فوق الأرض ثم هدر في رجاله بصرخةٍ عنيفة:
_ورب الكعبة لو ما سبقتوني بيه على حارة العطار ورميتوه هناك في مقلب زبالة لحد ما أجيلكم أنا هقعدكم في بيوتكم جنب حريمكم، يـلَّا..
صرخته كانت بقهرٍ حتى أتته إيماءة موافقةٌ منهم جميعًا وجَّروا منه “ماكسيم” يضعوه بسيارةٍ أخرى متجهين حيثما أخبرهم هو، بينما “نـادر” فعاد لرفيقه وبدون مقدمات ولج السيارة يشق بها سكون الليل حتى كادت الإطارات تُخرج من احتكاكها نارًا وشررًا، وصل بها لأقرب مشفى قابلته في طريقه ثم ترجلا من السيارة يركضا بها حتى تم تسليمها للطاقم الطبي فوق السرير المعدني المدولب ومن ثم سقطت أجسادهما بتعبٍ عند يتكيء كلاهما على الجدار بهزيمة مُحاربٍ خسر الحرب بأكملها…
في قسم الشرطة كان “أيـهم” يخبر الضابط بكل شيءٍ منذ أن اكتشف غيابها حتى تلك اللحظة وبحثهم المتواصل عنها، بينما “أيـوب” فكان يجلس بصمتٍ وبداخله البركان لا يتوقف، عيناه تسبح في فراغٍ مُظلمٍ، عقله يشن ضده حربًا قاسية لن يقدر عليها وحده، قلبه بكل أسفٍ لازال ينبض وكل نبضة كانت تنبض بخوفٍ عليها، عاد كما كان صغيرًا يخشى الزحام والظلام وقلوب الناس…
أنهى شقيقه كافة الإجراءات ومعه “يـوسف” الذي حاول أن يستمسك بجزءٍ من قوةٍ واهية كاذبة لكنه يحاول لأجل أمه، ولأجل شقيقته، خرج معهما “أيـوب” بصمتٍ أطبق على روحه فراح عنن براحته، أما “يـوسف” فصدح صوت هاتفه بينهما وحينها زفر بمللٍ ثم أخرج الهاتف فوجد رقم “نـادر” في شاشة هاتفه..
كان يعلم سؤاله لذا كتم الصوت ولم يجاوب على المكالمة، وما إن سأله “أيـهم” بعينيه عن السبب فقال بتعبٍ ونبرةٍ ملولة:
_دا “نـادر” وأكيد هيسألني وصلت لإيه، مش قادر أرد.
أومأ كلاهما، بينما “أيـوب” فكانت هناك قبضة في قلبه تخبره أن موضع هذا الضلع الناقص تم كسر ضلعه، كان يشعر بغصةٍ في حلقه وهو يشعر أن ضلوعه تضيق به على أنفاسه؛ وكذلك ضاقت على الموضع الفارغ بدونها، كان لسانه يردد التضرع بصوتٍ خافتٍ حتى صدح صوت هاتفه برقم “نـادر” فأغمض عينيه ثم أخرج الهاتف ولأنه يفهم معنى القلق فتح المكالمة وقال مباشرةً:
_لسه يا “نـادر” موصلناش لحاجة، لما نوصـ..
_”قـمر” معايا يا “أيـوب” تعالى على مستشفى ***** اللي على الطريق الإقليمي الجديد.
توسعت عينا “أيـوب” وهرول نحو السيارة مسرعًا وخلفه سار الاثنان وقد ظل شقيقه يسأله عن سبب تحوله بتلك الطريقة وركضه الغير متوازن حتى كاد أن يسقط عدة مراتٍ فصرخ بهما ما إن ولجوا السيارة:
_”قـمر” مع “نـادر” في مستشفى ***** اللي عند الإقليمي.
وفقط كان الجواب كافيًا ووافيًا كي يعلموا سبب تحوله، بينما “أيـهم” فشق الطريق بسيارته مسرعًا، وكذلك “يـوسف” أخرج هاتفه يطلب رقم “نـادر” فوجده قد أرسل له مسبقًا:
_”قـمر” معايا وبخير الحمدلله لحقيتها أنا و”عُـدي”.
ترقرق الدمع في عينيه وأغلق هاتفه بصمتٍ، نعم لقد زادت عليه الأعباء وكثرت عليه الأحمال، وكتفه أصبح محنيًا لكنه لازال يعتز بنفسه وشموخه، كان يشبه عود الثقاب المحترق لكنه لازال قائمًا، كل شيءٍ كان يسحبه للجنون سحبًا لكنه كان يأمل في الخالق أن يمن عليه برحمته..
في المشفى التي بها “قـمر”..
كان كلًا من “عُـدي” و “نـادر” يجلس بجوار الآخر، كان الخوف بلغ عليهما أشده خاصةً وهي تلفظ أنفاسها بصوتٍ متقطعٍ كأنها تودعهما بتلك الطريقة، كلما تذكر “نـادر” مظهرها بين يديه أراد أن يحرق جسد “ماكسيم” حيًا، انتفض قلبه وبحميةٍ بدائية ونزعة قبالية لشرفه وعرضه أراد أن ينتقم حقًا، بينما “عُـدي” فهرعت عبرة من عينيه وهو يتذكر حديث الممرضة التي ركضت في الرواق تقول بلهفةٍ:
_محاولة اغتصاب وتعرضت لضرب مبرح..
نكس رأسه باكيًا بقهر الرجال، فانتبه له “نـادر” وحينها ضمه لعناقهِ وكلاهما يحاوط الآخر باكيًا بنيرانٍ متأججة في صدره، البكاء كان لأجلها وعليها ولأجل حقها، تركه “نـادر” في عناقه ثم أخرج هاتفه يراسل شخصًا ما حينما كتب له يشكره:
_لحقتها، شكرًا يا “مارسيلينو”.
_لا شكر على واجب، لما آجي مصر بس أبقى اعزمني على فتة.
هكذا رد عليه بينما “نـادر” رحب بقدومه ثم أغلق الهاتف ورمى رأسه للخلف وهو يربت فوق كتف “عُـدي” وهو يتذكر كيف كتب الله النجاة لها عن طريقه هو، حينما كان يبحث عن “قـمر” معهم بالحارة ويتردد على أبيه المحبوس بمخزن “عبدالقادر” ثم يعود يصول ويجول في الحارة…
حينها صدح صوت هاتفه برسالةٍ جعلته يخرج هاتفه وما إن وجد المكتوب توسعت عيناه حيث كانت الرسالة تحوي:
_دا عنوان هتلاقي “ماكسيم” موجود فيه، ومعاه “قـمر” بنت خالك لو عاوز تلحقها، أنا مارسيلينو بس متتصلش بيا غير لما تلاقيها، وأنا هفهمك بعدين، أهم حاجة لما تلاقيها عرفني.
حينها شكك في الأمر، كان يظنه فخًا صُنع له، وقتها خشى على الجميع حتى هي، وما بين العجالة في إنقاذها وبين التردد في الولوج لتلك الحرب قابل في طريقه “عُـدي” الذي كان ينتظره، وحينها نزل من السيارة ووقف يضع الهاتف نصب عينيه ثم قال بتيهٍ وحيرةٍ:
_دي رسالة جاتلي بس أنا مش متطمن، خايف يكون فخ حد عمله لينا، أو يمكن لـ “يـوسف” و “أيـوب” بس خايف برضه تكون هناك فعلًا وأنا بغبائي أمشي ورا فرضيات، أنا اللي حصلي مخليني معرفش أثق في حد.
كان “عُـدي” حينها في حالٍ أقرب لمحاربٍ يتأهب لإندلاع حربٍ، لذا هرولت الكلمات من فمه بقوله:
_إحنا لسه هنخمن؟ نروح إن شاء الله نموت هناك، بس منقعدش حاطين إيدنا على خدنا لحد ما نستنى اللي يحصل؟ مش هينفع يا “نـادر” نقعد، أتصل بـ “يوسف” و “أيـوب” ونروح كلنا..
وفي تلك اللحظة قاطعه “نـادر” بلهفةٍ قاطعة:
_مش هينفع، الحل الوحيد إن الطلعة دي نروح أنا وأنتَ بس، وعلشان الأمان هجيب رجالة من اللي بيحرسوا الشركة ورجالة “عـاصم” يروحوا معانا يكونوا في ضهرنا، على الأقل لو الموضوع طلع فخ، يبقى “يـوسف” و “أيـوب” يكونوا برة عننا هنا علشان يقدروا هما يلحقوها ونتصرف إحنا بالرجالة معانا، بس الأول نروحلهم الشركة، ها معايا؟.
وبدون تفكير جاوبه “عُـدي” وسبقه للسيارة، بينما “نـادر” طلب رقم رئيس الحراسة بالشركة وبدون الدخول في أية مقدمات قال بصرامةٍ:
_اسمع يا “جـاسر” أنا هجيلك دلوقتي على الشركة تحضرلي طقم رجالة وعربيتين علشان تيجوا معايا، بس اسمع أنا عاوز ناس قلبها ميت وجايبها، ها هتيجي؟.
_تحت أمر معاليك يا باشا، اعتبرهم حضروا..
وبالفعل ذهب بهم للمكان ولولا وجودهم معهم لكان دخولهم مستحيلًا، لكن ما سهل عليهم عملية الدخول هي القرية النائية وهذا البيت المهجور، كما أن “ماكسيم” اعتمد على عددٍ قليل من الرجال حتى لا يلفت الأنظار نحوه ونحو رجاله، وما تلى ذلك كان سهلًا على “نـادر” كي يدخل بمعاونة رجاله لتلك الغرفة التي بها “قـمر”..
خرج من شروده على هرولة “يـوسف” و “أيـوب” نحوه وقد مر على محادثته لهما ساعة ودقائق أخرى، وبالتزامن مع وصولهما خرج الطبيب وقال جملته الأقسى على رجالٍ تعرض شرفهم للوث:
_دي محاولة اغتصاب ولازم نقدم بلاغ علشان نخلي مسئوليتنا، هي الحمدلله كويسة بس للأسف فيه كدمات كتيرة في جسمها ووشها، وأهم حاجة الفترة الجاية دي نراعي التعامل ويكون ياريت بحذر…
وقع الجملة عليهما كان أصعب مما يُمكن، حينها شعر “يـوسف” كأن السكين ينغرز بقلبه، شعر كأن السكين تخرج وتدخل في جرحٍ غائرٍ ثم تعود من جديد تضربه، بينما “أيـوب” فكرر خلفه بوجعٍ وتيهٍ كأنه ضُرِبَ فوق رأسه:
_اغتصاب !!.
____________________________________
<“ياليت العالم كان يدرك قسوة الحال في قلبي”>
الحقيقة المرة التي لا يُمكن إنكارها أنك وحدك من تعاني..
وحدك تتحمل كل شيءٍ في تلك الحياة، لا يمكن للعالم أن يهتم بك أو يكترث بما تحمله أنتَ طوال الدهر في قلبك، لن يفهم أحدهم نظرة عينيك وأنتَ تخفي نظراتك بأخرى كاذبة، لن يستطع أحدهم أن يحدثك عن مزاياك وإنما العالم لن يرى إلا فقط كل عيبٍ فيك، فياليت العالم تبدل، ياليت قسوة الحال في قلبي مرئية..
فجر اليوم الجديد أتى..
فجرٌ جديدٌ بنهار جديد أتى مصطحبًا معه الأمل، خاصةً بإيفاقة “مُـحي” وبداية إدراكه بالوضع حوله، في باديء الأمر كان تائهًا ومتألمًا وضائعًا لكنه بدأ يدرك الحال حوله وقد خضع لإجراءات طبية ورعاية فائقة من الجميع حتى اعتدل فوق الفراش بمعاونة الطاقم الطبي، حتى أصبح هكذا يجلس فوق الفراش..
ولج له “نَـعيم” وخلفه “تَـيام” يركضان له ما إن علما بصحوه وإفاقته بينما هو ابتسم لهما حتى هرول “نَـعيم” ووقف أمامه بصمتٍ خشيةً من اقترابٍ يؤذيه، لذا تمالك نفسه بصعوبةٍ بالغة وقال بصوتٍ متهدجٍ باكٍ:
_أنتَ…أنتَ بقيت كويس؟.
أومأ له “مُـحي” بعينين مغرورقتين وتعبٍ بلغ عليه أشده، فاقترب منه والده بخفةٍ ثم لثم جبينه فلامست عبرته جبين الفارة وجه ابنه، أما “تَـيام” فكان يقف بخوفٍ وسرعان ما تكرر المشهد أمامه حينما قام “مُـحي” بتبديل وضعه في طرفة عينٍ لتخترق الرصاصة جسده هو بدلًا عنه، غرق في التفكير حتى ناداه شقيقه بقولٍ مازحٍ:
_مش هتيجي تطمن عليا طيب؟.
كان الصوت هو جرس الإنذار الذي أخرجه من شروده فاقترب منه بهدوء ثم مرر كفه فوق ملامح شقيقه الذي ابتسم له بحنوٍ وقال بصوتٍ هاديء:
_الحمدلله إنها ماجاتش فيك وقومت لقيتك كويس.
ابتلع “تَـيام” غصته ثم سأله بصوتٍ متهدجٍ أقرب للبكاء:
_ليه يا “مُـحي”؟ عملت كدا ليه؟ ماكنتش أنتَ المقصود.
كان “نَـعيم” بينهما لا يعلم المقصود بالحديث، بينما “مُـحي” فأدرك أن شقيقه علم بما فعل لذا قال بصوتٍ مبحوحٍ واهٍ:
_علشان دا اللي كان لازم يحصل، أنا وأنتَ واحد، بس أنتَ مش واحد، فيه في حياتك واحدة مينفعش تسيبها لوحدها، اللي جاي في السكة دا مكانش هينفع ييجي يلاقي نفسه لوحده.
وقد اندفع شقيقه لأجله فزعق بقوله:
_تقوم تعمل كدا في نفسك؟ طب أنا كنت هعمل إيه من غيرك؟ دا أنا ما صدقت بقى ليا أخ وصاحب وبعتبره ابني الكبير، عاوز تخليني لوحدي وأعيش عمري كله بذنبك؟ دا أنا كنت بتمنى روحي تخرج قبل روحك.
ابتسم له “مُـحي” ثم مسح بطرف إبهامه دمعته التي هربت من حصار جفونه ثم قال بصوتٍ غطى عليه الحزن والشجن:
_عارف ليه؟ علشان أنا عارف يعني إيه عيل يتربى يتيم، أنا جايز مقولتش ليك كلامي دا قبل كدا بس هقوله، أنتَ حظك كان أحسن مني مليون مرة، أنتَ اتربيت مع أب وأم، جربت يعني أم حضنها مفتوح ليك، حتى لو هي مش أمك، إنما أنا مجربتش وعيشت عمري كله ببص لأي عيل في حضن أمه كأني محروم، خوفت ابنك يكبر يفضل يبص نفس البصة لأي عيل في حضن أبوه..
والحديث كان مؤلمًا أكثر بكثيرٍ من الحدث الجلل، لذا اقترب منه “تَـيام” ثم مال على كفه ورفعه يلثمه بعمقٍ حتى انتفض قلب “مُـحي” وسارت القشعريرة بجسده بمجرد أن فعل شقيقه هذا الفعل، وقد وقف “نَـعيم” يحمد ربه على عودتهما له بين أحضانه سالمين..
في الخارج حيث مقر الممر الطويل كان “إسماعيل” و “سراج” بجوار بعضهما وقد كان “سـراج” على متابعةٍ مع “إيـهاب” يستعلم منه عن “قـمر” وحالها، حتى أخبره “إيـهاب” بما حدث لها حتى توسعت عيناه وأغلق هاتفه فسأله “إسماعيل” عن آخر الأخبار فقال بصوتٍ غلبه القهر:
_لقوها ودلوقتي هي في المستشفى، اتعرضت لمحاولة اغتصاب من ***** “ماكسيم” واللي لحقها “نـادر” أنا معرفش أي حاجة تانية بس ربنا يهونها على “يـوسف” ويرزق “أيـوب” بصبر “أيـوب” صعبة دي وتوجع الراجل أوي، اللي يخص عرض الراجل وشرفه يوجعه أوي.
أومأ له “إسماعيل” ثم قال بشرودٍ حينما جال الحال وتكرر في عينيه من جديد فتذكر كل ما حدث في السابق:
_اللي ييجي على حرية الطير كله بيوجع يا “سـراج”.
أيده “سـراج” في الحديث مؤكدًا وموافقًا بينما “إسماعيل” فتذكر تلك الأبيات التي قرآها ذات مرةٍ توصف حال شبابٍ بل وتتحدث بلسان حالهم، فكررها في خاطره قائلًا:
_”أَنَا مَا هُنْتُ فِي وَطَنِي
وَلَا صَخَّرْتُ أَكْتَافِي..
وَقَفْتُ بِوَجْهِ ظُلامِي
يَتِيمًَا..
عَارِيًا..
حَافِيًا..
حَمَلْتُ دَمِي عَلَى كَفِّي
وَمَا نَكَّسْتُ أَعْلَامِي..
– توفيق زياد
____________________________________
<“لعل الميلاد الجديد كان البداية للحياة الجديدة”>
في بلاد الأحرار لا يموت الحُر..
وإنما يولد بدلًا عنه ألف حُرًا، يخرجون وينتشرون بالأرض مدافعين، ومحاربين، يخرجون حاملين شعلة الضوء في ممرات الظلام، في بلادنا يا سيدي لا نفقد عزيزًا وإنما نعتز بفقده، لطالما كان حُرًا ومحاربًا فبلادنا لم تفقد عزيزًا بعد، وإنما هو فارسٌ ذهب كي يقود مضمار الحرب في أعين صغار الأحرار..
مع انشقاع الفجر وبداية بزوغ الضوء، وُلِد الخيط الأول في السماء من نهارٍ لعله يروح بظُلمة الليل وعتمة اليأس، كانت تشعر ببوادر الألم لكن ظنتها مجرد خيالات وهمية، ربما التوتر كان هو السبب في ذلك لذا تجاهلت “نِـهال” ألمها وأجبرت نفسها على الخضوع للراحةِ، لكن ما إن تزايد الألم وبدأت تشعر بتشنجات بمنطقة الرحم صرخت في منتصف الليل…
هبت منتفضة من فراشها صارخةً وهي تمسك بطنها، وحينها ولجت لها “وداد” التي تبيت معها وركضت تمسكها فوجدتها تصرخ بصوتٍ متقطعٍ:
_شكلي بولد…كلمي “أيـهم” بسرعة..
ولج لها “إيـاد” بخطواتٍ مهرولة واقترب يمسكها مع السيدة بينما هي ظلت تصرخ بملء صوتها وهي تتكيء على جسد “وداد” وهي تُساندها وقد وقف “عبدالقادر” بتيهٍ وهو يحاول الوصول لسبب الصرخات، وما إن أدرك وفهم السبب أخرج هاتفه يطلب رقم “بـيشوي” كأنه لا يعلم حلًا في هذا الوقت غيره، فهو لن يأمن لغيره على بيته وعرضه..
ما إن استمع “بـيشوي” للحديث هرول من الحارة نحو البيت وجهز سيارته كي يأخذ فيها زوجة رفيقه إلى المشفى، وقد عاونها “عبدالقادر” وحفيده الذي حمل الحقيبة الخاصة بالولادةِ، وقد ذهب بهم “بـيشوي” نحو مشفى الولادة الموجودة بالحارة فلم يستغرق الأمر سوى دقائق قليلة فقط ووصل بها إلى هناك..
في المشفى المتواجده بها “قـمر”..
كان “أيـوب” جالسًا على باب الغرفة الفاصل بينه وبين روحه مجرد بابٍ، باب فقط يفصله عنها وهي وحدها في دربٍ أظلم عليها وهو لم يكن رفيقًا لها فيه، لذا كان يصرخ بداخله ألف مرة، ويبكي آلاف المرات، كان يأمل أن تكون بخير، لطالما كانت مصدر الخير في أيامه، لا يهمه ما دون ذلك..
أما “يـوسف” فهذا الرجل أشبه ببركانٍ..
كان يجلس بصمتٍ وعيناه تستمسك بالفراغ، بينما قلبه فمد يده يسحب قلبه معه لرحلة الآلام، حينذاك كان يسبح في خيالاته مع والده الذي اقتحم الذاكرة بذكرى سعيدة لمن هو سعيد الحظ، حيث كانت “قـمر” فوق ساق والده وهو بين أسفل ذراعه، كما الطير أسفل جناح أمه، كان يومها الطقس باردًا والأمطار غزيرة، بيتهم كان كلاسيكيًا وراقٍ، شرفاته الزجاجية كانت تعكس ضوء الرعد والستائر البيضاء تطير بدفعة هواءٍ يصاحبها صوت البرق..
كانت “غـالية” بمطبخها تصنع لهم الحساء الدافيء وحينها كانت “قـمر” مذعورة بسبب صوت البرق العالي وهي ترتعد فوق ساق “مصطفى” وحينها مد “يـوسف” كفه يربت فوق رأسها يداعب خصلاتها حتى استكانت هي للمسته وارتمت عليه، فحملها ودثرها بوشاح أمه يحشرها بداخله بين ذراعيه، وقد كان “مصطفى” مبتسمًا لحنو صغيره على صغيرته فمد كفه يحتضن كليهما وقال بتأثرٍ غطى صوته:
_عاوزك تكبر وتكبر أختك على حبك يا “يـوسف” عاوزك تكون سند ليها وأي حد يفكر يرفع عينه فيها يلاقيك بتاخد حقها، ربنا سبحانه وتعالى كرم الإنسان بالأخوات علشان الأخوات هما اللي بيشدوا بعض، وأختك حنينة، وهتكون حنينة، صحيح أنا ربنا كرمني بأخوات بس حنية قلبهم مش موجودة، علشان كدا واجبي أقولك تحط أختك في عينك، وتحافظ عليها، دي أمانتي ليك يا “يـوسف” تحارب الدنيا كلها علشانها، ومتعملش زي عمك وتسلمها لواحد يقضي عليها، سلمها لواحد يحطها في عينه، اللي تشوف نفسه فيه، سلمه أختك يا “يـوسف”.
وقتها أسبل عينيه نحو قمره الصغير ثم لثم وجنته وربت فوق خصلاته الكثيفة بنعومةٍ مُغرية للمداعبة ثم نظر في وجه أبيه يقول بصوتٍ هاديء:
_متقلقش عليها، أوعدك هكون قد الأمانة.
خرج من رحلة ماضيه على غصة توسطت حلقه وعبرات حارقة هرعت من عينيه فمسحها سريعًا ثم تحرك بخطواتٍ واسعة في الرواق حتى ولج المرحاض ووقف أمام المرآة، شريط عمره بأكمله مر في عينيه، كل الحياة التي مرت عليه تكررت أمامه، لذا ترك العبرات تنهمر من عينيه ثم نكس رأسه يستند بكفيه على الحوض وقال بصوتٍ باكٍ:
_بس ابنك مطلعش قد الأمانة يا “مصطفى”..
والقهر في قلبه يصل لنهاية المدينة..
مدينته الظالمة اليوم أظلمت في عينيه وأعمت قلبه، تلك المدينة اليوم أحرقت قلبه وتشعب القهر ممتدًا في خلاياه، اليوم إن أتت له الفرصة سوف يقلب المدينة رأسًا على عقبٍ، سوف يحرق الميادين العامة ويعيث الفساد، اليوم مدينته كانت سببًا لغلظة النار في قلبه، اليوم إن سنحت له الفرصة،
سوف يحرق المدينة لأجلها، ويثور في العالم ليعود بحقها..
في الخارج كان “أيـهم” يشد عضد شقيقه وهو يسانده، كان يجلس بجواره وهو يمسك كفه خاشيًا عليه من نوبة صمته، تمامًا كما كان صامتًا يوم وفاة أمه، كان يريد منه كلمة واحدة فقط حتى لو كانت سبابًا لاذعًا لكنه لم يفعل، فقط صمت وجلس هكذا بهدوءٍ يعلم أنه في الداخل براكينٍ تغلي وتناقض هذا الهدوء بل وتُغاير برودة كفه، حاول أن يسأله كي يجاوب، لكن “أيـوب'” ظل صامتًا والبركان في قلبه يغلي..
صدح صوت هاتفه للمرة التي لا يعلم عددها وقد قرر رفض الرد حتى وجد رسالة تزين شاشة هاتفه تنذره بحياة جديدة من رفيقه:
_مراتك بتولد في المستشفى اللي في الحارة يا “أيـهم”.
انتفض من جلسته ووقف بتيهٍ يرى الرسالة مرة وثانية وثالثة وقد هوى قلبه أرضًا وهو يُخرج رقم رفيقه يتصل به هو حتى جاوب الآخر عليه، فقال بلهفةٍ:
_قسمًا بربي لو اشتغالة منك هولع فيك.
انتبه له “أيـوب” وحرك عينيه نحوه، فيما قال الآخر بضجرٍ:
_يا عم هو أنا خاطبك علشان أهزر مع أهلك، ياعم مراتك بتولد تعالى علشان تكون موجود معاها، أنا هنا ومعايا “إيـاد” وأبوك وأمي جت أهيه وحماتي، أتنيل تعالى بدل ما اسميه “بيشوي” وتبقى فتنة طائفية بين الاتنين.
أغلق “أيـهم” في وجهه بملامح مختلطة بين التيه والفرح والسعادة والضحك، ثم الحزن والقهر لأجل شقيقه، لذا وقف بجوار “أيـوب” الذي حرك رأسه له فازدرد هو لعابه وقال بصوتٍ خافت:
_”نِـهال” بتولد في المستشفى و”بـيشوي” لسه مكلمني.
ولأنه لم يكن بشخصيةٍ أنانية أدرك أن للآخرين حقوقٌ عليه، فضغط على نفسه وقال بصوتٍ أعرب عن تعبه وضغطه:
_روح لمراتك، أنا كويس الحمدلله وأول ما هي تفوق أنا هاجيبها وآجي البيت، روح وأبقى طمني، وادعيلي بالله عليك، أدعيلي أنا محتاج دعواتك أوي، ومحتاج لحضن “رقـية” أوي يا “أيـهم”.
خطفه شقيقه في عناقه يربت فوق ظهره بقوةٍ، كان يحميه في كنفه كأنه يخشى عليه من بلل المطر، بينما “أيـوب” فكان يتمنى أن يعود صغيرًا بلا وجعٍ ولا ألمٍ ولا دنيا تكون أكبر من قدرته على مواجهة مصائبها، وقد أدرك ذلك فابتعد عن شقيقه يرجوه بقوله:
_روح بالله عليك علشان مراتك متبقاش لوحدها، وطمني عليهم.
أومأ “أيـهم” ثم رحل من المشفى مسرعًا، لكنه كان مجبورًا، فالواجب يحتم عليه أن يقوم بكلا الطرفين معًا، عليه أن يقف ويُساند شقيقه كأخٍ، وعليه أن يكون برفقة زوجته بصفته زوجًا. وداعمًا وشريكًا لها، لذا قطع عهدًا مع نفسه، أنه ما إن يطمئن على زوجته، سوف يعود لشقيقه كي يكمل معه الطريق ويرافقه حتى يخرج به من هذا الدرب المظلم..
____________________________________
<“كان أملي في الأرض، أن تتسع لي فقط”>
قد تضعف الأحلام، وتخفت الأمال..
فيصبح جل ما يريده المرء مجرد يومٍ عابرٍ بسلامٍ وفقط، أن تحمله الأرض فوقها فقط ويمر خفافًا، قد تقل أحلامه فتصبح أكبرها فقط في مجرد نظرة عابرة للسماء دون أن يعكر شيءٌ صفو لحظته تلك، وحينها سوف يشعر أنه ملك الدنيا بأكملها..
افترشت السماء بضوء النهار، أشرقت الشمس بأمر ربها وزار النور العيون المغضمة ففتحها تزامنًا مع صرخة جديدة لفردٍ جديد بحياةٍ جديدة، كانت صرخته مع شروق الشمس في الساعة السابعة صباحًا، هو صرخ بصوتٍ عالٍ والقلوب بأكملها انتفضت بفرحٍ لأجله هو، لذا خرجت الممرضة تعطيهم البشرى بقولها:
_ألف مبروك جالك ولد زي القمر، يتربى في عزك.
ضحك “أيـهم” لها وحمد ربه بامتنانٍ، بينما “إيـاد” فكان يخشى على أمه لذا سألها بلهفةٍ:
_وماما كويسة؟ هي ملهاش صوت ليه؟.
ضحكت له وهي تقول بمزاحٍ معه:
_لأ دي كتر خيرها يعني بعد كل دا عاوز يكون ليها صوت؟ متقلقش عليها هي زي الفل والنهاردة هيروحوا معاك كمان، ألف مبروك يا حج، ربنا يبارك فيه ويجعله خلف صالح لأهله.
دقائق مرت وقد خرج الصغير لوالده محمولًا فوق اليدين، حينها كبر وهلل وذكر اسم الخالق ما إن حمله وابتسم يطالع وجهه البريء الذي لم تتحدد فيه معالمه بعد، وقد وقف “إيـاد” فوق المقعد كي يرى أخيه ثم مال عليه يُلثم جبينه وقال بحماسٍ:
_اتفقت مع ماما هنسميه إيه، هيكون اسمه “سيف”.
ابتسم “أيـهم” له ثم مال على وجه ابنه الثاني يتغنى بالاسم كأنه يذكر لحنًا عذبًا فقال:
_”سيف أيـهم عبدالقادر بكر العطار”..
ابتسم لوالده الذي ربت فوق كتفه وقال بحبٍ:
_ربنا يكرمك ويتربى في عزك ويباركلك فيه هو وأخوه ويارب أشوفهم مع بعض زيك أنتَ وأخوك، وربنا يجعله سيف للحق وسبب لنصرة المظلوم وجبر خاطر المكسورين، هاته بقى.
حمل حفيده فوق ذراعيه ثم ظل يُملي عينيه بالطَّلة في وجه هذا الملاك الصغير، ترقرق الدمع في عينيه وتذكر أول مرةٍ حمل فيها ابنه البكري وكيف كانت فرحته تصل للسماء، لذا ضم حفيده الثاني ثم قال بنبرةٍ عاد الحزن يخيم عليها من جديد بمجرد أن تذكر تلك الأوضاع الجديدة:
_ربنا يجعلك سبب في رجوع النور لحياتنا كلنا تاني.
وهذه هي الحكاية بأكملها..
نحتاج للبدايات الجديدة كي نبدأ من جديد، نحتاج لأملٍ ينير الحياة المظلمة في أعيننا، نحتاج لسببٍ يجعلنا نستمسك بنورٍ في حياتنا، نحتاج لمن يخبرنا أن الحلم لازال مستمرًا والطريق لازال باقيًا في انتظار تكملتنا، نحتاج لمن يمسك كفنا ويجعلنا نقف عن بداية طريقٍ كدنا نتركه ونرحل، لكننا ها عُدنا نخوض مضمار الحروب من جديد، وسيوفنا القديمة أصبحت باترة أكثر من السابق…
ففي بلاد الأحرار لا تسقط السيرف، بل تتجدد.
____________________________________
<“لكنني لم أخبرك أن النيران أحرقت قلبي أولًا”>
في حقيقة الأمر أن النيران التي أندلعت منك كي تحرق بها المدينة أحرقت قلبي أنا أولًا، فهذا الضوء في عيني لم يكن ضوء الفخر وإنما كان إنعكاس الحريق من قلبي، فياليتك حتى تركت لي فرصة واحدة أخبرك فيها أن النيران أحرقت قلبي قبل مدينتك الظالمة، وكأنني كنت عليك أشد قسوةً منها..
داهمها الضوء وبعض الآلام في جسدها، كانت تشعر بثقلٍ يجثم فوق روحها وجسدها، بدأت مقلتاها تتراقص أسفل الجفون حتى بدأت تفتح عينيها حتى داهمها الضوء فجأةً فعادت تُغمض جفونها مجددًا، ثم تذكرت آخر ما عَلُق بالذاكرة فانتفضت بخوفٍ من فوق الفراش لتجد الحامل المعدني بجوارها يهتز، ومنطقة الحوض لديها ألمتها من مجرد الانتفاضة.
دارت بعينيها في المكان وبعض الهواجس تسيطر على عقلها، صورته وهو يدخل الغرفة عليها، نظرته وهو يستبيح حرمة جسدها، صفعاته وهي تسقط فوق وجهها، تكميمه لفاهها كي يمنعها من الصراخ، تذكرت كفه البغيض وهو يمتد فوق جسدها كي يأخذ ما لا يحق له أخذه، حينها رفعت كفها الحر تمسح جسدها من أثر لسماته، ظلت تبكي بانهيارٍ وهي تنهش في جسدها بيديها ظنًا منها أنها بتلك الطريقة تمحو أثره عنها، زادت حالتها اضطرابًا فصرخت بملء صوتها صرخة عالية جعلت “أيـوب” يهرول للغرفة بدون تفكيرٍ..
ولج لها الغرفة ورآها بهذا الوضع فتألم قلبه لأجلها، ابتلع غصته وهو يقترب منها بينما هي فظلت هكذا حتى ضربت رأسها في الفراش عدة مرات وكأنها تتعمد إيذاء نفسها، قهرها على نفسها جعل عقلها يتغيب عن الأحداث التالية، حتى أن “أيـوب” اقترب منها يضمها قبل أن تؤذي نفسها فوجدها تصرخ وهي تدفعه بعيدًا عنها، ظلت تصرخ وتضربه كأنها تراه موضع المغتصب..
أبتعد عنها كي لا تؤذي نفسها؛ فولج “يـوسف” لها وما إن وجدها بتلك الحالة انتفض قلبه بذعرٍ من مكانه، حاول أن يقترب فسمعها تهزي بعنفٍ وهي تمسح فوق جسدها موضع لمسات الآخر:
_شرفي، شرفي..
كانت في حالٍ يُرثى له، تلك النوبة التي أصابتها أزادت القهر فوق قلوبهم جبالًا، كانت تود لو يحترق جلدها وتتحمل ألمه لكان أهون عليها من لمسات هذا البغيض وهو يحاول أن يمتلكها، هذا الجسد الطاهر وتلك الروح النقية التي حافظت عليهما بعفةٍ، أتى من لا يستحق كي يملكها ويضع عليها ختم الملكية كما توهم هو، كلما حاول أحدهما أن يقترب منها كانت تصرخ بهياجٍ وصوتٍ عالٍ حتى ولج الطبيب والممرضة معه تحقنها بإبرةٍ طبية تهديء تلك النوبة البغيضة..
وقف “يـوسف” أمامها بعجزٍ وقد غلبه القهر، بينما “أيـوب” فلأجل حقها أراد الثأر، أراد أن يصرخ في العالم بأكمله، أراد أن يسترد حقها من عيني الجميع، لو كان الأمر بيده لكان أحرق جثثهم وهم على قيد الحياة، كل شيءٍ حوله أرغبه تلك المرة أن يصبح قاتلًا، لقد سأم من دور المقتول وعليه تلك المرة أن ينتفض في وجه الظلم والفساد، ولأجلها هي وحدها لن يتردد في أن يقتص لها من معتدٍ استباح حقها في عيني نفسه.
في حارة العطار..
تحديدًا بشقة “غـالية” كانت تصرخ وتبكي كي تذهب لابنتها، كانت تحاول الفرار من بينهم، لكن شقيقها رفض تنفيذًا لأوامر الشباب ورفض “يـوسف” القاطع بقدومها، فهو حتى الآن لازال صريعًا وهو يعجز عن معاونة شقيقته، فما باله بحال أمه حينما تعلم بما حدث لابنتها؟ بالطبع سيتوقف قلبها عن العمل، لذا كان أمثل الحلول في تواجدها وحدها بالبيت، وقد صرخت في شقيقها بملء صوتها:
_هفضل قاعدة حاطة أيدي على خدي؟ بنتي كانت مخطوفة ولقوها وأنا بعيد عنها، على الأقل أروح أشوفها وأخدها في حضني، مش كفاية قلبي محروق عليها طول الليل؟ هو أنا مكتوب عليا حرقة القلب على عيالي يا “فـضل” ليـه؟.
صرخت ثم ضربت رأسه بكلا كفيها حتى اقتربت “عـهد” تمسكها وقد عاونتها “أسـماء” بينما شقيقها قال بقلة حيلة وغلب على أمره:
_يا ستي حرام عليكِ اللي بتعمليه في نفسك دا، علشان خاطر ابنك حتى فيه اللي مكفيه وزيادة، هتروحي تعملي إيه؟ وتروحي ليه؟ تزودي فوق حمله؟ أخواتها معاها، وجوزها جنبها، خليكِ هنا صلي وأدعي ربنا يردلك عيالك بعافية وخير، مرواحك هناك هيزود الطين بلة فوق دماغ الكل، بنتك بخير، وهتيجي ليكِ من غير ما تقلقي، أدعي لعيالك، أدعيلها يا “غـالية”.
بكت “غـالية” وهي ترتمي بثقل جسدها فوق الأريكة، بينما “عـهد” فكانت تضمها بقوةٍ حتى تدعمها في هذا الوقت العصيب، خاصةً بعدما عاندت “ضُـحى” مع الجميع ورحلت حتى غضب والدها وأغلق الباب على البقية في عقر داره.
أما “ضُـحى” فبمجرد أن هاتفت شقيثها وألحت عليه أخبرها عن المكان فذهبت لهناك مُسرعةً، كانت تبكي قبل أن تصل حتى للمشفى، نصفها الآخر وقمر ليلها في محنةٍ، وهي كما أخبرها والدها أن لا نهار بدون “ضُـحى” ولا ليل بدون “قـمر” وكأن كلتاهما تُكمل جزءًا ناقصًا بالأخرى، لذا ما إن وصلت لهناك هرولت وركضت حتى وصلت لهم، وسؤالها القاطع خرج بصوتٍ عالٍ:
_أختي فين يا “أيـوب”..؟ فين أختي ومحدش يقولي مش هينفع أدخل علشان معملش فضيحة هنا، أنطقوا هي فــين ؟؟!!.
زعقتها العالية وصدى صوتها المتردد بالرواق جذب نحوها شقيقها و “نـادر” و “يـوسف” أيضًا، وقد صرخت في وجه شقيقها الذي أشار لها نحو الغرفة وما إن فعلها دفعت الباب وولجت تكسر في وجهها كل القواعد وتتمرد كعادتها على كل القوانين، ولجت وما إن فعلت تيبست موضعها من جديد، لمحت بعينيها وجه أختها المتورم، أسفل شفتيها استقر جرحٌ كبيرٌ حتى ذقنها، وجهها أصبح قرمزي اللون إثر الصفعات والكدمات، اقتربت منها باكيةً ثم مالت عليها تتفحص عن قربٍ ورأت الخدوش التي بكفها وذراعها، كل شيءٍ كان يخبرها بحقيقة حاولت أن تهرب منها، لكن العقل رفض الهرب..
خرجت من جديد تسأل بصوتٍ باكٍ عن سبب نومها هكذا، فأتاها الجواب من شقيقها بصوتٍ مهزومٍ هزيمة ساحقة:
_محاولة اغتصاب يا “ضُـحى”..
وياليته ما جاوب عليها وتركها في مضمار الحيرة تخوض الدروب القاسية وحدها، على الأقل لم تعاني هناك بقدر ما وقفت أمامه تعاني بالخبر الذي وصلها الآن وهو محاولة اغتصاب أختها، لم تستطع الوقوف فكادت أن تسقط لكن شقيقها دعم ثقل جسدها بكفه، بينما هي شهقت أولًا ثم بكت بعينيها وصوتها وانتحبت وهي تتخيل قسوة المشهد على أختها التي ظهرت بتلك الطريقة القاسية..
في مكانٍ آخرٍ ببيتٍ آخرٍ..
حيث المكان التي تقبع فيه المغدورة الثانية، كانت “فُـلة” تمسك الخطاب في يدها وآخر جملة بالتحديد تتكرر في عينيها وتقسم أنها سمعتها بصوته المهزوم، كانت تبكي وتصرخ تارة، ثم تعود وتمسك الخطاب تارة أخرى، تنهار في ثوانٍ، ثم تعود للقوة من جديد تتلبسها كي تستوعب ما حدث، كل شيءٍ حولها يدعوها للجنون، هي حقًا على حافة الجنون، ما حدث منه لها كان أكبر من أن يتم وصفه في جملة واحدة، أكبر وأعظم من يختصر حتى ولو بكلمة الخذلان، لا تعلم حتى الآن ماذا فعلت كي تجني هذا الرد القاسي منه…
وقفت أمام المرآة تطالع ملامح وجهها الباهتة، احتل القهر ملامحها منذ الأمس، أصبحت أكبر من عمرها بين ليلةٍ وضُحاها، لذا وضعت الورقة فوق طاولة الزينة ثم مسحت وجهها والتفتت للخارج تقسم على البدء من جديد، قابلت في وجهها “حبيبة” زوجة “جـواد” التي طالعتها بشفقةٍ، فيما قالت هي بقوةٍ مصطنعة:
_أنا هنزل المستشفى، مش هقعد أحط أيدي على خدي علشان واحد سابني ومشي، حياتي كملت وهتكمل، بيه غصب عنه هكمل حياتي وطريقي، هو مش هيعطلني، غار في داهية ومقدرش قلب حبه، يبقى خلاص، أكمل أنا بقى من غيره.
ظهر “جـواد” من العدم وأشار بحدةٍ نحوها وهو يقول:
_اسمعي يا “فُـلة” أنا مش هخاطر بيكِ، اللي حصل دا أنا هعرفه لعمه، هقوله ابنك اللي جيت تطلب أختي ليه مقدرش الأمانة وغدر بيها وسابها ومشي، من غير ما حتى يقدرها ويقدر قيمتها، أنتِ عاوزة تتغاضي عنه وعن اللي عمله يبقى خلاص، لكن أنا مش هسكت عن حقك، وزي ما عمه وثق فيه وجيه يطلبك ليه هقوله إنه للأسف اختار الشخص الغلط وأنا وثقت فيه غلط علشان أسلمك ليه.
تصنعت أمامه بالثبات وهي حتى لن تقدر على الدفاع عنه، لذا رفعت رأسها بشموخٍ وهي تقول بصوتٍ واهٍ:
_أعمل اللي تعمله يا “جـواد” أنا ميهمنيش غير نفسي بس، هو مبقاش يخصني ولا أنا أخصه، هو طلقني خلاص وطلاقي ملهوش عدة علشان أنا مراته على الورق بس، يعني لو حصل إيه أنا مش ليه وهو مش ليا، يبقى خلاص ملهوش لازمة أجيب سيرته حتى، صفحة “مُـنذر” أن حرقتها ولو قدرت هحرقه هو بنفسه زي ما ولع النار في قلبي كدا.
رماها شقيقها بنظرة قهرٍ بينما هي نكست رأسها ثم ركضت من المكان نحو الخارج تكتم عبراتها قبل أن تظهر وتفضح أمرها من جديد أمامهما، كانت “حبيبة” تشعر بالقهر لأجلها لكنها فضلت الصمت على عكس “جـواد” الذي كسر المزهرية بجواره تعبيرًا عن غيظه.
في إيطاليا تحديدًا بقصر عائلة “ماكسيم رايدر”..
كان الكبير الذي تولى المنصب بعد “ماكسيم” يقف وسط رجاله، زعيم جديد بمنصب جديد يظن أنه يُهيمن على العالم بطريقته، تخطيط وتدبير يسعى لاستعباد العالم بأكمله، كان في انتظار الخطوة الأخيرة كي يبدأ هو، لذا ما إن ولجت الدراجة الخاصة بـ”مُـنذر” ابتسم بزهوٍ كونه استطاع أن يجذبه إليه من جديد، فتح ذراعيه يرحب به، بينما “مُـنذر” اقترب منه يصافحه بفتورٍ، عاد لشخصية القاتل من جديد، قتل قلبه أولًا، ثم العالم ثانيًا..
أما الشخص الآخر فقال بثباتٍ وهو يتحدث معه باللكنة العربية:
_قولت أنتَ مش هتيجي تاني هنا بعدما لاقيت “نَـعيم” وعيشت معاه، كلامك دا معناه إن “مُـنذر” اللي أعرفه رجع تاني خلاص؟.
ابتسم “مُـنذر” بسخريةٍ ثم رد عليه بجوابٍ غير مباشرٍ:
_أنا جاي هنا أقتل “مُـنذر” دا…قولي هخلص إمتى على “ماكسيم”؟.
ابتسم الآخر بزهوٍ كونه استطاع أن يُعيده للساحة من جديد بعد أن تركها وولى المعركة الدُبر، بينما “مُـنذر” فهو لم يملك قلبًا حتى كي يشعر بالألم فيه، وإنما أصبح كما الصخرة القاسية وأشد قسوةً منها.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)