رواية صرخات أنثى الفصل المائة 100 بقلم آية محمد رفعت
رواية صرخات أنثى البارت المائة
رواية صرخات أنثى الجزء المائة

رواية صرخات أنثى الحلقة المائة
جوار سور السطح الأعلى، وبمكانه الذي خصصه لخلوته الليلية، جلس على سجادته فور أن انتهى من قيام الليل، فإذا به يستكين على الحائط، وقلبه يضيق عليه، كأنه احتبس داخل قفصًا صغيرًا، يمنع عنه الهواء.
طوال ذلك الاسبوع كان يقضي أغلب وقته بالمسجد الذي بات مسكنًا إليه، حتى أنه مؤخرًا بات رفيقًا محببًا لإمام المسجد، وقد سبق له أن إختبر صوته العذب، وقد لجئ له ذات مرة ليكون امامًا للناس حينما كان الشيخ متعبًا وصوته قد بُح تأثرًا بالزكام.
مال عُمران برأسه للحائط، أغلق رماديتاه، وكل محاولة صدرت عنه لمحاربة ذلك الوجع الذي يخنقه قد فشلت، فوجد ذاته يتمتم بصوته العذب:
_سال دمعي يا إلهي
ولولا غربتي ما كان دمعي يسيلٌ
غربتي نجوى، ونيران شوقي
وأسى باكٍ وليلٌ طويلٌ
وما لي رجاء غير أن تسعى إليك السبيل
إذا ضاقت، فنجوى دعائي
حسبي الله
حسبي الله ونعم الوكيل
بالله إيماني وفيه رجائي
وإلى علاه ضراعتي وبكائي
يا مؤنسي في وحدتي
يا منقذي في شدتي
يا سامعا لندائي
فإذا دجا ليلي وطال ظلامه
ناديت يا رب كنت ضيائي
سبحانك جل جلالك يا الله.
قالها ودموعه تغسل وجهه، ثمة شعور بالحنين يزهقه، وأكثر ما يُؤلمه أنه لا يعلم إلى من يحن؟؟ يتمنى أن يتذكر أي شيء عن نفسه، وعن صاحبة هذا الخاتم الذي بقى صامدًا باصبعه رغم فقدانه كل شيء، وكأنه يثبت له مدى قوة الترابط بينه وبين الاصبع الذي ما أن وضع فيه لم يخرج منه أبدًا.
******
اكتسح العرق جبينه من فرط احتباس أنفاسه، قيود حديدية تحتجز ذراعيه تعيق حركته، لسانه قد شُل عن الصراخ، جسده يموج غضبًا في محاولة للتحرر، عينيه الوحيدة الشاهدة على ما يحدث قبالته، فتنهمر الدموع منها مع انهمار الدماء النازفة من جرح رفيقه!
نفس المشهد يُعاد مجددًا، حمل أسوء ذكرى جعلت حياته تقف عند هذا الحد، نفس الوجع ، بنفس حدته وعمقه، ويتجدد معهما شعور العجز.
نهض من نومه مفزوعًا وصرخته تتحرر أخيرًا:
_عُمــــــــــــران!
انتفضت “صبا” من نومها، تميل على الكومود لتضيء نور الغرفة، وزحفت إليه تتفحصه وهي تهمس بفزعٍ:
_بسم الله الرحمن الرحيم!
جذبت المناديل الورقية تزيح عرقه الممزوج بدموعه، فشاركته البكاء المكبوت رغمًا عنها، أبعد “جمال ” يدها برفقٍ، وقال بصوته المبحوح:
_أنا كويس، كملي نومك يا صبا.
قالها وخرج من الغرفة، قاصدًا شرفة الردهة يستمع لصوت الابتهالات قبيل الفجر، مال على السور الحديدي للشرفة، يضم وجهه ويبكي بين ذراعيه، الألم يزيد في حدته، وجملة الطاووس تلاحقه أينما ذهب
«أنا عمري ما أتخلى عن اللي مني، وإنت كلي يا جمال!»
بكى ولفظ بشهقاته المكبوتة داخله:
_عملتها واتخليت خلاص يا صاحبي!
وقفت صبا تراقبه من خلف الستار، وقلبها يتمزق من حزنها عليه، لقد جرده فراق رفيقه عن الحياة بأكملها، خسر تقريبًا نصف وزنه، من شدة زهده في الطعام، مقت كل شيء حتى كونه حيًا.
أزاحت دموعها، وتقدمت إليه تحتضن كتفه، كنوعٍ من المساندة، فاذا به يستدير وهو يتطلع لها بوجعٍ، فقالت بتوسلٍ:
_بالله عليك تنسى يا جمال، هتموت لو فضلت كده!
أجابها وابتسامته تغاير تلك الدمعات:
_هنساه إزاي وأنا حفظته من كتر ما المشهد بيتعاد قدامي؟
سحب نفسًا مطولًا أطلقه على دفعتين، ثم أحاط كفيها معًا، يفركهم بين أصابعه، لامسًا دبلتها الذهبية التي تحتفظ بها منذ لحظة زواجهما، حتى إنطفئت، تعلق بصره بها وهو يقول:
_أنا مقصر معاكي ومع ابني، ومعنديش الجرأة أطلب منك السماح يا صبا! بحاول أكمل حياتي بصورة طبيعية بس مش عارف، والله ما عارف أعملها!
عانقت أصابعه بحنان، وقالت باكية:
_لو عايز ترضيني إهتم بنفسك وبأكلك، إنت صحتك اتدمرت يا جمال.
وتابعت ودموعها تنهمر بحزن:
_أنا مكنتش متخيلة ان علاقتك بيه بالقوة دي، يمكن لو كنت لامساها مكنتش هآ..
منعها من الحديث، حينما قال:
_بلاش نتكلم عن اللي فات وانتهى، ادعيله بالرحمة وإدعيلي بالصبر يا صبا.
وتابع بحب دمجه بنبرته، قاصدًا أن يمازحها :
_يعني إنتي كده معندكيش مشكلة نخاوي الولد بعُمران تاني، يعني عمران رقم 1 هيكون تكفير لذنبك الأول وعمران رقم 2 نخليه صدقة على ذنبك المعترف بيه!
ضحكت وردت بمشاكسة:
_وعلى أيه ما اجبلك نص دستة عمرنات تعلمهم بالأرقام!!
بات على نفس معالمه الباهتة، وردد:
_قابل بدستة كاملة، المهم إنهم كلهم يبقوا منك يا صبا!
منحته ابتسامة أرغمته على التبسم، فاقتربت منه على استحياءٍ وانحصرت بين ذراعيه، ضمها جمال واستند برأسه على رأسها، بينما يتطلع للأمام بسكون مخادع عن العاصفة العالقة داخله.
********
قطعت السيارة الخاصة الطرق، وانجرفت لعدة شوارع جانبية، بينما يتابع “علي” الطريق من خلف نظارته المعتمة بدهشةٍ، ولكنه تمسك بصبره المميز حتى توقف بهما السائق أمام إحدى مسجد صغير.
التفت “علي” تجاه “آدهم”، وقال باسترابةٍ:
_عدينا على مساجد كتير، إشمعنا المسجد ده اللي أصريت نصلي الفجر فيه؟
منحه ابتسامة صغيرة، وقال وهو يتفحص ساعته:
_عادي يا علي، حبيت نصلي قبل ما نروح الاوتيل، يلا إنزل الفجر هيأذن.
قالها وهبط مسرعًا، فلحق به علي، واتبع خطواته، وهو يهدر ببسمة ساخرة:
_لو في اعتقادك إنهم علموك تميز الكدب من العين وحركات الجسم، فأنا أستاذ ورئيس قسم يا حضرة الظابط.
توقف آدهم بمنتصف درج المسجد، واستدار إليه، فوجده ينزع نظارته بهدوءٍ ورزانة ماكرة:
_ها تحب تفضفض هنا ولا أدورلك على شازلونج تمدد وتأخد راحتك في الكلام عليه؟
فشل باخفاء ابتسامة إعجابه بشخصية” علي”الذي تفاجئ به كليًا، حينما قربتهما الظروف بالفترة الاخيرة، فهبط الدرج مجددًا حتى بات يقف قبالته:
_مسبقش ليا إني استهونت مرة بذكائك يا دكتور علي، وعارف إنك مسافر معايا وانت مش مقتنع بكلامي، وهدوئك ده مهو الا مهلة عشان أكشفلك عن حقيقة وجودنا هنا.
هز رأسه وهو يتابعه برزانته، أفصحت عن حكمته:
_وأنا مازلت منتظر إنك تتكلم، هنصلي الفجر وهكون جاهز أسمعك.
وتركه وصعد الدرج، فاذا به يوقفه:
_علـي.
استدار إليه من محله السابق، فاتسعت ابتسامة آدهم وقال:
_هو إنت ممكن تدخل شمس بينا لو حصل بيني أنا وانت خلاف بسيط مثلًا؟
زوى حاجبيه ورماديتاه لا تنحرفان عنه، بينما يستطرد آدهم بخبث:
_معتقدش إنك من النوع السييء ده، عُمران بس اللي كده.
قطع نطقه لتلك الكلمات الماكرة، صوت المؤذن بصلاة الفجر، ومازال “علي” يوالي ظهره للمسجد، ووجهه يقابل وجه آدهم.
احتجز الحديث على لسانه، فسحب رده عليه، وهو يحارب حالة من العجز التام، التي شُلت أطرافه كليًا، بينما مازال يتطلع لآدهم، يستحضر صوته ولكنه غادره في حالة من الصدمة.
حبس كل شيء من حوله، حتى صوت أنفاسه، وأذنيه تميل تجاه الصوت، اهتزت كل خلية في بدنه، بينما تتوسع مُقلتيه بشكلٍ أثر في آدهم، رفرف أهدابه بصعوبة، وهو يحاول أن يضغط على ساقيه لتستدير به تجاه المسجد، أذنيه تغوص في عمق الصوت الذي أوقظ كل ما دُفن داخله.
تزاحمت الدموع برماديتاه، ويده تستكين على درابزين الدرج من جواره، بينما يقطع الصمت القاتل عنه وهو يهمس بخفوتٍ:
_عُمران!!!!!
أدمعت عيني آدهم تأثرًا به، فصعد خلفه مسرعًا، يحاول مساندته للصعود، مال علي إليه وهو يشير بعينيه تجاه قبة المسجد:
_ده صوت عُمران يا آدهم!! ده صوته صح؟؟
قبض على كفه ودموعه تنهمر وجعًا، صمت آدهم اعتصره لدرجة كادت بأن تمزقه، فأراد أن يقطع شكه، بصعوده السريع للمسجد، ولكن قدميه خذلته ولك تنصاع لعزيمته، وشوقه الذي ينازع بين أضلعه.
تعركلت ساقيه كالصغير الذي يتعلم الخطى لمرته الأولى، فما أن ترك آدهم وصعد عنه أربع درجات، حتى سقط على الخامسة بساقيه، يبكي وهو يسمع حبيب قلبه يردد بخشوعٍ تام
«الصلاة خيرًا من النــــــــــوم! …»
سند معصمه على الدرجة العلوية، بينما ينحني رأسه من فوقه، وعينيه لا تفارق مدخل المسجد، يخشى أن يكون مجرد تشابه بين صوت المؤذن وصوت أخيه، خشى أن يرى أحدٌ سواه فور أن يصل لباب المسجد.
هرع آدهم إليه يساعده بالوقوف، محررًا صوته الباكي:
_قوم يا علي!
حل جرفاته الأسود عن قميص بذلته السوداء الفخمة، بينما يميل على ذراعي آدهم، يمنحه الأذن الكافي بسحبه ليقف على قامته، مال عليه وعينيه متعلقتان بالميكرفون النابع عنه ذلك الصوت العذب.
مال برأسه إليه وقال بصعوبة:
_عُمران؟
أكد له بإيماءته بينما يغرق بنوبة من البكاء تأثرًا بالحالة التي أصابته، فتركه علي وهرول مُسرعًا للمسجد، بينما يحاول هو السيطرة على بكائه وإتباعه للداخل.
نزع حذائه وولج للداخل، عينيه تفتشان على منبر الإقامة، فوجده فارغًا، كاد أن يفقد عقله بتلك اللحظة، وخاصة حينما وجد شابًا أخر يضع الميكرفون محله.
ابتلع علي ريقه الجاف بصعوبة، وسرعان ما استدعى ثباته في موقفٍ يُحسب له:
_من فضلك، هو حضرتك اللي كنت بترفع الآذان من شوية؟
اجابه الشاب مبتسمًا:
_لا ده الخواجة، صوته تبارك الله عليه.
قيد كل ما بداخله من أسئلة وفضول، وقال بصعوبة حديثه:
_هو فين؟
استدار الشاب يبحث عنه بارجاء المسجد الذي يحوي عدد لا بأس به من المصلين، بينما يتمتم بنبرة مسموعه إليه:
_كان هنا دلوقتي، هتلاقيه واقف مع الاسطى موسى وصابر هناك، ممكن تروح تسألهم، عمومًا كلها عشر دقايق وهيقيم الصلاة، الشيخ زياد هيخليه يصلي بينا النهاردة زي المرة اللي فاتت.
تجاهل كل ما استمع إليه، بينما يراقب المحل الذي أشار عليه، حيث كان يقف صابر جانبًا، وموسى في وجهة من أراد رؤيته بكل لهفة ومحبة لا تخص سواه.
بحث فيهم وكل لحظة تمر عليه يشرف على فقدان ثباته، فاذا به يدقق بملامح موسى، ذلك هو نفسه الشاب الذي كانت تقف مايا برفقته في هذا اليوم، دنى بخطاه إليهم، ليفك كل الخطوط الغامضة التي وُضعت أمامه، وخاصة بأن جسد موسى الضخم يخفي شخصًا من خلفه.
مع اقترابه منهم، ظهر من أمامه كتف الشخص المجهول، ومن ثم وجهه، حتى بات ظاهرًا كليًا أمام علي!
تحررت الدمعات عن مسكنها، وابتسامته تعاكس كل ما يعتريه، لسانه الثقيل يتعلم نطق الحروف الذي غابت عنه:
_عُمران!!
بللت دموعه قميصه الأبيض، وبات يجاهد كل القيود التي تعجز حركة قدميه للوصول إليه، حاول رفع صوته عسى أن يستمع إليه، ولكنه لم يملك صلاحية التحكم به.
تحركت قدميه في طريقه إليه، ورفع صوته يناديه بقوةٍ:
_عُمــــران!
استدار عُمران تجاه الصوت بتلقائية، ومعه صابر وموسى، فاذا بآدهم يظهر قبالة علي فجأة، ويخفيه متصنعًا أنه يضمه، فاعتقد ثلاثتهم أن هناك سلامًا حارًا بين صديقين.
تحرك موسى وصابر تجاه المصليين، بينما حاول عُمران التطلع لوجوههما، وما كاد بالتوجه إليهما حتى أشار له الشاب بأن المدة الفاصلة بين الاقامة والصلاة قد انتهت.
فهرع للمكان المخصص له متناسيًا شعوره الغريب، وفضوله تجاه هذا الصوت المألوف، تناسى كل شيء حينما تعلق الأمر بصلاته.
بينما على بعد منه، يفرد آدهم قوته العضلية، بتحكمه بالسيطرة على جسد “علي”، وتثبيته في محله، ومع تأثر علي بما يحدث، بات هزيلًا في تلك اللحظة، حتى أنه فقد أعصابه فلم يتمكن حتى من دفعه عنه، كل ما يتحرر عنه صوته الهزيل:
_عُمران عايش!! إبعد عني يا آدهم.
صاح برجاءٍ لطيف:
_اهدى يا علي، إنت طول عمرك عاقل وبتعرف توزنها صح، عُمران مش في حالته الطبيعية وظهورك ليه دلوقتي ممكن يأثر عليه، انا مكدبتش عليك لما قولتلك أني عندي معاد مع الدكتور، أنا فعلًا حددت المقابلة معاه عشان نعرض عليه أوراق حالته، وهو اللي هيحدد نتعامل معاه ازاي، إنت هتقدر تنفذ تعليماته، إنت أكتر حد مؤهل إنك تتعامل مع عُمران وهو في الحالة دي.
شُلت أطرافه من سماع ما قال، والمنذر عن وجود خطبًا ما بأخيه، فأبعده عنه والدموع تغرق وجهه. بينما يفصح له آدهم عن غموض حديثه:
_عُمران فقد الذكرة يا علي.
مال تلك المرة على كتفه باستسلامٍ، ودموعه تمس كتف آدهم، فاقدًا القدرة على التحكم بجسده، بكى وتلك المرة فك آدهم حصاره وضمه بحنانه الذي يخص به معاملة أخيه فقط، وجده يحتاج إليه فدعمه قلبًا وقالبًا.
سمح علي لذاته بالانهيار، لقد طالت مدة صموده، وبقائه شامخًا، وقد تناسى كونه بشريًا، بحاجة إلى الراحة، ربت آدهم على ظهره وقال يواسيه:
_الحمد لله إننا اطمنا عليه، عُمران حي وبخير وده الأهم ، خليك قوي عشان خاطري، ده أكتر وقت هو محتاجك فيه يا علي.
تعالت شهقاته الممزقة للقلوب، وترجاه كأنه يحبس أخيه عنه:
_أضمه مرة واحدة بس، أنا ملحقتش حتى أبص عليه!
ابتعد عنه وواجهه بعينيه المحمرة من البكاء:
_أنا مين عشان امنعك عنه، أنا خايف عليه وعليك يا علي، بس عشان تتطمن أنا هجمعك بيه النهاردة بس بعد مقابلتنا للدكتور، إنت المفروض دكتور وفاهم!!
هز رأسه بخفة وازاح دموعه، ربت آدهم على كتفه والأمل قد زرع فيه حينما وجده يجاهد لاستعادة ثباته، ثم تركه ووقف بأخر صف، يحازي المصليين ليصلي خلف أخيه!!
وفي سجوده أطال ودموعه تعانق سجادته، ودعواته تناجي بعويلٍ يصل لادهم من جواره فبكى هو الآخر، بينه وبين أخيه خمسة صفوف من المصلين إن شاء سيصل له، وإن أراد ستقيده ضمته حتى الموت، ولكنه عاجز عن المضي قدمًا، وصوته العذب يجعله يبتسم في حنين ويبكي في ذات اللحظة!
ومع أخر سجدة له قال:
_اللهم إحفظ أخي في رعايتك وكنفك، اللهم إجمعني به وامنحني الصبر فسبحانك وحدك أعلم بما في صدر عبدك!
قالها وأنهى صلاته خلف شقيقه، وما أن سلم بالصلاة، حتى جذبه آدهم قائلًا:
_يلا يا علي بسرعة.
لم يمنحه الفرصة لرؤيته مرة أخرى، سحبه للخارج، وعيني علي متعلقة عليه، تحيطه بنظرة أخيرة، ويتمنى أن يرفع عينيه ليراه، بالرغم من أنه يعلم خطورة حديث آدهم.
فتح آدهم باب السيارة الخلفي، ودفع علي بداخله، وما أن وجده يهبط برفقة موسى وصابر، حتى استدار تجاه السيارة وهو يرتدي نظارته السوداء.
مضى عُمران من جوار السيارة، بينما يصيح به صابر:
_يعني هتفضل مقاطعني كده كتير يا خواجة، بقالك أسبوع بحاله متجنبني، ونازل طالع مع الاسطى اللي نسي صاحبه هو كمان ده!
منحه موسى نظرة غاضبة، بينما قال عُمران ببرود:
_وإنت مالك أنزل وأطلع مع اللي انا عايزه، ولا تكنش المدام وأنا معرفش!
ضحك موسى، بينما ابتسم علي وهو يميل باكيًا على النافذة المغلقة، الحائل بينه وبين أخيه تلك المرة رقيقًا للغاية، يتمنى أن يفتح باب السيارة ويخرج إليه غير مباليًا بما سيحدث، ولكن لأجل سلامة أخيه سيحتمل بضعة ساعات أخرى للقائه.
استدار يشير لموسى قائلًا:
_يلا يا موسى، أصل صاحبك شكله عايز يتكيف وأنا مش فايقله بروح أمه دلوقتي!
أجابه موسى وهو يشير له بشماتة:
_يروح لبيت العقربة، ذكرياتها هتكيفه من غير أي مجهود.
خطى عمران تجاه الحي، بينما عاد موسى يهمس لصابر بنزق:
_انت طرقت العقربة بس لسه معملتش الصح، لما تعمله هبقى اعترف بيك مرة تانية، يلا سلام يا تمرجي.
وتركه وغادر بينما الاخير يموج غضبًا وهو يلحق بهما.
تأكد “علي” من رحيل شقيقه، ففتح باب السيارة وخرج في نية تتبعه ليعلم إلى أي مكان سيذهب، فأوقفه آدهم قائلًا من خلفه:
_انا عارف مكانه وكل تحركاته متقلقش.
توقف محله والغيظ يموج به، فيجعله خطيرًا للغاية، لا يصدق أنه كان يخفي أمر أخيه، وهو السبب بمنع لقائهما الآن، استدار إليه ببطءٍ حتى توقف قبالته.
رسم آدهم بسمة خوف مصطنعه:
_بتبصلي كدليه يا دكتور!! مش اتفقنا انك هتكون متفهم وصبور.
رفع علي يده ببطء وهدوء مخيف، حتى لامس رقبة آدهم، وقبل أن يستوعب ما يخطط له كان الأسرع منه، ففجأه بحركة مدروسة، جعلته ينهار أرضًا بنوبة أشبه بالشلل المفاجئ، بينما الاخير يرمقه بغضبٍ وبلا ذرة ندم واحدة.
استغرق الأمر دقيقة كاملة حتى خفت حدتها، فبدأ بتحريك يديه أولًا ومازال جسده ينازع، في نفس اللحظة يهرع رجاله إليه من كل صوب،فور ان رأوا حالته الغريبة، حتى أن الاسلحة كانت ستُصوب تجاه علي، ولكن اشارة يد آدهم منعتهم وجعلتهم ينصرفون لمواقعهم المتوزع على الحارة بشكل يأمن الحماية لعمران.
نزع “علي” جاكيته، والقاه على درج المسجد ثم جلس جواره يتطلع للأرض بحزنٍ جارف، يتمنى أن يضم أخيه مرة واحدة، يريد أن يشعر من صوت أنفاسه ودقاته أنه حي.
جلس آدهم يفرك صدره وهو يستعيد حركات جسده بألمٍ، ونهض يلحق به، مشاكسًا إياه:
_لو الجوكر بلغه إنك بتأدي الحركة بالحرافية العالية دي هيجندك لصالح الجهاز يا دكتور.
تجاهله علي وبقى على وضعه، فنزع هو الاخر جاكيته وألقاه على الدرج ثم جلس من فوقه يردد ببسمة واسعة:
_تعرف إن العضلات متوزنش قصاد كفة العقل، لذا بيتخاف من الشخص المثقف جدًا، لأنه بيكون أخطر من اللي دراعه سابقه، وانا لامس فيك الخطورة دي من وقت ما أدبتني بالقائد بتاعي، ومن يومها لحد الإن بتعاقب بالتدريبات المكثفة وطلعت انت منها باشا!
واسترسل بمحبة:
_بس قرصة الودن دي اللي فوقتني وساهمت في علاجي بشكل كبير، بس بردو خلتني أحرس منك ومن عقلك ده.
وهمس ضاحكًا:
_على رأي عُمران علي ده البابا بتاعنا كلنا!
أبعد “علي” يديه عن وجهه المحمر، ومنحه نظرة حزينة، تشتاق لمجرد سماع إسمه، تلاشت ابتسامته وأخذ يبرر له باحراج:
_صدقني يا علي مكنش عندي تعليمات اني أبلغك بأي حاجة تخص عمران، أنا لسه عارف من قريب، وآآ..
أشار له علي وهو يعيد خصلاته للخلف بقوةٍ لحقت نبرته التي جعلت آدهم متفاجئ بشيءٍ جديد به:
_متبررش ليا شيء، أنت ردتلي روحي وخليت قلبي يرجع يطمن، أنا مديونلك بعمري كله يا آدهم.
أسرع بالرد عليه:
_أيه اللي بتقوله ده، عُمران ده أخويا عليا واجبات تجاهه زيك بالظبط، ولا انت لسه مش معتبرني من العيلة يا دكتور؟
ابتسم وهو يخبره بمكرٍ:
_إنت منها من لحظة ما كنت إختيار شمس، وبعدين أنا أدبتك بناء على مكانتك ومعزتك عندي، أنا دايمًا بعاقب عُمران بالاعتذار، لكن معاك مكنتش هتكفيني بصراحة.
تربع الحزن بين رماديتاه وهو يكمل:
_أنا عارف إنك صح في كل اللي قولته، انا كنت ماسك حالات مشابهة من دي مع دكتور مخ وأعصاب وكذه تخصص تاني، بس العذاب اللي كنت فيه كان أكبر مني.
ومع انهمار دموعه أخبره:
_ أنا روحي غابت بغيابه عني يا آدهم!
مسح على ظهره وشاركته دموعه هو الآخر:
_هترجعلك من تاني، وهيرجع لحضنك لانه مالوش غيرك يا علي، قوم يلا ورانا طريق سفر نقابل الدكتور وهنرجع على بليل، لازم عُمران يكون في القاهرة الصبح، مراد باشا باعت طيارة مخصوص ترجعنا المطار.
نهض علي يجذب جاكيته ويرتديه مجددًا، ثم لحقه للسيارة وبينما يقدم آدهم الهاتف إليه قائلًا:
_دي الاشعة والتحاليل الخاصة بحالة عُمران، جبناها من المستشفى والدكتور “فرنك” وصله نسخه منها.
التقط الهاتف منه وتابع الفحوصات الكاملة وتفاصيل الاصابات التي تلاقاها باهتمام، ووجع لما تعرض له أخيه!!
******
أضاء نور الجناح، فقطع العتمة التي إعتادتها بأيامها الأخيرة، تنزوي داخلها على الفراش، الذي بات مستقرها الوحيد.
اقترب منها حاملًا صينية الطعام، يفعل اضاءة الكومود ويدنو منها، يتشرب ملامح الحزن من وجهها إلى وجهه، قرب ذراعه منها يمسد عليها بحنان:
_فريدة حبيبتي، حضرتلك فطار بسيط، قومي كلي حاجة، بقالك كام يوم رافضة الأكل ومقضياها عصاير.
أتاه صوتها المكبوت بالوسادة، ومازالت توليه ظهرها:
_ماليش نفس يا أحمد، طفي النور واخرج من فضلك.
تفاقم الوجع داخله، لم يعد يحتمل أن يراها في تلك الحالة ويشاهدها مكتوف الأيدي، فلفظ ما بداخله من ضيقٍ:
_لا يا فريدة لا هخرج ولا هطفيلك النور، هتقومي حالًا وهتأكلي، انتِ الظاهر نسيتي إنك حامل، الطفل ده مالوش ذنب في اللي بنمر بيه.
ابعدت الغطاء عن جسدها، ونهضت تواجهه بكل غضبٍ، أنساها السيطرة على ما ستقول:
_إنت كل اللي يهمك اللي في بطني؟ مش همك أنا بمر بأيه؟؟ إنت طول عمرك أناني ومبيهمكش الا نفسك يا أحمد باشا.
تبلدت نظراته عليها، كالمجسم الحجري، يحاول استيعاب أنها تنسب تلك التهمة الباطلة إليه، اتسع من الوقت حتى تمكن من نطق:
_وتفتكري لو كنت بفكر بأنانية زي ما بتقول كان ده بقى حالي؟!
صمتت واختبأت خلف كفيها تبكي بضعفٍ، إنهار نصف عالمها بوفاة ابنها،والنصف الآخر ينهار بسببها هي!
صرخ أحمد بها وهو يحثها على العودة للحديث،فصمتها يقتله أكثر:
_ لو كنت أناني زي ما بتقولي كنت عيشت حياتي كلها بالطول وبالعرض من تاني رفض منك على جوازنا، أنا لو أناني مش هقدم كل التنازلات دي عشان،مهمنيش غير أنك تكوني ليا ومعايا، حتى بعد ما شرطتي أن جوازنا يكون بدون أولاد وافقتك ومرفضتلكيش أي طلب، وبعد كل ده شايفة إني ماليش حق أخاف عليكِ وإني أناني!! جاوبيني يا هانـــــــــم!!
زادت من حدة بكائها، بينما هو ينتظر سماع اجابة تطفئ نيرانه التي شعلتها هي وتركته يُعاني، لقد احتمل كل شيءٍ لأجلها هي، حتى تلك اللحظة التي ود أن يكون فيها جوار ابنه وصديقه “علي”،ابتعد واختار البقاء لجوارها.
انزوى بجلسته يعيد حساباته، يحاول أن يجد هو إجابة لسؤاله، فهدر بضيقٍ شديد:
_أنا مبقتش فاهم أنتِ فيكِ أيه بالظبط، كلامك بقى جارح لكل اللي حواليكِ،وبتأخدي قرارات غريبة، وبالرغم من اللي عملتيه الا أن مايا تفهمت موقفك ومبقتش زعلانه منك، وعلي كذلك جالك أكتر من مرة وقالك نرجع للكمبوند ونعيش مع بعض زي الأول انتِ اللي رفضتي وأصريتي نكون هنا، وبردو محدش ضغط عليكي وكلنا بنعمل اللي إنتِ عايزاه، بس حتى ده مش راضيكِ، لسه عايزة أيه تاني معرفــش!!!!!!
أبعدت كفيها عن وجهها وصرخت بعنفوانٍ قطع حبالها الصوتية:
_عايــزة ابنـي يا أحمد، وحشنـــي أوي ومش قادرة أتحمل فراقه أكتر من كده، عايــــزة أفـوق من الكابوس ده بقى.
قشعر جسده ألمًا من سماع نبرتها، تمزق نياط قلبه من رؤيتها تنهار بذلك الشكل الذي لم يراها به منذ تلاقيها لخبر وفاته.
دنت منه فريدة، وتشبثت بقميصه الأسود، تناجيه ببكاءٍ مؤلم:
_ عايزة إبني، أنا مش حاسة إني طبيعية من ساعة ما فارقني، أنا هفضل وحيدة حتى لو كنتوا كلكم جنبي، وحشني صوته وهو بيقرأ القرآن، عايزة أنام على رجليه وإسمعه وهو بيقرأ زي ما كان بيعمل، عايزة أخده في حضني حتى لو مرة واحدة.
قالتها ومالت على يديها المتمسكة بقميصه، فحاوطها يضمها ودموعه تنهمر حزنًا عليها، فتعالى صوتها بالبكاء:
_أنا آسفة إني قولتلك كده، أنا تعبانه أوي يا أحمد.
شدد عليها بكل ما فيه، بينما يضمها وهو يردد بصوت باكي:
_بسم الله على قلبك حتى يُشفى، وعلى روحك حتى تستريح، بسم الله من وجعًا لست أملك الصبر في تحمله، فديت قلبك ووجعك بنفسي وبروحي!
قالها ومال عليها يشاركها البكاء، ولكنه لم يصدر عنه أي صوتًا، بينما تصرخ هي بصوتها الذي قضى عليه تدريجيًا، حتى استكانت خاضعة بين ذراعيه، فسحبها ومال بها للوسادة، يتركها تستغرق في نومها، بينما عينيه تتعلق بالفراغ، ويده تضمها بكل عشق!
******
تقلب على الفراش بانزعاجٍ، هل من المفترض أن يعتاد على هذا الصياح الصباحي المزعج، الا يكفيه قرص تلك الحشرات الغريبة ليلًا.
ازاح “عُمران” الغطاء عنه ونهض يجذب قميصه، يرتديه على عجالةٍ، وخرج يستمع لنفس الاسطوانة المملة، بينما يربع يديه ويميل على الحائط.
رفعت اصبعها تشير إليه وتحذره بغضب:
_صوتك ميترفعش عليا يا بلطجي أنت والا والله العظيم أقلع اللي في رجليا وأنسله على دماغك.
توسعت مُقلتيه البنيتان في صدمة حقيقة، بينما يعيد قول ما تفوهت به وقد تزاحم غضبه وإلتحم بعرقه الرجولي:
_تعملي أيه؟ اظبطي كلامك معايا والا وربي ما هعمل حساب للجيرة ولا لاهلك، هو كل من مسك شهادة شاف نفسه ولا أيه، لا فوقي كده يا نغة وإفتكري إنك واقفة قدام الاسطا موسى عُربان على سن ورمح.
واستطرد وهو يحيطها بنظرة تقلل منها:
_مبقاش غير النسوان اللي هتقف وتبجح فينا، لا خدي تمامك وإركني بدل ما أهب في وشك.
ضمت شفتيها معًا بغضب، وأبعدت وشحها الطويل للخلف، بينما تجيبه:
_هو إنت شايف نفسك على أيه؟ ده أنت حتى دروس بنتك مش عارف تذكرهالها، ولولا إني بقعد معاها ساعتين كل يوم مكنتش نجحت بسبب اهمالك، ولا إنت معندكش وقت تذاكرلها من بلطجتك على الناس كل يوم والتاني.
أعاد خصلات شعره السوداء للخلف بغضب، وسحب نفسًا من سيجاره حتى أزهقه، ألقاه أرضًا ودعسه بقوةٍ أرعبتها، بينما يكز على أسنانه وهو يتمنى أن تكون هي محلها، ثم هدر ببسمة باردة:
_بقولك أيه يا أبلة صباح، مش جبتي الناهية وقولتي إني بلطجي، خلاص مالك بقى ببنتي شاغلة بالك بيها ليه؟ هي يعني لو اتخرجت هتأخد البكالوريا! دي هيالله في تانية ابتدائي!
جحظت عينيها في صدمة وصرخت بوجهه بشكلٍ ردعه للخلف بتوتر:
_وكمان مش عارف بنتك في أي سنة، بنتك يا اسطا موسى عُربان في تالتة ابتدائي، بس هقول أيه هتلاقيك مبرشم زيك زي أشكال الحي الآآ…
وضع أصابعه الخامسة على بعد من وجهها مثلما اعتاد أن يصمتها، وكعادتها تخفي بسمتها لحركته الذي يخصها هي بها، ولكنه مع أي شخصًا أخر يكورها بوجهه وهو يخرسه بكل جراءة، تنهد وصاح من بين اصطكاك أسنانه:
_خديلك راجع عني يا أبله بدل ما أقل منك ومن شهادتك، وخدي بالك موسى عُربان مقالش بقيمة واحدة ست قبل كده، يعني هتخشي التاريخ من أوسع ابوابه خدي بالك.
تراجعت خطوتين للخلف وهي تشير له باستخفاف:
_على أخر الزمن هدخل التاريخ على إيد ميكانيكي!!
بالرغم من أن الجملة أوجعته، الا أنه ضحك قائلًا:
_ألاه طيب وماله الميكانيكي، بيأكل برجله ولا لسانه ناقص حتة يا أبله!
وتابع يحذرها:
_خدي بالك انا عملك احترام عشان خاطر قمر بنتي بس.
زوت حاجبيها في دهشة:
_كل ده وعاملي احترام، ده إنت بتكلمني زي العربجي! ولسه من شوية كنت بتهددني!
ضيق عينيه الساحرة وقال ببراءة أضحكتها:
_ألاه! مش بقولك اللي هيحصل لو كترتي في الكلام!!
وتابع وهو يشير بسخط:
_ما أنا مش كل يوم والتاني هتمسخر قدام الصبيان بتوعي بسببك مرة وانتي رايحة المدرسة ومرة وانتي راجعه، أبله هو انتِ مبتزهقيش!!
ربعت يديها ومالت بفستانها الازرق جانبًا معللة سبب استيائها:
_مهو انا كل ما أشوفك سايب قمر بتلعب في الشارع ومش بتذاكر بتنرفزني، وباجي أجر شكلك.
زفر وهو يخبرها:
_يعني أسيبها فين بس، مهي بتلعب قدام عنيا لحد ما ترجعي من السنتر بتاعك، بتطلع معاكِ على طول، وشوية مع الخواجة وأهي ماشية، معرفش بعد ما تروحي بيت عدلك هتعمل أيه دي متعلقة بيكِ أوي يا أبلة صباح.
استفزها حديثه، والقاتل انه يتحدث بجدية تامة، ذلك الاخرق الذي لم يسمع يومًا لهمس قلبها، لا يراها الا معلمة ابنته، واحدى سكان منزله.
منحته نظرة شرسة وقالت بغضب:
_هتفضل طول عمرك غبي ومبتفهمش.
قالتها وهبطت للاسفل، بينما يتابعها بضيق وغيظ من اسلوبها، فانتظر حتى هبطت الدرج وصاح بأثرها:
_وانتي مغرورة وعرقك طاير فوق، بصي تحت شوية لتقعي على قفاكي، نسوان تجيب الفقر، الحمد لله إني خلعت من مُكنة النكد دي، أنا عرقي حامي ومعنديش مرارة انا!
سحب جاكيته الموضوع على المشجب الذي صنعه خصيصًا لجاكيته، يرتديه وهو يهدر بانزعاج:
_دي كل ما تشوف سحنتي تنزل عليا بالمواعظ والدبش، دي طليقتي معملتهاش!!
_غلطانه مس صباح، المفروض تنزل على دماغ أمك بالشماعة اللي شايفلي نفسك بيها دي!
قالها عُمران وهو يطالعه بسخطٍ، جانت منه نظرة تجاهه وقال مبتسمًا:
_خواجه إنت قومت!!
فرك جبينه بتعبٍ، بينما يتجه إليه موسى يشكو له:
_صدقتني لما قولتلك إنها نفورة ازعاج.
منحه نظرة ساخطة ثم هدر فيه:
_وآنت كتلة غباء يا آآ… يا أسطا.
وتركه وعاد لغرفته فلحق به الاخير بضيقٍ:
_انا غبي!! بقى دي أخرتها تطلع صاحبك غبي!!
جلس على الفراش يمرر يده على رأسه الذي بدأت تنمو فيها خصلاته البنية:
_هي دي معاملة تعامل بيها واحدة ست بذمتك؟؟؟ إنت متأكد إنك كنت متجوز قبل كده؟
أجابه ببلاهة مضحكة:
_ألاه!!! ، أمال يعني كنت كاسب البت قمر في كيس شبسي!!
وأضاف بنزق:
_بص اتجوزت وكان ليا في كام سكة شمال قبل ما ربنا يتوب عليا بس عينة الابلة صباح دي موردش عليا قبل كده.
وصاح بفتور وهو يسحب جاكيته:
_ربنا يكون في عين البغل اللي هيشيلها من الحي،ولا تلاقيها عايزة تعيش مع هوانم جردن سيتي بنت محروس!
واتجه للخارج وهو يصيح بانفعال:
_دي مُولفة مع وبور غاز، بتهب في وش أي حد يكلمها، ده الواحد بيترعب يقولها صباح الخير، يلا هنزل الورشة ولما قمر تيجي من المدرسة هاتها في ايدك وإنت نازل ومتنساش براد الشاي سلام.
زم عمران شفتيه وتمتم بسخرية:
_سلام يا بغل!
وتمدد ساحبًا الغطاء، وهو يردد بارهاق:
_المعتوه ده محتاج مني تربية وإعادة تأهيل في فن التعامل مع أنثى! لا ده محتاج معجزة!
عاد صوت قرع بالاسفل يخترق مسمعه، وصوتًا شعبي يتردد لبيع الاسطوانات الغازية، فابعد الغطاء ونهض يتمتم بسخطٍ:
_مفهاش نوم تاني كده.
نهض يتجه للحقيبة المتكدسة بالملابس الذي اشتراها برفقة صابر وموسى، انتقى منها بنطال جينز من اللون الرمادي، وتيشرت رمادي، بينما يلتف بحزام جلدي أسود وقميص أسود مفتوح من فوق التيشرت، حتى الحذاء والساعة كانت سوداء، أتقن في مظهره بشكلٍ جذاب وملفت كعادته، مازال طاووسًا لا يتنازل عن اكتمال طلته!
اتجه عُمران للمطبخ حيث وجد موسى يضع قدح الشاي على نيران هادئة، رفع مستواها ليتمكن من سكبها بالبراد ليهبط لمحل عمل موسى، كما اعتاد بفترته الاخيرة، فاذا به يرى صباح تقتحم السطح مجددًا وهي تتساءل بغضب:
_هو فيــن؟
أجابها باستغراب:
_نزل من شوية، في حاجة ولا أيه؟
قالت بعزمٍ قاطع:
_هأخد منه مفتاح عربيتب اشوف حد غيره يصلحها، ده إنسان فاشل مبيعرفش يعمل حاجة غير يطول لسانه، وفي الاخر يتهمني أنا اللي لساني طويل، انسان مستفز، كل ما يشوفني يدعيلي أغور من هنا عشان يروق، تقولش قاعدة على قلبه!!
راقبها عُمران بهدوء وابتسامة خبيثة، جعلتها تنقطع عن حديثها وتسأله بدهشة:
_أيه؟
استدار عنها وهو يهتف بجمود:
_ولا حاجه تقدري تنزليله تحت وتقوليله اللي قولتيه ده.
ارتبكت من غموضه، عينيه تخبئ شيئًا ما، جموده وثقل ردوده دفعها للبقاء، حمل البراد والمياه وأتجه ليهبط فوجدها مازالت تقف محلها، تفكر فيما ستخلقه من حديثًا، حتى تسحبه لمعرفة سبب نظرته الغريبة، فقالت بتلعثم:
_على فكرة مذكرتك لقمر باينة جدًا، ما شاء الله اتحسنت كتير، انت شكلك تعليم عالي على فكرة.
حدجها بنظرة كالميكروسكوب، وردد بثبات:
_بتحبيه؟
برقت في صدمةٍ، لم تكن تتخيل أن يكون جريئًا لتلك الدرجة، كانت تظن أنه سيلمح أو ربما لم يعلم بأمرها الخفي عن الجميع حتى عن صاحب الشأن!
لعقت شفتيها بارتباكٍ:
_انت بتقول أيه؟!! أنا أحب المتخلف ده؟
رد عليها بعتابٍ لطيف:
_على فكرة ألفاظك إنتي وهو هتتحاسبوا عليها، وياريت متجادليش معايا لأنك مكشوفة ليا من أول خناقة ليكي معاه تحت في الورشة.
لم يكن بالهين أبدًا، وهي تعلم ذلك، تركته واتجهت للطاولة الخشبية الصغيرة الموضوعة بمنتصف السطح، جلست وتركت العنان لدموعها تنهمر.
ترك عمران الاكياس التي يحملها، وأتجه يجذب مقعدًا على بعد مسافة معقولة منها، ينتظر أن تتحدث عما بداخلها، يفطن انها ستخرج ما دفن داخلها، وإذا بها تقول:
_بحبه من وأنا عيلة بضفاير، بس هو لما فكر يتجوز راح نقى من برة الحي، عاش حياته عادي وأنا حياتي وقفت.
وأضافت وهي تحاول ازاحة دموعها التي تزحزحت عن لجام قسوتها:
_رفضت كل اللي اتقدمولي، لاني مش قادره أشوف غيره، بس هو عمره ما شافني أصلًا، حتى بعد ما طلق مراته!
وأضافت ببسمةٍ ساخرة:
_زي ما أنت شايف معاملته ليا كده!
سحب عُمران منديلًا ورقيًا من جيب بنطاله، قدمه لها فالتقطته بامتنانٍ، مسحت وجهها بينما يخفض هو عينيه أرضًا، ينتظر أن تهدأ قليلًا، ثم قال:
_أنا فاهمك جدًا، ومقدر اخلاصك لحبك، بس لو دورنا مع بعض هنلاقي إن في نسبة من الغلط واقع عليكي بردو.
توقفت عما تفعل، ورددت باستنكارٍ:
_عليا أنا!! ليه عملت أيه؟؟
رد عليها بنبرته الهادئة الرتيبة:
_اولًا خلينا متفقين أن موسى مغلطتش في البداية، زي أي شاب عجبته واحدة وراح اتجوزها، اكيد ماخدش باله من حبك ده أبدًا، وخصوصًا أنك دايمًا بتتناقري معاه، يعني موصلاله إنك بتكرهيه لأبعد حد!
واضاف بعقلانية:
_على حسب كلامك انك فضلتي تحبيه وانتظرتي بعد انفصاله عشان بحس بحبك، بس اللي انا شايفه إنك معملتيش أي حاجة عشان تلفتي إنتباهه ليكي حتى.
صاحت بعصبية بالغة كادت بحطام الطاولة بينهما:
_نعم!! اعمل ايه يعني عشان الفت انتباه سيادته، أروحله اقوله بحبك يا طور مثلًا.
ضحك رغمًا عنه وقال:
_لا هو بغل مش طور.
ابتسمت هي الآخرى على حديثه، بينما استمد هو نفسًا طويلًا وأوضح مقصده:
_مقصدتش ده أبدًا، أنا مدرك المكان اللي إحنا فيه، قصدي إنك محاولتيش تحسني علاقتك بيه بعد انفصاله، دي لوحدها كانت لافتة انتباه، لكن مش على طول خناق ده الراجل بيخاف يقابلك صدفة على السلم يا صباح!!
وتابع وهو يراها تمتقع حرجًا لصحة حديثه:
_أخرها النهاردة مثلًا، نازلة فيه بدون ما حتى تأخدي فواصل، فبالله عليكي هيحس بحبك ازاي!!!
ضحك وهو يخبرها:
_عارفة موسى لو عرف إنك بتحبيه هيأخد صدمة هتجيب اجله، هو مستحيل يلمس حبك ده نهائي، هيحس إن في حاجة غلط، فحاولي تهدي شوية.
عادت تجفف دموعها، وتهدر في نزقٍ:
_والله لو عملت أيه، عمره ما هيحس ده طور قولتلك!
ابتسم في راحةٍ لتحقق هدفه باجتيازٍ، فسحب نظراته الغامضة تجاه الدرج، ثم قال لها:
_ثواني يا صباح، راجعلك حالًا.
حركت رأسها باشارة له، وبقيت بمحلها ترتب حجابها وتزيح دموعها، بينما يتسلل عُمران ليقبض على ذلك المتصنم محله كأنه تلقى عاصفة عصفت به بشكلٍ مذري.
كبت ضحكاته على مظهره، فكان العرق يتصبب على جبينه كالبحر المرتطم، بينما ترتعش يديه، سحبه عُمران للطرقة المنجرفة داخل الدرج، وهمس إليه:
_ها يا بغل، أيه رأيك؟
تطلع له ومازال يرتجف من هول ما استمع إليه:
_آآ… أنا…. هو…. الأبلة بتتكلم عن مين؟ … هي… بتحبني أنا!!!!…. لا.. لا.. مش معقول!
وتابع وهو يحك جبينه:
_أنا كنت… ناسي السجاير والولاعة… يا رتني ما طلعت!
زم شفتيه ساخطًا:
_مالك نخيت كده يا اسطى، مش عاملي فيها بسبع ألسنة، الوقتي قلبت فرخة بلدي!!!!!
أجابه وهو يزيح عرقه بارتباكٍ:
_ما أنا قولتلك ماليش في الصنف ده، توبت منه يا خواجة!
لكزه عُمران بغضب قد وصل به لطريق مسدود:
_هو أنا عازمك على سيجارة حشيش، ما تفوق وتظبط معايا كده بروح أمك على الصبح!
وأضاف وهو يحاول أن يتمسك بالصبر قدر المستطاع:
_دي فرصتك الوحيدة، آدخل واتكلم معاها ومتحاولش تكابر إنت بتحبها انت كمان بس عشان غبي مش عارف ولا فاهم مشاعرك لانك زي ما اعترفت مالكش في أي حاجة خالص.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة بالغة، وراح يتمتم بحيرة:
_لا… لا… أدخلها أيه؟! مش هعرف أواجهها.
احتقنت رماديتاه بنفاذ الصبر الخطير للقضاء على هذا الآرعن، فمنحه نظرة مهينة بينما يهتف:
_أمال بتعرف تعمل ايه يا سطا غير نصب العركة كل يوم والتاني تحت! قولي مهاراتك أيه؟
لعق شفتيه بتردد:
_طيب هقولها أيه؟؟؟؟
رمقه عُمران بدهشةٍ، ثم ضم مقدمة أنفه وهو يخفي ضحكته:
_حاسس إني هيجرالي حاجة والله، مالك يا حبيبي؟؟ ليه محسسني إنك فقدت كل شيء فجأة كده؟ إنت اتعديت مني وفقدت الذاكرة إنت كمان ولا أيه؟؟؟؟
وفجأة تلاشت عنه ضحكته ودفعه بعنف حتى سقط أمام باب السطح، بينما يهدر فيه بنبرة متوعدة:
_استرجل كده وادخل بصدرك، وحاول تربط لسانك البيئة ده، نقي كلامك وأوزنه قبل ما تتكلم، وإنجر عشان أنا اتخنقت وجبت أخري منكم!
قالها وعمل الأكياس وهبط للاسفل، بينما نهض موسى ينفض ثيابه، ويستعيد خشونته الهادرة بصعوبة، فولج للداخل وهو يهسهس بحرج:
_الخواجة دبسني وخلع!!
*****
كان بطريقه للاسفل، حتى تفاجئ بصابر يفتح باب شقته ويهرول إليه:
_خواجــــــه.
توقف محله يتنهد بضجر:
_نعم، انتوا واخديني بالدور إنت وصاحبك.
تغاضى عن حديثه وقال بضيق:
_بقالك أسبوع بتتجاهلني وزعلان مني، وموسى الصبح في صلاة الفجر يقولي لما تعمل الصح هكلمك، هو أنا كل ده ومعملتش الصح!!! ما انا طلقتها خلاص أعملكم أيه تاني يعني أروح أولع فيها؟
استدار إليه يطالعه في مللٍ، ثم ناوله الاكياس التي يحملها قائلًا بعنجهيةٍ:
_نزل الحاجة دي ورشة موسى وتعالى نكمل كلامنا يا عسول.
رفرف باهدابه باسترابة، بينما يتجه عُمران لشقته قائلًا بسخرية:
_هستناك في شقة العقارب، وخد بالك مبستناش حد أنا!
حمل صابر ما بيده وهرول للاسفل، بينما يمضي عُمران حتى أقرب مقعد، وجلس يضع قدمًا فوق الاخرى، هامسًا:
_حلال العقد، شكلها بقت شغلتني الجديدة!
*****”
كانت بانتظاره، حتى سُحب المقعد، وجلس أمامها أخر شخصًا توقعت رؤيته، رفرفت بأهدابها بصدمة، ولكن سرعان ما اخفتها وتصنعت الثبات أمامه:
_هو انت مش كنت تحت؟
وبارتباكٍ من أن يكون سمع حديثها تساءلت:
_إنت هنا من أمته؟؟
تمعن بها بحرجٍ، ثم تنحنح:
_يعني مش من كتير.
طريقته كانت غامضة للغاية، مما جعلها تنبشه لتعلم ما به:
_طيب حيث كده كنت طالعه أقولك هات مفتاح عربيتي أنا هشوف حد تاني غيرك يصلحها، أنت آآ..
قاطعها متلهفًا وبأسلوب تشهده منه لاول مرة:
_يمين بالله محد حاطك ايده فيها غيري يا أبلة، هخلصهالك هوى والله، أنا عنيا ليكِ.
رمشت بعدم استيعاب، وتيقنت مئة بالمئة بأنه سمع حديثها، فامتقع وجهها بحمرة شديدة، وإذا بها تهرول هاربة:
_طيب أنا هنزل عشان ورايا حصة بالسنتر.
قالتها وكادت بالهبوط، فلحق بها يوقفها:
_تتجوزيني يا أبله؟
توقفت محلها ويدها تحتجر الدرابزين بعدم تصديق، ظنته سيواجهها بما سمع ليحطم غرورها مثلما اعتاد، ولكن ما قاله أخر ما توقعته.
وقف موسى على بعد محسوب منها، واحترم عدم رغبتها بالاستدارة اليه، فوقف خلفها وقال:
_أنا متخيلتش ولا حلمت إني أكون في قلبك إنتِ، أنا طول عمري شايفك حاجة كبيرة أوي يا أبلة، ولحد الآن مستخسرك فيا، مهما كان إنتِ ما شاء الله حلوة ومتعلمة، يعني تستاهلي واحد أحسن مني، ده أنا حتى معيش شهادة ابتدائية!
في تلك اللحظة استدارت إليه تطلع له بعينيها الغائرة بالدموع:
_عمر ده ما يعيبك أبدًا يا موسى، إنت أرجل راجل في الحي كله، كفايا أنك بتأكلها بالحلال وعمرك ما مديت ايدك للحرام، وحنية قلبك على قمر مش بتتشرى لا بشهادة ولا بالملايين.
جحظت عينيه في ذهول تام، وردد رغمًا عنه:
_معقول انتِ الابلة ام لسان شبه الوبور!!
كبتت ضحكتها وقالت تهدده:
_هتلم نفسك ولا ألسن جزمتي عليك؟
ضحك وقال بحب:
_لا وعلى أيه خلينا في دور روميو وجوليت ده رايق وروش كده، المهم مجاوبتنيش أنزل أكلم الحاجة؟؟
لفت وجهها للدرج تفرك أصابعها بخجل:
_لما تصلح العربية الاول، أعتبرها مهري يا أسطى.
قالتها وهرولت للاسفل، فمسح على خصلات شعره الفحمي وهو يردد في سعادة:
_وماله نصلح عربية المرحوم لأجل ما نول المراد!!!
****
طال الحديث بينهما عن تفاصيل حالة عُمران، وأتمها بقوله المستفيض،مستندًا بذراعيه على الطاولة،حيثما يجلس علي وآدهم قبالته:
_في حالات فقدان الذاكرة الجزئي (Retrograde Amnesia):
الشخص يفقد ذكريات الماضي قبل الحادث لكن يحتفظ بالمهارات التلقائية أو العادات الراسخة بمعنى إنه مكن يصلي بطريقة تلقائية لو الصلاة كانت جزء من روتينه، وممكن يلبس بنفس الأسلوب أو يختار ألوان معينة بدون ما يعرف ليه
ياكل بطريقة معينة، يفضل أكل معين يشرب بطريقة معينة، من غير ما يتذكر السبب أو الذكرى نفيها ودي اسمها “الذاكرة الإجرائية” (Procedural Memory) وهي نوع من الذاكرة بيخزن العادات والحركات التلقائية، وبتكون موجودة غالبًا، حتى لو الذاكرة الشخصية اتأثرت، ومبقاش فاكر هو مين أو فاكر حاجة عن حياته.
ممكن الشخص يفتكر العادات والسلوكيات التلقائية حتى لو نسي الأشخاص أو الأحداث أو اسمه دي من الحاجات العجيبة في المخ البشري وبتظهر قد أيه السلوك الإنساني أعمق من مجرد “الذكريات اللفظية”، شخص إتربى طول عمره بيصلي الفجر قبل الشغل ممكن تلاقيه بعد فقدان الذاكرة:
يصحى من نفسه بدري، يقوم يتوضى ويصلي بشكل آلي
بس لما تسأله “أنت بتعمل إيه؟” هيقولك: مش عارف بس حاسس ده اللي المفروض أعمله
ممكن يفتكر “كلام سمعه” قبل فقدان الذاكر بس تحت شروط معينة:
لو الكلام كان متكرر جدا أو مرتبط بمشاعر قوية (زي جملة حد بيقولها له دايما أو موقف مؤلم)
لو كان الكلام اتحفر في الذاكرة طويلة المدى قبل الإصابة فالمخ ممكن يخزنه بشكل دائم، جملة مثلًا كان بيسمعها من شخص عزيز قالها له كتير
كلمات أغنية كان بيحبها، وبيسمعها كتير
الذاكرة السمعية التلقائية (زي الأغاني أو الجمل المحفوظة) بتتخزن في مناطق مختلفة عن الذاكرة الشخصية وعشان كده ممكن تفضل موجودة حتى لو نسي الناس أو الأحداث!
هز آدهم رأسه بخفة، بينما تساءل علي بفضول:
_طيب إزاي أقدر اواجهه بالعلاقة اللي بينا، وأخليه جاهز يقابل عيلته وأصدقائه؟
ترك الطبيب كوب قهوته وقال يجيب:
_مش فرض حدوث أمر متكرر مع تصرفات كل مريض فقد الذاكرة، الموضوع بيختلف من شخص للتاني، بس اللي أقدر أقولهولك إن ده بيتوقف على حسب قدرته، ونخلي مقابلته بالدكتور علي اختبار قصير، ظهورك ليه هو بوابة للي جاي، لو تقبل وجودك هيقدر يتقبل علاقته بالعيلة والاصدقاء.
كسر آدهم صمته حينما قال:
_يعني مقابلة علي ليه هي اللي هتحدد كل حاجه؟
أشار له بايجاب:
_بالظبط.. بس زي ما حذرتكم في بداية كلامنا إن الموضوع ممكن يكون له مضاعفات، عشان كده بفضل إنه يشوفه من بعيد، وردة فعله هي اللي هتبين الطريق قدامك يا دكتور علي، لو متأثرش بيك يبقى الافضل إنك تكون في حياته بشكل مؤقت، كصديق جديد بيتعرف عليه وبعدها هتصارحه بالحقيقة واحدة واحدة، لكن لو حس بشيء من نحيتك أو بنسبة قليلة ممكن يفتكرك او يشوف ليه مشاهد من ذكرياته بتجمعه بيك التلات حاجات دول نقاط ايجابية وبشارة إنه هيتقبلك وجاهز يستكشف كل شيء عن حياته.
توترت معالمه بشكلٍ مقبض، كل مرة تزداد حدة وصعوبة ما يجتازه، ولكنه جاهز لفعل أي شيء من أجل أخيه.
شكر آدهم الطبيب ونهض يلحق بعلي في السيارة التي تحركت للعودة، بينما يميل علي شاردًا بلقاء أخيه، وبأي طريق سيسلكه معه، طريق الصديق الذي وقع بطريقه صدفه أو طريق الأخ الذي عاد يطالبه بالعودة برفقته، لتعود الحياة إليه وإلى كل من أفتقدوه!
******
زفر “عُمران” بنفورٍ من تكرار “صابر لنفس الحديث مجددًا:
_صابر أنت لسه هتحاكي في نفس الحوار، فين الجديد عشان خلقي ضاق من أمك!
سحب كوب العصير من أمامه، تجرعه مرة واحدة، وقال يصارحه:
_تلخيص الرغي ده إني مش قادر أقربلها، قلبي موجوع من خيانتها ليا ومش قادر حتى أبص في خلقتها.
انفعل عليه الاخر وصاح:
_خيانة أيه اللي بتتكلم عنها، دي كانت مراته على سنة الله ورسوله!! بقولك أيه أنا دماغي فيها كلاب سعرانه بتتعارك جوه، أوزن كلامك لأطلقهم عليك وأخلص!
قالها وصفن قليلًا، في تلك الكلمة التي شعر وكأنه رددها أكثر من مرة، حتى أنه لم يستمع لرد صابر عليه، فناداه بقلق:
_خواجه، روحت فين؟
أبصر برماديتاه وقال بثبات:
_معاك.
رواض ما بداخله وقال يسأله:
_قولي يا صابر، هي كانت تعرف أن أخوك بيشرب قبل ما تتجوزه.
لوى شفتيه بتهكمٍ وغيظ من تذكره لما مر:
_لا مكنتش تعرف ولا حد كان يعرف أصلًا، لانه كان لسه بادئ يتعاطى قبل ما يتجوزها بشهرين تلاته.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال برزانة:
_ده المتوقع، لأنها مستحيل كانت هترمي نفسها للهلاك بايدها، فده المفروض يشفعلها عندك، كمان في نقطة لازم حضرتك تتقبلها، مفيش حد بيملك سلطان على قلبه، هي قلبها مال لأخوك، وكانت فاكرة إن اختيارها صح، بعد كده اتصدمت من اختيارها، وأكيد لامت نفسها وندمت على اختيارها ليه ورفضها ليك، إنت زودت فوق عذابها عذاب يا صابر، ومكنتش عادل معاها، ظلمتها زي ما أخوك ظلمها.
غامت سحابة الحزن والقهر على ملامحه، وبدى يحارب شيئًا ما داخله، ليتمكن من قوله:
_كل ده كنت بفكر فيه الايام اللي فاتت، بس انت مش فاهمني مفيش راجل هيقبل على نفسه آ…
قاطع حديثه عن الاندراج لتلك الجزئية:
_الخلاصة عندي في سؤال واحد، ردك عليه هينهي النقاش ده.
نصب كل تركيزه عليه، فسأله عُمران:
_لو كانت قبلت بيك واتجوزتك انت من الاول، ولقدر الله حصلها حادثة واتشوهت، أو تعبت بمرض خطير، كنت هتتخلى عنها؟
اجابه بلهفة وبدون أي تردد:
_مستحيل أتخلى عنها.
رد عليه بنفس الهدوء:
_خلاص اعتبر إنها تعبانه أو فيها شيء مشوه، بالرغم من ان جوازها شيء طبيعي ومش مستاهل كل ده بس تخيل انها كده وخلاص.
وأستطرد بوجومٍ:
_الحب كفيل يجملك كل العيوب اللي في شريكك يا صابر، فإزاي مش قادر تتخطى شيء بسيط خارج عن ارداتها.
وانتصب بعوده عن المقعد، ثم استدار يخبره بضيق من عجزه:
_تخيل انت بتحارب نفسك من أد أيه، وبينك وبين اللي بتحبها طرقة بين الشقتين، صدقني لو نجحت تشيل الغشاوة السودة دي عن عينك وقلبك فالحب اللي بينكم كفيل يغير شقة العقارب دي لقصر.
قالها وغادر على الفور، ليتركه محله يفكر في حديثه، حتى نهض بكل عزم، وإتجه لشقة والدته، طرق بابها فاذا بزوجته الاولى تفتح الباب باسدال صلاتها، وما أن رأته حتى تساءلت بتردد:
_خير يا صابر، عايز حاجه؟
تعمق بالنظر إليها، تلك الزهرة التي ذُبلت أطرافها هنا في هذا المنزل، على يد أخيه والآن على يديه، ومع اصرار والدته طوال تلك الايام الماضية لتعلم لماذا طلق زوجته لم يرى منها أي اهتمام بما فعله، لا سعادة ولا حزن، وكأن أمره بات لا يعنيها!!!
أفاق من شروده على صوتها الهامس:
_إنت تعبان ولا أيه؟؟
سحب كفها فجأة وهو يهتف:
_تعالي معايا.
توقفت “نعمة” محلها في محاولة لنزع يدها منه:
_على فين؟؟ استنى!!
لم يجيبها بشيء، بل دفعها برفق داخل شقته، ثم أغلق بابها، راقبته نعمة بقلقٍ، وقد اندث فيها الخوف، تخشى أن تكون إرتكبت شيء ما يجعله يعاقبها وهو بتلك الحالة.
دار صابر من حولها، ومازالت تقف في محلها برعبٍ، تنصت لما سيقوله، فاذا به يستقر أمامها ويفاجئها بسؤالٍ أدهشها:
_لسه بتحبيه؟
رفرفت باهدابها بعدم استيعاب:
_مين؟
هدر بانفعال وهو يحجز ذراعها بين قبضته:
_أنتِ عارفة انا بتكلم عن مين يا نعمة، لسه بتحبيه ولا لا؟؟؟؟
ارتجفت قبالته بخوف، بالرغم من انه لم يرفع يومًا يده عليها ولكنها باتت تخشى أي صوتًا صاخب من حولها، فاذا بها تبكي وهي تردد بشحوب:
_متضربنيش يا صابر، ورحمة أبوك ما تكرهني فيك.
أصاب سهمًا قلبه دون أن يرف له جفنًا، بينما تتابع رميه حيًا:
_قولي إنت عايز أيه وأنا هعمولهولك، عايز تتجوز تاني اتجوز، أنا مش عايزة حاجة غير أني اعيش مع عمتي، وعمري ما هطالبك بحاجة تانية والله العظيم.
دقق النظر فيها وقال مصعوقًا:
_اتجوز تاني!! هو إنتي مش ناوية تحنني قلبك وتحاولي تحبيني زي ما بحبك، إنت بتحبي اللي هانك وداس عليكي ومش مستعدة تدي فرصة للي بيحبك؟؟؟
طالعته بدهشة ولم تعد تعلم ماذا يريد بالتحديد؟ :
_أنا مبقتش أحبه من اول مرة رفع فيها ايده عليا، أنا بدعيله بالرحمة عشان خاطر عمتي وعشان خاطر اكرامك ليا، مفيش في قلبي ليه حاجة.
كالقتيل المتعلق بأي أمل، زرعت له البسمة في طريقه العابث، فاذا به يستند بجبينه على جبينها ويقول:
_ما أنا كمان عملت فيكي كتير يا نعمة.
طالعته بعينيها الدامعة وقال:
_عملتها عشان كنت مجروح مني ومن اللي عملته، وبالرغم من كده عمرك ما رفعت ايدك عليا ولا هنتني، أكرمتني وكنت شايف كل طلباتي من غير ما أطلب منك، ده كله وعايزني أكرهك.
سقطت دموعه في تلك اللحظة، وبحت نبرته:
_قصرت في أهم حاجة، حقوقك الشرعية!
ردت عليه بابتسامة مؤلمة:
_كده هبقى طماعة أوي، أنت احترمتني وده كفايا عليا.
لم يستطيع قول كلمة اخرى، بل ضمها إليه بقوة جعلتها تتمسك به بفرحةٍ، ازددت بنطق ما حُرمت منه منذ سنوات:
_أنا لسه بحبك يا نعمة… وعمري ما بطلت أحبك!!
قالها ودعمها إليه، يصطحبها لعالمه الذي حرمها منه، وكأن الله قد أوقع عُمران بطريقه ليزيح غمامته السوداء عن ظلم تلك الفتاة، فدخل بها لتكن زوجته الآن!
*******
تقلبت في الفراش بوجعٍ يقتحم بطنها المنتفخ، وما أن فتحت عينيها حتى تفاجئت بالمياه تحاوط الفراش من حولها.
جحظت عينيها في صدمة، وأبعدت الغطاء عنها، وهي تحاول أن تستكشف ما يحدث، وإذا بها تصرخ بصوتٍ صاخب:
_إلحقنــــــــي يا يـــــــوسف!
أتى مهرولًا من المطبخ بعدما كان يتناول الافطار استعدادًا للهبوط لعمله، فوجدها تصرخ بانهيار، رنى إليها يتساءل بقلق:
_ليلــــى مالك؟؟
أشارت على الفراش وهي تبكي بخوف:
_أنت لسه هتسأل، أنا شكلي بولد يا يوسف!!
وزع بصره نحوها ونحو الفراش، ثم ركض نحوها يهتف ببلاهة:
_أه دي باينها ولادة فعلًا.
منعت صرخة ألمها وقالت بسخط:
_فعلًا!!!! أنت بتهرج يا دكتور!!!!
حك جبهتها وهو يصارحها بما سيقضي به عليها:
_لا مش القصد، بس أنا مش هقدر أولدك يا حبيبتي، قلبي رهيف وهيتوجع عشانك، فأيه رأيك نشوف دكتور تاني أحسن؟
حاربت وجعها. وأنفاسها التي تختنق، في محاولة لكبح غيظها، فجذبت كوب المياه المجاور لها، قم قذفته تجاهه بعنفوان:
_بتتخلى عني في أول مطب يا يوسف، طيب طلقني بقى أنا يستحيل اكمل معاك أنا وبنتي.
تفادى الكوب بصعوبة، وراقبها بتمعنٍ:
_وماله يا قلب يوسف لينا محكمة تلمنا، المهم الوقتي استريحي كده عشان أكشف عليكي وأقيم الوضع.
أشارت له بتحذيرٍ:
_ايدك عني، أنا هشوف دكتور غيرك، فاكر نفسك دكتور مهم!!
قالتها ومالت على الفراش تجذب هاتفها، بينما يستغل هو انشغالها ويجذب حقيبته الخاصة، ارتدى الجلفز وبدأ يفحصها بدقةٍ، ثم همس دون ان تستمع له:
_لسه معانا ساعتين تلاتة، الصبر من عندك يارب.
اطمئن على وضعها واتجه يجلس على المقعد، يراقب ما تفعله، فاذا به تتحدث بالهاتف قائلة:
_الحقيني يا زينب، بولد ومش قادرة، ويوسف أبو قلب جاحد مش راضي يولدني، صحي سيف ينزل يوديني المركز ولا يشوفلي اي دكتورة!
رفرف باهدابه بصدمة من تلك التهمة التي تلقيها عليه، فنهض من محله يرسم فزعه الشديد:
_أيــــــــه بتولدي بجد يا لولا!!! ازاي متقوليش!!
عبثت بصدمة من تمثيله، وهو الذي كان يفحصها منذ قليل ويعلم كل العلم بأنها تلد بالفعل!! حملها يوسف ومال لسماعة الهاتف:
_خلي سيف يقابلني بسرعه يا زينب.
قالها واتجه بها للغرفة المخصصة لملابسها، عاونها على ارتداء الجلباب الاسود، بينما تتطلع له بصدمة انستها الألم، وهو ما أراده أن يشغلها كليًا عن الالم، بينما يقف أمام الخزانة خاصته يدندن وهو ينتقي ملابسه:
_اعتقد الطقم ده هيبقى حلو لاستقبال نوجة!
قالها وسحب بنطاله يرتديه ببرود، ثم منحها ابتسامة يخفي بها قلقه عليها، وانحنى يجذب لها الكيس البلاستيكي قائلًا:
_خدي يا حبيبتي كيس البقسماط بتاعك اتسلي بيه عما ألبس.
وتركها وخرج يختبئ ليبلغ المركز باعداد غرفة العمليات وهو يتمنى أن لا يلجئ للجراحه.
عاد اليها فوجدها مازالت تتطلع على الباب الذي خرج منه بصدمة، وفجأة لمح الشراسة تلتمع بمُقلتيها، وجذبت ما قابلها من المزهريات، تلقفها له بصراخ عنيف:
_يا بارد يا عديم المسؤولية، إنت دكتور انت، أنت جزار بلا قلب.
تفادى قدر المستطاع ما تلقيه، وتركها واتجه يفتح باب الشقة، فوجد سيف يخبره بهلع:
_انا جاهز فين ليلى؟
اشار على الداخل دون ان يتحدث، فولج سيف وزينب للداخل وما كادوا بالاقتراب من الخزانة حتى القت الشمعدان تجاههما، فتراجعوا ليوسف، وسأله سيف بصدمة:
_مالها ليلى؟
أجابه ببسمة واسعة:
_بتولد يا حبيبي، بس زي ما انت شايف عايزة تيتم البنت من قبل ما تيجي على وش الدنيا.
وأشار لهما مسترسلًا:
_يلا هدخل أحاول اقيدها واخرج بيها تكون دورت العربية.
وتمتم بخوف لمصيره القادم:
_استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
قالها واقتحم الخزانة حتى تمكن من حولها، وهرع بها للخارج ومازال تصرخ فيه ان يتركها، فمالت تجرح وجهه باصابعها، بينما تراقبها زينب بخوف وصدمة، وكأنها باتت كمصاصين الدماء.
اتبعتهما للمصعد وسيطرت على يديها بعيدًا عن وجه يوسف الذي قال بارهاق:
_نردهالك في ولادتك بإذن الله يا دكتورة، مش أنتِ كل ما تكشفي على طفل حلو تجري عليا ومصممة أديكي منشط، تحبي أكتبلك على جرعة؟؟
هزت زينب رأسها نافية ذلك بكل اقتناع، بينما يخفي يوسف قلقه الصريح على زوجته التي مالت على كتفه تبكي من شدة ألمها!
*****
أتى الليل بعد ساعات كانت أعوامًا بالنسبة إلى “علي”، وها هو الآن يقف قبالة منزل” موسى”، يواجه”آدهم”، “صابر” بعد كشفه عن هويته، ويضع له خطة بسيطة لظهور “علي” إلى” عُمران “.
بينما على بعد من المنزل، كان عُمران بطريق عودته من صلاة العشاء برفقة موسى الذي يخطو مبتسمًا وسعيدًا منذ الصباح، استدار عُمران للخلف باستغراب حينما لم يجده جواره، فوجده يمشي ببطءٍ شديد.
ابتسم وهو يهز رأسه بيأسٍ وانتظره حتى أتى إليه ثم قال:
_لما انت واقع أوي كده، معترفتلهاش من زمان ليه؟
اتسعت ابتسامته بهيامٍ ومشاعره تتراقص في مُقلتيه:
_مكنتش اعرف إني بحبها أصلًا، ولا كنت أجرأ أفكر فيها، الفرق بينا في التعليم كبير يا خواجة.
تابع المضي بنفس خطاه البطيء، وقال:
_وعشان متحسش بالنقص ده، اتعلم الكتابة والقراءة يا موسى، صدقني هتفرق معاك في شغلك وفي حياتك مع قمر.
شرد قليلًا في حديثه، ثم هتف بحماس:
_هعمل كده.
واضاف مبتسمًا والحيرة تنهشه:
_سبحان من جعلك سبب لتغير حياتي أن والواد صابر، لا وكنت بقول عليك قتيل، ده انا اللي كنت ميت يا عم!
رفع احدى حاجبيه بغضب، فضحك موسى وبرر:
_غلطة وخدت راجع عني متزعلش، بس بصراحه انت شقلبت كياني، بقيت بصلي معاك كل فرد في الجامع والله اكبر عليك صوتك في القرآن جميل اوي.
تنهد وهو يخفي حزنه، ومازحه:
_ما خلاص يا موسى، هتخليني اقع في حب نفسي أكتر من كده؟!
مضى بنظرة دقيقة فيه ثم ققال:
_ليك حق تنفش ريشك زي الطاووس!
غامت معالم عُمران، ومصدر الكلمة تتردد داخله دون توقف، مع دمج كلمة “وقح” مع “الطاووس” تجمعت الآن برأسه “الطاووس الوقح”!
أفاق على هزة يده، فانفض عنه ما تردد داخله، ثم قال بجدية تامة:
_بقولك ايه يا موسى، أنا كنت عايزك تشوف حمص عشان محتاج أستبدل المبلغ اللي معايا.
اندهش من سماع ما قال، وتساءل:
_ليه تاني؟!
رد عليه وعينيه تراقب المارة بلا هدف:
_حابب اساعد بيهم مس صباح، والدتها لازم تعمل العملية باقرب وقت، وانت على حسب كلامك ان معاها حوالى140ألف، هنشوف اللي معايا هيبقوا كام، يمكن يكملوا المبلغ اللي محتاجاه كله.
تطلع له بصمت، يفشل في فهمه، ذلك الغريب يمتلك قلبًا من ذهب، طال الصمت بموسى حتى صاح فيه عمران:
_ها يا موسى هنروحله دلوقتي ولا هتكلمه الاول؟!
تحرر صوته المكبوت أخيرًا:
_عايز تديها الفلوس طيب وإنت هتعمل أيه يا خواجة؟ وبعدين مش آنت قولتلي هنروح بكره نجيب التكيف اللي عايزه ده.
نزع قميصه وتبقى بالتيشرت حينما شعر بالحرارة تجتاحه:
_هنشتري مروحة صغيرة، المهم نلحقها قبل ما الحالة تتدهور أكتر من كده.
تحرر عن ملامحه المندهشة ابتسامة حب له:
_إنت راجل أصلي يا خواجة، روح يا شيخ ربنا يردلك أحبابك ويجمعك بيهم.
لمسته دعوته حتى قشعر جسده، ترى هل يمتلك أصدقاء في حياته مثل موسى؟ هل يمتلك أمًا وأبًا أو شقيق!!!!
منح عُمران المال لموسى ووكله بتلك المهمة، وعاد هو إلى المنزل ليستكين قليلًا، صعد إلى الأعلى، حتى وصل إلى السطح، فتفاجئ بصابر يجلس على الدرج، وكأنه كان بانتظاره.
فناداه حتى ينتبه له:
_صابر!
انتفض واقفًا، والحزن واللهفة تكتسح مُقلتيه، فاذا به يلمح شخصًا واقفًا خلفه، والذي لم يكن سوى آدهم، يتطلع له بنظرات غريبة هو الآخر، سحب بصره بصعوبة عن آدهم وسأل صابر:
_في أيه يا صابر؟ وأيه اللي مقعدك كده؟
بدى مرتبكًا للغاية، ولكنه أجابه بما أملاه عليه آدهم:
_مفيش دول ناس تبعي، كانوا في زيارة عندي وواحد فيهم جاتله مكالمة بس الشبكة نيلة تحت، بنستناه يخلص وهننزل على طول.
حرك رأسه بخفة، وتخطاه ليمرأ من أمام آدهم، ونظرتهما متعلقة ببعضهما البعض، حتى أبتعد عمران عنه، فابتسم ومسح دمعة من عينيه المفتقدة له، بل ودعى الله أن يلهم علي الصبر، فإن لم يحتمل هو لقائه، ماذا سيفعل؟!
يحث عمران عن قمر فوجدها تقف تراقب، ذلك الرجل الذي يوليه ظهره ويضع الهاتف على أذنيه، فناداها بحزمٍ لتبتعد عنه:
_قمر، تعالي هنا!
ركضت تضع كفها الصغير بكفه، فوقف يتطلع لمن يزال يوليه ظهره بفضولٍ لرؤية ملامحه، ولكن الآخر كان يتطلب مجهودًا عظيمًا ليستدير، والهاتف على أذنيه يضج بصوت آدهم المحمس:
_لف يا علي، خليه يشوفك.
تهاوت دموعه تباعًا، لن يأتي من قلبه أن يمر على أخيه مرور الكرام، لن يحتمل أن لا يتعرف عليه، نزع الهاتف عن أذنه، وضعه بجيب جاكيته، وأزاح دموعه ليستعد للقاء أخيه بكل شجاعةٍ، سحب أكبر قدر من الاكسجين، واستدار ببطءٍ شديد إليه!
لف عُمران بالفتاة في نية التوجه بها لغرفته، ولكنه توقف فجأة حينما بات “علي” مقابل وجهه، عاد بجسده الكامل في اتجاهه تاركًا يد الصغيرة، وعينيه لا تفارق عيني “علي” الذي يتابع كل صغيرة صادرة عنه.
اقترب منهما آدهم على مسافة قريبة منهما، يدرس انفعالات عمران خشية من أن يتعرض للمضاعفات، صمته يطول ولم يعلم عنه شيء بعد!
الصمت يطول به، وعينيه تدرس وجه “علي” بتركيزٍ، ومشاعر غريبة، وفجأة لفظ لسانه بما لا يعرفه:
_علـي!!
تحرر بكاء علي الصامت وتحرر بصوتٍ أبكى آدهم وصابر، حتى عُمران سقطت دموعه تلقائيًا، فترك محله ورنا إليه، يجتاحه وجعًا طفيفًا حاوط رأسه، بينما تدمع عينيه بدون إرادة منه، تساقطت دموع عمران وقلبه يخفق كالرعد داخله، كأنه يود أن يقسم صدره ويركض إلى ذلك الشخص، ثمة شيئًا غريبًا يينهما، والأهم كيف علم إسمه؟ وهل بالفعل هذا هو إسمه؟
وقف على مسافة قريبة منه، دموعها الشيء المشترك بينهما، يدرس كل ملامحه في محاولة مستميتة لتذكر أي شيء يخصه، بينما ينتظر علي خطوته الثانية بفارغ الصبر، ليحدد بها هل عادت ذاكرته أم أن نطق اسمه كان أمرًا معتادًا كما أخبره الطبيب؟!
فاذا به يشق الصمت المطول مجددًا:
_هو أنا أعرفك؟
انحنى وجه علي يغسل بدموعه عينيه، ولكنها بالنهاية مؤشر ممتاز، قبض قبضة يده بقوة هائلة، عليه أن يجتاز تلك الحرب، فالمكسب فيها عودة أخيه، وحينها سيتمكن هو من العيش في سلامٍ.
لفظ ما بداخله، ورفع رأسه يواجهه مجددًا، وتلك المرة قطع هو المسافة بينهما، حتى وقف قبالة عمران، يمنحه ابتسامة رغم نزيف عينيه من كثرة البكاء، ثم بصوتٍ مبحوح قال:
_تعرفني أكتر من نفسك، لسانك نطق إسمي رغم إنك مش فاكر حد، ده لإني كنت اقرب حد ليك ، زي ما أنت أقربلي من روحي.
صوته سحبه داخل هالة من الأمان، زلزل كيانه لدرجة جعلته يود أن يختبئ فيه، بينما يتابع علي:
_أنا أخوك بالنسبة للدنيا كلها، بس كنت بالنسبالك الأب والاخ والصديق يا عُمران!
تعمد لفظ إسمه ليوقظ بداخله ما فقده، فانهمرت دموعه وهو يردد بهمسٍ:
_عُمران!!
لم يترك له “علي” وقتًا للاندراج خلف ما قد ينتج عنه المضاعفات، بل دنى إليه يسحبه داخل أحضانه، عساه يشعر بالألفة.
أصابه في مقتلٍ، بما فعله، سحب كل السلييات عنه في ذلك العناق، وبالرغم من أنه لا يندمج سريعًا في عناق الاشخاص الغريبة، الا أنه لف يديه حول علي في سرعةٍ ومشاعر مشتاقة، تعجب منها عُمران، وهنا ترك بكى علي ومال عليه،فدعمه جسد عُمران بقوة تليق بجسده المفتول، بينما يهمس له ببكاءٍ:
_مش مصدق إنك واقف قدامي ولمسك بايديا، أنا روحي اتردتلي من تاني، صدقني مبقاش فارق معايا حاجة بعد ما لاقيتك.
وابعده وهو يضم وجهه بيديه، بينما يتطلع له بغرابة:
_جالك قلب تعمل فيا كده يا عُمران؟ جالك قلب!!
تدفقت دموعه وهو يتطلع إليه، لسانه ثقيل عن النطق، لا يجيد التعبير له عن تلك السعادة والراحة الغريبة التي أدمغته بمجرد رؤيته، والآن تتضاعف بضمته، يود ان يطالبه بأن يعود لضمه مجددًا، ولكنه مشوش للغاية.
قرأ فيه علي رغبته بأن يبقيه بين ذراعيه، فعاد يضمه دون أن ينطق بحرفٍ أخر، وكلاهما تنسدل دموعهما دون أي حديث.
ازاح آدهم دموعه واقترب يضع كفه على كتف عُمران، فاستدار له في غرابة، فوجده يبتسم وهو يخبره:
_ حمدلله على السلامة يا عُمران.
تلقائيًا ذهبت أعين عُمران تتلصص بعيني علي، في بادرة ناجحة بأنه بات مرشده، والأهم من ذلك أنه يصدقه، فاذا به يخبره بابتسامة حزينة:
_ده آدهم، يبقى جوز شمس، أختنا الوحيدة.
تطلع له عُمران بنظرة عميقة، يود لو أن يتذكر أي شيء عنه، ولكنه فشل فشل ذريع، أضاف آدهم بمرح للاجواء:
_مش عرفته عني! ابعد بقى عشان أسلم عليه.
تراجع عنه علي ليمنح آدهم المساحة، فاذا بكف عمران يشدد من كف علي، كأنه يخشى أن يتركه، وخز قلب علي بشدة، فاذا به يربت عليه ويخبره بابتسامة لا يعلم كيف رسمها:
_أنا هنا جنبك.
تعجب عُمران من فعلته، ما له يبدو كطفلٍ صغيرًا في حضور ذلك الذي يخبره انه أخيه! ، ما له يخسر ثباته كـ رجلًا، تعلقت عينيه به حتى انه لم يرى آدهم الذي أقبل عليه، فأفاق على ضمته.
ابقى كفه محاصرًا لكف علي، ورفع ذراعه الاخر يستقبل ضمة ذلك الآدهم، كبت “علي” دموع سعادته، مازال يعني الكثير لاخيه حتى وهو لم يتذكر أي شيء.
ربت آدهم على ظهره وقال بمحبة:
_ألف حمدلله على سلامتك يا طاووس.
التقطت أذنيه ما يقول، فابتعد يتطلع له بدهشةٍ:
_طاووس!!
ضحك علي وقال:
_كلنا مسمينك الطاووس الوقح!
اندمج حديثه بشروده اثناء حديث موسى، وقد كانت بشارة بأنه يتمكن من التميز بين الصدق والتلفيق، وبكل تأكيد هذا شقيقه وبمثابة الأب له كما أخبره للتو.
فصله علي عن شروده حينما قال:
_يلا يا عُمران، لازم نتحرك عشان نرجع، مش عايز تتعرف على باقي عيلتك؟
هز رأسه بخفة بينما يخبره بتردد:
_بس أنا مش هقدر أفتكر حد.
منحه ابتسامة مشرقة، وقال بصوته الرخيم:
_زي ما قدرت تحس بيا هتقدر تحس بيهم، متخافش أنا جنبك ومعاك يا حبيبي.
واسترد مهاراته بالتعامل، متسائلًا:
_مش إنت مرتاح ليا؟
هز رأسه بتأكيدٍ، فجذب علي هاتفه ثم عبث له ليقدمه له قائلًا بحب:
_وده عشان تكون مطمن ليا أكتر.
حمل منه الهاتف يتفحص ما به، فوجدها صورة تضمه معه، تنطق فيها عن مدى الحب والاحترام الشديد بينهما، قلب يسارًا ويمينًا فوجده ألبوم كامل لهما برفقة بعضهما البعض، في سنوات مختلفة من الاعمار.
أكثر من خمسون صوره لهما فقط، فلقد حرص علي الا يشوش تفكيره بظهور مايا أو فريدة، حتى لا يخسر التقدم الذي أحرزه، عليه ان يخطو برفقته الدرج درجة درجة!
قدم له الهاتف ودموعه تتأنق بمُقلتيه، وقال بصوته المحتقن:
_من غير ما أشوف الصور، أنا حسيت بيك من أول ما شوفتك.
_يعني خلاص هتفارقنا يا خواجة؟
قالها موسى ببكاءٍ بعدما انضم إلى صابر، واستمع ورأى ما يحدث أمامه، استدار عُمران تجاه علي الذي يفهم عنه كل اشارة لم يفهمه عمران حتى عن نفسه، فاذا به يرنو من موسى، يقدم كفه إليه، فصافحه موسى وهو يراقب الشبه الكبير بينه وبين عُمران، فابتسم وقال:
_انت شبه فعلًا يا باشا.
ابتسم علي وقال بمحبة:
_لو قدمتلك عمري كله مقابل اللي عملته إنت وصابر مع اخويا مش هيوفيكم حقوقكم، ومهما أقدملكم هيكون قليل.
وفجأة سحب من جيب جاكيته دفتره الخاص، يدون لكلا منهما مبلغًا مالي كبير، فاذا بموسى يوقفه بضيق:
_أنت بتعمل ايه يا باشا، احنا مش منتظرين مقابل للي عملناه، وبعدين الخواجة بقى واحد مننا فآ..
اوقفه علي بدبلوماسيته الحكيمة:
_هو إنت ليه شايفها مقابل يا أستاذ موسى، دي حلوة رجوع أخويا ليا، ولو مش قابلها فأنا بهادي بيها القمر اللي استقبلتنا أجمل استقبال، بس مقبلتش تقولي إسمها!.
رد عليه عُمران بنفس التلقائية:
_إسمها قمر يا علي!
استدار تجاهه مبتسمًا حينما نطق اسمه للمرة الثانية، وعاد يتمعن بموسى قائلًا:
_ما شاء الله، ربنا يباركلك فيها ياررب.
تبسم موسى واجابه:
_تسلم يارب.
واضاف وهو يتطلع لعمران بمزح بعد أن رأى المبلغ المدون بالشيك :
_مش قولتلك هتطلع ابن ذوات! وبعيدًا عن كل ده تربيتك متخرجش الا من بيت فيه شخص زي علي باشا.
اتسعت بسمته على مجاملته اللطيفة، وقال يشيده:
_تسلم يا أستاذ موسى، بس بتمنى بلاش باشا دي قولي يا علي بس.
هرولت قمر لاحضان عمران وعلى ما يبدو بأنها كانت تراقبهم، لفت يديها حول عنقه وقالت ببكاء:
_انت هتمشي وتسبنا يا خواجة؟
ضمها إليه بكل حب وقال وهو يزيح دموعها:
_أوعدك اني هاجي على طول أزورك يا قمر، انا اتعلقت بيكي انتي وبابا وصابر وبالحي هنا، فمش هفارقكم بالسهولة دي.
طبعت قبلة على وجنته بعدما التمست الصدق فيه، تركها عمران، واتجه لموسى الباكي، فابتسم وقال يشاكسه:
_ما انت طلعت بتعيط وعندك دم أهو!!
لكزه باختناق شديد، وقال:
_خليك معانا وأنا هجبلك تكيف على حسابي.
ضحك عمران وضمه إليه، ثم همس له:
_أنا مش بتخلى عن اللي مني، وإنت بقيت مني إنت وقمر يا موسى، بس أنا محتاج أعرف أصلي، او أي حاجة تفكرني بنفسي..
انتهى من ضمه ومال تجاه صابر الذي بكى بشدة وقال:
_انت فوقتني لحاجات كتيرة كنت غايب عنها، انا كنت بستأنس بيك يا خواجة، خليك معانا والله حبيتك واتعلقت بيك.
ربت عليه وقال وهو يتطلع له والى موسى :
_خليكم على تواصل معايا، ولو ينفع تعالوا زوروني.
واستدار إلى علي حتى يطالبه بالعنوان أو رقم هاتف يقدمه لهم، وقبل أن ينطق بحرف اذا به يرنو اليهم:
_ده الكارت الشخصي بتاع عمران فيه كل تليفوناته وعنوان شركته.
تطلع له عُمران بغرابة، كيف يعلم ما يود قوله قبل نطقه حتى، بينما ينطق صابر بدهشة:
_وكمان بشمهندس، دارس في انجلترا، طلعت على حق ياسطا موسى، ده خواجة خواجه يعني.
تركه علي يودعهم واتجه إلى آدهم الذي كان يدرس كل حركة بسيطة لعمران:
_براڤو يا علي، نجحت تكسبه بسرعة مهولة، انا شايف فى عنيه حيرة إنك فاهم كل تصرفاته، وفي نفس الوقت اطمئنانه الكبير ليك، بقى عندي ثقة إنك هتنجح معاه.
تنهد وهو يميل له بوجعٍ:
_هعمل كل اللي اقدر عليه يا آدهم!
هبط “عُمران” برفقتهما، فصعد آدهم جوار السائق، وصعد عمران بالخلف جوار علي، كان هائمًا بتوديع أرجاء الحي، حتى خرجوا للطريق الرئيسي، فاستدار جواره، وجد علي يراقبه بابتسامة هادئة.
لاحظ تصبب العرق على وجهه، فقال:
_ارفع درجة المكيف يا آدهم، عمران بيكره الحر.
انزوى حاجبيه بشدة، وقد تسلله الهواء فجعله مسترخي شوقًا لتلك الرفاهية، بينما يلوذ بصمته لاكثر من نصف ساعة حتى استدار إليه وقال مشيرًا على ما بيده:
_أنا متجوز؟
أومأ علي له بابتسامة حزينة وقال:
_شافتك يوم ما كنت على طريق السفر، كانت متأكدة إنها شافتك، بس أنا مقدرتش اشوف غير موسى وهو بيبعدها عن الطريق.
انتفض قلبه بشدة، وتذكر حديث موسى عن الفتاة الحامل، فتجرع الغصة بحلقه وتساءل:
_هي حامل؟
اتسعت ابتسامة علي وقال بلهفة:
_افتكرت؟؟
هز رأسه نافيًا، والألم يموج برماديتاه:
_موسى حكالي عنها، ووقتها حسيت بوجع رهيب، دقات قلبي كانت عالية واحساسي كان مخيف.
واستطرد بعدما ابتلع ريقه الجاف:
_عايز أشوفها.
ربت “علي ” على ذراعه وقال:
_هخدك ليها بس بعد ما نروح أي أوتيل ترتاح، خايف يحصلك مضاعفات أو آ…
قاطعه بنبرة ثابتة:
_أنا كويس، متخفش عليا.
أدمعت عينيه رغمًا عنه، ودفع رقبته ليضمه له بينما يخبره:
_مش عايز غير كده، إنك تكون كويس وبخير ، أنا جنبك وهساعدك ترجع زي الأول وأحسن يا عُمران.
تعلق به وابتسامته تعاكس دموعه، هامسًا:
_وجودك مطمني فخليك جانبي!
شدد من ضمته وكلاهما يبكيان بصمت، حتى أن آدهم والسائق تأثروا بهما، وصلوا الى المطار وبعد ساعتين تقريبًاوصلت الطائرة للقاهرة، ومنها إلى الكمبوند الخاص بأحمد الغرباوي.
كان الليل يلتهم أرجاء المنزل الفخم، بينما يصطحب علي أخيه بالمصعد الطابق المخصص بزوجة أخيه.
وقف به أمام باب الغرفة بعدما أرسل لها الخادمة تخبرها برغبته بالدخول، لانها لا تقوى على الهبوط، فنهضت ترتدي اسدال الصلاة.
بينما بالخارج.
أمسك علي كف أخيه وقال بصوتٍ حنون:
_لو حاسس إنك مش جاهز للخطوة دي دلوقتي، ممكن نأجلها.
أصر عليه قائلًا:
_لا يا علي، أنا حاسس بوجعها من اللحظة اللي فوقت فيها، ربنا سبحانه وتعالى له حكمة إني أنسى كل جاجة وأفقد كل حاجة تخصني الا الدبلة دي، الرابط اللي فضل يفكرني إن في واحدة بتستناني!
ربت على كتفه بابتسامة حنونة، وما ان خرجت الخادمة الجديدة تخبره بأنها تقبل بدخوله ولج يشير له بتتبعه.
بقى عمران محله يستمد نفسًا طويلًا، ويلحق بأخيه، فاذا به يرى فتاة تقف قبالة الشرفة، توليه ظهرها، وتهتف في غضبٍ شديد:
_عايز أيه يا علـي، مش إنت عايز تثبتلي أني اتجننت وبتوهم إني شوفت عُمران، جاي تشوف المجنونة ليه؟
وتابعت ومازالت توالي علي ظهرها ومن خلفه:
_أنا مش محتاجة لمساعدتك تاني، أنا هدور عليه حتى لو نزلت بنفسي!
استدار علي تجاه عمران يتفحصه بقلقٍ، فوجده يراقبها بفضولٍ وقد أبدى مشاعر قد سرت بوضوحٍ فقط لسماع صوتها المألوف!!
فتحمس وقال يستفزها لتستدير:
_كده يا مايا، بتقابليني بالمقابلة دي وأنا مسافر مخصوص اجبلك هدية تفك مودك!
استدارت بغضب وعصبية:
_مش عايزة منك حآآ….
ابتلعت باقي جملتها في صدمة، جعلتها عاجزة عن النطق، فخرجت حروفها متقطعة:
_عُــ.. مــــــــران!!!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية صرخات أنثى)