رواية عن تراض (سدفة 2) الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم آية شاكر
رواية عن تراض (سدفة 2) الجزء التاسع والعشرون
رواية عن تراض (سدفة 2) البارت التاسع والعشرون

رواية عن تراض (سدفة 2) الحلقة التاسعة والعشرون
سمعت صوت «عامر» يعلو من الخارج، غاضبًا، كصفعة تقطع سكون البيت:
-فين الست رغدة؟!
ارتجف قلبها لا إراديًا، كأن الصوت طرقه بمطرقة حادة وجلست منتصبة على السرير، تنصت لكل كلمة.
ردت جدتها من الخارج بصوت غاضب لا يقل حدة:
-رغدة نايمة… جاي عايز إيه يا عريس؟! مش اتجوزت! روحت فضّلت تقى عليها! بتسأل عليها ليه دلوقتي؟
رد عامر وهو يحرك سبابته بحزم:
-وأفضل تقى على الدنيا كلها يا عمتو، مش بس على رغدة.
ضحكت الجدة بسخرية وهي تستدير ببطء، وقالت بتهكم:
-ماشي يا روميو! بس رغدة نايمة وتعبانة… مش هتقابل حد… روح بقا للي بتفضلها على أي حد في الدنيا.
ثم عقدت ذراعيها ورفعت إحدى حاجبيها بصرامة…
تدخل «عمرو» بنبرة هادئة لكنها حاسمة:
-ليه كده يا عمتي؟ مفيش داعي للكلام ده.
رفعت رأسها بعناد، وعينيها تشعان رفضًا:
-هو ده اللي عندي.
زم «عامر» شفتيه، كأن الكلمات تُطبق عليه، ثم انفــجر فجأة بصوت جهوري:
-بنت بنتك دي حرامية… دخلت أوضتي وخدت حاجة تخصني!
شهقت الجدة، وارتفع صوتها غاضبًا:
-إنت بتعلي صوتك عليّا؟ اتلم يا عامر! إيه؟ أمك معلمتكش تحترم الكبير؟
مدّ «بدر» يده وسحب «عامر» من ذراعه بلطف، يحاول تهدئته، بينما تقدّمت داليا خطوة، ونظرتها مسلّطة على عمرو، قالت بصوت صارم:
-خُد أخوك وامشوا… اخرجوا بره بيتي.
وأشارت بيدها نحو الباب تطردهم.
قال «بدر» بهدوء محاولًا أن يخفي ارتباكه:
-لو سمحتي… إحنا عارفين سبب الحالة اللي رغدة فيها… وعارفين علاجها… خلينا نكلمها بس… عشان نوصل لحل.
اتسعت عينا «داليا»، حدّقت فيه رافعة إحدى حاجبيها وسألت بتهكم:
-وإيه سبب الحالة؟
رشق «عامر» و«عمرو» بدر بنظرات تحذير، فابتلع ريقه بتوتر، وارتبك لسانه مخاطبًا داليا:
-خلّينا نقابلها… أرجوكي.
خيم على المكان صمت ثقيل، التفتت داليا ببطء نحو غرفة «رغدة» المغلقة، ثم عادت ببصرها إلى «بدر»، الذي ظن أنها ستسمح له لكنها قالت بجفاء وعناد:
-اطلعوا برّه.
انفــجر «عامر» مرة أخرى، كأنه لم يعد قادرًا على احتواء الغليان داخله:
-مش طالع! ولا هتحرك من هنا قبل ما أقابل البنت دي! روحي اسأليها فين كتابي!!
صرخت« داليا»، بملامح مشدودة:
-قولتلك احترم نفسك! واتأدب وانت بتكلمني!
وقف «عمرو» أمام «عامر»، يدفعه إلى الخلف بيد حاسمة، هادرًا:
-بتعلي صوتك على عمتك؟ اطلع بره… خده يا بدر، عن إذنك.
حاول «بدر» سحب «عامر» ثانية، لكنه قاوم، قال غاضبًا وعروق رقبته مشدودة:
-مش همشي يا بدر.
قال «عمرو» لعمته برجاء هادئ:
-يا عمتو… بس نسأل رغدة على الكتاب، وهنمشي والله.
قالت وهي تضغط على كل حرف:
-لأ! وخد أخوك وامشي!
تدخل «بدر» بمحاولة أخيرة، نبرة صوت خافتة:
-طيب… ممكن أسألها أنا… بلاش هما…
لكن قبل أن يحتدم الموقف أكثر، انفتح الباب ببطء. وقفت «رغدة» عند العتبة، ترتجف، منكسة الرأس وعيناها مغمضتان…
قالت بصوت مبحوح مرتعش:
-أنا آسفة.
كانت قد سمعت كل شيء. وعرفت أن الكتاب ذا أهمية كبيرة لعامر.
نظر إليها «عامر»، رآها شاحبة، جسدها بالكاد يسندها، وتذكر نفسه في مرآة حالتها.
هدأت ملامحه فجأة، وخرج صوته رقيقًا رغم الضيق:
-الكتاب ده مهم جدًا يا رغدة… وأنا عارف إنك أخدتيه، باين من آخر بوست كتبتيه على الفيس… لو سمحتي… فين الكتاب؟ بالله عليكي!
هزت رأسها بضعف، وتكسر صوتها على حافة الذكرى:
-والله… كان على مكتبي… بس رحمة بتقول مش لقياه. خليها تدور تاني… يمكن وقع تحت المكتب… أو… يمكن اتحرق؟
نطقت الكلمة الأخيرة بتردد، كأنها تخشى النطق بها، حين لمع في ذاكرتها صوت الحريق.
زمجر «عامر» بانفعال، اقترب خطوة كمن جُرح:
-اتحرق؟! وليه تاخديه من غير استئذان؟! ليه يا رغدة؟!
همست بندم حقيقي، والدمعة تترقرق خلف الجفون المغلقة:
-آسفة…
اقترب «بدر» بسرعة، أمسك بذراع «عامر»، وسحبه للخارج وهو يهمس بتهدئة حازمة.
-كفايه بقا… كفايه… يلا…
رمقها «بدر» بنظرة سريعة قبل أن يخرج، فارتجف قلبه وانتفض…
عادت «داليا» تمسك برغدة، تحتضنها بقــوة وتحذرها بعطف خشن:
-إوعي تعيّطي… إوعي! عشان مفعول الدهان.
هزّت «رغدة» رأسها، تحاول أن تقمع الغصة العالقة بحلقها، ورددت بشفاه مرتجفة:
-حاضر… حاضر…
استغفروا 🌸
★★★★★
أنهت «مريم» يومها الدراسي، لكن عقلها لم يكن حاضرًا تمامًا فقد كانت طوال اليوم تتذكر ذلك الكتاب الذي نسيته على سطح المكتب…
غادرت المدرسة بعد أن ألقت تحية سريعة على زميلاتها، ثم وقفت للحظة تعدل من وضع حقيبة ظهرها المرهقة، وعيناها تحملان قلقًا خفيًا.
خطت خطواتها على الطريق نحو المنزل بخفة مشوبة بالعجلة، وكل أملها أن يكون «آدم» قد غادر غرفتها.
حين وصلت، دقّت الجرس، ففتحت لها «وئام» بابتسامة دافئة، ألقت «مريم» التحية ومالت نحو والدتها وسألت بنبرة خافتة:
-أدخل أوضتي أغير ولا حد جوه؟
-ادخلي يا حبيبتي آدم طلع شقته من بدري.
قالتها «وئام» وهي تتجه إلى المطبخ، بينما هرولت «مريم» لغرفتها…
ما أن فتحت باب الغرفة حتى استقبلها عبق عطر رجالي مميز، ترك أثرًا ناعمًا في أنفها، فارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة دون أن تدري.
لكنها ما لبثت أن اختفت، حين وقعت عيناها على سطح المكتب الفارغ… اتسعت عيناها في قلق، وتقدّمت بسرعة لتتأكد، ثم بدأت تقلب الأدراج بعصبية، وهي تردد:
-راح فين؟ فين الكتاب؟
نادت على والدتها بصوت مضطرب، وجاءت الأخيرة بخطى متسارعة، فبادرتها «مريم» بسؤال قلق:
-كان فيه كتاب على المكتب هنا يا ماما! راح فين؟
بدت «وئام» مستغربة، وأجابت بنفي صادق:
-معرفش… مشوفتش كُتب…
خرجت «وئام» من الغرفة فتذكرت «مريم» أخيها الصغير وعبثه المستمر بالأشياء، شهقت بصدمة وتبعت والدتها وهي تقول:
-إوعي يكون عبد الله دخل هنا وأخده يا ماما!؟ دا مش بتاعي.
-عبد الله مكنش في ايده حاجه دوري كويس!
ازدادت حركة «مريم» توترًا، فتشت أسفل السرير، خلف الكتب، داخل الخزانة، في كل مكان قد يخطر أو لا يخطر على البال، إلى أن وقفت أخيرًا في منتصف الغرفة، وضعت يديها على خصرها، وزفرت بضيق واضح وقالت:
-راح فين ده؟
تسللت فكرة إلى رأسها كهمسة مرتجفة: ربما كان «آدم»…. عادت تتأمل سطح المكتب الخالي، وتستنشق العبق الذي لم يزل في الهواء، فتقلص قلبها قليلًا، واختلط الخوف بالإحراج…
لم تكن ترغب في مقابلته، لكنها الآن لم تعد تملك خيارًا آخر.
لا مجال للتأجيل الآن، ستقابل «آدم»، ترحب به، وتسأله عن الكتاب… لن يحدث شيء سيئ، هكذا أقنعت نفسها.
اندفعت نحو الباب بخطوات سريعة، تكاد تسبق أنفاسها اللاهثة. مدت يدها نحو المقبض، لكن صوت والدتها اخترق اللحظة، حادًا:
-رايحة فين؟
توقفت فجأة، وابتلعت ريقها قبل أن ترد، دون أن تلتفت:
-هروح أسلم على آدم.
-لأ، مينفعش… مفيش حد فوق غيره! لما ينزل ابقي سلمي عليه.
استدارت نحو والدتها ببطء، في عينيها شيء من الإصرار، وفي صوتها رجاء خافت:
-عايزة أسأله عن الكتاب… يمكن يكون أخده.
لكن الرد جاء قاطعًا، لا يقبل نقاشًا:
-قلتلك مينفعش! ادخلي يلا، غيري هدومك.
خفضت «مريم» نظرها، وعضّت على شفتها السفلى في ضيق، قبل أن تستدير بصمت، ويدها لا تزال مشدودة على المقبض، كأنها تقاوم أمرًا لم تنطق به.
توقفت «مريم» في مكانها، تنظر إلى والدتها بصمت طويل، بجبهة معقودة وشفتيها نصف مفتوحتين في دهشة مكتومة، كأنها تحاول أن تقرأ ما وراء الكلمات…
لكن «وئام» أضافت بحدة خفيفة:
-هتفضلي متنحه كده!! يلا يا مريم…
انخفضت عينا «مريم» ببطء، ثم استدارت دون كلمة، تدخل غرفتها وهي تشعر بالضيق يتسرب إلى صدرها كضباب ثقيل. لم يكن ضيقًا من أمها فقط، بل من اختفاء الكتاب… ومن نفسها لأنها أخذته دون إذن.
جلست على طرف فراشها، سحبت هاتفها بسرعة من حقيبتها، ثم ضغطت على اسم «رغدة» في قائمة الأرقام.
انتظرت لحظات، وازدردت ريقها بتوتر حين جاءها صوت داليا أولًا، قبل أن تعطي الهاتف سريعًا لرغدة، وبعد تبادل السلام والسؤال عن الأحوال، تلعثمت «مريم» قليلًا وهي تحاول أن تجد الكلمات المناسبة:
-أنا روحتلك عند جدو ضياء امبارح… ولقيت كتاب كده على مكتبك غلافه غامق وعنوانه بالإنجليزي فشدني وأخدته، لكن لسه والله مقرأتش منه حرف واحد إلا لما أستأذنك.
ارتفع صوت «رغدة» فجأة، يحمل قلقًا واضحًا:
-الكتاب معاكي!! بالله عليك يا مريم رجعيه لعامر دا بيدور عليه… أنا أخدته منه من غير ما أستأذن وعامر هيتجنن عليه… بالله عليكي رجعيه علطول وكلميني طمنيني أنه وصل لايد عامر.
-حاضر… حاضر متقلقيش.
أغلقت «مريم» الهاتف ببطء، وظلت جالسة على حافة الفراش، تضع يدها على فمها وتضغط بأسنانها على شفتيها السفلى في توتر شديد. أخذت نفسًا عميقًا، ثم نهضت فجأة وقد بدا على ملامحها التصميم… لابد أن تستعيد الكتاب…
تسللت مريم خارج الشقة بخفة، كمن يسير على أطراف أصابعه، تخشى أن تُحدث صوتًا يُفضح نيتها. كان قلبها يخفق بسرعة، لكنها لم تتراجع. أرادت فقط أن ترى «آدم»… وتسأله عن الكتاب.
وقفت أمام شقته، تتلفت يمينًا ويسارًا كمن يُطارَد. ترددت، تذكرت تحذير والدتها أن تصعد إليه، لكن فكرة أن يكون الكتاب معه لم تتركها في حالها. رفعت يدها بتردد، وضغطت على زر الجرس. لم يكد صوت الرنين يكتمل حتى سمعت نحنحة مألوفة… كان والدها يصعد الدرج!
اتسعت عيناها، وصعدت بسرعة إلى الطابق العلوي، تكاد تتعثر من لهفتها على الهروب قبل أن يراها.
في الأسفل، كان صوت والدتها ينفــجر كطلقات غاضبة، مسموعًا حتى للطابق العلوي:
-شوفت بنتك؟! وآخر دلعها بقت تخرج من غير ما تستأذن، ولا كأني موجودة! مرة تروح عند فاطمة، ودلوقتي… فوق عند آدم! روح شوفها، أكيد هناك!
ردّ «يحيى» بصوت هادئ محاولًا امتصاص حدة انفعالها:
-اهدي يا وئام، صوتك عالي… أنا طالع لـ آدم أشوف.
صوت خطواته على الدرج تصاعد بهدوء لكنه كان كافياً ليربك «مريم»، التي أكملت صعود الدرج واختبأت في عشة الدجاج وهي تهمس لنفسها:
-أستغفر الله العظيم… أعمل إيه دلوقتي؟! ولا أقول ايه!!
طرأت لها فكرة حين رأت دجاجة تضع بيضة فابتسمت…
**********
من ناحية أخرى
دقّ «يحيى» جرس الباب، وبعد لحظات فُتح ببطء. ظهر «آدم» وهو يفرك عينيه بظهر كفه، يجرّ قدميه بتكاسل، وآثار النعاس لا تزال عالقة في ملامحه.
دلف «يحيى» إلى الداخل، يداه في جيبيه، وعيناه تتنقلان بسرعة داخل الشقة، كأنهما تفتشان عن شيء خفي، وهو يقول بنبرة عتاب خفيفة:
-إنت هتفضل نايم طول اليوم ولا إيه؟
مطّ «آدم» ذراعيه بتكاسل وتمطى قائلاً بصوت متهدج:
-أعمل إيه؟ حاسس إني مرهق جدًا…
أومأ «يحيى» بصمت، لكنه لم يتوقف عن التجوّل بعينيه. بدأ يفتح أبواب الغرف، واحدة تلو الأخرى، وهو يتظاهر بعدم الاهتمام.
لاحظ «آدم» ذلك، فانعقد حاجباه وقال باستغراب:
-بتدور على حاجة؟
توقف «يحيى» لحظة، ثم تنحنح متصنعًا اللامبالاة:
-هه! لأ… بس حاسس إني سامع صوت “نونوه” كده…
ضحك «آدم» ضحكة خفيفة وقال:
-آه، دا صوت “سونه” ومراته.
ثم نادى بصوت مرح:
-يا سونه! تعالى سلّم.
خرج قط أبيض يخطو في دلال، تلته قطة رمادية تمشي بتأنٍّ. ابتسم «يحيى» وقال ساخرًا:
-شايف إنك غيرت مجال الديوك للقطط!
ضحك «آدم» وهزّ كتفيه:
-أيوه، أصل مينفعش أتعب في تربية ديك وفي الآخر حد ياخده يتعشى بيه… لكن قط؟ أكيد محدش هايفكر يأكله!
قهقه «يحيى» وعبث بشعر آدم بمودة، ثم قال:
-يلا فوق كده، وتعالى اتغدى معانا.
-حاضر يا شيخي.
خرج «يحيى» من الشقة، وبينما يهمّ بالنزول سمع صوت فزع للدجاج، كأن شيئًا طاردهم فجأة.
رفع حاجبيه، وتبع الصوت، ثم صعد للطابق العلوي بخطى متسارعة. فتح باب غرفة الدجاج ليفاجأ بمريم تقف هناك، عيناها متسعتان كمن ضُبطت متلبسة.
قال بدهشة ممزوجة بالريبة:
-بتعملي إيه هنا يا مريم؟
تلعثمت، تراجعت خطوة للخلف، وابتلعت ريقها بتوتر:
-كنت… كنت مستنية الفرخة تبيض… عشان…
ثم رفعت حاجبيها فجأة، كأنها استلهمت فكرة عبقرية، وأكملت بمراوغة:
-هو أنت عمرك شوفت فرخة بتبيض يا بابا؟
ابتسم «يحيى» رغم شكه، وهز رأسه ببطء، ثم قال بنبرة تحمل شيئًا من الدهاء الأبوي:
-تعالي اطلعي…
وحين اقترب منها، نظر في عينيها نظرة طويلة، نافذة، وقال بصوت منخفض:
-بتعملي إيه هنا بجد؟
أطرقت برأسها، وضمت يديها أمامها، ثم تمتمت:
-كنت… كنت جايه أشوف البيض عشان أعمل حاجة أتغدى بيها.
لم يقتنع، لكنه لم يُصرّ. وضع ذراعه حول كتفيها بحنان، وقال بصوت هادئ:
-ماما كانت بتنادي عليكي!
ازدردت «مريم» لعابها وأومأت ثم نزلت الدرج مسرعة وفي يدها بيضة واحدة…
بينما وقف «يحيى» يتنهد بعمق قبل أن يتبعها…
صلوا على خير الأنام🌸
★★★★
خرج «عامر» من بيت «ضياء»، يلهث من فرط الغضب، بعدما قلب المكان رأسًا على عقب بحثًا عن الكتاب دون جدوى. وقف في منتصف الشارع، عيناه تقدحان شررًا، وصاح بانفعال:
-يعني إيه اختفى!!؟
جاء صوت «عمرو»، ساخرًا ومندفعًا:
-الغلط عليك إنت!
استدار «عامر» نحوه بعينين ضيقتين وصوت مختنق بالغليان:
-محدش يتكلم معايا دلوقتي… أنا على آخر شعرة!
رفع بدر يده كإشارة للتهدئة وقال بنبرة جادة:
-اسكت يا عمرو دلوقتي.
لم يتراجع «عمرو»، تقدم خطوة للأمام ونفث كلماته بحدة:
-مش ساكت، هو أصلًا فاشل… شغال في السحر، وفاكر نفسه بيشتغل على اختراع!
صرخ «عامر» وهو يشير نحوه بعـــنف:
-سحر إيه يا متـ.ـخلف؟!
رد «عمرو» متحديًا:
-تمام، طيب فسّرلي اللي بيحصل ده!!
تحرك «بدر» بينهما سريعًا، ومدّ يده نحو «عامر» في محاولة للسيطرة على الموقف، فخاطب عامر عمرو بحدة:
-أنا مش هتكلم معاك، لأن أسلوبك بقى مستفز أوي يا عمرو!
رفع «عمرو» ذراعيه بتحدٍّ:
-والله أنا كده… ولو عاجبك.
رد «عامر» بحزم، وهو يهمّ بالابتعاد:
-لا، مش عاجبني… عن إذنك يا بدر.
أشار «عمرو» إليه بحركة مستهزئة وخاطب بدر:
-شايف؟! مش قادر يرد!
التفت «بدر» نحوه بغضب، وهدر به:
-اسكت شوية يا عمرو! مش وقت استفزازك ده خالص!
هزّ «عمرو» رأسه وهو يبتعد، قائلاً بسخرية مُرّة:
-استفزاز؟ والله العظيم أنا اللي غلطان إني واقف أتكلم معاكم أصلاً!
-يا عمرو! استنى…
نداه بدر لكن لم يلتفت «عمرو» رحل، وترك «بدر» واقفًا وحده، يتنفس ببطء محاولًا تهدئة نفسه. فجأة، ظهرت «سعيدة» كأنها خرجت من باطن الأرض، ونظرت إليه بعينين ضيقتين:
-خير؟ الخناقة على إيه؟
تنهد «بدر» وقال بصوت مبحوح:
-مفيش حاجة يا خالتي سعيدة.
أشار لها باحترام وانصرف لعمله، دون أن ينتبه للنظرة التي تلاحقه بها.
شهقت «سعيدة» في ضيق، وضربت كفًا بكف، ثم تمتمت:
-آه يا متكبر… طيب والله… لا من غير حلفان، أنا هوريك هعمل إيه…
تلفّتت يمنة ويسرة كمن يُضمر مكيدة، ووقفت تُفكر للحظات، تفرك ذقنها وتُحدّق في الأرض، ثمط ارتفع أحد حاجبيها فجأة، وكأن فكرة ما نبتت في رأسها.
استدارت سريعًا، واتجهت إلى بيتها، لتخرج بعد دقائق وهي تمسك بطتين تربط أرجلهما بحبال خشنة، وتحمل واحدة في كل يد… خطت بخطى واثقة نحو بيت شيرين، وفي عينيها بريق نية لا تُبشر بخير.
استغفروا 🌸
*******
فتحت «سراب» جفونها ببطء حين سمعت مفتاح الباب يدور. دخل «عمرو»، أغلق الباب خلفه بإرهاق، وألقى مفاتيحه على الطاولة بلامبالاة. نهضت من على الأريكة وهي تتثاءب، رمقته بنظرة قلقة، فردّ بعينين ثقيلتين:
-لسه لابسة هدومك؟
رفعت حاجبيها مستنكرة:
-إنت كنت فين؟
رد بحدة وهو يخلع حذاءه:
-وإنتي مالك؟
تقدمت منه خطوة، وصوتها يشوبه التوتر:
-رد كويس يا عمرو…
لوّح بيده في الهواء كمن يحاول أن يطرد همًّا ثقيلًا:
-سراب… أنا على آخر أخري… فكك مني دلوقتي.
دخل غرفته ليبدل ملابسه، فنظرت «سراب» لأثرة قليلًا، تسارعت دقات قلبها قلقًا وتبعته، سألته:
-مالك يا عمرو؟ متقلقنيش عليك!
تنهد وجلس على طرف الفراش بتثاقل، دفن وجهه بين كفيه للحظة، ثم نظر نحوها بعينين تملؤهما المرارة:
-مش عارف أقولك إيه… بس إحنا مش بخير، لا أنا ولا عامر، ولا إنتي ولا تقى… إحنا متلخبطين أوي… والعقدة اللي كنا فاكرينها بعيد… بقت حوالينا… بتخنقنا.
اتسعت عيناها في ذعر:
-أنا مش فاهمة حاجه! في إيه يا عمرو؟
رفع رأسه، يتكلم بنبرة مضطربة:
-حسين بيدور على كتاب دفع فيه دهب لجدك اللي اختفى! ورغدة خدت كتاب من عامر، وتاني يوم صحيت مش شايفة… والكتاب ضاع! وبدر طالع بيقول إن أمي بنت جده… إحنا مش فاهمين أي حاجه… كل حاجه متعقده.
تراجعت خطوة، تتمسك بحافة الأريكة وكأنها تحاول الثبات:
-كتاب إيه؟ يعني… يعني إيه الكلام ده يا عمرو؟! واحده واحده وفهمني.
تجاهل عمرو جملتها وزفر بمرارة، ثم قال:
-وخدي المفاجأة الكبيرة… نادر شاف راجل في دار مسنين في القاهرة اسمه راشد… شبه جدك كارم بالظبط!
شهقت:
-إيه!! جدي كارم؟! طيب يلا نروح… نقابله!
لوّح بيده وهو يومئ بالنفي:
-نروح فين؟ متتحمسيش كده… اختفى تاني، نادر ملحقهوش.
اقتربت منه، وقالت برجاء:
-بس على الأقل عرفنا إنه في القاهرة، نروح ندور… نسأل…
نهض يفتش في مخدع الملابس، وهو يقول بلامبالاة:
-ندور فين يا سراب؟! اسكتي!
-لو مش هتيجي معايا… أنا هروح لوحدي.
قالتها بإصرار وحدة، استدار عمرو نحوها، بوجهه مشدود وقال بحزم:
-محدش رايح.
اقتربت منه وهي تصرخ به:
-يعني إيه؟!
حرك سبابته بانفعال هادرًا:
-يعني لما جوزك يقولك مش هتروحي… يبقى مش هتروحي!
تجمدت كلماتها في حلقها، لم تجادله كما كان يتوقع… بل جلست بهدوء مفاجئ، وانهارت في بكاءٍ صامت. أخذت تمسح دموعها بكفيها المرتجفتين، وشهيقها المكتوم يخترق الصمت.
نظر إليها، وشعر بطعنة تأنيب. ما كان يجب أن يقول كل هذا دفعة واحدة. لكنه منهار… يشعر أن رأسه سينفـــجر.
سحب المقعد وجلس قبالتها، طأطأ رأسه، وحاوطه بيديه كأنهما درع عله ينقذه من الانهيار، سمع شهقاتها تنهش الصمت، فنهض وتقدم منها بخطى بطيئة، وجلس جوارها…
قال بنبرة هامسة، مشروخة:
-أنا آسف يا سراب… أنا عارف إني إنسان عصبي، مش بعرف أتصرف… كان المفروض ما أقولكيش، بس… كنت محتاجك تشيلي معايا… بس طلعت غلطان. مفيش حد بيشيل مع حد… أنا تعبت، تعبت أوي يا سراب…
مدّ يده ليمسك يدها… لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، وقبض كفه، ثم قال بانكسار:
-من النهاردة… شروطك هتتنفذ… اعتبريني مش موجود، واعملي اللي يعجبك يا سراب.
ثم نهض ببطء، أخذ ملابسه ودخل غرفة أخرى ثم أغلق الباب خلفه.
بقيت وحدها، تتنفس بصعوبة، ودموعها تنهمر بصمت. قامت، أخذت حقيبتها وخرجت من الشقة دون أن تنظر خلفها.
وقفت لحظة أمام شقة تقى… مدت يدها لتطرق الباب، ثم سحبتها.
نزلت الدرج بخطوات بطيئة… توقفت عند شقة ريم، ثم شقة نداء، لكن يديها بقيتا معلقتين بلا حركة.
نزلت حتى وصلت للمدخل… ثم توقفت. رفعت رأسها فجأة، وصعدت السلالم بسرعة حتى وصلت إلى السطح.
وقفت هناك وحدها… الهواء يصفع وجهها، دموعها تجري، كأنها تنادي أحدًا لا يسمعها… وانهارت تبكي، بلا صوت… بلا أمل.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★★
حين وصل «عامر» إلى الشقة كان العبوس يطبع ملامحه كقناع لا يفارقه.
كانت الشقة هادئة بشكل مريب، تسارعت خطواته وهو يفتح الغرف واحدة تلو الأخرى يبحث عن «تقى»… وحين وجدها، كانت مستلقية على الفراش، تغمض عينيها كمن يهرب من المواجهة… أغلق الباب خلفه دون كلمة، ولما شعرت «تقى» بابتعاده، جلست تتنفس ببطء، كأنها كانت تحبس أنفاسها.
جلس «عامر» وحده في غرفة المعيشة، والقلق ينهش صدره.
عادت التساؤلات تُلح عليه: أين الكتاب؟ وماذا إن كان ما فعله خطأ؟
نهض وتوجه إلى الغرفة التي أوصدها بالمفتاح قبل رحيله.
فتح الباب ببطء، ودخل يتأمل اختراعه، كأنه كائن حيّ يترقب مصيره. تساءل مرة أخرى، هل أخطأ؟
وأجاب نفسه:
لا… لم يخطئ.
لكن ماذا عن تلك الرموز التي تسكن صفحاته؟ والرموز الغريبة المنقوشة والتي رآها في كهف الجارة؟
زفر بقــوة، واقترب من اختراعه، كاد يكسره وينهي كل شيء.
لكن نظره توقف عند المرآة تلك المرآة الصندوقية التي صنعها.
لم تكن مرآة عادية؛ كانت تُظهر كل الكائنات الدقيقة في الغرفة، وتكشف ما لا يُرى بالعين المجردة.
حتى إن لم يتحقق هدفه الأكبر، فقد اخترع شيئًا عظيمًا يحتاج فقط للمسات أخيرة ليظهر بصورة ترضيه…
ومع ذلك، لم يكن هذا ما أراده فقط.
كان يريد أكثر…
أراد أن يصل إلى القوى الخفية، أن يلامسها دون أن يغرق في طقوسها الغريبة… لكنه أدرك ولو متأخرًا أن لا طريق دونها، لا بد أن يجربها ولو لمرة واحدة.
أليس هذا ما وعده به الكتاب؟ إذًا، فليفعل.
تمنى لو استطاع أن يخبر «عمرو» و«بدر» أنه كان يعلم… كان يدرك تمامًا أنه يُمارس شكلًا من السحر، لكنه _في ظنه_ لم يكن سحرًا أسودًا يخالف الدين… بل ما يسمونه “السحر الأبيض”.
طريق مختلف… نظيف، نافع… هكذا أقنع نفسه بأنه لن يخالف الشرع، كان كل ما يريده خيرًا أن يعرف أماكن الآثار القديمة ويستخرجها بسهولة، كما أخبره كاتب الكتاب.
ازدرد «عامر» ريقه باضطراب، وأخرج الورقة التي جمع فيها أفكاره المرتبكة، ثم اتجه إلى المطبخ ليُحضِر بعض الأدوات.
عاد إلى الغرفة، أغلق الضوء، أسدل الستائر الثقيلة، وبقي لحظات في العتمة يتأمل سكونها… ثم بدأ.
نصب دائرة غريبة من الملح والكحل، وضع خمس شموع على شكل نجمة خماسية، وفي مركز الدائرة وضع اختراعه، والمصباح الذي يدور عليه تتبدل ألوانه أصفر، أحمر، أزرق، أخضر كأنها طيف من شيء لا يُرى.
وأمام «عامر» ورقة مليئة بطلاسم بخطٍ غريب… أخذ يتمتم بها بصوتٍ خافت، وعيونه تذوب بين الحذر والرهبة…
أغمض عينيه، محاولًا الغوص في ما وراء الحواس.
لكن…
دويّ الهاتف قاطع كل شيء.
انتفض، شهق بلا صوت، ونفخ بضيق.
مد يده بعصبية نحو الطاولة، أزاح الهاتف، ونظر إلى الشاشة حيث إسم «أمي».
الاسم وحده كان كافيًا ليعيده إلى أرض الواقع، لكن الواقع نفسه بدأ يتشقق، حيث سمع صوت خلفه ينادي بهمس:
-عامر…
اضاء الغرفة في سرعة وأجاب والدته بصوت متوجس، فبادرته قائلة بنبرة توحي بالضيق:
-الحاجة سعيدة مصممة تطلعلكم… انزلوا سلموا عليها.
زفر بضيق وردّ:
-تقى نائمه يا ماما.
قاطعته دون اهتمام بردّه:
-يلا يا عامر، وخبّط على عمرو ينزل معاك… برن عليه مش بيرد.
أغلقت الخط قبل أن يرد، فغطى عامر الإختراع وإزال ما وضعه على الأرض في عُجالة واضطراب، ثم فتح باب غرفته المؤصد وهم أن يخرج لكنه شعر بثقل في جسده، ودوارٍ حاد يلفح رأسه…
جثى على ركبته، أغلق عينيه وارتخى جسده فجأة كأنما خُدر، وبعدها لم يشعر بشيء…
رددوا
لا حول ولا قوة الا بالله 🌸
*********
ومن ناحية أخرى
مصمصت «سعيدة» شفتيها بنفاد صبر، وتمتمت في ضيق:
-وليه تتعبيهم؟ ما نطلعلهم إحنا وخلاص…
ردّت «شيرين»، وهي تحاول الحفاظ على نبرة مرحة:
-لا، هما ينزلوا، أخف مننا… وشباب بقى!
ابتسمت «سعيدة» بخبث وقالت، وكأنها تهمس بسرّ خطير:
-إلا قوليلي… الصورة اللي كنت اديتهالك يوم كتب كتاب عامر… فينها؟
صمتت «شيرين» برهة تتذكر ثم قالت:
-صورة امي؟ ليه؟
اقتربت منها «سعيدة» بخفة عينين تلمعان بدهاء:
-أصلي اكتشفت حاجة مهمّة جدًا… الصورة دي تبع الحاج البدري، واسمه الحقيقي عبد الوهاب! وتخيّلي…
قهقهت «سعيدة» بخفة وأكملت بصوت منخفض كأنها تلقي قنبلة:
-الراجل طلع أبوكي يا أختي! أول ما عرفت، جريت على بدر وقلتله على طول… بس معرفتش بقى عملتوا إيه؟ اتقابلتوا؟ اتفاهمتوا؟ اتخانقتوا؟
تجمدت ملامح شيرين، وعقدت حاجبيها:
-مش فاهمة!؟
ردّت سعيدة وهي تميل برأسها، وتتلذذ بصدمة شيرين:
-مش فاهمة إيه؟ بقولك الراجل ده أبوكي… وأمك كانت مطلقة منه… ولا يمكن هربت بيكي؟ الله أعلم بنظامها إيه…
تسارعت دقات قلب شيرين كطبول غاضبة، وقفت فجأة، شحب وجهها ولمعت عيناها بغضب مكبوت، وقالت بصوت هادئ لكنه يقطر غضبًا:
-لو سمحتي يا حاجة سعيدة… اتفضلي اطلعي بره.
اتسعت عينا سعيدة، تراجعت خطوة، وحدقت بها بدهشة:
-أطلع بره!!! إنتِ بتطرديني يا شيرين يا عبد الوهاب…!
رفعت «شيرين» ذقنها، وتماسكت رغم ما يعتمل في صدرها:
-أيوه… بعد إذنك، اطلعي بره بيتي. إنتي لا شبهنا، ولا إحنا شبهك.
شهقت «سعيدة» بذهول، وضربت كفًا بكف:
-يا وليّه يا متكبرة! بتطرديني؟ طيب… أنا طالعة، بس هاتي البطتين الأول.
ناولتها «شيرين» البطتين في صمت ثقيل، فأخذتهما «سعيدة» وخرجت، تجرجر خطواتها، وتتمتم في الشارع:
-دا إنتوا عيلة متكبرة… ناس غريبة… خسارة الواحد يفكر فيكم… متكبرين… عالم متكبرة.
وكان كل من يمر بها يرمقها بدهشة، وهي تكرر عباراتها، حتى دخلت بيتها وأغلقت الباب خلفها.
أما «شيرين»، فهوت على أقرب مقعد، يداها على وجهها، وذهنها يضجّ بتلك الكلمات، هزّت رأسها بعـــنف تنكر الفكرة، تمتمت:
-مستحيل… بابا توفّى من سنين… إزاي؟ هي جابت الكلام ده منين؟
بدأت الأفكار تكتسح عقلها، متخبطة كأمواج عاتية، حتى دوّى جرس الباب، فانتفضت ونهضت ببطء لتفتحه…
وحين فتحت الباب وجدت «سراب« واقفة أمامها، وجهها شاحب، ودموعها تلمع على وجنتيها. نظرة واحدة كانت كافية لتقرأ ما وراء العيون.
-في إيه؟ عمرو عملك حاجة؟
لم تجب «سراب»، بل اندفعت فجأة نحوها، وأرتمت بين ذراعيها. ارتبكت «شيرين» للحظة، ثم أحاطتها بذراعيها، وراحت تربت على ظهرها بحنو، وهي تهمس:
-تعالي، تعالي يا بنتي…
أدخلتها بهدوء إلى الداخل، جلست بها على الأريكة، ثم أمسكت بيديها المرتجفتين، وقالت بنبرة مملوءة بالتفهّم:
-ما إنتي عارفة إن عمرو عصبي… بس والله بيحبك…
لم تحتمل «سراب»، وكأن الكلمات فتحت بوابة الألم، فانفجرت تبكي بحرقة، والكلمات تتفلت من بين شهقاتها:
-أنا تعبت… تعبت من الحياة دي… قلبي خلاص مش قادر يتحمل… أنا غلطانة إني اتجوزت… اللي زَيّي ملهوش في الجواز… أنا… أنا… تعبت يا ماما… مبقتش قادرة…
قالت جملتها الأخيرة وانخرطت في بكاء عميق، ارتجف صدرها وتقطعت أنفاسها فجذبتها شيرين إلى حضنها، ضمّتها بقوة، وهمست بقلق:
-اهدي بس… بسم الله… اهدي يا بنتي… أنا معاكي…
ظلّت تهدّئها بصبر، تمسح على شعرها وتهمس بدعوات خافتة، حتى بدأت شهقات «سراب» تخفت، ثم همست بصوت متهدّج:
-عمرو معملش حاجة… أنا اللي كنت متضايقة شوية… بسبب حاجات كده… عملها حسين.
رفعت «شيرين» حاجبيها بعدم اقتناع، وتعمّقت بنظراتها في عيني سراب:
-حسين؟ وده عمل إيه تاني؟
أشاحت «سراب» وجهها وقالت بصوت منخفض:
-بعدين… هحكيلك بعدين… هطلع أشوف عمرو عشان… ميقلقش عليا…
نهضت وهي تمسح دموعها، تمالكت نفسها سريعًا، وغادرت بخطوات سريعة، بينما بقيت شيرين تنظر إلى الفراغ الذي خلفته، بقلب مثقل وذهن مشوش.
تذكرت عامر، فقد طلبت منه أن يأتي ولم يفعل. التقطت هاتفها، وبحثت عن رقمه، وضغطت على الاتصال من جديد…
استغفروا 🌸
لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 ـطين
*******
خرجت «تقى» من غرفتها، تنوي الحديث معه، تناديه بصوت خافت:
-عامر؟
جالت بعينيها في أرجاء الشقة، قلبها ينبض بقلق غامض، حتى لمحته… ممددًا على الأرض قرب الأريكة، بلا حراك.
شهقت، وركضت نحوه بذعر، جثت على ركبتيها تهزه بقــوة:
-عامر! عامر! فيك إيه؟!
وجهه شاحب، جفناه منغلقان، وأنفاسه بالكاد تُسمع. أخذت تتحسس نبضه بيد مرتعشة، ثم صرخت بانهيار:
-عامر… رد عليا!
رنّ هاتفه فجأة، انتفضت والتقطته بسرعة، قلبها يتخبط داخل صدرها حين رأت اسم «شيرين» يلمع على الشاشة، ضغطت على الرد وهي تبكي:
-الحقينا يا ماما… عامر واقع على الأرض ومش بيرد… مش عارفه أعمل إيه…
★★★★
جلس «نادر» على مكتبه، يهزّ قدميه في توتر بالغ لا يليق بممثل معتزل أو على الأقل هذا ما صار يُقال عنه الآن!
لا يفهم بالضبط من أين خرجت تلك الإشاعة، لكنها فجأة تصدّرت الترند كأن الناس كانوا ينتظرون فضيحة يتسلّون بها.
فتح هاتفه مجددًا، ليجد معظم منشورات “فيسبوك” تتحدث عنه، بين مؤيد ومعارض.
الفيسبوك مشتعل.
منشورات، ستوريات، فيديوهات تحليلية كأنها قضية رأي عام:
“نادر قال إن التمثيل حرام، وإنه مجال قذر!”
وكأن الرجل خرج على الناس بخطبة جمعة، لا مجرد شائعة، منشور من حساب مزيف باسمه وصورته! ونسب إليه!
وأقوال أخرى لم تترك ممثلًا إلا ونالته بأبشع الأوصاف.
توقع أنها «سارة»، لكن… لماذا الآن؟
أكانت تترصده منذ مدة دون أن يدري؟
رد «نادر» بفيديو توضيحي، شاهده بنفسه أكثر مما شاهده الجمهور، ليتأكد أنه ما زال يبدو “واعيًا” أمام الكاميرا، وقال فيه:
“أنا مقولتش إن التمثيل حرام، أنا عارف إن كل حاجة في الدنيا ليها وجه حلال ووجه حرام يعني التمثيل حلاله حلال وحرامه حرام وأنا بعدت عشان الناس اللي كنت معاهم كانوا بيجرّوني لطريق مش بتاعي، مش عشان المجال نفسه. ولو جالي عرض محترم يمثل قيمة أخلاقية، أو يقدّم صورة كويسة عن مجتمعنا… هرجع!”
بدأ يتفقد التعليقات؛ كعادتها، جاءت بين مؤيد له ومعارض، ومحللين لكل كلمة نطق بها…
زفر بضيق، فقد أرهقه الأمر منذ البارحة.
قال ساخرًا:
-واللهِ لو كنت قتــلت حد، ما كنت أخدت كل التحليل ده!
ما أسوأ أن يُنسب إليك ما لم تقل، ويتداوله الناس دون تثبت أو تحقق!
أسند رأسه إلى يديه، ثم ارتد بظهره إلى الوراء.
تمنّى لو لم يعرفه أحد، لو لم يكن له وجود رقمي أصلاً…
لكن هيهات! فقد دخل هذا العالم الوهمي بإرادته، وما أدراك ما الفيسبوك إذا غضب!
ناس تختبئ خلف الشاشات، تجلدك بعبارات فظة، وهم بالكاد يعرفون كيف يتهجّون اسمك.
فتح ملفه الشخصي وكتب:
“أخشى أن أبرر لنفسي خطوةً واحدة، فتقودني الطرق الملتوية إلى حيث لا رجوع.
أخشى أن تخدعني الأمنيات العالقة في صدري، فتجعلني أرى الحرام هينًا، وهو الذي لطالما هربت منه؟ أيعقل أن يصبح القلب ضعيفًا لدرجة أنه يغضّ الطرف عن الحقيقة، ويهمس لنفسه: “الأمر ليس بهذا السوء”؟ يا رب، لا تجعلني أعتاد الخطأ، ولا تترك نفسي تقنعني بما يغضبك.
اجعلني أرى الحق حقًا فلا أضيّعه، وأرى الباطل باطلًا فلا أتّبعه، واهدني حين تلتبس عليّ الأمور، فأنا لا أثق بنفسي كما أثق بك.”
نشره ثم ألقى هاتفه جانبًا وأغلق عينيه بإرهاق وهو يمسح وجهه ثم نظر لأعلى وردد:
-يارب.
******
وفي مكان أخر
في كافيه مغلق
قامت «سارة» بتشغيل الفيديو وابتسامة ساخرة ترتسم على وجهها وعيناها تلمعان بمزيج من التشفّي والانتصار…
لقد راهنت على عودته… وخططت لكل خطوة!
جلست تتأمل الفيديو الذي نشره نادر، عينها معلقة بالشاشة، وكل عضلة في وجهها مشدودة. رفعت كوب العصير ببطء، ارتشفت منه، ثم وضعت الكوب على الطاولة دون أن تزيح عينيها عن الشاشة. أخيرًا، نظرت إلى الشاب الجالس قبالتها، وابتسمت بسعادة مُبهمة:
-شُفت؟ قالك هيرجع.
رمقها «إسلام» بنظرة مترددة، وظهر قلقًا في نبرته:
-بس كده شــوه صورتنا… الناس كلها عارفة إننا كنا أصحابه.
أجابت بثقة وهي تقاطع كلامه بحركة يد:
-عادي يا إسلام. هنطلع نرد، وإحنا عندنا جمهور هيصدقنا، ويقف في صفّنا.
تردد قليلًا، ثم سألها بنبرة يشوبها شك دفين:
-وإنتِ عايزاه يرجع يمثل ليه يا سارة؟
رفعت حاجبيها، مالت بجسدها إلى الأمام وكأنها تُلقي بسرّ، وقالت بصوتٍ خافت يحمل نبرة تحدٍّ:
-عشان أنا… عمري ما خسرت في تحدّي!
ضحك مريرًا وهزّ رأسه:
-ده إنتِ شــيــطان!
ضحكت معه، ضحكة خافتة ولكن باردة، ثم تمتمت وهي تلعب بأطراف شعرها:
-يا بني، أنا عايزة مصلحته…
-مصلحته؟! ده إنتِ دخلتيه المستشفى… واتسبّبتي في سرقة عربيته!
تجاهلت نبرته المتصاعدة وقالت بهدوء وكأنها تقنع طفلًا:
-لمصلحته، صدقني… وبعدين ما البلطـ…ـجية اللي إنت جايبهم هما اللي ضحكوا علينا وأخدوا العربيه والفلوس وضـ ـربوه… أنا مقولتش يضــربوه.
لم تنتبه سارة لارتفاع نبرة صوتها، فهزّ إسلام رأسه وقال بنبرة خافتة ينهرها:
-وطي صوتك إحنا في مكان عام!
وأضاف وهو يتفحص ملامحها:
-أنا بقيت بخاف منك… بحس إنك مش طبيعية.
نظرت إليه نظرة طويلة، ثم مالت نحوه وهمست بابتسامة غامضة:
-بقولك إيه… ما تنساش إن أنا كنت بخطّط، وإنت بتنفّذ… يعني إحنا شركاء.
ساد صمت مفاجئ، كأن المكان اختنق من ثقل ما قيل.
رمقها إسلام بنظرة طويلة، يبحث في ملامحها عن أي بقايا من «سارة» التي عرفها يومًا… فلم يجد.
نظر لها مجددًا وقال بصوت منخفض:
-بس خلي بالك يا سارة… اللعب بالنار ساعات بيولّع في صاحبه.
-النار دي أنا اللي ولّعتها وأنا اللي هطفيها…
ثم رفعت الكوب لرشفة أخيرة، بينما استمر الفيديو يصدح وصوت نادر يملأ المكان بصدى لا مبالٍ، فأغلق إسلام الهاتف واستند للخلف وهو ينفخ بضجر…
استغفروا 🌸
★★★★★
راحت «سعيدة» تمر على البيوت وتخبر من تقابله أن «شيرين» ابنة «البدري» وتختلق قصصًا عنها، أولها أن والدتها هربت بها…
وعلى نحوٍ أخر كام «البدري» يجلس في الشرفة، بينما يلاحظ نظرات من في الشارع وهمساتهم لكنه لم يبالي كان عقله مشغولًا بشيء أخر…
اتكئ على عصاه، وغرق في دوامات فكر لا تهدأ…
فقد كان «بدر» يزداد شرودًا يومًا بعد يوم، صمته كثيف، ونظراته مشوشة كأنها مرآة لقلق دفين لا يستطيع إخفاءه.
تنهد البدري تنهيدة واهنة، واعتدل بصعوبة، يتأوه من ثقل السنين على ظهره. نهض مستندًا على عصاه، وقرر أن يذهب إلى بيت دياب، علّ «تقى» أو «عامر» يملكان تفسيرًا لما يجري مع «بدر».
هبط الدرج ببطء، يجر قدميه بتأنٍ، حتى بلغ الشارع. سار بتمهّل نحو بيت «دياب»، وضغط على جرس الباب. ثم التفت ليتأمل الشارع من حوله ونظرات الناس الغريبة!
وفجأة، وقعت عيناه على ملامح مألوفة. ارتجف قلبه، وارتبكت يده وهو يضع عويناته.
ارتداها بسرعة، وحدّق مليًّا.
اتسعت حدقتاه، وتعلّق صوته بدهشةٍ تخلط بين الرجاء والذهول:
-كارم!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية عن تراض (سدفة 2))