روايات

رواية شهادة قيد الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الجزء الثامن والعشرون

رواية شهادة قيد البارت الثامن والعشرون

شهادة قيد
شهادة قيد

رواية شهادة قيد الحلقة الثامنة والعشرون

استيقظت مهرة على صوت طرقات متكررة على الباب، نهضت بصعوبة من فراشها، عيونها مغلقة وشعرها مبعثر حول وجهها، وكأنها خرجت لتوها من معركة نوم. بتثاؤب واضح، سألت: “مين؟” جاءها صوت شريف، واضحًا ومفعمًا بالحيوية:
“أنا يا مهرة، افتحي.”
وبدون تردد، فتحت الباب سريعًا، ناسية مظهرها المضحك، وتحدثت بنبرة ناعسة:
“صباح الخير يا شريف.”
لم يستطع شريف أن يكتم ضحكاته على مظهرها الغريب، الذي أظهرها كفراشة حديثة الخروج من شرنقتها، وتحدث بصعوبة، محاولًا تمالك نفسه:
“صباح النور، يا قلب شريف. يلا اجهزي علشان أوصلك على سكتي الجامعة بتاعتك.”
اتسعت عيناها كما لو كانت في حالة صدمة، وفتحت فمها دون فهم، قائلةً ببلاهة:
“ها… جامعة إيه؟”
ضحك شريف وعينه تتألق بمرح، متذكراً لحظاتهم السابقة وكيف كانت مهرة دائمًا تضفي لمسة من الفكاهة على أوقاتهما معًا. عاجزًا عن ضبط نفسه، رد عليها بصوت مفعم بالسخرية:
“أيه يا بنتي، المنظر ده! وأنا اللي مخدوع فيكي، واقول إن شعرك بيبقى على المخده سايح و مفرود، انتي حد مكهربك ولا أيه يا حبيبتي؟”
وضعت يدها على شعرها المتناثر ونظرت له بصدمة:
“قول يا لهوي كده!”
ثم تركته وركضت سريعا إلى الداخل، مما جعل شريف يكاد يقفز من الضحك، قائلاً بصعوبة:
“يا بنت المجنونة.”
ثم هتف بصوت مرتفع:
“اجهزي وانزلي، خبطي عليا، هستناكي في الشقة تحت.”
أنهى كلامه وأغلق الباب، هابطًا إلى الأسفل. نظرت مهرة إلى انعكاسها في المرآة، ضوء الصباح الخافت يلقي بظلاله على وجهها، وضعت يدها على شعرها الغير مرتب بعدم رضا، وتكلمت بسخرية:
“ليه حق يتخض! والله إذا كنت أنا نفسي اتخضيت لما شفت شكلي في المرايا، هوريه وشي إزاي بس؟ يا ربي!”
ثم حركت يدها على جسدها وتحدثت بثقة:
“مش مهم شعري، المهم الحشو، وتكه يا بت. ربنا يقويك يا شريف على جمال أمي.”
أنهت كلامها وبدلت ملابسها، معبرة عن ذوقها الشخصي المفعم بالألوان وتلك الحركة الطفولية التي تميز مهاراتها، مشطت شعرها، ونظرت إلى مظهرها الأخير برضا، وكأنها قد وضعت لمساتها السحرية. تحركت نحو غرفة أخرى، وعندما نظرت بداخلها ووجدتها خالية، تأكدت أن ذات ذهبت إلى الشركة، هبطت إلى الأسفل وطرقت على الباب، وانتظرت شريف ليفتح لها. بعد ثواني قليلة، وقف شريف أمامها، يحاول منع ضحكاته بكل جهد، لكنها تحدته بتهكم:
“وكتمها ليه؟ اضحك ومتخليش نفسك في حاجة، وبعدين عادي يعني، كنت لسه صاحيه من النوم، وشعري مش مرتب زي أي حد عادي.”
اقتربت منه وتحدثت بدلع:
“وبعدين، الحلاوة مش في الشعر، فيه حاجات أحلى بكتير.”
تراجع شريف إلى الخلف، وابتلع ريقه بصعوبة، قائلًا:
“اتلمي يا مجنونة، وامشي يلا علشان متتأخريش على محاضرتك.”
اقتربت أكثر، وابتسمت بسعادة:
“طيب، قولي الأول، مين اللي قالك ترجعني الجامعة؟ أبية مهران؟”
تراجع إلى الوراء وحرك رأسه بالنفي، قائلًا بتلعثم:
“لا. مهران مقالش حاجة، أنا اللي قررت أنزلك الجامعة، ولما يخرج من المكان اللي هو فيه ده، هبقى أكلمه، متقلقيش. وأنا اللي هوصلك كل يوم الصبح، واجي أخدك لما تخلصي.”
نظرت له بحب، مبتسمة بسعادة:
“هو أنا مقولتلكش بحبك قد إيه؟”
ابتسم بدوره على كلماتها، وقال بنفاذ صبر:
“لا، مقولتيش يا مجنونة.”
اقتربت منه أكثر، وضعت قبلة رقيقة على وجنته، وهمست بجوار أذنه:
“بحبك أكتر من ظهور الشمس في عز الصيف، بعشقك أكتر ما ليلى حبت قيس، بموت فيك أكتر ما جوليت عشقت روميو.”
تعالت أنفاسه بشدة، يعلم الله كم جاهد نفسه حتى لا يندفع بمشاعره ويدمر صداقته العميقة، لكنه لم يكن يستطيع إنكار الشغف الذي يشتعل في قلبه نحوها. ولكن هذه المجنونة تفعل أشياء تجعل السيطرة على نفسه تخرج عن نطاق السيطرة. أسندها إلى الحائط، ولاقى جسدها بجسده، وتكلم بأنفاس لاهثة:
“يا بت، اتلمي بقى، جننتي أمي معاكي. عايز أحافظ على وعدي لإخواتك، بس أنتي بتخليني أفقد السيطرة على نفسي. مش عايز أعمل حاجة أندم عليها بعدين أو ألوم نفسي عليها. أنا بعشقك، يا مهرة، بعشق التراب اللي بتمشي عليه. بس ساعديني أوفي بوعدي لإخواتك، وتبقي ملكي وفي بيتي، وساعتها بقى هعبرك عن مشاعري بطريقتي الخاصة.”
أنهى كلامه، وقبل مقدمة رأسها، مبتعدًا عنها بخطوة مؤلمة، وكان في عينيه بريق واضح من الشغف والتعجب. وقفت مكانها مصدومة مما حدث، ابتلعت ريقها بصعوبة، واحمرت وجنتاها خجلًا، بينما كانت أفكارها تتقافز كأسراب من الفراشات في يوم مشمس.ابتسم شريف على رد فعلها، وحرك رأسه بانبهار، قائلًا بصوت عاشّق:
“امشي يا مجنونة، أخلصي علشان هنتأخر. أدي أخرت اللي يحب واحدة قد عياله، صبرني يا ربي.”
ركضت بكل سرعة من أمامه، هابطة إلى الأسفل تنتظره، وكأن كل لحظة تأخير هي عذاب لا يحتمل. قال شريف بنفاذ صبر:
“وربنا اتخدعت في البت دي، كنت مفكرها عاقلة، مكانش باين عليها أبدًا إنها مجنونة وضايعة كده.”
ثم تحرك نحو الباب، خرج منه، وأغلقه خلفه، وكان في قلبه شعور بالقلق والفضول حول ما ستجلبه لهم الأيام المقبلة. هبط إلى الأسفل، فتح باب السيارة لها، وبعد أن صعدت، أغلق الباب، واتجه إلى المقود، ثم أدار السيارة وبدأ في التوجه نحو الجامعة، مشغولًا بأفكاره حول مستقبلهم، مع شعور عميق بأن شيء جميل على وشك الحدوث.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
حرك مهران رأسه ببطء، وبدأ يفتح عينيه تدريجيًا. شعر بتيبس في رأسه نتيجة عدم الراحة أثناء النوم، فظل يدلكها بيده. لكنه تفاجأ بوالده يجلس أمامه ويتابعه بعينين تحملان زفرات ضيق. اعتدل على مقعده، ثم تحدث مراد بسخرية قائلاً:
“على الله الإقامة هنا تكون عجبت حضرتك؟”.
نظر مهران في الاتجاه الآخر، وهو يقول بتهكم:
“والله لولا وجود أشخاص هنا معينه، كنت قولت أه عجبتني.”
ضغط على أسنانه بغضب ورد:
“أنت قليل الأدب ومتربتش.”
ابتسم مهران بابتسامة مريرة، وواجه مراد بكلمات تحمل طابع الألم:
“لا في دي معندكش حق. أنت مكانش وراك حاجة غير تربيتك لينا وتأديبك فينا ليل ونهار.”
شعر كلمات مهران له كالسهم، حيث انبض في قلب مراد وجع يؤنب ضميره عما فعله بهم في صغرهم. لكنه، سرعان ما تمسك بكبريائه وجاء بصوت يحمل الغضب:
“تربيتي ليك اللي مش عجباك هي اللي خلتك راجل طول بعرض انت واخوك، وبقى ليك اسم ومركز. بس بهبلك وعبطك ضيعت من إيدك كل حاجة.”
زفر مهران بضيق وتحدث بنفاذ صبر:
“بطل تعمل نفسك بطل مغوار، تحسسنا أنك عملت حاجة زيادة عن الأبهات اللي بيعملوا مع ولادهم. بطل تذل فينا على الفاضي والمليان. افتكر قسوتك علينا كانت عاملة إزاي. كرهتنا في النظام والمواعيد. فاكر عقابك لينا كان إيه لو حد اتأخر دقيقة واحدة عن ميعاد الأكل؟ كنت بتحرمه من الأكل اليوم كله. كنا بنتقطع من الجوع علشان كسرنا قوانين جهات عليا. طيب فاكر لو كان حد فينا ينقص درجة واحدة في النتيجة كنت بتعمل إيه؟ كنت بترسم بحزامك خريطة على جسمنا. كرهتنا في العيشة معاك بسبب قوانينك القاسية. ده غير تقطيم حضرتك اللي بيبقى على الكبيرة والصغيرة. قبل ما تسألنا عن قسوتنا وإحنا كبار، فكر كده واسأل نفسك عن قسوتك وإحنا صغيرين. حصادك دلوقتي نتيجة زرعتك زمان يا مراد باشا.”
لأول مرة، صمت مراد، لم يجد ما يقوله. شعر وكأنما سُحب عنه ستاره وانكشف أمام حاله. كيف يرونه أولاده؟ كان يظن أنه يفعل ذلك لمصلحتهم. لا يعلم أنه بذلك يزرع فيهم الحقد والكره، وللأسف، قد وصل العمر إلى أرذله ولا يستطيع العودة إلى الماضي. نظر نظرة طويلة إلى ابنه، ثم نهض وخرج من المكتب في صمت مطلق. ابتسم مهران مرارًا عندما تذكر الماضي، لتفتح جراح قديمة. مر بمخاطرات نشأته من طفل معقد إلى رجل عنيد، يفعل عكس ما كان يريده والده حتى يخرج من دائرته أو سيطرته عليه. أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه بهدوء، ناظرا إلى ساعة يده بإستغراب؛ لقد تأخر شريف عليه، ويريد الاطمئنان على محبوبته ذات. يا الله، كم اشتاق إليها! أراد الآن احتضانها بقوة، واستنشاق عطرها، وسماع صوتها، وتقبيلها. شعر وكأن الدقائق تمر عليه كالدهر. أخيرًا، انفتح الباب وظهر شريف أمامه. نهض مهران سريعًا وتحدث بتساؤل:
“كل ده يا شريف كنت فين يا ابني؟ هموت وأطمن على ذات عاملة إيه دلوقتي؟”
رفع شريف إحدى حاجبيه إلى الأعلى وتحدث بتهكم:
“نعم يا أخويا، هو ده كل اللي همك؟ وأنا لما شفت لهفتك عليا، قولت وحشتك.”
رد عليه مهران بمزاح:
“وحش لما يلهفك، وانت توحشني ليه، كنت حبيبتي أعوذ بالله يعني.”
ابتسم شريف على كلماته وشعر بارتياح عندما اطمئن على حال صديقه، حيث قال:
“عمومًا يا سيدي، اطمن، هي كويسة وراحت الشركة الصبح بعربيتك وأختك نزلتها الجامعة. وهروح كل يوم أوصلها وأجيبها.”
لكن مهران، بغضب شديد، قال:
“إيه نزل مهرة الجامعة؟ أنا مش قولت مافيش مرواح غير على الامتحانات؟”
رد شريف بنبرة هادئة:
“أهدا بس يا مهران، أنا اللي قولتلها تنزل. هي غلطة، واتعقبت بما فيه الكفاية. خليها بقى ترجع لحياتها الطبيعية. هي اتعلمت الدرس خلاص ومستحيل تكرر اللي حصل ده تاني. وأنا بنفسي هوصلها كل يوم الصبح وهروح أجيبها لما تخلص. متشغلش بالك انت بحاجة، وبعدين يا عم، البت هتبقى مراتي، وأنا مش عايز يبقى نفسها في حاجة ولا مضايقة.”
ضغط مهران على أسنانه، مغتاظًا، وقال بغضب:
“وحياة أمك، إحنا هنبدأ ولا إيه؟ مش قولنا مافيش كلام في الموضوع ده إلا لما تخلص دراستها؟”
ابتلع شريف ريقه بتوتر، وتحدث لنفسه بصوت هامس:
“أمال لو تعرف أن أختك هي اللي بتتحرش بيا، هتعمل فينا إيه…؟”
ثم تنحنح بتوتر وقال:
“أيوه طبعًا، قولنا وعند كلامنا يا كبير، بس ده يعني ميمنعش أن يكون فيه شوية اهتمام.”
أغلق مهران عينيه بغضب، قائلًا بتحذير:
“شررريف، قفل على الموضوع ده. ولو عرفت إنك بتسبل لأختي، هخزقهم ليك، فاااهم؟”
الكلام وقف في حلقه، وأومأ شريف برأسه بالطاعة، ثم تحدث بصعوبة:
“ف ف فاهم طبعًا يا صاحبي. المهم طمني، حصل حاجة تاني مع أبوك؟”
ابتسم مهران بسخرية, قائلاً:
“أكيد طبعا، ده ما هيصدق كل شوية يحسسني بفشلي وأن أنا من غيره ولا حاجة. ويسمعني الكلمتين بتوعه المعروفين: أنا اللي عملتكم رجالة طول بعرض وخلتكم في مكانة غيرنا كان يتمنى يبقى فيها. وإن أنا غبي وحمار، وخسرت كل حاجة بسبب عبطي وتهوري. إن أنا إنسان فااااشل، واسطوانة أنا الأسطورة، بتاعته، اللي مبيزهقش منها، ويستنى أي لحظة تجمعنا سوا علشان يسمعها ليا، شخص نرجسي.”
حرك شريف رأسه بضيق، موضحًا:
“أنت عارف مشكلتكم أنتوا الاتنين إيه؟ إنكم شخصية واحدة. طبعكم واحد. أنتوا الاتنين عندكم العناد والكبرياء في أعلى مستوياته. أنتوا الاتنين شخصية نرجسية يا مهران.”
تحدث مهران بغضب:
“أنا عمري ما هكون هو. عمري ما هكون أب زيه مع ولادي. عمري ما هذل فيهم وعقدتهم في حياتهم زي ما هو عمل معانا. أنا مهران الشرنوبي، وهو مراد الشرنوبي. بس الفرق ما بينا زي السما والأرض، زي الصيف والشتا. وعمري ما هتمني أبقى شبه.”
شعر بمرارة كلمات مهران، ربت شريف على كتفه قائلاً:
“أهدا يا صاحبي، خلاص. وخلينا في موضوعنا. فكرت هنعمل إيه الفترة الجاية وهنبدأ منين؟”
أومأ مهران برأسه، مشيرًا إلى شريف بنظرة ذات مغزى:
“طبعًا، فكرت، وهقولك كل حاجة.”
ارتسمت ابتسامة ثقة على وجه شريف، وهو يعلم أن دماغ صديقه تعمل دائمًا بسرعة فائقة لحل جميع المشاكل، وذلك ما يميزه عن الآخرين. جلس على الأريكة وبدأ يستمع إلى ما يقوله له مهران.
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»»»
عند ذات
خرجت ذات من مكتبها، متوجهة نحو المكتب الخاص بعمها سليم، باحثة عنه بشغف. لكن يبدو أنه لم يكن هناك. حينها، التفتت لتغادر، لكنها تفاجأت بوجود يزيد يقف خلفها. انتفضت في مكانها، مبتعدة عنه بسرعة. وقبل أن تتمكن من الخروج من الباب، أمسكها من ذراعها، وأغلق الباب من الداخل بقوة. أسندها على الباب، واقترب منها، يتحدث بنبرة خافتة، قائلاً:
“بدوري على حاجة يا قطه؟”
حاولت دفعه بعيدًا عنها، فغضبت قائلة:
“ابعد عني يا حيوان أنت.”
لكن، في تلك اللحظة، شعرت بقلبها ينبض في صدغها، بينما كانت تعيد تقييم الأمور: هل حقًا تعاني من التهديد، أم أن هذه هي المرة الأولى التي تأخذ فيها موقفًا ضد هذا الرجل الذي لطالما استغل ضعفها؟ اقترب منها أكثر، وقبل عنقها، همس مجددًا:
“أبعد إيه؟ ده أنا ما صدقت أن الجو بقى خالي ليا من تاني، واحشني جسمك أوي يا بنت عمي.”
ضغطت على أسنانها بغضب، وتكلمت بصراخ حاد:
“ابعد عني يا قذر، يا حيوان. أنت طول عمرك كنت بتتحرش بيا وانا سكرانه، ومكنتش قادرة أبعدك عني، ولا حتى أقولك كفاية. مراعتش حتي الدم اللى ما بينا، وان أنا بنت عمك، عرضك. كنت بتنهش لحمي أكتر من الغريب. بس أنا دلوقتي مش ذات، البنت الضعيفه، اللي الشرب كان مضيعها، أنا ذات، جديده قويه، وتقدر توقفك وتوقف عشره زيك يا وسخ.”
أنهت حديثها بدفعه بعيدًا عنها وصفعته بقوة على وجه، محذرة:
“أقسم بالله يا يزيد، لو فكرت تقرب مني تاني ولا تضايقني، لكون كسره إيدك اللي بتمدها علي جسمي، دي وفكر تعملها تاني ومتلومش إلا نفسك وقتها.”
عندما أنهت تحذيرها، خرجت مسرعة من المكتب، مغادرة الشركة بحثًا عن عمها سليم لأمر مهم. زاد شعورها بالحرية كلما مرّت عبر الممرات، كأن ضغوطاً ثقيلة قد أزيحت عن كاهلها، مما جعلها تدرك أنها لا تمتلك القوة فقط في جسدها، بل في إرادتها أيضاً. بينما يزيد، وضع يده على وجهه بغضب، ونظر أمامه بتوعد، قائلاً:
“ماشي، يا ذات، مبقاش أنا لو مكنتش دفعتك تمنه غالي أوي، واللي عايزه هخده منك برضاكي أو غصب عنك.”
لقد كانت تلك الكلمات بمثابة خاتمة مضطربة لعراك لم ينته بعد، حيث استشعر خطر أنه لم يواجهها كما ينبغي، فتحولت حقيقته من صياد إلى ضحية في نظر نفسه. أنهى كلامه، وخرج من المكتب بغضب شديد، متخبطًا في مشاعر الخسارة والرغبة في الانتقام.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»»
جلس عاصم خلف مكتبه الخشبي، وهو يحدق أمامه بتوعد كأنما يراقب الغد سيء الحظ، حينما انطلق رنين هاتفه معلنًا عن وجود اتصال. نظر إلى الشاشة، وارتسمت على وجهه ابتسامة شيطانية، ثم أجاب بنبرة ساخرة:
“أهلاً أهلاً بالباشا، شايفك مستخبي في جحرك اليومين دول بعد ما اتقبض على نصك التاني.”
سمع صوته المرتعش، وهو يعتذر بأسف:
“ا ا اسف يا باشا، سامحني والله دي أول غلطة معاكم. طول عمري كنت الراجل المخلص بتاعكم وشغلكم كان ماشي في الشركة من غير أي مشاكل.”
تعالت ضحكاته الشيطانية وكلماته كانت مليئة بالسخرية:
“ليه هو انت متعرفش أن الغلطة بموته؟ المفروض تكون عارف ده من أيام أخوك حازم، وان عقاب الخاين هو القتل.”
بدموع في عينيه، تحدث بأسف:
“أبوس إيدك يا عاصم باشا، سامحني. أول وآخر مرة هعمل كده، صدقني.”
ظل صامتًا لبضع ثواني، ثم تحدث بنبرة هادئة ولكنها تحمل الكثير من التهديد: “هعتبرك عيل وغلط، رغم أن ده مبيحصلش فى قانونَ، بس هديك فرصة واحدة بس علشان خاطر ابنك، ليه مستقبل معانا.”
بصدمة، رد بعدم تصديق:
“ا ا ابني أنا؟ أنت ت ت تقصد يزيد؟ أبوس إيدك، اعمل فيا اللي انت عايزه بس بلاش ابني يمشي الطريق ده، بترجاك.”
تحدث بتهكم، وكأنما يتلاعب بمصائر الناس:
“والله ابنك اللي دخل الجحر برجله، محدش ضربه على إيده، وأنا شايفه جدع وهيجي منه. وممكن كمان أخليه دراعي اليمين في المستقبل. المهم، من غير كلام كتير، الشغل هيرجع أحسن من الأول وهنكثف الفترة دي علشان نعوض الخسارة اللي خسرتها بسببك. بس إياك تفكر تلعب بديلك معايا يا سليم، علشان وقتها هخلي ابنك هو اللي يخلص عليك بنفسه. سلام يا سولي.”
أغلق معه ونظر أمامه بشر، وكلماته كلها توعد:
“لعبت لعبة كبيرة عليك يا سليم، أستلقى وعدك مني بقى.”
أنهى كلامه ونهض من مقعده، متجهًا إلى غرفته.
««««««««««««»»»»»»»»»»»
جلس مراد بكل هيبة خلف مكتبه الخشبي الثمين، الذي كان يُعتبر تحفة فنية تعكس ذوقه الرفيع. أدركت الجدران المحيطة به والديكورات الفاخرة أن هذه الأجواء تُعبر عن سلطة لا تُنازع. وإذ بأحد العساكر يطرق الباب بروح من الانضباط، حيث أتى على الرغم من الارتباك الذي يحيط بمسؤولياته العسكرية اليومية. بعد أن سمع إذن مراد له بالدخول، اقتحم العسكري الغرفة بتوجهٍ يجمع بين الحذر والاحترام. أدى العسكري التحية العسكرية بلباقة، وعيناه تجوبان المكان بنظرة تقدير، قائلاً:
“فيه واحدة بره عايزة تقابل حضرتك.”
نظر مراد إليه بغضب شديد، حيث بدت عليه ملامح الاستعلاء وهو ينطق بنبرة متكبرة،
“وأنا مكتبي مفتوح سبيل لأي حد! روح مشيها وقولها إني مش فاضي ليها.”
تلعثم العسكري، وارتجف صوته وهو يجيب:
“ق… قولتلها والله يا باشا، ب… بس هي قالتلي إنها مرات مهران باشا و… وعايزة تقابلك ضروري.”
كانت تلك الكلمات بمثابة صدمة لمراد، الذي نظر إليه بعدم فهم، ليقول باستغراب،
“مرات ابني!؟ دخلها.”
خرج العسكري، وبعد لحظات قليلة، وقفت أمام مراد، تتطلع إليه بملامح خالية من التعبيرات، وتعكس ملامحها الحزن والقلق في آن واحد. كانت عيناها كفيلتين بترجمة كل الألغاز التي تحويها نواياها. وقف مراد عن مقعده وتوجه نحوها، عينيه تفحص تفاصيل وجهها ورأسها المستقيم وقدميها اللتين بدتا كالأشجار الضعيفة في عواصف الحياة. سألها بتساؤل، وقد بدا عليه الفضول المختلط بالاستغراب:
“أنتي مين وعايزة إيه؟”
أجابت بنبرة جادة، قائلة:
“أنا ذات حازم الزويدي، مرات مهران أو بمعنى أصح، طليقته.”
تراجع مراد إلى مقعده مرة أخرى، وضع قدمه فوق الأخرى بتصرف مغرور، وقال بتكبر:
“اممم، قصدك البنت السُكرية؟ مسمهاش بقى مراته أو طليقته. نقدر نقول علاقة عابرة، ابني استمتع بيها شوية، وبعد كده رماها.”
إذ كانت نبرة صوت مراد تحمل السخرية، تلك السخرية التي لا تعكس إلا قسوة الواقع الذي عاشه ابنه. ضغطت ذات على أسنانها بغضب شديد، وكلمته بتهكم:
“والله تقدر تسأله مين كان بيتحايل على التاني علشان يفضل معاه ومين اللي صمم على الطلاق. عموماً، ده مش موضوعنا. أنا جايه اتفق معاك أسلمك عاصم الدويري تخرج مهران من هنا.”
نظرت إليه، فيها مزيج من الخوف والتحدي، ونبرة صوتها تعكس أملاً متدفقاً في قلبها. نظر إليها بابتسامة ساخرة، وتكلم بتساؤل مازح:
“اممم… وأنتي إيه يأكدلك أن مهران ممكن يخرج منها؟”
أجابت بنبرة منكسرة، كأنها تحمل ثقل العالم على عاتقها:
“علشان أنا عارفة إن في أيدك تثبت براءته دلوقتي قبل كمان شوية، بس محتفظ بي عندك علشان ميمنعش خطتك. وعايزني أكون طعم لعاصم. وأنا أهو عندك، وهنفذلك كل اللي أنت عايزه، في المقابل توعدني إنك تخرج مهران من المكان ده.”
عقد مراد ذراعيه بأسلوب يوحي بأنه يفكر بعمق، تابعها بنظرة مطولة، وبعد صمت طويل طال بينهما، تحدث بجدية كأنه يفكر في عواقب هذه الصفقة،
“موافق، بس بشرط، مهران ميعرفش أي حاجة عن اتفاقنا ده، ومجرد ما تسلميني عاصم، وأعوانه تختفي من حياة ابني نهائي.”
نظرت له بحزن عميق، وتجمدت الدموع في عينيها، وقالت بصوت مكسور:
“ده لو كنت عايشة لسه.”
كأن كلماتها قد نقشَت شعورًا بالخوف من الفقد، عاهدة لعالم معقد ينتظرها. أومأ برأسه موافقاً، ومحدثاً إياها بتحذير قاسي:
“اتفقنا، بس لو حاولتي تلعبي معايا وتستخدمي ضعف ابني ليكي، متلوميش إلا نفسك، علشان وقتها هوديكي وراه الشمس، ومحدش هيعرف يوصلك، حتى القناص نفسه.”
ابتسمت له بسخرية مُبطنة، وكأنها تحمل قنبلة خفية، وقالت:
“الأول كنت مستغربة ليه مهران سايب الفيلا وأهله، وساكن في شقة لوحده، بس دلوقتي أنا فهمت ليه.”
ثم تحركت نحو الباب، لكنها توقفت والتفت له، وقالت بتوتر وحرقة:
“أعتقد من حقي أشوفه دلوقتي، حتى لو لاخر مرة.”
أومأ برأسه موافقاً، وأشار بيده لها حتى تغادر، وكأنما كان يدعو لخطوة جديدة مؤلمة في رحلتها. نظرت له بكراهية مختلطة بالذكريات الأليمة، وخرجت من الباب لتقابل شريف في طريقها. نظر لها باستغراب عميق، وسأل بتساؤل،
“ذات!! بتعملي إيه هنا؟”
ردت بصوت مختنق، كأن كل الكلمات قد اختنقت في حنجرتها،
“جايه أشوف مهران.”
تنهد بضيق، وكأن ثقل الانتظار قد استنفذ طاقته، وقال بنبرة مختنقة:
“بلاش، أحسن يا ذات، مهران مش بيحب حد يشوفه كده.”
ابتسمت له بحزن مكسور، وكأن قلبها يتشقق، وقالت:
“بس أنا مش أي حد يا شريف، وأنا متأكدة إنه هو مستني زيارتي دي، وعايز يشوفني.”
أومأ برأسه موافقاً، وابتسم لها ابتسامة هادئة كأشعة شمس خجولة في صباح مضطرب، ثم قال:
“ماشي، تعالي معايا.”
وتحرك الاثنان نحو مكتب ماهر، حيث الأقدار تتلاقى وتتشابك في عالم مليء بالشكوك والمشاعر. طرق شريف على الباب، ثم دخل، قائلاً:
“مهران، ذ…” لكن لم يكمل كلمته، إذ وجد مهران يدفعه ويجري نحو ذات، محتضنًا إياها بقوة، وقبل رأسها بشغف مفعم بالشوق الذي يكاد يشعل النار في المكان. عندما رأى شريف المشهد، خرج بسرعة وأغلق الباب خلفه، أملًا في إتاحة الخصوصية لهذه اللحظة الهامة. أمسك مهران وجه ذات بين يديه، ونظر في عينيها، ولم يعد هناك مجال للاثنين للفرار من مشاعرهم، قائلاً بصوت همس يحمل بين طياته شغفاً لا ينضب:
“وحشتني أوي يا ذات، كل حاجة فيكي وحشتني: ريحتك، نظرة عيونك، شفايفك، حضنك، حتى عنادك وجنانك.”
انهمرت دموعها بغزارة، وكأن عواطفها قد انفتحت في سيل لا ينتهي، وتحدثت من بين شهقاتها وعبرات قلب ممزق:
“واحشتني أوي يا مهران، أنا محتاجلك أوي، وضعيفة من غيرك. مكنتش عارفة إن أنا من غيرك ولا حاجة، أنت أماني وضهري، أنت كل حاجة ليا. أنا بعشقك يا مهران.”
لم يجد مهران كلمات تعبر عن سعادته، ولطالما كانت الكلمات عاجزة عن احتواء الفرح الذي سكن قلبه، مال بجسده واقترب من شفتيها ليعتنقها بشغف يومض بالحياة، ملقياً على شفتيها كل ما يشعر به في هذه اللحظة. وهي لم تمنعه، بل تجاوبت معه كأنهما كائنين من عالم واحد، وكانت ترغب في أن تبقى هكذا للأبد. لكن سرعان ما شعروا بحاجتهم إلى الهواء، فابتعدوا عن بعض بشق الأنفس، صدورهم تعلو وتهبط من شدة لهاثهم. أسند رأسه على رأسها وانفصلت أنفاسه بصعوبة وهو يقول:
“كانوا واحشني أوي، أنا بقيت مدمن شفايفك يا ذات. لما أخرج من هنا، لازم نتجوز. عندي كلام كتير أوي عايز أقوله بس مش بالكلام، بطرق تانية في عالم خاص بينا أنا وأنتي.”
احمرت وجنتاها بخجل، وتحدثت بصعوبة، والجمال الذي يعتري عينيها يشعل في قلبه الحماس:
“أنا نفسي أفضل العمر كله وأنا كده في حضنك يا مهران، أنت أجمل هدية بعتها ربنا ليا.”
تحرك نحو الأريكة وجلس عليها وهو محتفظ بذات داخل أحضانه، أجلسها على قدميه وكأنهما في حصن من الأمان، ونظر في عينيها قائلاً:
“تعرفي إن أنا كنت مراهن نفسي عليكي النهارده، كنت متأكد إن اليوم ده مش هيعدي إلا لما تيجي تزوريني، وإحساسي طلع صح، أنا رجعلك يا ذاتي، رجعلك قريب أوي، ومش هبعدك عن حضني ثانية واحدة.”
حركت يدها الصغيرة على وجنته برفق، وتحدثت بنبرة حزينة تخفي أكثر مما تكشف:
“مكانش ينفع يعدي يوم عليا من غير ما أشوفك. الثانية بتعدي عليا وأنت بعيد كأنها مليون سنة. مستنية رجوعك ليا بفارغ الصبر يا مهورتي.”
ابتسم بسعادة غامرة، وقبل وجنتها برقة، قائلاً:
“بحب الاسم ده منك أوي يا عمري، المهم طمنيني، حد قرب منك النهارده وضايقك؟”
ابتلعت ريقها بصعوبة، وهي تتذكر ما فعله يزيد معها، ابتعدت عنه قليلاً، جلست بجواره، وأرجعت شعرها خلف أذنيها وكأنها تحاول التخلص من ذكرياتها، ثم تحدثت بتلعثم:
“ها… ل… لا، محدش قرب مني.”
نظر إليها بشك، وتحدث بتساؤل عميق وكأنما يبحث في أعماق روحها:
“ذاااات، متكذبيش عليا، مين ضايقك؟”
نظرت له بتوتر، وكأن كيانها قد تنامى عليه شبح الماضي، وردت:
“ي… يزيد، أحم، ك… كان بيعمل معايا نفس حركاته القذرة اللي كان بيعملها معايا زمان.”
ضغط على أسنانه بغضب شديد، وكان ذلك الغضب كالعاصفة في نفسه، وقال:
“ابن الكلب، وربنا ما هسيبه. هكسره إيده اللي مدها عليكي دي بس أخرج من هنا بس.”
أمسكت يده بحب، واحتوت غضبه وكأنها تعلم كيف تخرجه من جحيمه، وتحدثت بنبرة هادئة تمنح الأمان،
“اهدا يا حبيبي، أنت عارفني مش هسمحله يعمل كده، ولا هسكتله. أخد نصيبه مني، متقلقش. ده أنا تربيتك، اتولدت من أول وجديد على إيدك أنت.”
قبل يدها بحب، وقال بابتسامة جميلة تعكس جميع مشاعر الحب والإخلاص:
“وانتي أجمل وأحلى بنت اتولدت على إيدي، ومتاكد إن ذاتي قدها وقدود.”
تذكرت الحوار الذي دار بينها وبين مراد، فتنهّدت بحزن يثقل قلبها، وقد كانت تشعر بأن كل ما يدور حولها يحمل بعضاً من الحقيقة. قالت:
“مهران، عايزة أقولك حاجة.”
أومأ برأسه لها حتى يحثها على الحديث، مستحضراً حذارًا من أن ما ستقوله قد يكون من أكثر الأمور قسوة في حياتهم. فركت يدها ببعض وتحدثت بصوت مختنق يحمل في طياته الأشواك، “ا… أنا…
«««««««««««««»»»»»»»»»»»

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى