رواية شهادة قيد الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء السادس والثلاثون
رواية شهادة قيد البارت السادس والثلاثون

رواية شهادة قيد الحلقة السادسة والثلاثون
مر عدة أيام وكانت ذات تعاني بشدة من أعراض الانسحاب. كانت الأيام تمر ببطء، وكأن كل ساعة تمثل عمراً كاملاً بالنسبة لها. كانت الغرفة ضيقة ومظلمة، تعبق برائحة العزلة والحنين إلى الماضي. تم إجراء الفحوصات اللازمة لها وننتظر نتائجها بفارغ الصبر، أما بالنسبة لعلاقتها بنور، فقد كانت تشعر بغيرة شديدة تجاهها كلما جاء مهران يحملها إلى الداخل، وتلك الغيرة تحولت إلى شعور خانق يسيطر على أفكارها، مما أدى إلى حصول توتر كبير بينها وبين مهران. كانت تساءل في نفسها: هل ما زال يحبني كما كان يفعل، أم تغيرت مشاعره بوجود نور؟
في صباح يوم جديد، استيقظ مهران على صوت رنين هاتفه. كان ذلك الصوت كفيلًا بإيقاظه من كابوسٍ طويل، واعتدل على فراشه بمزيد من القلق، وأجاب بصوت يملؤه التعب قائلاً:
“فيه أيه يا ابني على الصبح أنا منمتش ساعتين على بعض.”
كان يشعر بوطأة المسؤوليات تتراكم على كاهله، ومع ذلك كانت المفاجآت في انتظاره. أجابه شريف بصوت مختنق كأنه يحاول استجماع قواه:
“تعالى بسرعة يا مهران، النتيجة بتاعة ذات طلعت.”
شعر مهران بانقباض شديد في قلبه، وكأن تلك اللحظة تحمل في طياتها أبعاداً لن يكشف النقاب عنها سوى القدر. تحدث بصوت مهزوز، يُظهر كل توتره وقلقه:
“ها و و والنتيجة أيه؟”
لا يستطيع تخيل تلك النتائج التي قد تغير حياته وحياة من حوله. تنهد شريف بحزن شديد وكأن الكلمات عالقة في حلقه، ثم قال:
“تعالى بس، وانت هتعرف كل حاجة. متتأخرش.”
كان صوته يحمل نبرة من القلق التي أثارت المزيد من المخاوف داخل مهران.أغلق مهران الخط مع شريف ونهض سريعاً، بدل ملابسه بطريقة عشوائية تعكس حالته النفسية، كأنه يحاول الهروب من الموقف الذي كان يواجهه. ركض نحو الدرج، حيث وجد والده أمامه، الذي كان يراقب المشهد بقلق لكن لم يكن لديه الوقت ليتحدث. لم يعيروا اهتماماً لما حولهم، وخرج مهران مسرعاً نحو سيارته، حيث كانت تلك السيارة تمثل له الأمل والسرعة في الوصول إلى الإجابة التي طال انتظاراها. صعد فيها وأدار المحرك، قادها بسرعة جنونية، وكأن كل لحظة تمر كانت تضغط على أعصابه أكثر.نظر مراد إلى أثره باستغراب، وكأن تساؤلات كثيرة تعصف بذهنه، ثم أمسك هاتفه، قائلاً:
“خليك وراه يا مهران، وقولي رايح فين. إياك يزوغ منك زي ما بيعمل على طول.”
كان يخشى أن تضيع لحظات مهمة في خضم ذلك الصراع، أغلق الخط ثم نهض من مقعده واتجه إلى سيارته وتحرك بها إلى عمله.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
استيقظت ذات من نومها، وهي تشعر بألم شديد برأسها، كأنها كانت تحلم برحلة ساحرة تحولت فجأة إلى كابوس. اعتدلت على فراشها، تمسك برأسها بين يديها، وبدأت تدلكها عسى أن يخفف الألم قليلاً، ولكن دون جدوى، فقد كان الألم مستمراً وعنيفاً كعاصفة هوجاء. استقامت بجسدها، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تخرج من الغرفة، متوجهة إلى الباب، محاولةً الهروب من تلك الآلام التي تقيدها. نظرت حولها بتوتر، كأنها تبحث عن شيء أو شخص يخفف عنها شعورها بالعزلة، لكن سرعان ما توقفت عندما وجدت نور بكرسيها المتحرك أمام الباب، وبدا على وجهها القلق. فقالت بتساءل:
“رايحه فين يا ذات؟”
أغمضت ذات عينيها بضيق، كما لو كانت تحاول قطع اتصالها بالعالم الخارجي الذي يحيط بها. أرجعت شعرها إلى الوراء في حركة منها لتخفيف الضغوط المحيطة بها، وقالت:
“ها…ه ه هنزل اشتري حاجة ناكلها ا ا أصل خلص الاكل من التلاجة.”
لكن نور حركت رأسها بالرفض، وكأنها تحاول أن تزرع بعض الصبر في روح ذات المثقلة، وقالت بنبرة هادئة:
“مهران لسه جايب أكل كتير للتلاجة امبارح، ملحقش يخلص يا ذات.”
ضغطت ذات على أسنانها بغضب، قاتلةً الضغط الذي يشتعل في صدرها، وحكت أنفها بيد مرتعشة، وقالت:
“ا ا انتي مالك رايحه فين، حاجه متخصكيش.”
ابتسمت نور، وبأسلوب يشبه احتواء الأم لابنتها، قالت:
“لا تخصني يا ذات، مهران طلب مني اخد بالي منك، وأنا فاهمة حالتك دي كويس أوي. مريت بيها قبل كده لما كنت بتعالج منه. عارفة إنها صعبة بس لازم تقاومي علشان خاطر اللي بيحبّوكي، خلي عندك عزيمة وإصرار، خليكي قوية يا ذات.”
ازدادت ذات حك بأنفها، وشعرت بثورة من الغضب تتصاعد في داخلها، ثم تكلمت بغضب شديد:
“يووووه ابعدي بقى عن سكتي بقولك.”
حركت نور رأسها بالرفض، وكأنها تعبر عن تصميمها على مساعدتها رغم كل شيء. شعرت ذات بهياج شديد في جسدها لدرجة أنها دفعت مقعد نور بقوة، مما أسقطها على الأرض. صرخت نور بغضب، وأبصرت في عيني ذات ما يشبه الألم والقلق:
“بلاش تعملي كده يا ذات، أرجوكي فكري في مهران، وحبه ليكي يستاهل إنك تضحي وتتحملي أي حاجة علشانه.”
أغلقت ذات عينيها، وتلقت الألم بقبضة قوية دفعتها للاحتضان على رأسها بكل قسوة، وصرخت بقوة:
“ااه مش قادرة بموووت والله، يااارب.”
نظرت باتجاه نور، وأغلقت عينيها مرة أخرى كما لو كانت تتمنى أن تختفي أو تتلاشى همومها في ظلام عينيها. تحركت نحوها، ساعدتها بشجاعة، ووضعتها مرة أخرى على مقعدها، وكأنها تعيدها إلى وسط الأمان الذي افتقدته. ركضت بعد ذلك إلى غرفتها، وأغلقت الباب خلفها كأنها تحتمي من العالم الخارجي، وجلست على الأرض، مسندة رأسها عليه، وظلت تصرخ بألم شديد، كأن تلك الصرخات كانت المستودع الوحيد لمأساتها. كانت الدموع تتسابق على وجهها، تناجي ربها أن ينقذها مما هي فيه، متمسكة بأمل ضئيل داخل أعماقها، حتى وإن بدت الحياة مظلمة، إلا أن في داخلها كانت لاتزال خيوط بسيطة من الأمل تشق طريقها.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
تململت مهرة على صوت الطرقات المتكررة على الباب، وزفرت بضيق قبل أن تندفع بصرخات من حنجرتها:
“يووه على الإزعاج، ادخل.”
فتحت سارة الباب ودلفت إلى الداخل، مغلقةً الباب خلفها بحذر، وكأنها تخشى أن يتسرب إليها شيء من العالم الخارجي. اقتربت من السرير وجلست بجوار مهرة، ووجهها يعكس عبوساً عميقاً بينما ظلت صامتة، كأن الكلمات تسللت بعيداً عنها ولم يبقَ سوى صداها. كان هناك شيء ثقيل في الهواء، شيئاً يشبه القلق أو الخوف، وهو ما جعل الأجواء تبدو أكثر قتامة مما ينبغي.نظرت إليها مهرة باستغراب، وتكلمت بصوت ناعس، وكأنها تخشى أن تكسر الصمت:
“فيه أية يا بومة على الصبح.”
انهمرت دموع سارة على وجنتيها، أشبه بشلالات جفت طويلاً قبل أن تتفجر، وتحدثت بين شهقاتها:
“أخوكي أتغيّر معايا خالص يا مهرة، من يوم ما اتقابلنا هنا. وصلني للبيت، وهو مكلمّنيش ولا مرة. ولما أتصلت عليه أنا، قالي إنه مشغول ومش فاضي. حتى المفروض كان يجي ليا أمبارح زي ما متعود، مجاش ولا حتى اتصل بيا يعتذر أنه مش جاي.”
اعتدلت مهرة على فراشها بضيق، وتحدثت بتثاؤب، وقد بدت وكأنها تراقب سارة من زاوية جديدة:
“تستاهلي! خلي خجلك وكسوفك ينفعوكي، يعني هو صمم إنه يكتب الكتاب عشان يبقى كل حاجة بالحلال، وانتي جاية تحرمية حتى من مسكة إيدك.”
زفرت سارة بضيق، صوتها مختنق وكأن الكلمات تخنقها قبل أن تخرج:
“طيب، هي دي شخصيتي، أعمل إيه طيب؟ مجرد ما بشوفه قصادي، بتكسف وبتوتر. حاولت والله أغير من نفسي، بس معرفتش. وكمان اللي هو بيطلبه مني صعب، ياريت على مسكة إيد بس، كنت اتقبلت الموضوع شوية، إنما موضوع التلامس ده صعب، هيخدنا في سكة غلط. أنا نفسي يفهمني بعيد عن موضوع الكسوف، التلامس غلط في الفترة دي بالذات، والحاجة دي في أوانها أجمل وأحلى.”
حركت رأسها بنفاذ صبر، وقالت:
“براحتك، خليكي متشددة كده لحد ما يطير منك! أصلاً ماهر أخويا مكانش ليه في سكة البنات دي خالص، طول عمره قافل على قلبه وعمره ما فكر في الارتباط لحد ما شافك. اتشندل حاله وبقى شاب مراهق أوي، وعايز يجرب كل حاجة معاكي. علشان كده لما قابل الرفض منك، اتعامل معاكي بالطريقة دي. ألحقي نفسك معاه قبل ما يطير منك، الواد حليوة، ويتاكل أكل وظبوطه قد الدنيا. ده أنتي محظوظة يا بنت المحظوظة.”
زفرت سارة بضيق وقالت بصوت مختنق:
“قوليلي طيب أعمل إيه عشان ميزعلش مني!”
نظرت إليها بلؤم، واستدارة شفتيها لتشكل ابتسامة واسعة، وكأنها تحب أن تلعب دور المؤثر:
“أسمعي كلامه ونفذي اللي هو عايزه.”
حركت سارة رأسها بالرفض، وتقلبت مشاعرها بين التردد والعناد، وقالت:
“لا طبعاً، مستحيل! ش ش شوفي أي طريقة تانية غير دي.”
استقامت بجسدها وتحركت تجاه المرحاض، وتحدثت بنفاذ صبر:
“روحي ألحقيه قبل ما يمشي، زمانه بيجهز في أوضة، هو ده اللي عندي. يلا، مضيعيش وقت.”
أنهت كلامها ودخلت المرحاض، وأغلقت الباب خلفها. تراكمت الأفكار في ذهن سارة كغيمة عاصفة، فهي تبتسم بخجل كلما تذكرت صورته، لكن شعور الفقدان أيضًا كان عرضة لدق قلبها.ظلت سارة تنظر إلى أثر مهرة بتوتر، ثم نهضت وتحركت نحو الباب، خرجت منه ووقفت أمام غرفة ماهر، ابتلعت ريقها بصعوبة، وحركت يدها ببطء، طرقت على الباب.فتح ماهر الباب، نظر لها باستغراب، وقال بتساؤل:
“سارة!! خير، في حاجة ولا إيه؟”
دعكت سارة يدها ببعض بتوتر، وحركت رأسها بالرفض، وتكلمت بتلعثم، كأن الكلمات تتراقص في ذهنها:
“ل ل لا، مافيش حاجة، أنا جيت أشوف مالك، بقالك كذا يوم متغير معايا ليه.”
زفر ماهر بضيق، وتركها، ودلف إلى الداخل، وكأن قلبه يأخذ استراحة من أعقاب متاعب الحياة.نظرت سارة إلى أثره بتوتر، وتحركت إلى الداخل، وتكلمت بتلعثم، محاولاً استعادة ذلك الخيط من التواصل:
“ا ا انت مردتش عليا ليه؟”
جلس ماهر على المقعد، ارتدى جوربه، وتكلم بصوت مختنق، وكأنه يقاوم شعور الهزيمة:
“مافيش يا سارة حاجة.”
حركت رأسها بالرفض، وبدت عينيها تعكس الحزن العميق الذي يعتصر قلبها، ثم تكلمت بصوت مكسور:
“لا فيه يا ماهر، ا ا انت كرهتني؟”
استقام بجسده، ورفع نظراته نحوها بجدية، محاولاً السيطرة على مشاعره، شعور الإحباط يتدفق منه كما لو كانت أمواج البحر العاتية تصطدم بشاطئه العاري:
“يعني انتي جايه هنا من صباح ربنا علشان تسأليني السؤال ده؟”
اقتربت منه، وعزمت على أن تعكس مشاعرها، نظرت إليه بعينيها الدامعتين، وكأنهما نافذتان إلى قلبها الحزين، وقالت:
“أيوه يا ماهر جايه علشان أسألك السؤال ده من صباح ربنا، لأني مش بنام من كتر التفكير. أنت اتقدمت ليا وكتبت كتابي بناء على ايه؟ علشاني أنا وعلشان بتحبني ولا علشان غرض تاني؟”
اقترب منها، وأحاط خصرها بذراعيه، مستشعراً قربها كما لو كانت مصدر الأمان الوحيد في عالمه الفوضوي، ثم نظر إلى عينيها بتلهف، ملامحه تعبر عن الذنب والخوف مما قد يفقده:
“علشانك انتي طبعاً وعلشان بحبك. عايز اجرب كل حاجه معاكي، عايز أعيش معاكي انتي أول كل حاجه. ولما كتبت كتابك ده علشان نكون بحريتنا أكتر، سارة، أنا عيشت حياة منغلقة زيادة عن اللزوم؛ لأن بابا طول عمره كان شخصية صارمة معانا، الغلط مش مقبول، لازم كل حاجه تمشي زي ما هو عايز. كنت بخاف أغلط، وتيجي شكوى مني أو حد يشوفني ويبلغه بده، ويضربني، قفلت على نفسي طول السنين اللي فاتت دي. لحد ما قابلتك انتي غيرتي مفهوم الحياة في عيوني. حبيتك واتمنيت أعيش كل لحظة جنبك.نفسي أعمل حاجات كتير أوي محروم منها، علشان كده كتبت كتابك، لأني كنت عارف أن كبت السنين اللي فاتت دي هيظهر في فترة قربنا من بعض. مجرد ما بشوفك، مشاعري بتتحرك تجاهك غصب عني، بحس بحاجات مقدرش اوصفها. والله العظيم بعمل مجهود جامد علشان متخافيش مني، واللي بطلبه منك ده لأني بحاول أصبر نفسي بيها لحد الفرح واعمل كل اللي نفسي فيه. وعلشان كده، لما بنتقابل بيبقى ده حالي. في المقابل بحس الرفض منك، إنك مش متقبله ده مني. وعلشان كده بعد الفترة دي، مش عايز احس بأني متطفل عليكي. لأنك طول ما انتي قصادي، مش هقدر اتحكم في مشاعري، وهنفضل على نفس الحال.”
شعرت بحزن شديد تجاهه، فقد كان يتحدث بألم، وكأن كل كلمة تخرج من شفتيه تحمل ثقل السنوات التي عاشها في كبتٍ وخوف. نقلت يدها برفق على وجهه، ونظرت بعينين تخترقان الروح، كأنها تحاول أن تصل إلى عمق مشاعره، وقالت:
“انا مكنتش فاهمه كل ده يا ماهر. المفروض تقعد تفهمني براحه، لو حاجة مزعلاك مني، نتكلم فيها بهدوء، مش تزعل وتبعد عني، وتسيب الفجوة تزيد ما بينا. احنا لسه هيقابلنا مشاكل كتير يا ماهر، ولازم نعرف ازاي نحلها بحكمة عشان متكبرش مننا. أنا عارفه أن أنا خجوله زيادة عن اللزوم، بس برضه عارفه حدود ديني وده يجوز وأيه ميجوزش. أنت جوزي ايوه، بس مينفعش نتعدى الحدود في الفترة دي لأسباب كتير أوي الدين نهى عنها. أولاً، لازم أي حاجه تحصل بينا يكون بعلم ولي أمري وموافقته. يعني، تقدر دلوقتي تروح لبابا وتقوله أنا عايز اعمل كده مع بنتك؟ طبعاً لا، لا انت هتقدر تقوله كده، ولا هو هيوافق إلا على الفرح. يبقى اللى هيحصل ده حرام. وتاني حاجة، أنا وانت مجرد ما هيحصل حاجة ما بينا، مش هيبقى عندنا اشتياق للفرح، لأن خلاص مافيش فيه حاجة جديده. وتالت حاجة، فيه سُنة لازم نعملها قبل ما نقرب من بعض، وده انا عايزاه يحصل لما نبقى فى بيتنا بفستاني الأبيض، والكل عارف أن انا وانت مقفول علينا باب واحد، وبنكون عيلة. علشان كده بطلب منك أننا نكون قد ثقة أهلينا فينا، ونصبر لما يجي وقتها، وأنا هحاول أغير من نفسي علشانك، وانت كمان يا ماهر حاول تغير من نفسك علشاني للأحسن طبعاً. أيه رأيك؟”
ابتسم لها بحب، عاطفته تصدح كعزف موسيقي هادئ، واقترب من رأسها، وقبلها بحنو، ثم ابتعد عنها وقال:
“بحبك يا أجمل حاجه حصلتلي.”
ابتسمت له بخجل، قلبها ينبض بشدة، وقالت:
“ط ط طيب ا ا انا لازم امشي بقى ع ع علشان بابا ميزعقليش.”
حرك رأسه بنفاذ صبر، وابتسم بقلة حيلة، فقال:
“كسوف تااااني يا سارة، ده انتي لسه بتقولي هتتغيري علشاني.”
وضعت يدها على وجهها بخجل، وتكلمت بابتسامة، وعذر نفسها بلطف:
“أعمل ااية غصب عني والله.”
تعالت ضحكاته، وقال بنبرة عاشقة، تنبع من أعماق قلبه:
“بعشقك في كل حالاتك يا سرسور.”
ثم أبعد يدها عن وجهها، ونظر إليها بنظرة مليئة بالحب والرغبة في قضاء وقت ممتع معاً، وقال:
“يلا تعالي نقضي اليوم سوا ونتغدا بره، إيه رأيك؟”
نظرت له بصدمه، وسألت باستغراب:
“طيب وشغلك!؟”
حرك رأسه لها بتفهم، وتلمس همومها، وقال:
“متقلقيش، أنا هتصرف، وهتصل بحمايا العزيز وأعرفه إنك معايا. وحشتيني أوي، وعندي كلام كتير عايز أقوله ليكي. أمشي يلاااا.”
ابتسمت له بحب، وأومأت برأسها بالموافقة، وتحركوا إلى خارج الغرفة، وهبطوا إلى الأسفل، وصعدوا السيارة، وتحرك ماهر بها بسعادة، وكأن اليوم يعد بداية جديدة لكليهما، مليئة بالأمل والوعود.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
وصل مهران عند شريف أخيرًا، دلف المكتب مسرعًا وكأن قلبه يزفر قلقًا، جلس على المقعد أمامه وكأن الوهن قد أصابه، وتكلم بتساءل مختنق:
“طمني يا شريف، نتيجة الفحص أية؟”
تنهد شريف بحزن عميق كأنما يحمل ثقل العالم على كاهله، أخرج الأوراق ببطء، وضَعها أمامه، وتحدث بصوت يشوبه الألم:
“للأسف يا مهران، اللي كنت خايف منه حصل. كنت شاكك أن تعاطي الكحول والمخدرات أثروا على الكلى عندها، لأن كان واضح عليها الأعراض جدًا، والفحص أكد ده. أنا آسف في اللي هقوله، بس ذات عندها فشل كلوي، واحدة شغالة بنسبة عشرة في المية والتانية بنسبة تلاتين في المية، وده يعني إن التانية كمان في طريق الفشل. وأصلًا، الكلى واحدة بس بالنسبة دي صعب تكمل.”
تلقى مهران الخبر بصدمة كبيرة وكأن دلوًا من الماء المثلج قد سُكب عليه، توقف الكلام على لسانه وظل ينظر إلى شريف بعيونٍ تجمعت فيها الدموع كأنها محيط من الآهات.شعر شريف بالأسى العميق لوضع صديقه، نهض من مقعده وتحرك باتجاه المقعد المقابل لمهران، جلس عليه وربت على ساقه ليشد من أزره، وقال بصوت حزين:
“اجمد يا صاحبي، أنا عارف إن اللي قولته ليك ده صدمة بالنسبالك، بس للأسف هي دي الحقيقة.”
رد مهران بلسان مثقل بالحزن، وتساءل بتردد:
“ط ط طيب، وإيه اللي مفروض يحصل دلوقتي؟ يعني محتاجة تسافر برة ولا محتاجة إيه بالظبط؟”
أجابه شريف بمهنية، موضحًا:
“مش محتاجة تسافر برة يا مهران، ذات اللي محتاجة دلوقتي حد يتبرع بكليته، لازم تكون نفس الفصيلة، لازم زراعة كلى في أسرع وقت، لأن كل دقيقة بتمر ذات بتخسر حياتها، والمفروض أنها عندها الأعراض دلوقتي، بس هي شكلها مكبرة ومش بتشتكي. بس خلاص، هي كده هتبدأ تفقد السيطرة وتحس بالأعراض.”
تكلم مهران بسرعة دون تفكير، وقال بصوت حزين:
“خد الكلى بتاعتي، لا خد الاتنين، مش مهم أعيش، المهم إنها تبقى هي كويسة.”
حرك شريف رأسه رافضًا، وقال بتوضيح:
“يا مهران، الموضوع مش خدّ كليتي ولا كليتك، دي أنسجة وفصيلة دم وفحوصات معينة لازم تكون كلها سليمة. ولازم يكون موجود كذا شخص لعمل الفحوصات دي، علشان نوفق فصيلتها. وده هتلاقيه متوفر أكتر عند حد من قرايبها، أخوها، أبوها، أمها، عمها، ابن أو بنت عمها، كده يعني، فاهم قصدي.”
طرق بيده على سطح المكتب بغضب، وتحدث بصراخ:
“ليييييه؟ ليه هي بالذات؟ ليه يا شريف؟ ياريت كنت أنا، ذات أتعذبت أوي واتظلمت جدًا، أنقذها، أرجوك يا شريف، أنا محتاج ذات في حياتي.”
تنهد بحزن شديد، وقال:
“ذات لازم تتحجز في المستشفى من بكرة عشان تتجهز. وأنا هكلم زميل ليا يهتم بحالتها، وإن شاء الله تعمل العملية وتبقى أحسن من الأول. أهم حاجة، شوف كذا حد وروحوا المستشفى الصبح علشان تعملوا الفحوصات، علشان الدكتور يحدد مين أكتر واحد يصلح للتبرع.”
استقام مهران بجسده، وأومأ برأسه بحزن، وقال:
“ماشي، الصبح أنا وذات هنكون في المستشفى.”
تحرك باتجاه الباب، لكنه توقف على هتاف شريف وهو يناديه:
“أجل موضوع مهرة دلوقتي لحد ما نطمن على ذات الأول.”
أومأ برأسه بحزن، ثم تحرك إلى الخارج وأغلق الباب خلفه.نظر شريف إلى أثر مهران بحزن عميق، وتحدث بصوت مختنق:
“ربنا يقويك على اللي انت فيه يا صاحبي.”
ثم تنهد، واستقام بجسده، واتجه إلى الخارج ليبدأ متابعة عمله.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
كانت نور تجلس بحزن شديد، تشعر بالشفقة على ذات التي سمعت صراخها واستنجادها بربها. لكن نور كانت عاجزة عن تخفيف الألم عنها، فتذكرت كيف كانت حالتها في الماضي؛ عندما وقف مهران بجانبها وساعدها هو وشريف على الإقلاع عن الإدمان. في تلك اللحظة، وصل مهران بملامح حزينة وكأنه يحمل هموم الدنيا فوق كاهله، حيث كان صوت الساعات يزداد وضوحًا، يذكرهم بكل لحظة تمر. جلس على الأريكة دون أن يتحدث، ووضع رأسه بين يديه. نظرت له نور بتوتر وسألته بقلق:
“مالك يا مهران؟ حصل حاجه ولا أيه؟”
حرك مهران رأسه بالرفض، ثم تنهد بحزن طافح، وكأن الكلمة عالقة في حلقه، وقال:
“مافيش حاجه يا نور، ذات فين؟”
أشارت برأسها نحو غرفة ذات، واجتاحت ملامحها مشاعر متضاربة من القلق والأمل. قالت:
“في أوضتها، جالها أعراض الانسحاب، وحالتها كانت صعبة. وكانت عايزة تنزل تشتري السم ده، بس أنا منعتها. ولما ملاقتش فايدة، رجعت أوضتها تاني.”
أومأ برأسه، واستقام بجسده، وتحرك نحو الغرفة كما لو كان يسير نحو قدره. فتح الباب ببطء ووجد شيئاً خلفه دفعه بخفة، كأنه يتعامل مع شيء مقدس. عندما دلف إلى الداخل، رأى ذات نائمة على الأرض، ودموعها تبلل وجهها، وكأنها تحمل عالماً من الألم في أعماقها. تنهد بوجع ومال بجسده ليحملها بين ذراعيه. تحرك نحو السرير ووضعها عليه، وجلس بجوارها، بينما قلبه يغلي من الوجع والألم الذي لا يوصف. انهمرت دموعه بغزارة، خائفاً من فقدانها، وابتلّت يديه بكلمات الحب المشتاقة. أمسك بيدها، وكأنه يربط مصيريه بمصيرها، وتكلم من بين شهقاته بكلمات تحرق القلب:
“أنا مش هقدر اتقبل فكرة بعدك عني يا ذات. أنا الموت عندي أهون من فراقك. ابوس إيدك، بترجاكي خليكي قوية وجنبي. أنا من غيرك ولا حاجة. أنا اتخطيت كلمة بحبك من زمان أوي، أنا بعشقك. وكل ثانية وأنا جنبك، بتكون الحياة لقلبى. كل دقة بدق جوايا بتنادي عليكي. أوعي تسبيني وتروحي يا ذات.”
في تلك اللحظة المؤلمة، بدأت ذات تحرك رأسها ببطء، كأنها تحاول كسر جليد الألم. حاول مهران مسح دموعه سريعاً، ولكن لم يكن بمقدوره محاربة الحاجة لظهوره في أحسن حالاته. ظل يتابعها بنظرات عاشقة تضج بالحنان، كمحارب ينتظر عودة حبيبته.فتحت عينيها بصعوبة، وكانت تشعر بألم شديد ينغص عليها الفرح برؤيته، لكنها عندما رأته أمام عينيها، ابتسمت بحزن وهي تحاول النهوض من عتمة الألم، وقالت:
“واحشتني.” قبل يدها بحب، كأنما يعتذر لزمن صعب مر بهما، ثم تكلم بنبرة هامسة ملؤها الحب:
“وانتي بقى مش واحشاني، عارفة ليه؟ علشان صورتك دايماً قصاد عيني، كل حركة وكل كلمة بفكر فيهم طول ما أنا بعيد عنك.”
اعتدلت على فراشها بجسد هزيل، وبألم في صوتها قالت بكلمات تخرج بصعوبة:
“مهران، أنا عايزة أشوف عمو سليم.”
زاغ ببصره بعيداً عنها، وكأن كلمة “سليم” أيقظت له ذكريات مؤلمة لا تنسى. تكلم بتلعثم، خوفاً من ردود أفعالها:
“ها…ع ع عمك سليم!! ا ا ا آه هو مش فاضي الفترة دي.”
نظرت له باستغراب وسألته، محملة بوجع القلق:
“مهران، عمو سليم ماله؟”
زفر بضيق عميق في صدره، وقال بصوت مختنق، كأنه يطلق قيدًا محاصر:
“عمك، الله يرحمه، مات اليوم اللي عاصم خطفك فيه.”
حركت رأسها بعدم تصديق، تراجع الوعي عن جسدها كأنها تتحدى الحقيقة التي ضربت بها، وانهمرت دموعها بغزارة، كأنها تحمل عاصفة من الأمل المفقود. قالت من بين شهقاتها المرتجفة:
“ع ع عمو سليم م م مات؟ ط ط طيب أزاي؟ ومات أزاي؟”
حرك يده على وجهها برفق، أزال عبراتها وكأنما يمسح آثار الحزن، وتكلم بتوضيح يبذل جهداً لإيصاله:
“اللي قتله عاصم يا ذات، وابنه عرف كده بعد ما عملت التحريات عنه، وعرفت آخر مكان راح فين، وكان في نفس المكان اللي خطفك فيه.”
تكلمت بصوت متقطع، كأن الكلمات تكاد تعجز عن استيعاب الفاجعة:
“د د ده مش بني أدم، ده ش ش شيطان.”
كانت تتكلم وجسدها يرتجف بخوف شديد، كما لو أن ذكرياتها تجبرها على مواجهة كابوس. ضمها مهران بقوة، كأنما يحاول تشكيل درع حولها من العالم الخارجي، وتساءل بإلحاح:
“هو اللي عمل فيكي كده صح؟ اتكلمي يا ذات، قوليلي أيه اللي حصل في اليوم ده بعد ما حاول يهرب بيكي وضربك وضربني بالرصاص.”
ابتعدت عنه بهدوء، وحركت رأسها بالرفض وكأنها تحاول طرد شبح الذكريات المؤلمة، وقالت بصوت مرتعش:
“ع عمل فيا حاااجات كتير أوي يا مهران، مهما تتخيلها مش هيكون زي اللي حصل. ده حيوان.”
ضغط مهران على أسنانه بغضب شديد، كأن الشيطان الذي ارتكب الفظائع يلوح له في الأفق، وقال بتوعد يشعر به في كل عظمة من عظامه:
“اااه لو أعرف هو اختفى فين، قسماً بعزة جلالة الله لكون شارب من دمه، وأعرفه أن الله حق.”
زاغت ببصرها بعيدًا عنه، وتكلمت بصوت خافت، كما لو أنها تخشى على كلماتها أن تتسبب في ألم آخر:
“مش هو بس اللي عمل فيا حاجات صعبة. وعذبني فيه ناس تانية عذبتني هي كمان، أنا جيت عندك بعد ما عاصم اتأكد أن خلاص مافيش مني رجا، بس للأسف مقدرتش أوصلك. وقعت تحت أيد ناس متعرفش يعني إيه رحمة، بعد ما عذبوا فيا، واستخدموا أسوأ أنواع التعذيب. هما اللي هربوني بره مصر ومنعوا وصولي ليك نهائي.”
نظر لها بعدم فهم، وكأن تفاصيل قصتها تأخذ شكل لغز معقد يحتاج للتفسير، وقال بتساءل بحذر:
“ناس!! ناس مين دول؟ وهيستفادوا أيه من اللي عملوا فيكي؟ استني، احكيلي حصل أيه بالظبط من اللحظة اللي انضربنا فيها بالرصاص.”
نظرت له بدموع، وتنهدت بحزن عميق، وبدأت تسرد له ما حدث بالسابق بطريقة تجعل كل كلمة وكأنها تخرج من عمق معاناتها، كأنها ستأخذهم في رحلة عبر الزمان أسالت دموع القلب للفهم والألم…
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)