رواية شهادة قيد الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء الخامس والثلاثون
رواية شهادة قيد البارت الخامس والثلاثون

رواية شهادة قيد الحلقة الخامسة والثلاثون
فى صباح اليوم التالي، تململت ذات على فراشها، حيث شعرت براحه وسكينة طوال الليل، وهذا بفضل نومها بأحضان مهران. لكن تلك اللحظة الهادئة لم تنسها حاجتها الملحة إلى الجرعة. نظرت إليه وهو نائم بجانبها، فقربت نفسها منه، وضعت قبلة على وجنته الرقيقة، ثم انهضت ببطء شديد، مخترقة السكون الذي يحيط بها، وتوجهت نحو الباب. ولكن صوت مهران العميق أوقفها عندما قال لها:
“رايحه فين يا ذات؟”أغلقت عينيها لحظة بتوتر، والتفّت إليه وقالت باختناق:
“ها…ه ه هنزل أجيب حاجه ناكلها.”
اقترب منها مهران، وأحاط خصرها بقوة ذراعيه، مستنطقا عينيها بنظرة مليئة بالحب والقلق، ثم همس:
“مافيش مخدرات تاني يا ذات، انتي لازم تساعديني انك تبطليه.”
حكت أنفها بيدها وتكلمت بترجي، بصوت مكسور:
“ط ط طيب المرادي بس، وأنا أوعدك هبطله بعد كده. بترجاك يا مهران، سيبني أنزل أجيبه.”
قبل رأسها برفق، ضمها داخل أحضانه وتكلم بنبرة هادئة لكنها حازمة:
“لا يا ذات، ولا مره ولا أتنين، أحنا هنرجع مصر النهاردة.
“انتفضت مكانها، مبتعدة عنه، وظلت تحرك رأسها بهستيرية، وقد ارتسم الهلع على وجهها، وهي تقول:
“لا لا لا يا مهران، م م مش عايزه ارجع مصر، ابوس ايدك، أنا خايفه.”
اقترب منها مرة أخرى، وسحب يدها بلطف، مخاطباً إياها بصوت هادئ:
“متخافيش يا ذات، أنا جنبك وهحميكي من الدنيا بحالها.”
ارتمت داخل أحضانه، متمسكة به بقوة، وهي تتحدث من بين شهقاتها:
“لو رجعت معاك، هيأذوك يا مهران، أنا خايفه عليك مش عليا.”
أبعدها عن حضنه، ونظر إليها بحب عميق، متسائلاً:
“مين دول يا ذات؟ اتكلمي؟”
نظرت إليه بدموع في عينيها، وحركت رأسها بالرفض، قائلة:
“م م مش هقدر أقولك.”
نظر لها بحب، وترجي:
“ليه يا ذات، علشان خاطري اتكلمي، ومتخافيش من حد طول ما أنا جنبك.”
اهتز جسمها بشدة، وتكلمت بألم ينازع قلبها:
“أبوس ايدك، سيبني أخد الجرعة، بمووووت… مش قادرة.”
هز رأسه بالرفض، عازماً على تقديم الدعم الذي تحتاجه، مال بجسده، وحملها بين ذراعيه برفق، ثم تحرك بها نحو السرير، حيث كان هناك هدوء صارم يخلق جواً من الأمان. وضعها برحمة عليه، وكأنما يحاول أن يمنحها كل ما يحتاجه قلبها المعذب. أمسك حقنة مهدّئة تركها الطبيب له، ثم نظر لها بعينيه الحانيتين، وكأن كل نظرة منه تحمل عبء عاطفته التي يرفض أن يفصح عنها، وقال بحب:
“انتي لازم تجمدي يا ذات، ولازم أعرف كل حاجه منك.”
ثم أعطاها الحقنة، وظل يتابعها بنظرة تعكس حزنه العميق، وكأنها تعبر عن صراع داخلي يشتعل في قلبه. نظرت له بدموع، وكأنها تستنجد به لينقذها من مستنقع دخلت به بغير إرادتها، وأحسّت بألمها وضياعها الشديد كا شعلة تشتعل في صدرها. حلمت أن يأتي النور بعد الظلام، مع من تحب، واستسلمت إلى النوم، تائهة في عالم أقل قسوة مما هي فيه، عسى أن تجد في الأحلام مخرجًا من الألم الذي يحيط بها، وتنفتح أمامها أبواب لآمال جديدة قد لا تعود، ولكنها تبقى متمسكة بها كفراشة تبحث عن ضوء.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»»
داخل مصرنا الحبيبة
استيقظت مهرة فجأة من نومها العميق على رنين هاتفها. شعرت بالارتباك وهي تمسك الجهاز، وبدون أن تفتح عينيها، أجابت بلهجة متهكمة:
“مين الرخم اللي متصل بيا في وقت زي ده؟”
أتاها صوت رجولي محبب إلى قلبها يدغدغ مسامعها بمزاح:
“أهو انتي الرخمة وستين رخمة كمان.”
استقامت بسرعة على فراشها الفاخر، ونظرت إلى الشاشة بدهشة وكأنها لا تصدق ما تراه، ثم وضعت الهاتف مرة أخرى على أذنها وقالت بحماس:
“أحلف انك هو.”ابتسم على كلماتها، وكانت نبرته هادئة مثل نسيم الصباح:
“وحياتك عندي، أنا هو بشحمه ولحمه كمان.”
ضغطت على شفتيها بغضب، وكلماتها خرجت بشكل مختنق:
“والله وأخيرًا افتكرت واتكرمت وكلمتني. شكرًا والله على كرم أخلاقك.”
تنهد بضيق، وصوته تخلله الأسف:
“أنا آسف يا مهرة، كان لازم أعمل كده علشان أحميكي من نفسي. عارف أنك اتعذبتي، وأنا كمان اتعذبت، بس كل ده لمصلحتك انتي.”
هدرت به بغضب، وشرعت في الكلام بدموع تغالب عينيها:
“مصلحتي أنا؟ والله، ومصلحتي بقى إنك تبعد عني وتسيبني أتوجع من فراقك؟ ولا مصلحتي في إنك تسيبني أسأل نفسي كل يوم نفس السؤال: يا ترى لسه بيحبني زي ما بحبه؟ يا ترى بيفكر فيا زي ما بفكر فيه؟ يا ترى أنا اللي في قلبه ولا جات واحدة غيري شغلته؟ مليون سؤال بيجي في بالي، وانت بعد سنة بحالها جاي تقولي أنا آسف، بحميكي من نفسي. لا يا شريف، أنت واحد أناني وندل، علقتني بيك وبعد كده عذبت فيا بعزم ما ربنا يديك. أسفك مش مقبول، روح شوفلك واحدة غيري تعيش عليها دور سي سيد وتفضل مذلولة ليك علشان تحن عليها بنظرة واحدة.”
زفر بضيق وتكلم بصوت مختنق:
“مهرة، أعقلي شوية وانضجي! لا الظروف كانت تسمح باللي في دماغك ده، ولا حتى شخصيتي تسمح أن أعمل كده. انتي كل اللي في دماغك حب ودلع ورومانسية، إنما الحياة مشاكلها أكبر من كده. قدري أني كنت مشغول مع أخوكي مهران علشان ندور على ذات، ده غير أيام امتحاناتك، كنت ليل ونهار بالي مشغول معاكي وخايف عليكي. عيوني كانت عليك وبتحرسك أربعة وعشرين ساعة لحد ما خلصتي وقعدتي في البيت. فضلت متابع بقلق النتيجة بتاعتك، وكنت بموت من الخوف والقلق لحد ما طلعت واطمنت عليكي، واتخرجتي. كنت لما باجي عندكم علشان أشوفك وأطمن عليكي، حبك مقلش في قلبي، بالعكس، انتي حبك ذات أضعاف. كل ده وبتتهميني بالإهمال لمجرد أن مقربتش منك طول الفترة اللي فاتت دي. لا يا مهرة، الحب أفعال مش أقوال، بس عملت كتير أوي علشان أحافظ على الحب ده.”
ردت عليه من بين شهقاتها وقالت:
“وأيه اللي اتغير النهاردة علشان جنابك تتنازل وتتصل بيا؟”
زفر بضيق وقال بصوت مختنق:
“واحشتيني، كنت محتاج أسمع صوتك أوي.”
ابتسمت بتهكم مع حزن مختبئ في عينيها:
“ووقت ما احتاجتني عملت كده. وانا أوقات كتير أوي كنت محتاجة اسمع صوتك، بس حضرتك كنت بعيد عني. لا يا شريف، أنا مش تحت أمرك، متتصلش بيا تاني، فاااهم؟”
أنهت كلامها وأغلقت الخط دون أن تستمع منه كلمة واحدة، ونظرت إلى الهاتف بدموع في عينيها. شعرت بمزيج من الفرح والحزن يتصارع داخلها. ارتسمت ابتسامة على وجهها وهي تقول بتوعد:
“وغلاوة حبك في قلبي لاجننك وأخليك تحرم تبعد عني تاني، بحبك أوووي يا شريف.”
أحتضنت الهاتف بسعادة، كأنها وجدت شقاؤها المفقود منذ زمن بعيد. شعرت أن الروح عادت إليها من جديد، كما لو أن قلبها بدأ ينبض بالحياة بعد فترة من الجمود. كانت الفرحة تتسلل إلى مفاصلها، وأشعتها الدافئة تجعلها تدرك كم كانت تحتاج تلك اللحظة، رغم كل ما حدث. نهضت بحماس، وأخذت نفسًا عميقًا، مثل عابر سبيل وجد طريقه في ظلام الليل. دلفت إلى المرحاض، وبدأت تأخذ حمامها الدافئ لتنعش جسدها، مستعدة لمواجهة اليوم بتفاؤل جديد وحب يتغلب على كل القيود.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
جلس مراد خلف مكتبه، وقد اعترته نوبة من الغضب الشديد. نظر إلى ماهر بنظرات قاتلة، جعلته يبتلع ريقه بصعوبة. هدر به صارخاً، وقال:
“أنت، أزاي متقوليش أن اخوك عرف مكان البنت دي، ورايح ليها، أيه كبرت وبداري؟”
توقف الكلام في حلقه، وخرج منه بصعوبة، بينما حاول توضيح موقفه:
“م م ما أنا، م م مكنتش أعرف أنه رايح، ع ع عند ذات، أنا كل اللي أعرفه، أنه مسافر الإمارات.”
احمرت عينيه من شدة الغضب، وأعلن بلهجة واثقة:
“قسما بالله يا ماهر لو ما أتعدلت وشوفت شغلك كويس لكون ناهي جوازتك دي وشوف هتعرف ترجعها ليك تاني أزاي!”
نظر له ماهر بحزن، وتحدث بصوت مختنق:
“يا بابا، حياتي الشخصيه ملهاش دعوة بالشغل، أرجوك، وبعدين أنا بقول لحضرتك اللي أعرفة أول بأول، بس مهران من ساعة ما عرف أن بقولك أخباره، وهو بيكون متحفظ قصادي فى الكلام، ومش أي حاجه بيقولها.”
أغلق مراد عينيه ليهدأ قليلاً، ثم تحدث بصوت حازم:
“أخوك أول ما يرجع تبقى معاه فى كل خطوة عايز أعرف بيعمل أيه بيروح فين بيكلم مين، وعايزك تحاول تقنعه يبعد عن البت الشمامه دي، فاااهم.”
أومأ ماهر برأسه بالطاعة، وتحدث بصوت مختنق:
“حاضر يا بابا، تأمرني بحاجة تاني؟”
أشار له مراد بيده, ليخرج ويتركه في مكتبه. تحرك ماهر، وأغلق الباب خلفه، لكنه استند برأسه عليه للحظة، مغموراً بأفكاره المتدافعة. كانت كلماته القليلة التي أطلقها قبل قليل تعكس قلقه الخاص، وهمس الشكوك الذي يسيطر عليه. تنهد بحزن شديد، ثم اتجه نحو مكتبه الخاص. لقد كان يعلم أن حديث والده كان يتجاوز مجرد توجيهات عملية. كان هناك شيء أعمق، شعور قوي بالخوف من فقدان شخص عزيز، لكن تلك العلاقة المعقدة بين الأهالي والأبناء، والتحديات التي غالبًا ما يتعرضون لها، لم تسمح له بالتعبير عن ذلك. كان على ماهر أن يمضي، وأن يتعامل مع الزخم المزدوج: ضغط والده، وحب أخيه، وعبء الحياة العاطفية التي لم يكن قادرًا على السيطرة عليها.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»
بدأ المساء يحل، وما زالت ذات غارقة في نومها العميق. نظر مهران إلى ساعة يده، فوجد أن الوقت قد حان للمغادرة إلى المطار. جلس بجوارها على السرير، وربت على وجنتها بحنان، قائلاً بصوت هادئ:
“ذات، زوزو، أصحي يلا يا حبيبتي هنتأخر على الطيارة.”
بدأت ذات تتحرك ببطء، ففتحت جفنيها حيث ظهرت مقلتيها البنية الناعسة، وكأنها كانت تكافح للخروج من عالم الأحلام. تكلمت وهي تشعر بألم في رأسها:
“طيارة أيه دي؟”
حرك يده على شعرها برفق، ولمس أطراف أصابعه خصلات شعرها المبعثرة كالأفكار التي حيرت عقلها العليل، وكرر بتوضيح:
“طيارة مصر يا قلبي، مش أنا قولتلك راجعين مصر بليل.”
انتفضت ذات مكانها، وانكمشت على نفسها بخوف شديد كأنها تلقت صدمة، حركت رأسها بالرفض، ودموعها تتساقط مثل قطرات المطر، وكأن قلبها لم يستطع استيعاب الفكرة:
“بلاش علشان خاطري يا مهران، ابوس ايدك، سيبني هنا، ا ا أنا مرتاحة كده.”
اقترب منها واحتضنها بقوة، وظل صامتا، يترك دقات قلبه تطمئنها، وكأنهما كانا يتشاركان سرًا دفينًا في ذلك الليل الدامس. وبالفعل، استكانت داخل حضنه، وتمسكت به بشدة، وظلت صامته تستمع إلى دقات قلبه، وكأنها سيمفونية تعزف أنغامًا هادئة تريح قلبها وتهدئ روعها. حرك يده على ظهرها بحنان، وتحدث بنبرة هامسة:
“أنا محتاجك جنبي يا ذات. أهون عليكي تسيبي قلبي، مشتاق ليكي. انتي أكسجين الحياة اللي بعيش عليه، أنا مقدرش أعيش بعيد عنك. ما صدقت لاقيتك، ومش هبعدك عن حضني ثانية واحدة.”
أومأت رأسها، وتحدثت بصوت ضعيف، وكلماتها كانت ترتجف كأنها لطمة لأمانها:
“ولا أنا هقدر أعيش من غيرك. بس رجوعي مصر بداية النهاية، صدقني.”
أجابها بنبرة مطمئنة وصوت عاشق، مفعم بالأمل:
“هي هتبقى بداية النهاية، بس نهاية الفراق والوجع، البعد والعذاب. وهتبقى فيه بداية جديدة وراها، بداية سعادة وحب، بيت هادي فيه أطفال شبهك وشبهي، حياة جميلة أبطالها أنا وإنتي، مهران وذات.”
شعرت بدقات قلبها تتزايد لمجرد تصورها نهاية مأساة وبداية حياة جديدة مع من تحب، وتجلى أمام عينيها مشهد من الأمل. رأت ضوءًا يبرز من بعيد خلف الظلام الدامس، وابتسمت من بين دموعها، حركت رأسها بالموافقة، وقالت:
“راجعة معاك مصر يا مهران.”
قبل رأسها بسعادة، وسحر كلمات الحب تدفئ قلبه، وقال بنبرة حب:
“يلا غيري الهدوم اللي عليكي علشان نمشي. أنا اشتريت ليكي طقم بكل مستلزماته.”
ابتعدت عن حضنه، نظرت إليه بحب وامتنان، واقتربت منه، وضعت قبلة على وجينته، وكأنها تمنح النجوم شرفًا بحضورها في حياته، وقالت بسعادة:
“شكرا لأنك موجود في حياتي، وجودك زي الشمس اللي بتطاردني في ظلام أيامي.”
ثم نهضت، أخذت الملابس، واتجهت إلى المرحاض، بينما كان قلبها يتراقص بين الفرح والخوف من مستقبل لا تتخيل شكله بعد. نظر مهران إلى أثرها بحب، وتنهد بوجع، ثم نهض من على السرير وتحرك إلى خارج الغرفة، ينتظر ذات حتى تنتهي من تجهيز حالها، وكل دقيقة تمر تضع المزيد من الأمل في قلبه، إذ كانت كل لحظة على بعد مجرد خطوة من واقع جديد يحمل بين طياته وعدًا بالسعادة.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
بمنزل سليم الزويدي
استفاق يزيد على صوت والدته الغاضب، وهي تصرخ بحدة قائلة:
“ما كفاية اللي أنت عامله في نفسك ده يا ابني! قوم شوف مصلحتنا! من يوم ما عرفت خبر قتل أبوك، وأنت حابس نفسك في الأوضة، والشركة أتوقف، وكل حاجة راحت من أيدينا.”
تململ يزيد بصعوبة على سريره، ونظر إلى والدته بعينيه المليئتين بالحزن والانكسار، ثم قال بنبرة مختنقة:
“مش قادر أسامح نفسي يا ماما، أن كنت حاطط إيدي في يد اللي قتل أبويا. يعني اليوم اللي كنت واقف فيه جنبه، كانت إيده كلها دمه. آه لو كنت أطوله، رب العزة لأشرب من دمه.”
جلست بجواره على السرير، وتحدثت بنبرة هادئة:
“دي أخرة السكة اللي كان أبوك ماشي فيه. وهو برضه كان حاطط إيده في يد الراجل اللي قتل أخوه واشتغل معاه سنين طويلة. لولا مقصوفة الرقبة والزفت اللي معاها، لعبوا في دماغه، وهو جري وراه كلامهم وغدر باللي كان شغال معاهم. أنا سبق وقلتلك إن الناس دي معندهمش رحمة، واللي بيغدر بيهم بيخلصوا علية. عموماً، اللي حصل حصل، وأبوك الله يرحمه بقاله سنة ميت. كفاية بقى حابسه لنفسك لحد كده، اخرج من أوضتك وارجع زي الأول، شغل الشركة من أول وجديد. الجو خلي لينا و البت اللي اسمها ذات اختفت، و مش عارفين ليها مكان، يعني كل حاجة بقت بتاعتنا.”
نظر إليها بتوتر وقال بتوضيح:
“ب ب بس الشركة أصلاً مبقتش بتاعة ذات يا ماما.”
ربتت على صدرها بصدمة وتكلمت بعدم تصديق:
“نهار مش فايت! الشركة مش بتاعة ذات، أومال بتاعة مين؟”
تكلم بتوتر، متلعثماً:
“ب ب بأسم مهران الشرنوبي باعتها ليه قبل ما تختفي.”
لطمت وجهها بغيظ، وقالت:
“يا خيبتك السودا يا هالة! يعني بعد كل ده، ويروح كل حاجة من تحت أيدينا بسهولة كده! كله من بنت رحاب، هي السبب. الله يجحمها مكان ما هي موجودة.”
زاغ ببصره بعيداً عنها، وأومأ برأسه قائلاً بتوتر:
“ا ا أهو اللي حصل بقى يا ماما، سبيني أنام بقى.”
هدرت به بغضب، قائلة:
“نوم إيه! قوم شوف شغلانة بدل ما قربنا نشحت ونبقى على الحديده.”
زفر بضيق وأومأ برأسه قائلاً:
“ماشي، حاضر. هبقى أشوف شغل بس لما أصحى.”
نهضت بغضب شديد، وتكلمت بصراخ:
“فينك يا سليم! تعالى شوف الخيبة اللي بقينا فيها بعد منك.”
أنهت كلامها وخرجت من الغرفة، تاركة إياه وحيداً. نظر إلى أثرها، وتنهد بحزن، وقال بصوت مختنق:
“حقك عليا يا بابا، عرفت قيمتك بعد موتك. ربنا يرحمك يا حبيبي.”
أنهى كلامه، وتمدد على فراشه، وذهب إلى ملجأه الوحيد في الأواني الأخيرة: النوم.استشعر يزيد في صميم قلبه الفوضى التي تخيم على أروقة منزله، تلك الفوضى التي تجعله يشعر كأن الحياة قد توقفت عند تلك اللحظة الأليمة.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
بعد انتظار طويل، وصل مهران وذات أخيراً إلى أرض الوطن. ولكن ذات دخلت في نوبة صداع بسبب احتياجها للجرعة، فأعطاها مهران الحقنة المخدرة ليخفف عنها حتى لا يُكشف أمرهما، وكان يشعر بالقلق حيال تأثير ذلك على مستقبلهم. وعندما وطأت أقدامهم أرض المطار، حملها مهران بين ذراعيه برفق، وكأن هموم العالم بأسره لم تعد تعنيه. أنهى الإجراءات اللازمة بسرعة كبرى، ثم خرج بها بمساعدة زملائه المهتمين الذين كانوا يعرفون حجم معاناتهم. وضعها في السيارة واتجه نحو شقتهم، حيث كانت ذكرياتهم تجوب المكان كأرواحٍ محبة، وبعد عدة دقائق من الطريق الشاق، نزل من السيارة. وعندما انحنى ليرفعها، فتحت عينيها نظرت إليه باستغراب، وسألته:
“مهران، بتعمل أيه؟”
أجابها مبتسمًا بابتسامة هادئة وحنونة، تنقل مشاعر الحنان والاشتياق المتراكم:
“حمدالله على السلامة، يا قلبي! إنتي دلوقتي في مصر وأحنا طالعين شقتنا.”
نظرت حولها، وشعرت بشعور عارم من الأمان، كما لو أن أسوار الوطن كانت تستعد لإضفاء الحماية حولها. ثم نظرت إلى مهران بابتسامة دافئة كأنه كان الشمس التي لمعت بعد عواصف طويلة، وقالت:
“مصر كانت وحشاني أوي.”
أحب مهران أن يمسك بيدها ويرغمها على النزول، مع انعكاسات مشاعره المطلقة:
“وأنتي وحشتي أهلها أوي أوي، يلا نطلع.”
أومأت برأسها وصعدت معه إلى الأعلى، وكأن كل خطوة كانت تحتاج إلى جهد فوق العادة في هذه اللحظات السحرية. وعندما فتح الباب ودلفا إلى الداخل، نظرت حولها بشوق وتذكرت الاجتماعات والمشاعر القوية التي عاشوها في هذا المكان الذي عاشت فيه أحلامهم. حدثها مهران بحب، معلقًا بيده على ظهرها وكأنها روح متجددة:
“المكان ده هو اللي اتولد فيه حبنا. شاف أجمل أيام قضيناها سوا، وشهد على أول بوسة بينا، وشهد لحظات جنوننا وعصبيتنا، سواء كانت سعيدة أو حزينة. المكان ده غالي على قلبي أوي.”
أومأت برأسها مع دموع في عينيها، وابتسامة تهاجم الأحزان. قالت:
“وشهد على دموعي في فراقك، وشهد على فرحتي لما حسيت بوجودك فيها، وشفت الفص بتاعك وأتاكد أنك فعلا كنت موجود.”
اقترب مهران منها، وداعب وجنتيها برفق كأنه يمسح آثار الأيام العصيبة، ثم قال بنبرة عاشقة نفذت في أعماقها:
“لسه يا عمري عندنا حاجات كتير أوي هنعيشها مع بعض. هنخلق أجمل الذكريات.”
في تلك اللحظة، خرجت نور بمقعدها المتحرك من إحدى الغرف، وابتسمت لها بتوتر، كأنها تحاول أن توازن بين ظرفها وبين السعادة التي تملأ المكان قائلة:
“حمدالله على السلامة يا ذات.”
ابتعدت ذات عن مهران ونظرت إلى نور باستغراب، وكأنها تكتشف جزءًا من حياتها كان غائبًا عنها، وسألت بتساؤل:
“نور!! بتعملي أيه هنا؟”
أجابها مهران موضحًا، وكأنه يحاول تسليط الضوء على التفاصيل المخفية:
“نور عايشة هنا في الشقة من يوم اللي حصل، مكانش ينفع تروح تعيش في أي مكان تاني.”
نظرت ذات إلى مهران بضيق، ونبرة الغيرة تسود حديثها:
“وأنت كنت عايش معاها؟”
ابتسم مهران عندما لاحظ غيرتها، ثم هز رأسه بالنفي كأنه يؤكد على التزامه:
“لا يا قلبي، هي عايشة هنا لوحدها، وأنا رجعت أعيش تاني مع أهلي، وكنت باجي كل يوم أطمن عليها وأمشي.”
ابتسمت ذات لها بضيق، وكأنها تحاول استيعاب الوضع، وقالت:
“أه ماشي، نورتي…”
ثم نظرت إلى مهران وسألت:
“أنا تعبانه وعايزه أريح في أوضي، ممكن؟”
أومأ مهران برأسه بالموافقة وقال:
“طبعًا يا قلبي، ادخلي أوضك زي ما هي من يوم ما سبتيها.”
أومأت برأسها بضيق وتحركت نحو الباب، لكنها التفتت ونظرت له باستغراب، وكأنها تأمل أن يشاركها هذه اللحظة:
“انت مش هتيجي معايا؟”
أومأ برأسه بالتأكيد وقال:
“جاي طبعًا يا عمري، بس ادخلي، وأنا هدخل نور أوضتها وجايلك على طول.”
ضغطت على أسنانها بغضب، ودلفت الغرفة وأغلقت الباب خلفها بقوة، وكأنها تحاول إغلاق الأبواب على ذكرياتها الأليمة.نظرت نور إلى أثرها وقالت بحزن، وكأنها تشعر بالذنب في تحمل مشاعر الغضب:
“شكلها اضايقت من وجودي هنا. لو هسبب ليكم مشكلة، أنا ممكن أمشي.”
حرك مهران رأسه بالنفي، محاولًا تهدئة الأجواء المتوترة، وتحدث موضحًا:
“لا طبعًا، مش هتتحركي من هنا. ذات غيرانه عليا مش أكتر، وأكيد لما تفهم الوضع وتتعود عليه، هتتعامل كويس معاكي.”
ابتسمت له وقالت بنبرة هادئة، وكأنها تحاول أن تمنع الفكرة السلبية:
“إن شاء الله، روح ليها يلا متسبهاش زعلانه كده.”
أومأ برأسه بالموافقة، وتحرك خلف مقعدها، قائلًا وهو يدفعها نحو غرفتها:
“هدخلها طبعًا، بس الأول تعالي أدخلك أوضك.”
وبالفعل، أدخلها الغرفة، وحملها وضعها على فراشها، ثم أغلق الباب خلفه، ثم تحرك نحو غرفة ذات. دلف إلى الداخل، وعلى الفور صاحت بغضب بوضوح:
“جاي ورايا ليه؟ خليك معاها، هي أحسن، هي محتاجة رعاية منك أكتر مني.”
تحرك نحوها مبتسمًا بهدوء، محاولًا إزالة التوتر:
“معنديش أهم منك، يا عمري كله، اللي راح، واللي جاي. نور مش أكتر من حالة إنسانية عندي.”
نظرت إلى الاتجاه الآخر وتحدثت بتهكم، متأثرة بالتجارب السابقة:
“آه، ما هي بتبدأ بالعطف، وبعد كده تنتهي بواو العطف.”
تعالت ضحكات مهران الرجولية، وتكلم بصعوبة كأنه يشعر بألم مشترك:
“وحشتيني يا بت، الإيه، واحشني خفة دمك، وطريقة كلامك المجنونة، وحركاتك الشقية معايا. كل حاجة فيكي وحشتني.”
جلست على السرير، وهي تشعر بألم يجتاح جسدها كله، وتكلمت بصوت متعب، كأنها تعبر عن آلام سنوات:
“أنا بقي كل يوم كنت بشوفك في أحلامي، وانت بتخدني في حضنك، وبتحسسني بالأمان. حلمك كان هو الوحيد اللي بيحلّي أيامي، كان النور وسط الضلمة اللي كنت عايشه فيها. انت لو تعرف يا مهران، وجودك جنبي بيفرق أزاي، عمرك ما هتسيبني لحظة واحدة.”
جلس بجوارها، وأحاطها بذراعيه، ووضع رأسها على كتفه، ثم قبلها عليها، وقال بنبرة عاشقة تحمل في طياتها كل الأمل:
“عارف أن وجودي جنبك بيفرق، زي وجودك جنبي بيفرق برضه. أنا أسوأ سنة عشتها في حياتي كلها هي السنة اللي كنتي بعيدة عني. أنا وإنتي ملناش غير بعض، يا زوزو.”
تمسكت به بقوة، واهتز جسدها وهي تتحدث بألم، وكأنها تحمل طيفًا من المعاناة في كلماتها:
“أنا تعبانه أوي يا مهران، محتاجة الجرعة، بموووت.”
أمسكها بقوة، وتحدث بترجي، كأنه يدخل معركته الأخيرة:
“اجمدي علشان خاطري، يا ذات. لازم تبطلي القرف ده، مش هقدر أستحمل أشوفك بتضيعي قصاد عينيا. لازم تخفي، وترجعي أحسن من الأول.”
تكلمت بدموع، وقالت بترجي، وكأن كل كلمة تشبه صرخة داخلها:
“مش قادرة والله، بموت، العظيم.”
ضمها بقوة داخل أحضانه، وكأنما يريد أن يبني جدار حماية ضد العالم، وقال بصوت هادئ، بعيدًا عن الضغوط:
“ششش، أهدي يا ذات. علشان خاطري، أقوي، واستحملي.”
أومأت برأسها مع دموع، وتحدثت وهي تتحامل على الألم، تتحدى الواقع:
“والله العظيم بحاول، بس الألم صعب أوي. عضمي كله بيتكسر، أنا عايزة أبطله، بس بتعذب بموووت يا مهران، مش قادرة.”
ربت على ظهرها، وتحدث بنبرة تشجيعية، يزرع الأمل في عينيها:
“أنا واثق أنك قدها، وهتقدري. عملتيها قبل كده، وهتقدري تعمليها دلوقتي علشان نتجوز بقى، ومافيش حاجة تقدر تبعدنا عن بعض.”
خرجت منها صرخة دوت بالمكان، وكأن الرياح تشهد على خوفها، اهتزت جدران الحائط من شدتها، ومن ثم خارت قواها من شدة الألم، بينما كانت الأنفاس المتقطعة تجسد كل مأساة عاشتها. أغلق مهران عينيه بحزن، ووضعها على السرير، وألقى عليها الغطاء، مقبلاً رأسها بحنو كأنه يودع زمنًا صعبًا، ثم خرج من الغرفة، وأغلق الباب من الخارج جيدًا، ثم غادر المنزل متجهًا إلى عمله، حيث كان عليه أن يتعامل مع العالم الخارجي الذي كان يبدو وكأنه بعيد جدًا عن مشاعره في تلك اللحظة.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس شريف على مقعده الوثير، ينظر إلى شاشة هاتفه حيث يحتفظ بعدد من الصور لمحبوبته الجميلة مهرة. حرك يده برفق على الشاشة ليظهر ابتسامة دافئة تعكس مدى حبه، وهو يقول:
“مجنونه وهتجنيني معاكي بس بعشقك يا بنت اللذين.”
في تلك اللحظة، أضاءت الشاشة وظهرت كلمة “مهران”، مما جعله ينتفض في مكانه. رد عليه مزاحاً:
“ضيعت مستقبلي ومستقبل اختك، الله يحرقك! حد يخض حد كده؟”
تلقى تحذيراً جاداً من مهران:
“شررريف، سيرة اختي متجيش على لسانك أحسنلك.”
بنفاذ صبر، تحدث شريف بأسلوب يظهر توتره:
“تصدق أنك رخم وجبت أخري منك، هموت وأتجوز أختك، وانت عمال تأجل في الموضوع. قولت تخلص دراستها، خلصت، قولت أصبر لما ألاقي الذات، ولاقتها، كفاااية بقى! حرام عليك، هموت على البت، وقلبي متشحطف. ده غير المجنونه، مفكرة أن بعد عنها كل ده بمزاجي، متعرفش أن أخوها مفتري وهو اللي بعدني عنها.”
هدر به بغضب، قائلاً:
“وحياة أمك، عايزني أعمل إيه بعد اللي حصل ما بينكم؟ أحمد ربنا أنك عايش لحد دلوقتي ومقتلتكش.”
تنحنح برجولة، وبصوت متلعثم قال:
“ما خلاص بقى يا كبير، أنا جيت واعترفتلك باللي حصل، وقولتلك كان غصب عني ضعفة، وانت راجل وفاهم بقى.”
زفر بضيق وتحدث بنفاذ صبر:
“اخرس بقى، الله يحرقك! الدم بيفور في دماغي كل ما أتخيل اللي حصل ده. لم الدور واهدا كده علشان مسك نفسي عنك بالعافية.”
بتوسل مثل طفل صغير، قال:
“طيب وحياة الغاليين عندك، جوزني أختك.”
صرخ بنفاذ صبر:
“خلااااااص، عيل زنان، أبقى هات أمك وتعالى يوم الجمعة.”
قفز شريف بسعادة، غير مصدق لما سمع:
“أحلف!! الله يعمر بيتك يا مهران يا ابن أم مهران، بحبك يا مهوررتي.”
بتأفف، رد مهران:
“يععع، الله يقرفك، الكلمة طالعة منك سم، مسمعكش تقولها تاااني.”
تعالت ضحكات شريف على كلمات مهران. ثم قال بتساؤل:
“سيبك مني، طمني، عملت أيه مع ذات؟”
تنهد مهران بحزن مغلف بالغموض، وقال بصوت مختنق:
“رجعنا لنقطة الصفر من تاني يا شريف، بتتعذب أوي بسبب الزفت ده.”
رد عليه بنبرة هادئة:
“ما أنا قولتلك اللي فيها يا مهران. للأسف، المرادي هتكون أصعب من اللي فاتوا، والأضرار هتكون صعبة. علشان كده، عايزك تجيبها بكرة المصحة، اعمل لها التحاليل والأشعة علشان نعرف الأضرار وصلت لحد فين.”
زفر بضيق، قائلاً:
“ماشي، بكرة إن شاء الله هجيبها ليك. ولو محتاج أسفرها تتعالج بره، هسفرها. المهم إنها تبقى كويسة.”
أجابه شريف بتوتر، وهو يعلم جيداً كم الأذى الذي تعرضت له ذات بسبب الإدمان:
“هتبقى كويسة إن شاء الله، وهتتجوزوا وتجيبوا عيال رخمة شبهكم.”
ابتسم مهران على كلمات شريف، وقال بتمني:
“يارب يا شريف، يلا، أنا هقفل دلوقتي، سلام.”
أغلق شريف الخط ونظر أمامه بقلق، وقال: “ربنا يستر، ميكونش اللي في دماغي صح.” وبدأ يتابع عمله.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)