روايات

رواية شهادة قيد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الجزء الخامس والعشرون

رواية شهادة قيد البارت الخامس والعشرون

شهادة قيد
شهادة قيد

رواية شهادة قيد الحلقة الخامسة والعشرون

سمعوا صوت مهران وهو يصرخ بغضب:
“قصدك على ده يا ذات؟”
وأشار إلى كيس يحتوي على مسحوق أبيض، كان الكيس بمثابة الدليل القاطع الذي كشف المستور. وقف الجميع في صمت، يراقبون الحقيقة تتكشف أمامهم كغيمة سوداء تنجلي عن نور، مختلطة بين الخوف والشفقة. نظرت ذات إلى يده بصدمة، وكأنها قد تلقّت صدمة كهربائية، ثم تحركت ببطء شديد كمن يسير على حافة الهاوية، ووقفت أمامه وعواصف مشاعرها تحاصرها، وقالت بصوت خافت:
“م م مهران، أنا هفهمك.”
فوجئ الجميع عندما صفع مهران ذات بقوة على وجهها، متحدثاً بغضب شديد:
“هتفهميني إيه بس؟ كل حاجة واضحة أهي! أنتي إيه يا شيخة الوساخة بتجري في دمك؟ حاولت أعمل منك بني آدمه بس ما فيش فايدة!”
نظرت له نظره موجوعة، طافية على مزيج من الصرخات والانكسارات؛ أنين روحها انعكس في عينيها، وكأن كل كلمة أحاطت بها كانت كفيلة بتمزيق شغاف قلبها. انهمرت الدموع بغزارة على وجنتيها، وكأن السماء كانت تبكي معها، وكانت يدها على خدها تحت تأثير صفعته التي لم تكن فقط على وجهها بل هبطت على قلبها أيضاً. تكلمت بصوت موجوع، كمن يحاول أن يخرج من أعماق الجحيم:
“هي دي المشكلة يا مهران، عمرك ما هتقدر تنسى ذات القديمة. هتفضل صورتها قصاد عيونك مهما اتغيرت. أيوه، الهيروين ده اللي بدور عليه، بدور عليه علشان أخده بعد ما كنت رافضة الصبح أقرب منه. شيلته علشان أحارب رغبتي فيه بعد ما لاقيت الصبح الباب بيخبط ومحطوط قدام عتبة الباب. أخدته، وبدأت الحرب جوايا ما بين أن أستسلم لضعفي وما بين عزيمتي وإرادتي في أن أبعد عن الطريق ده. وفي الوقت ده، افتكرت كلام أمك، حطيته في الدرج ودخلت أتوضيت وصليت، دعيت ربنا يقويني أبعد عن الطريق ده وعن التعاطي. دعيت كتير أوي والله، وبعدها استنيتك لحد ما جيت أنت، ونزلت معاك. بس فكرت إن السم ده موجود معايا في أوضي، ضعف عزيمتي. شيطاني غلبني، جيت أدور عليه علشان أخده، حسيت للحظة إن محتاجة أخده علشان أهرب من الواقع المؤلم. حاجات كتير أوي جات في دماغي علشان أبرر لنفسي إن اللي هعمله صح. أنا مش وحشة يا مهران، ولا كنت حابة أبقى كده. ولا ذنبي إن الدنيا فيها شياطين. أنا والله العظيم ما وحشة.”
أنهت كلامها وجلست على الأرض، وظلت تبكي بمرارة، وكأن آلامها تتساقط على الأرض مثل دموع الندم، كل قطرة تحمل معها وزناً من الذكريات والثقل النفسي الذي عانت منه. شعرت مهرة بالشفقة عليها، جلست بجوارها وأخذتها بحضنها، وظلت تربت على ظهرها بحنو كأنها تحاول تخفيف آلام الحزن الذي يحيط بهما، بينما كانت آثار الصدمة لا تزال مرسومة على وجهها. نظر مهران إليها بوجع، لام نفسه كثيراً على تهوره، أغلق قبضة يده بقوة وتحرك سريعاً إلى الخارج. هبط إلى الأسفل، فتح الباب ودلف إلى الداخل، ظل يدور حول نفسه ويجذب شعره بغضب شديد، وكأن السير في المكان كان يذكره بكل ما رآه وتخلى عنه. ما الذي يحدث؟ ما الذي عليه فعله ليحمي ذاته من أفواه الذئاب؟ يعلم الله كم يحارب، لكنه في النهاية بشر ضعيف، له قدرة وطاقة تتناقص كاشتعال فتيل الشمعة. صرخ صرخة دوت بالمكان وزلزلت أركان المكان، طالع غضبه من صدره واهتزت أنفاسه بشكل متقطع، تطلع للسماء وكأنها تحمل إجابته. بينما كان يستوعب كل ما جرى، سمع صوت ضحكات كان يعرف جيداً من خلفها. كأن تلك الضحكات كانت تعبيراً عن احتفالات القلوب السوداء حول ما حدث. نهض بغضب شديد وأمسك به، متحدثًا بصوت غاضب، كأن الكلمات كانت ستخترق جدار الكراهية الذي يفصلهم:
“أنت عايز توصل لايه بالظبط؟ خطيبتي، وأخدها مني؟ شغلي وحرمتني منه، خلتني في نظر الكل مجرم وحرامي! حبيبتي دخلت حياتها وبتدمر فيها من قبل حتى ما تتولد المشاعر بينا. حتى أختي منجدش من تحت ايدك! قووولي لييييه كل ده عملتلك إيه علشان تكرهني الكره ده؟ ده أنا حتى مقدمتش ليك غير كل خير. رد عليا، عايز مني أييييه؟”
نظر له بكل هدوء، ثم دفع يده بعيداً عنه، وكأنها كانت مجرد حشرة مزعجة، وجلس على المقعد، وكأنه يتنفس من جديد، أشعل سيجارة، أخذ نفس منها ثم زفر دخانها بالهواء وكأن الانفجار الذي حدث في قلب مهران كان شيئاً عابراً، والتفت أخيراً ليتكلم بصوت يحمل نبرة كره وغل:
“علشان ماكنش ينفع تكون موجود في نفس الزمن اللي أنا فيه. وجودك فيه أكبر غلطة! دورك مختصر على حاجة واحدة بس، “عاصم الدويري”، يمكن لو كنت شغلت نفسك بأي حاجة تانية، مكانش زمانك حصلك كل ده. أنت اللي حضرت العفريت يا مهران يا شرنوبي.”
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه، وبنبرة كفحيح الأفعى قال بتوعد:
“عندك حق، أنا اللي حضرت العفريت، وأنا اللي ملزوم أصرفه…”
ثم اقترب منه ونظر في عينيه مباشرة، مخترقًا أعماقه، وكأن كلماتهم المنطوقة قد شققت السماء من حولهم، وقال بتوعد:
“وجرب بقي لعب العفاريت مع البني أدمين.”
اقترب من أذنه وهمس:
“أستنى حرقك يا عفريت يا صغنن.”
نفخ عاصم الدخان في وجه مهران، وأبتسم بمكر، وقال بنبرة تحمل معاني كثيرة وكأنها تمثل عالماً من الظلام:
“وأنا مستني النار اللي هتحرقنا أحنا الأثنين سوا يا قلب الصغنن.”
ثم استقام بجسده، نظر بتحدي لمهران، وكل ملامحه تعبر عن تحدٍ صارخ، وقال بتهكم:
“مستنيك في الساحة يا صاحبي.”
أنهى كلامه وغادر البيت، تاركاً خلفه مهران يغلي كالمرجال، صرخ بقوة:
“هقتلك يا عاصم، هقتلك!”
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
جلس يزيد بجوار والدته، وعلامات الرضا تضيء وجهه بينما شغلت نشوة الانتصار قلبه. نظرت إليه والدته باستغراب، وبدت الحيرة على ملامحها، فسألته بتساؤل:
“خير، اللهم اجعله خير، مالك يا ابن بطني؟”
ابتسم يزيد بسعادة وأجاب بنبرة مندهشة: “ذات أطلقت يا ماما، سمعتهم النهاردة، وكمان رجعت الشركة، يعني كل حاجه ماشيه زي ما أنا عايزها، وايام قليلة أوي و هترجع تعيش معانا و كل اللي كنا مستنينه هيحصل، الشركة والفلوس… ”
ثم أكمل حديثه بنبرة مليئة بالشغف، قائلاً:
“وجسمها هيبقي بين أيديا.”
تألَّقت عيناها بالفرح، وتحدثت بعدم تصديق:
“بجد يا يزيد أوعى تكون دي لعبة منهم علشان يكشفوا مين وراه كل اللي بيحصلها؟”
هز رأسه بالنفي وتحدث بحماس واضح:
“لا، يا ماما، بجد، اللي أسمه عاصم ده دماغه ألماظ، دخل الشك ما بينهم علشان يبعدهم عن بعض، ويخلا ليه الجو فى الشركة، ده أنا مصدقتش نفسي، لما عرفت أن عمي وبابا شغالين تهريب معاه من زمان أوي، والشركة دي ستار ليهم مش أكتر، وعلشان كده، لما ذات حاولة تمنع الشغل ده، خلوها مدمنه، وسحبوها لسكة دي، يااااه عاصم، ده قدوتي، وهمسك فيه بأيدي وأسناني، علشان أتعلم منه كل حاجه، وأبقى زيه فى يوم من الايام.”
شعرت والدته بخوف عميق على ابنها، نظرت إليه بقلق وقالت:
“يزيد، يا أبني، متأمنش لناس دي اوي، علشان طريقهم واعر، واللي بيمشى فيه أخرته مكان واحد بس، واللي حصل لعمك حازم أكبر دليل على كلامي، حتى أبوك مكمل معاهم لحد دلوقتي علشان لو قال ليهم، لا، مصيره هيكون نفس مصير عمك، أنا خايفه عليك يا حبيبي، أنا عندي انت وأخواتك، فى كفه، والدنيا كلها فى كفة، مش هقدر أستحمل وجعكم.”
ابتسم يزيد بثقة، وأجاب بنبرة مفعمة بالسعادة:
“متخافيش عليا يا ماما، أبنك ذكي ومحدش يقدر عليه، يلا بقى حضري الاكل، أحسن نفسي مفتوحه أوي وعايز أكل خروف بحاله.”
نظرت إليه نظرة طويلة، وأومأت برأسها بالموافقة، ثم نهضت، وتركت ابنها يحلم في عوالم وهَمِيَّة، بينما كانت تخفي مخاوفها في قلبها، وتحاول استيعاب ما قد يخبئه لها القدر في الأيام المقبلة.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
عندما ساعدت مهرة ذات على الوقوف، بدأت بتغيير ملابسها بعناية، وبعد أن استقرت ذات على الفراش، جلست مهرة بجوارها، تمسح برفق على شعرها حتى تهدأ قليلاً، وظلّت تفكر كيف يمكنها مساعدتها للخروج من هذا الحزن العميق. أخيرًا، تحدثت بنبرة هادئة ومليئة بالحنان، فقالت:
“متزعليش من أبية مهران يا ذات، هو عمل كده علشان بيحبك وخايف عليكي.”
نظرت ذات إليها، وكأنها تبحث عن طمأنينة في عينيها، ثم تحدثت من بين شهقاتها، وقلبها ممزق بمرارة الأيام:
“أنا مش زعلانه من مهران يا مهرة، أنا زعلانه من الدنيا كلها، دايمًا بتوجعني وظلماني. حتى لما قابلت أخوكي وبدأت أتغير علشانه، متدنيش فرصة لكدة. أنا بحاول أكون واحدة تانية، ربنا يشهد على كلامي، بس لا الظروف ولا الدنيا سَامحة ليا. أنا بقيت أخاف أنام، علشان ميجيش يوم جديد بوجع أصعب من الأول. انا نفسي أرتاح وأكون إنسانة طبيعية زي أي بنت في سني. نفسي الدنيا تديني فرصة واحدة بس أُثبت نفسي بيها.”
كانت مهرة تستمع لها بقلب مفتور، متأثرة بحزنها، ابتسمت لها ابتسامة هادئة، وقالت:
“أنا يمكن أخر واحدة تعرف تدّي نصايح، بس كل اللي هقوله ليكي هو أن تسيبي نفسك لأبي مهران. هو أكتر قلب هيخاف عليكي، وهيداوي جرح الأيام ليكي، مدام ربنا بعتلك الحب في وقت زي ده ومع شخص زي أبيه. يبقى هو بيحبك وعايز يراضيكي على قسوة الأيام اللي تحملتيها. ماما كانت دايمًا تقولي: ربك جميل وبيجبر دايمًا عباده. كانت تقولي: بعد الصبر جبر، علشان كده مش عايزاكي تملي ولا تنفري من أي ابتلاء، لأن ربنا ناوي يراضيكي. خلي على طول كلمة الحمد لله على لسانك، اشكريه في الضراء قبل السراء، وربنا هيكون دايمًا عند حسن ظن عباده. ده كلام ماما، واللي بيتردد في دماغي أول ما أقع في مشكلة كبيرة.”
كانت الدموع تتسابق على خدي ذات أثناء استماعها لكلمات مهرة، وكأن كل نقطة منها هي صرخة صامتة للروح المثقلة بالهموم. تنهدت بوجع، ثم قالت بصوت حزين منكسر:
“ونعم بالله، معلش يا مهرة، ممكن تسيبيني أنام؟”
أومأت مهرة برأسها بالموافقة، واستقامت بجسدها قائلة:
“تصبحي على خير.”
ثم خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها، تاركةً ذات تواجه وحدتها. تابعت ذات مهرة حتى اختفت من أمام عينيها، مما زاد من شعورها بالعزلة. اعتدلت بجلستها، ضمت ساقيها إلى صدرها، وأسندت رأسها عليهما، وبدأت تبكي حتى تقطعت أنفاسها، وكأن كل دمعة كانت تتسلل من عينيها تمحو جزءاً من آلامها المتراكمة. شعرت وكأن روحها تتمزق من شدة الألم، وبدأت شريط ذكرياتها المؤلمة يتسابق في رأسها، كأنها تتحدى الزمن لاستنفاذها. لكنها انتابتها حالة من الرفض وتمرد على جراحها، فانتفضت بجسدها، ووقفت سريعًا، متوجهة نحو المرحاض. أخذت حمامًا دافئًا، غسلت فيه هموم يومها، ثم توضأت وعادت إلى غرفتها. أمسكت بسجادة الصلاة ووضعتها على الأرض، ارتدت أسدالها ووضعت حجابها على رأسها. وقفت بخشوع بين يدي الله، تنادي تستنجد به، فهو بارئها من قال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. وهي الآن ستفعل بما أُمِرت، وعلى رب العبادة الاستجابة. أنهت صلاتها والدموع تنهمر منها بغزارة، لعلّ هذه الدموع تكون غسول الروح والنفس، تخلّصها من الأعباء الثقيلة. دعَت كثيرًا، ثم أمسكت بكتاب الله وبدأت تقرأ آياته، ويا لها من راحة! كأنها تحولت إلى فتاة أخرى مفعمة بالحياة، مليئة بالأمل والنور. بالفعل، صدق من قال إن الراحة في القرب من الله وطاعته. تنهدت بارتياح، ثم نهضت من سجادة الصلاة بعد أن ألقت حمولها على خالقها، وتوجهت إلى فراشها. استلقت عليه، وبعد عدة ثوانٍ، غاصت في نوم عميق، محمولة على أجنحة من الطمأنينة التي منحها لها إيمانها وتجددها الداخلي.
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»
عندما بدأت نور تحرك رأسها ببطء، وجدت نفسها في حالة من الارتباك. فتحت عينيها بصعوبة، والألم يسري في جسدها بقوة، وكأنها تحمل عبء العالم على عاتقها. لم يكن بإمكانها تحديد كم من الوقت مرت منذ أن استسلمت للنوم، لكن كل ما شعرت به الآن هو الرغبة الماسة في الهروب من هذا الكابوس. اسندت يدها على الأرض، نهضت بصعوبة وسط الأوجاع التي تئن في جسدها، وتحركت ببطء نحو المرحاض.عندما خلعت ملابسها، التي بدت وكأنها عبءًا إضافيًا يزيد من معاناتها، رمتها على الأرض بلا مبالاة، كأنها تحاول أن تتخلص من كل ما يذكرها بواقعها الأليم. جلست في حوض الاستحمام، حيث بدأت دموعها تتسابق على وجهها، تتساقط كحبيبات مطر على صفحة عكرة، تعكس مأساة روحها المنكسرة. تذكرت ماضيها، كيف خدعها عاصم بأسلوبه القاسي وأسقطها في شباكه، وكيف خسرت مهران، ذلك الشاب الذي أحبها بصدق ولم يعرف الخيانة. كانت ذكرياتها كجروح تنفتح من جديد، تذكر تلك اللحظات جعلها تعيد سباق الذكريات مع برك دموعها، وفجأة، أدركت وجود ذلك البغيض الذي لم تفكر في أمره من قبل، وهو يتفحصها بنظراته المريبة، كظل غامض يتربص بها.تقدم ببطء نحوها، وبدأ يحرك يده على آثار صفعاته، كأنه فخور بما فعله، وكأن معاناتها كانت زينة يختال بها. انتفضت نور بخوف شديد، وضمت جسدها كما يفعل الطفل الرضيع الذي يحتمي بأمه من ساحر يهدده، ونظرت إليه بقلق وذعرٍ وحيرة. ابتسم لها، لكن الابتسامة كانت خالية من أي عاطفة، بل كانت كأنها قناع يخفي وراءه شراسة لا تُصدّق. تحدث بنبرة هادئة لا تمت له بصلة، قائلاً:
“واحشتيني يا نوري.”
وكأن كلمات التهكم هذه كانت جرحًا جديدًا يضاف إلى جراحها القديمة.كانت تنظر إليه بدموع متحجرة، وجسدها يرتعش من الألم، وأخيرًا تأكدت أنها تعيش مع مختل عقلي. بدأت يده تتحرك بجرأة أكبر على جسدها، بينما زاد اشمئزازها منه، وكأنها تنتقل في كابوس مرعب لا نهاية له. تكلمت بصوت ضعيف، تكاد تحبس أنفاسها من شدة الألم، قائلة بتوسل:
“بترجاك يا عاصم، أبعد عني، أنا جسمي بيوجعني، أبوس أيدك، أرحمني.”
وكأن صوتها يأتي من أعماق ظلمات قلبها الذي آن له أن يستريح.لم يستمع لتوسلاتها، بل كان كأنما أصغى لغيره، مال بجسده نحوها، حاملاً إياها بلا مبالاة، غير مكترث بملابسه التي ابتلت من ماء جسدها، وكأن همومه أكبر من أن تتأثر بمعاناتها. ألقاها على السرير دون شفقة، ودون رحمة، تحت صراخها المتألم، كأنها تعلن ثورة أمام عذابها الفاقد للهوية. مرت دقائق وكأنها تأخذ معها ذرات الحياة، وتحوليها إلى كائن بلا روح. شعرت وكأنها تتحول إلى جسد خالٍ من كل شيء، حتى من الروح، وكأن الحزن الذي كانت تشعر به يتسلل عبر أصابعها. نهض عاصم بعدم اهتمام، فاقدًا لأي شعور بما فعله، ودلف إلى المرحاض كأنه ليس له علاقة بهذا الكابوس. أما هي، فقد حَجَرَت عينيها إلى الأعلى، فاقدة كل شيء، حتى الألم، وكأن روحها بدأت تفارق جسدها، تلملم شتاتها في أحد أركان الذاكرة المنسية. أغلقت عينيها، مستسلمة لعالم آخر، حيث قد تجد راحة لألمها المتمرد.
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»
فى صباح اليوم التالي، أستيقظت سارة من نومها على صوت رنين هاتفها الخاص. أجابت عليه دون أن تنظر إلى الشاشة، وعندما تحدثت كانت كلماتها تخرج بصوت ناعس، وكأنها لا تزال تعيش في عالم الأحلام:
“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”
جاءها صوت رجولي محبب إلى قلبها، يحمل نغمة دافئة، يقول:
“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، صباح الخير.”
شعرت سارة بانتفاضة داخلها، وكأنها تتلقى صدمة، فطأطأت برأسها برهة، ثم نظرت إلى الشاشة بتوتر. أغمضت عينيها للحظة ثم تلعثمت في كلماتها:
“ص ص صباح النور، خ خ خير حضرتك ف ف فيه حاجه؟”
ابتسم على توترها وأجاب بنبرة تحمل شعور العشق:
“أيوه طبعا فيه، وحاجة مهمة كمان، عايز أعرف رأيك إيه في اللي طلبته منك أمبارح، لأن حضرتك قولتيلي هفكر وقفلتي السكة في وشي على طول.”
قد احمرت وجنتاها بخجل، وكادت الكلمات أن تتعثر على لسانها بينما كانت أنفاسها تتصاعد لدى سماع صوته الرجولي يسأل:
“سارة يا سارة أنتي معايا؟”
أخرجت كلامها بصعوبة وقالت بتلعثم:
“ها…م م مع حضرتك، ب ب بص أنا لسه ملحقتش أفكر، أديني وقتي ولما أفكر وأخد القرار هكلم حضرتك.”
زفر بضيق، وتحدث بنفاذ صبر:
“تفكري في أيه يا سارة؟ هو أنا تلميذ؟ ما عينك فضحاكي وباين فيها كل حاجة، وأنا نفس الموضوع، وعلشان أنا مليش في جو التسبيل والنحنحة عايز أدخل البيت من بابه، فخديها كده من قصيرة وهاتي ميعاد من أبوكي.”
كانت سارة تستمع لكلامه بصمت وصدمه، وتحدثت باستغراب:
“هو أنت مالك قلبت على مهرة كده ليه؟!”
تعالت ضحكاته الرجولية وكأنه يمازحها قائلاً:
“مش أختي وراضعين من نفس المكان.”
شقهت بصدمه وتحدثت بخجل:
“ماهر! أ أ أية اللي انت بتقوله ده كده عيب؟”
تنهد بنفاذ صبر، وهو يحاول أن يقرب المسافة بينهما:
“يا بنتي بلاش أم الرقة دي، يخربيت الطعامة، أخلصي ووافقي خليني أعرف أحب فيكي شرعي.”
ظهرت على وجه سارة صدمة؛ فالأول كانت تشتكي من وقاحة مهرة، لكنها تفاجأت بنسخة أخرى من نفس السلوك، وكأن أفراد هذه العائلة لم يعرفوا يوماً لذوق الأدب طعماً. أخيراً، تمكنت من النطق بصعوبة:
“أ أ أنا لازم أقفل دلوقتي، سلام.”
لم تنتظر لأي ردود، بل أغلقت الخط بسرعة، ونظرت إلى الهاتف بصدمة، صارخة:
“واضح كده عيلة الشرنوبي مفيهاش حد مؤدب غير أبية مهران، ده ماهر؟ ده ملاك الرحمة؟ أنا مصدومة فيه بجد…”
ثم ارتسمت ابتسامة رقيقة على شفتيها وكأنها منحت نفسها لحظة من السعادة، وخطر ببالها أن تتخيل حياتها بجانبه، و قالت:
“بس عسل ابن الايه عايز يتاكل أكل.”
أنهت كلامها ونهضت من تختها، متجهة إلى المرحاض لتجهز نفسها قبل ذهابها إلى الجامعة، وهي تفكر في أي نوع من الألقاب ستطلق عليه في قلبها، “هل سيكون ‘عزيزي’ أم ‘ماهر العاشق المجنون’؟ وكانت ضحكة خفيفة تعلو وجهها وهي تتخيل كيف ستخبر صديقاتها عن حكاية الحب العجيبة التي بدأت للتو، وكل شيء يبدو كأحلام تتشكل وتكبر بينما تتجهز ليومها الجديد.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
حركت ذات رأسها بتكاسل، وشعرت بشيء ثقيل على كتفها، كأنه عبءً يثقل أعصابها. وعندما فتحت عينيها باستياء، وجدت مهران قد وضع رأسه عليها وهو نائم في ثبات عميق، كما لو كان أحلامه تتداخل مع واقعها المؤلم. ظلت تتأمل ملامحه، التي عكس فيها ضوء الشمس المائل عبر نافذة الغرفة، بنظرات ملؤها اللوم والحزن والاشتياق والحب، كما كانت تشعر بأن تلك اللحظة كانت تمثل صراعًا داخليًّا لم تستطع الفكاك منه. كانت مشاعرها متباينة وضبابية، لكن أقوى شعور سيطر عليها كان الاشتياق، فهو كان جزءًا من عالمها الذي لم تكن ترغب في فقدانه. أشتاقت لحضنه، لرائحته التي بقت عالقة في ذاكرتها، وللحظة احتوائه لها التي كانت تمنحها شعور الأمان والراحة. استمرت في النظر إليه لتملأ عينيها منه، وكأنها تحاول تقبيل تلك اللحظات المنسية حتى شعرت برأسه يتحرك ببطء. دفعت رأسه برفق، متمنية لو كانت هذه الحركة هي المدخل للتواصل بين قلبيهما، وتحدثت بغضب، قائلة:
“أنت بتعمل إيه هنا وأزاي تسمح لنفسك تنام هنا؟”
أعتدل فى جلسته وأمسك يدها بأسف وتكلم بصوت مختنق:
“أنا أسف يا ذات، أنا عارف أن أسف الدنيا مش هيراضيكي ولا هيداوي جرحك مني على مدت أيدي وكلامي الجارح بس والله عملت ييكده غصب عني لما عرفت بوجود الزفت ده فى أوضك أتغيبت خوفت لتكوني رجعتي ليه تاني وتروحي مني لان رجوعك ليه تاني معناه موتك، انا بحبك يا ذات ومقدرش أستحمل زعلك مني أرجوكي سامحيني.”
كانت تستمع له بقلب مكسور، حزين ليس فقط على ما فعله معها، بل أيضًا على حزنه العميق وشعوره بالندم الذي يتسرب من نبراته. كانت تنظر في عينيه حيث كانت ترى بوضوح مرآة لمشاعر مختلطة، حب، ندم، وخوف من فقدانها. لكن الأنثى المتمردة، التي تحمل روحًا من نار، رفضت منح قلبها فرصة للتسامح أو الفهم. تكلمت بغضب يشبه العاصفة قائلة:
“والمفروض أعمل إيه دلوقتي؟ أترمي في حضنك وأقولك اعمل فيا اللي أنت عايزه يا حبيبي؟ مدّ أيدك عليا وأجرحني براحتك علشان أنا البنت الوحشة الشريرة وأنت الملاك أبو جناحين، صح؟ لا، يا مهران، ده مش هيحصل، واللي عملته معايا مش هعديه بالساهل، لو سمحت، اطلع من الأوضة، ولو كررت دخولك هنا تاني، هسيبلك المكان كله وأرجع الفيلا عند عمو سليم.”
حاول تجاهل كلماتها النارية وأفعالها المندفعة، وتحدث بنبرة آسفة بصوت هادئ يُشعره بالحاجة لتقريب المسافة بينهما:
“أنا مش هلوم عليكي في اللي بتقوليه، ومن حقك تزعلي، بس صدقيني، أول وآخر مرة هتحصل.”
هبت واقفة، وهدرت به بغضب وعيونها تشع وكأنها تظهر الحقيقة المخفية:
“انت إيه، مش بتفهم؟ بقولك اطلع بره.”
أعادت صياغتها كأمر، لم يبق فيها أي علامة على الضعف، بل كانت تبرز القوة الكامنة بداخلها.ضغط على أسنانه، ونهض بغضب يتفجر في داخله كبركان، قائلاً:
“أنتي هتسوقي فيها ولا إيه؟ غلط وأعتذرتلك. أعملك إيه تاني؟”
اجابت عليه بنفس النبرة الغاضبة، وكأنها ترسم حدودًا لم يُسمح لأي كان بتجاوزها:
“متعملش حاجة، أبعد عن سكتي، وملكش دعوة بيا. اللي ما بينا كانت ورقة وانتهى الأمر، خلاص.”
كان حديثها كالسيف، يقطع أي أمل في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه.شعر بالدماء تغلي في عروقه، واقترب منها كأن بينهما جاذبية غير مرئية، محاطًا بخصرها بتملك، يتأمل تفاصيل وجهها الذي يعكس ألمًا مختلطًا بالإعجاب. تحدث بتحذير، صوته قريب من الهمسات:
“أنتي بتاعتي أنا يا ذات، من غير حتى الورقة. أنا سيبك تدلعي براحتك شوية بس، وحياة أمك، آخرك هنا في حضني.”
نظرت له بتحدٍ، قائلة بنبرة ساخرة وكأنها ترسم لوحة تعبيرية من الرفض:
“بتحلم، كان فيه وخلص، يا مهران. لما تشوف حلقة ودنك، ابقى بتاعتك.”
كانت تعبيراتها مليئة بالفخر والعناد، دلالة على أنها ليست مجرد ضحية في لعبة عاطفية، بل محاربة.اقترب منها أكثر، ممسكًا بها بقوة لست من الشد، بل من الخوف من فقدانها، وتحدث همسًا بجوار شفتيها:
“بلاش تستفزيني علشان معملش حاجة نندم عليها احنا الاتنين.”
تعالت أنفاس ذات عندما شعرت بأنفاسه الساخنة تقترب منها، وكأنهما عالقين في دوامة شعورية لا يستطيعان الخروج منها. ابتلعت ريقها بصعوبة، وتكلمت بنبرة متقطعة، كأن الكلمات تتأرجح بين الرغبة والخوف:
“م… م… مهران، متستهبلش، سيبني احسنلك.”
كانت تلك العبارة بمثابة تحذير له أن يستعد للعواقب لو قام بتجاوز الحدود التي رسمتها لنفسها.ارتسمت ابتسامة ثقة على شفتيه عندما رأى تأثير قربه منها، كأنما استمتع بمشاعر الاضطراب التي أثارها في قلبها. اقترب من وجنتها ووضع قبلة خفيفة عليها، كطيف يعبر في ظلام الليل، قائلاً بنبرة عاشقة تمثل كل الأحلام التي يدور حولها:
“أنا هموت عليهم، وواحشني أوي، بس مقدرش أقرب منهم علشان مش من حقي. و أنا متعودش أخد حاجة مش من حقي، بس أوعدك قريب أوي، هدوق شهدهم زي لما كنت بعمل، وأنتي على ذمتي.”
كانت كلماته وكأنها ذبذبات موسيقية تثير الأشواق، مما جعل قلبها يخفق بشكل متسارع. أنهى كلامه وابتعد عنها بشق الأنفس، وصدره يعلو ويهبط بأنفاس لاهثة، وتحدث بأمر حاسم:
“أجهزي، وأنا مستنيكي بره.”
ثم خرج مسرعًا من الغرفة تاركًا خلفه عبق عطره، ومشاعر الإثارة تتدفق في كيانه، كالأمواج المتلاطمة في بحر عاصف.أما هي، فبقيت واقفة بمكانها، بأنفاس لاهثة، تحاول استيعاب ما حدث للتو. لم تستطع محاربة مشاعر الإثارة التي اجتاحت قلبها بمجرد اقترابه منها، وكأن كل خلية في جسدها تحثها على متابعة خطواته. ألهذه الدرجة هي أسيرة هذا العاشق المجنون، المتقد بحماس الحب والشغف؟ حركت رأسها بالرفض، محاولة استرجاع نفسها لتصده، والوقوف أمام عاصفة مشاعره القوية التي لا تُقاوم. اتجهت إلى المرحاض، لتبدأ في تجهيز نفسها للذهاب إلى العمل، ولكن أفكارها كانت كالسهم المنطلق نحو ذكرى تلك اللحظات، مما جعلها ترتبك. تنفست بعمق مجددًة لتجعل قلبها يخفت قليلاً، متسائلة عن ما سيحدث حين تراه مرة أخرى، وكيف سيكون رد فعلها مع هذا المهران.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
جلس ماهر على مقعده الخشبي خلف مكتبه، تدور في ذهنه أفكار مظلمة وهو ينظر بغضب شديد إلى مجموعة من الملفات المتناثرة أمامه. كان قلبه يتصاعد بوطأة حزن وغضب كلما تذكر كيف ينجو عاصم من أفعاله المشينة. كلما أُخبر بوجود شحنة مشبوهة ترتبط بعاصم، كان الأخير يخرج منها بكل سهولة، بينما تقع شباك العواقب على بعض رجاله المكلفين بحمايته، ويتكرر نفس السيناريو بشكل مروع. لم يكن مجرد هاجس بسيط، بل كان شعور عميق بأن شقاء عاصم سيتجاوز الحدود ليطال أخاه وزوجته. في لحظة من اليأس، ضغط على زر في مكتبه واستدعى:
“هات ملف قضية حازم الزويدي بسرعة.”
بعد برهة قصيرة، تفاجأ عندما انفتح الباب ودخل والده، الذي كان معروفا بهيبته وغضبه المعتاد. فور رؤيته، استقام ماهر بجسده احتراما، أبتعد عن مقعده لأجل أن يجلس مراد مكانه.جلس مراد على المقعد ونظر إلى ماهر مباشرة، وأعلن بأمر صارم:
“أقبض على أخوك يا سيادة الرائد!”
اتسعت عينا ماهر من الصدمة، هاجمت نظراته وجه والده في عدم فهم، حتى تساءل بذهول:
“نعم! حضرتك قولت إيه؟”
دوّى صدى يده وهو يطرق بها على سطح المكتب، وقد ارتفعت نبرته بصراخ:
“أقبض على مهران مراد الشرنوبي لأنه متهم بقتل نور مرات عاصم الدويري.”
صدمه الخبر بشكل غير متوقع، وحرك رأسه برفض وعدم تصديق. الكلمات التي انطلقت من لسان والده كانت كالسحر الذي ألجمه، لكن الأمور كانت تتطلب استيقاظ روحه الممتلئة بالصدمة. أعاده إلى الواقع صوت والده الحاد وهو يصرخ بأمر:
“نفذ الأوامر يا سيادة الرائد، بدل من أخلي حدا غيرك يروح يقبض على أخوك.”
تسللت دمعة من عيني ماهر وهو يتحدث بصوت مختنق:
“ليه يا بابا، معقول تصدق أن مهران يعمل كده؟”…
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى