روايات

رواية شهادة قيد الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم دودو محمد

رواية شهادة قيد الجزء الثالث والثلاثون

رواية شهادة قيد البارت الثالث والثلاثون

شهادة قيد
شهادة قيد

رواية شهادة قيد الحلقة الثالثة والثلاثون

في المشفى، بدأ مهران يحرك رأسه بعد عملية جراحية استمرت أكثر من سبع ساعات. اهتز جفنه ببطء شديد، وأخيراً استطاع فتح عينيه تحت ترقب الجميع والترقب الذي ملأ قلوبهم. كانت الغرفة غارقة في صمت ثقيل، وكأن الزمن قد توقف، بينما كان زملاؤه وأفراد عائلته يحبسون أنفاسهم في انتظار أن يستعيد وعيه بالكامل. ابتلع ريقه بصعوبة، وبحث بعينيه عن “ذات”، لكنه لم يرها وسط الموجودين، مما زاد من قلقه وتوتره. تحدث بصعوبة وبصوت خافت، قائلاً:
“ذ ذ ذات فين؟”
نظر الجميع إلى بعضهم البعض بحزن، وملأ الكآبة وجوههم، ورأى الدموع تنهمر من عيني والدته، التي كانت دائماً مصدر قوته. حرك رأسه بالرفض وتكلم بترجي، وكأنما يسعى لابتلاع الألم الذي يعتصر قلبه:
“طمّنيني يا ماما بترجاكي، ذات فين؟”
أمسكت والدته يده بحنان، ولكنها كانت مغمورة بالدموع، وقالت بصوت مرتجف:
“منعرفش ذات فين يا حبيبي، الشرطة بدور عليها لحد دلوقتي…”
نظر لها باستغراب وحزن، ثم نظر نحو ماهر، وتحدث بتساؤل ملؤه الخوف:
“ازاي مش عارفين ذات فين؟ دي كانت جنبي في الأرض، وآخر حاجة شفتها هي؟”
أجابه ماهر بصوت مختنق، وهو يحاول احتواء مشاعره:
“منعرفش حاجة يا مهران، لما وصلنا عندك، مكانش فيه حد غيرك، بس كان واضح أن فيه حد اتصاب غيرك. للأسف، لا لقينا ذات ولا قدرنا نمسك عاصم.”
تنبه لما قاله ماهر، وضاقت عينيه من الغضب واليأس، وتحدث بصراخ مما سبب له ألم شديد، وجعله يدرك قسوة الموقف:
“يعني إيه، مكانش فيه غيري؟ ذات كانت جنبي والله العظيم. أكيد الكلب ده أخدها معاه! لازم ننقذها بسرعة، أنا مش هقدر أتحمل فكرة فقدانها… هي حياتي. كل لحظة من بعدها موت بطيء.”
امسكه شريف بغضب، قائلاً:
“اهدا بقى يا مهران، كل اللي حصل ده بسبب تهورك. وبرضه ذات اتعرضت للخطر. قولتلك استنا نفكر، بس دماغك ناشفة وصممت تنفذ اللي في دماغك.”
رد عليهم بغضب بصوت مختنق، والقلق يسيطر عليه:
“ذات مع عاصم يا شريف، انت فاهم يعني إيه؟”
أومأ شريف برأسه بتفهم، لكنه حاول تهدئة مهران، وقال:
“فاهم يا مهران، وعارف اللي في دماغك أيه، بس مش في إيدينا حاجة غير أننا نستنى الشرطة توصلهم وتحميها وترجعها ليك.”
حرك مهران رأسه بالرفض، وحاول النهوض رغم الألم الذي يشعر به، وكأن جسده لم يكن له أي وزن في تلك اللحظة. إلا أنه توقف عندما سمع صوت والده يقول له:
“متفكرش انك هتتحرك من هنا، لسه فيه تحقيقات النيابة.”
أغلق عينيه بغضب، وتحدث بنبرة مختنقة، مليئة باليأس:
“تحقيق إيه؟ مش نور طلعت عايشة؟ أنا لازم أخرج من هنا وأنقذ ذات.”
جلس ووضع قدمه فوق الأخرى، وتحدث بنبرة حازمة، لكنه كان يرتعش من مشاعره:
“ده مش شغلك، ده شغل الشرطة. أنما دلوقتي، أنت مش هتتحرك من هنا.”
صرخ بغضب وعصبية متزايدة:
“ذااااات مع عاصم ومتصابه، والله أعلم عمل فيها إيه دلوقتي!”
نظر مراد له بعدم مبالاة، لكنه كان يحمل داخله شعور الأسى:
“مافيش خروج من هنا، وحسّك عينك تفكر تهرب. الباب عليه حرس والمستشفى كلها محاطة. ولو فاكر الشويتين اللي عملتهم انت واخوك والباشا التاني صاحبك دخلوا عليا تبقى حماااار انا مراد الشرنوبي يالا ده انت تربيتي واللى بتفكر فيه بعرفه من قبل حتى ما تفكر تنطقه فياريت بلاش تعمل نفسك ناصح عليا بعد كده علشان ساعتها هموتك بأيديا دول واخلص من عارك خاااالص فاااااهم، وأعمل حسابك هتخرج من هنا على الفيلا وفكر ترفض يا مهران وانت عارفني ممكن أعمل فيك ايه.”
أنهى كلامه وخرج من الغرفة، تاركًا خلفه نيران مشتعلة داخل مهران. تألم بشدة من آلام جسده وألم قلبه على محبوبته، وكأن روح الضعف كانت قد عادت إليه، غارقة في مشاعر القلق والإحباط. نظر إلى ماهر طلباً للمساعدة، لكنه نظر في الاتجاه الآخر، كذلك فعل شريف، لا يرغبان في مساعدة مهران في إيذاء نفسه بسبب تهوره. ربتت والدته على يده بحنو، وحاولت اختراق حالة اليأس التي كانت تحيط به، وتحدثت بصوت هادئ، لكن مليء بالأمل:
“احتسبها عند الله، وهو قادر يحفظها ليك ويردها تاني لحضنك.”
حرك رأسه بدموع، وتحدث بصوت مختنق بحالة من الانكسار:
“مش هقدر أعيش من غيرها، يا ماما، صدقيني. ذات هي النفس اللي بتنفسه. بعدها عني يعني موتي.”
حركت يدها على شعره برفق، وتحدثت بحنو ولطف، وكأنها تصر على دعمه:
“ربك رب قلوب، وهو عالم باللي في قلبك، وهيراضيك. بس أصبر دايماً.”
ارتمى داخل حضن والدته، وتشبث بها كطفل صغير يبحث عن الأمان، وظل يبكي بحرقة على فقدان محبوبته، بينما كانت مشاعره تتجاذبه بين الأمل واليأس، أحاسيس متناقضة في خضم المعاناة.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
جلست مهرة خارج غرفة مهران، تنتظر بفارغ الصبر خروج الجميع من الداخل، أو بالأحرى خروج شريف من الغرفة، لعلها لا تضعف أمامه مرة أخرى. وبعد برهة، خرج الجميع من الداخل، لكن نظر شريف إليها بقلق، في حين تفاجأ بتجاهلها له. دخلت الغرفة عند مهران وأغلقت الباب في وجهه. بدت معالم الاستغراب واضحة على وجهه؛ فخرج مع ماهر إلى الخارج. وبعد وقت قصير، غادر ماهر إلى عمله، ليبقى شريف بمفرده. وفجأة، تفاجأ برؤية مهرة تتحرك نحو الخارج. نهض بسرعة واتجه نحوها، متسائلاً بقلق:
“مهرة يا مهرة، رايحة فين كده؟”
نظرت في الاتجاه الآخر، وقالت بصوت مختنق كأنها تحاول إخفاء مشاعرها:
“ملكش فيه.”
أغلق شريف عينيه للحظات، محاولاً تهدئة نفسه، ثم قال بنبرة غاضبة:
“ردي شبه الناس يا مهرة، أحسنلك، رايحة فين بقولك؟”
نظرت له بعنف وقالت بصوت مختنق، كأن الكلمات تتعثر في حلقها:
“ولو مردتش شبه الناس هتعملي أيه يعني؟ وانت أصلاً بتسألني بصفتك أيه؟ وواقف تتكلم معايا ليه من أساسه؟”
تكلم بتلهف، قائلاً بحب عميق:
“بصفتي حبيبك، وقريب أوي، هكون خطيبك.”
ابتسمت بتهكم، وعلت نبرة صوتها المختنق:
“كان فيه وخلص، أنا مستحيل أكون ليك يا شريف.”
عقد شريف ذراعيه على صدره، ورفع أحد حاجبيه بتعجب وقال:
“معنى أيه الكلام ده؟”
أجابته بغضب، وهي تأخذ خطوة إلى الوراء:
“يعني مش موافقة عليك، ولو حتى اتقدمت ليا، هرفضك. متتعبش نفسك بقى، وروح دورك على واحدة من سنك يا أبيه.”
تحركت إلى الأمام، لكنه ركض سريعاً خلفها وأمسكها من ذراعها بغضب، كأنه يتوعدها، قائلاً:
“وحياة أمك، مش هتكوني غير ليا، وفكري بس ارفضي وشوفي اللي هعمله فيكي يا روح أبيه.”
ثم عاد إلى الداخل، تاركاً إياها واقفة في صدمة مما قاله. كانت تتلفظ بعدم تصديق:
“لا بجد، مش طبيعي! مرة يقولي بحبك، ومرة يقولي خلينا إخوات، ومرة يقولي مش هتجوز غيرك. أنا حاسة إني بتعامل مع واحد عنده انفصام في الشخصية، ربنا يصبرني عليه.”
ثم اتجهت إلى السوبر ماركت، تنوي شراء قارورة ماء لوالدتها وأخيها. كانت مشاعرها متضاربة، تحمل عبء قلقها وأحاسيسها الجريحة. بينما كانت تمشي على الرصيف، كانت أفكارها تتصارع. كيف يمكنه أن يتحدث إليها بهذا الشكل، وكأنه يمتلكها؟ لم يكن الحب الذي يظنه شريف هو ما تبحث عنه؛ كانت تتوق إلى شريك يفهمها، يحترم رغباتها، وليس شخص يقتضى عليها من باب التقاليد. تكورت أفكارها في رأسها، لكنها قررت ألا تدعها تؤثر على قرارها، أخذت نفسًا عميقًا لتستعيد توازنها. كانت بحاجة إلى بعض الوقت لتفكر في ما يجري، وتفصل بين حب شريف وتوقعاتها عن الحياة التي ترغب في بنائها بعيداً عن تحكماته.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»»
باليوم التالي
استفاق مهران على صوت طرقات متكررة على الباب، فجلس بصعوبة وصرخ لطارق: “ادخل!”
وانفتح الباب لتدخل نور على كرسيها المتحرك. اقتربت منه، ولامست يدها يده بلطف، وسألت بقلق:
“عامل ايه دلوقتي يا مهران؟”
لكن نظر إلى الجهة الأخرى، وأطلق صرخة غاضبة:
“إنتي أيه اللى جايبك هنا؟ اطلعي بره!”
ردت عليه بصوت مخنوق، وكانت عيناها مليئتين بالدموع،
“أنا آسفة يا مهران، أنا والله العظيم أنضحك عليا وأديك شايف بعينك عمل فيا إيه، بسببه هعيش عمري كله على كرسي متحرك. أرجوك، سامحني يا مهران.”
التقت نظراتهم، وكان الشرار يتطاير من عينيه، وقال بعنف:
“أنتي عايزة مني إيه؟! غوري بقى وسبيني في حالي. وإوعي دماغك توزك أن الجو خلاص خلي ليكي، ذات هترجع، وهنتجوز أنا وهي بعيد عن حياتك أنتي وجوزك. غورري من وشي، اطلعي برررره.”
نظرت له بعيون دامعة، وحركت كرسيها باتجاه الباب، لكنها توقفت فجأة، وأدارت رأسها نحو مهران، وقالت بصوت مختنق:
“دور على ذات في سويسرا، لأنه المكان المفضل عند عاصم، وأكيد أخدها هناك.”
أنهت كلماتها، وخرجت من الغرفة بهدوء، وأغلقت الباب برفق خلفها. اتسعت عينا مهران بصدمة عندما تخيل ذات تغادر إلى بلد آخر، فهز رأسه بالنفي في خيبة، وقال بغضب:
“مستحيل ده يحصل، مش هسمحله يخدها مني ويبعدها عني سنين زي ما عمل مع نور. لازم ألحق ذات.”
حاول النهوض، لكن الشعور بالضعف اجتاحه، كأن جسده قد خذله في أسوأ لحظات حياته. لكن قبل أن يستسلم، دخل شريف فجأة، ما جعله يعبر عن نفاذ صبره، وسأله باستفسار:
“رايح فين؟ اتهد يا ابني بقى، هديت حيلنا.”
زفر مهران بضيق، وتحركت مشاعره داخله كأمواج عاتية، وتحدث بصوت متحشرج:
“أبوس إيدك، مش وقتك خالص. ساعدني أخرج من هنا، أنقذ ذات أحتمال يسافر بيها بره مصر.”
تحدث شريف بنبرة هادئة، مشدداً على الواقع:
“يا مهران، أفهم، خروجك من هنا ممنوع. الحراسة موجودة في كل المستشفى، يعني مستحيل تخرج.”
رد مهران بغضب، وصوته مشحون بالإحباط:
“أنا مش متهم يا شريف، نور طلعت عايشة، يعني اللي مانع خروجي هنا هو بابا، ودي أوامره.”
أومأ شريف برأسه بتفهم، وقال بتعقل:
“حتى لو زي ما بتقول، برضه مش هيخرجوك من هنا إلا بأمر من أبوك. اهدا بس، وهنحاول نفكر في طريقة نوصل بها لذات.”
نظر مهران إلى شريف بألم، والحنين واضح في عينيه، وتنهد قائلاً بصوت حزين:
“ذات وحشتني أوي يا شريف. هتجنن عليها، مش عارف حالها عامل أزاي دلوقتي، بس متأكد إنها خايفة، وواثقة إني هنقذها من المكان اللي هي فية دي مش عايز اخذلها يا شريف انا عمري ما خيبت ظنها فيا.”
ربت شريف على يده، وقال بنبرة مطمئنة: “متقلقش، إن شاء الله مش هتخذلها، وهنقدر نوصلها بسرعة.”
««««««««««««««»»»»»»»»»»
جلس يزيد في سيارته الخاصة، وهو يشعر بقلق يعتصر قلبه على والده. لقد ظل يبحث عنه منذ يوم أمس، حين أخبرته والدته بعدم عودة والده إلى المنزل منذ الصباح. لم يترك يزيد مكانًا إلا وسأل عنه، ولكن بلا جدوى. بينما كان يتملكه الإحباط، انبعث صوت رنين الهاتف، فرفعت عينيه بسرعة إلى الشاشة، آملًا أن يكون هذا الاتصال يطمئن قلبه. أجاب بسرعة على والدته، قائلاً بتساؤل ملؤه الخوف:
“إيه يا ماما، بابا رجع؟”
ردت عليه بصوت متوتر يملؤه القلق:
“لا، لسه. أنا كنت متصلة اطمن عليه، منك لاقيته ولا لسه؟”
أجابها بصوت مختنق، مشحون بالقلق:
“لسه يا ماما. مخلتش حتة إلا وسألت عليه، كلهم قالوا محدش شافه. سألت في المستشفيات كلها والأقسام، مش موجود في أي حتة منهم.”
فاجأته مفاجأة جديدة عندما قالت له بسرعة:
“سألت طيب اللي اسمه عاصم، لأنه المفروض كانوا هيتقابلوا في اليوم اللي اختفى فيه. وهو أصلاً كان خايف منه بشكل غريب.”
شرح لها بصوت مضغوط:
“بتصل عليه، مش بيرد، وبعد كده اداني إن رقمه خارج الخدمة. معرفش فيه أيه؟”
هللت والدته بغضب، لامست نفاذ صبرها:
“ما تروح عنده الفيلا وأسأله عن أبوك. أنا قلبي مش مطمن، الراجل ده تعبان وملوش لا عزيز ولا غالي.”
زفر بضيق، قائلاً بعدم اقتناع:
“حاضر يا ماما، هروح ليه، مع أني متأكد إنه مشفهوش. أنا أصلاً اليوم ده كنت معاه لحد ما اتصلتي بيا وبلغتيني بغياب بابا، وجتلك.”
أغلق الخط مع والدته، وحاول الاتصال على عاصم، لكن الرقم كان خارج الخدمة، فأدار السيارة متجهاً نحو فيلا عاصم، وكان القلق يتصاعد في صدره مع كل لحظة تمر. بينما كان يسير، تذكّر الأسئلة التي تراودت في ذهنه؛ ما الذي دفع والده للخروج دون إخبار أحد؟ كانت كل هذه الأفكار تحوم حوله، وكأنها ضباب كثيف يعوق طريقه. تمنى لو كان لديه المزيد من المعلومات، أو على الأقل بعض الأدلة التي تشير إلى مكان والده. كلما اقترب من الفيلا، ازدادت علامات الاستفهام داخل عقله، وأحس بارتعاش في يده عندما وصل إلى بابها. تنفس بعمق، وفي قلبه دعوات صامتة أن يجد فيه ما يطمئن هواجسه. كانت فيلا عاصم تبدو مظلمة بعض الشيء، وكأنها تخفي سرًا عميقًا. عندئذ، قرر أن عليه التصرف بحذر، فدخل ببطء، محاولًا أن يكون مستعدًا لأي مفاجآت غير متوقعة.
لكنه تفاجئ بالفوضى المتواجدة بالمكان مما أضاف عبئًا أخر على قلبه.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»
بعد مرور عدة أسابيع
أكمل مهران تعافيه تمامًا من العملية، وتم التحقيق في قضيتي نور السابقة والحالية، حيث تمت براءته من جميع التهم الموجهة إليه. فقد اعترفت نور بكل شيء، وكشفت عما حدث في الماضي. بذلك، استعاد القناص اعتباره وعاد أخيرًا إلى عمله في الشرطة بالقوات الخاصة. ولكنه ما زال يبحث عن ذات، ولم يتمكن من الوصول إليها أو حتى العثور على عاصم الدويري. عاد ليعيش في منزل والده بعد محاولات تم إقناعه بها من قبل والدته وشريف وماهر. ومع ذلك، كان تعامله مع والده محصورًا في حدود معينة، حيث لم يجتمع معه على طاولة طعام واحدة، مما أثار غضب مراد لكنه لم يهتم.
في صباح يوم جديد، استيقظ مهران على صوت مهرة وهي تقول له:
“اصحى يا أبيه، يلا هتتأخر على الشغل.”
زفر بضيق وقال بصوت ناعس:
“مهرة، خدي الباب في إيدك وأطلعي.”
أومأت برأسها بالطاعة وذكرت:
“حاضر، بس فيه واحد تحت بيقول إنه اسمه يزيد، ابن عم ذات.”
عندما استمع لهذه الكلمات، انتفض مهران من فوق فراشه وخرج سريعًا من غرفته، مُتجهًا نحو الأسفل. هناك، اقترب من يزيد وأمسكه من عنقه، متحدثًا بغضب شديد:
“كويس إنك جتلي برجلك، كنت ناوي اجيلك انا عشان أكسرك إيدك اللي مدتها على ذات.”
لم يُظهر يزيد أي مقاومة وظل صامتًا، وقد كان مظهره غير مرتب، شعره مبعثر وذقنه طويلة، وملابسه مصفوفة بشكل عشوائي. نظر مهران إليه باستغراب، وتحدث بعدم تصديق:
“أنت مفكر أن الشويتين دول هيدخلوا عليّا أنطق ذات فين؟ أكيد تعرف مكانها، وبتتواصل مع عاصم الكلب.”
انهمرت دموع يزيد وتكلم بصوت ضعيف وترجي:
“بترجاك، ساعدني أوصل لبابا. بقالي كذا أسبوع بدور عليه، كأنه فص ملح وداب، مش لاقيه في أي مكان، وعاصم معرفش فين اختفى هو كمان.”
أطل مهران عليه بنظرة مطولة، وتساءل:
“الكلام ده بجد ولا لعبة من ألاعيبك أنت وعاصم؟”
حرك يزيد رأسه برفض، وقال بدموع:
“والله العظيم بجد، حتى هتلاقيني عامل كذا محضر تغيب ليه. أبوس إيدك، ساعدني أوصله إذا كان عايش ولا ميت، بس عايزين نعرف هو فين.”
جلس مهران على المقعد، ينظر له بعناية قبل أن يوافق:
“تمام، هساعدك بس في المقابل، تساعدني أنت كمان.”
نظر له يزيد بعدم فهم، وحرك رأسه بالطاعة:
“موافق، بس أساعدك إزاي مش فاهم؟”
أجابه مهران بتوضيح:
“تقدر تمشي دلوقتي، وآخر النهار تعالى ليا المكتب، وأنا هقولك إزاي.”
أومأ برأسه بالموافقة وقال بصوت مختنق:
“م م ماشي، بالإذن أنا بقى.”
غادر يزيد، بينما نظر مهران إلى أثره وزفر بضيق. ثم نهض من مقعده وتحرك باتجاه الدرج. وفجأة، سمع صوت والده يهتف إليه:
“جنابك ناوي تحترم نظام البيت ده أمتى؟”
نظر له بضيق، وقال بصوت مختنق:
“والله ده نظامي، ولو مش عجبكم، أرجع شقتي تاني، وأعيش فيها براحتى.”
أقترب مراد من مهران بغضب، نظر له بتحذير:
“قسماً عظماً لو محترمتش نفسك معايا، وأتكلمت بأدب…”
رد مهران عليه بنفس اللهجة:
“إيه هتضربني بالحزام؟ ولا هتمنع عني الأكل؟ ولا هتحرمني من المصروف؟ فوق يا مراد باشا، إحنا مبقناش الأطفال اللي بتخاف منك. شوف بعينك، كل واحد مننا بقى ضرفه قدامك. معلش، أحب أعرفك، وأصدمك، إن شخصيتك النرجسية مش هتنفع معانا دلوقتي. روح مارسها بقى مع حد تاني غيرنا، عشان إحنا شبعنا ذل منك، وأنك أنت أعظم أب وعملت اللي محدش غيرك عمله.”
أنهى كلامه، وتحرك نحو الدرج صاعدًا إلى غرفته. جلس على المقعد، وضع رأسه بين يديه وزفر بضيق. شعر وكأن هموم العالم كله فوق كاهله، وقد شعر بشوق شديد إلى ذات سيجن، يبحث عنها بكل مكان وكأن الأرض انشقت وابتلعتها. دعا ربه أن يجمعه بها في أقرب وقت.وفي تلك الأثناء، ترددت في ذهنه ذكريات الأيام الجميلة التي قضاها معها، كيف كانت تضحك بملامحها الرقيقة، وكأن كل همومه كانت تنسحب عندما تكون بجانبه. ولكن تلك الأيام مضت، وتركته مفعماً بالحزن والاستفهام عن مصيرها. لم يكن فقط شغفه للعثور عليها يكمن في الحب، بل أيضًا في شعور قوي بالمسؤولية تجاهها، كأنه وعد نفسه بحمايتها، ولم يكن في قوته أن يتخلى عن تلك الوعود. سكنت مشاعره المتوترة في قلبه، وهو يعلم أن قوته وعزيمته ستكونان دافعه للبحث عنها مهما كلف الأمر. وبينما استرجع كل تلك الذكريات، قرر مهران أن يتجاوز أحزانه ويبدأ رحلة جديدة، بحثًا عن ذات، محاولًا استعادة عقله وتوازنه. لقد حان الوقت لتغيير مسار حياته، وإعادة بناء ذاته من جديد، واحتضان كل ما هو مهم له بعد أن سقط كل شيء حوله.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»»
بعد مرور عاااام
فى أحدى الملهات الليليه خارج مصر، انسجم مجموعة من الشباب حول فتاة تتمسك بكأس من الخمر، تتمايل بسكر وضحكاتها تملأ المكان، ترتدي ملابس مثيرة تزيد من جمالها. عند انتهاء الموسيقى الصاخبة، صرخت بفرح عارم وانتقلت بخفة نحو إحدى المقاعد، وارتدت عليه كظلة، ظلّت تضحك بهستيريا بينما كانت أنفاسها تتسارع من جراء التعب. جلس بجوارها شاب يكاد يكون مماثلاً لها في حالة السُكر، همس بشيء في أذنها ثم تحركت يده على جسدها بطريقة وقحة. لكنها، فاجأته بردة فعل غاضبة، وأبعدت يده عنها قائلة بغضب:
“أبعد ايدك الوسخه دي عني، أنا ذات الزويدي اللي محدش يستجرأ يمس شعره منها.”
تذكرت هذا الحدث قديماً وكيف حماها مهران من تلك الوحوش، فما امتنعت دموعها عن الانهمار. أسرعت مغادرة المكان، وهي تتأرجح من السكر، حيث كان المكان مظلماً. تجولت على قدميها، تساقطت على الأرض مرات عدة حتى شعرت بألم في ركبتيها. جلست على أحد الأرصفة، وأخرجت كيساً يحتوي على مسحوق أبيض، وضعته على سطح حقيبة يدها وبدأت تستنشقه بشغف. ثم أمسكت بزجاجة الخمر وبدأت تشرب منها بشكل مقزز، حيث تساقط السائل بين شفتيها، بينما تتسابق الدموع على وجنتيها. تمددت على الرصيف، أغلقت عينيها وذهبت في سبات عميق…في أحلامها، رأت مهران وهو يبتسم لها ويقترب منها ليحتضنها بقوة، ليبث لها مدى اشتياقه. تمسكت به بحرارة، وانهمرت دموعها بغزارة، وتكلمت من بين شهقاتها قائلة:
“واحشتني اوي يا مهران، أنا اتبهدلت اوي وأنا بعيده عنك، الدنيا دي قاسية اوي، اوعى تسيبني تاني، ارجوك.”
ابتعد عنها، نظر لها بحب وقال:
“أنا عمري ما بعد عنك يا ذات أنتي، على طول عايشة فى قلبي، اوعدك مش هبعدك عن حضن تاني ابدا.”
في تلك اللحظة، داعبت الشمس عينيها، بدأت تفتحها بأنزعاج. نظرت حولها بهلع، وتكلمت بصراخ وهي تبحث عنه:
“مهران، انت فين؟ انت وعدني انك مش هتبعدني عن حضنك تاني، مهرررران، سبتني لييييه.”
وضعت يدها على وجهها، واجهشت فى البكاء. ثم نهضت من على الأرض، بدأت تبحث عن عمل لتوفر ثمن البودرة والخمر مثل كل يوم. كان جسمها مرهقاً، لكن روحها كانت تتوق للخلاص من هذا الكابوس الذي طاردها، تبحث عن أي فرصة تتجاوز بها تلك الليلة المريرة. فيما كانت تتحرك بين الحشود، كانت الغصة تتزايد في حلقها، لكنها كانت تأمل في أن تجد بصيص أمل يعيد لها الشعور بالراحة وينسيها الألم. كانت تفكر في كيفية الخروج من هذا النفق المظلم الذي تعيش فيه، حيث رائحة الفشل والخزي كانت تطغى على كل شيء، لكن قلبها كان يسكنه شعور بالترقب، عسى أن يأتي يوم يعيد لها بهجة الحياة، يوم تكون فيه ذات زويدي التي خطفت أنظار مهران، وتسترجع تلك الذكريات الجميلة التي حاولت أن تدفنها تحت أنقاض الحزن والإدمان.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»
استقام مهران من مقعده بغضب، ووجه نظره إلى سطح مكتبه، حيث بدأ يطرق عليه بيده في احتدام، بينما كانت نبرات صراخه تتردد في أرجاء المكان قائلاً:
“يعني إيه مش موجودة في أي محافظة في مصر؟ الأرض انشقت وبلعتها! يعني سنة بحالها مش قادر أوصل ليها!”
رد عليه ماهر، محاولًا تهدئة الوضع بنبرة هادئة مدروسة:
“ما هو كده، مافيش غير أنها تكون بره مصر يا مهران. احنا دورنا عليها في كل محافظات مصر، من شرقها لغربها.”
حرك مهران رأسه بالرفض، عاكسًا شعور الإحباط المتزايد في قلبه، وقال:
“وبرضه مخرجتش من مصر، ما انت عارف! رجعنا كل الكشوفات اللي خرجوا من مصر؛ مكانتش موجودة فيهم. حتى عاصم الكلب مش قادرين نوصل ليه. فيه سر في الموضوع ده، لازم أفك اللغز. سنة بحالها بعيده عن حضني سنة وقلبي بينزف من وجع فراقها. هموت من القلق عليها! يا ترى عايشة إزاي دلوقتي؟ إحساسي بيها بيقول إنها بتتعذب! يا ماهر، ذات مش كويسة. صدقني، أنا حاسس بيها.”
ثم أخذ نفسًا عميقًا، أخرجه بوجع وقهر، واسترسل في حديثه قائلاً:
“مش هييأس، هدور عليها تاني وتالت ورابع في كل بيت وكل حارة وكل مستشفى لحد ما أوصلها وأرجعها تاني في حضني. أنا مستعد أخاطر بعمري كله علشانها.”
اومأ ماهر برأسه بتفهم، وتحدث بشكل هادئ:
“وأنا معاك، مش هسيبك يا مهران لحد ما نوصل ليها.”
وفي تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة، ودخل شريف بأنفاس لاهثة، وقال:
“لاقيت ذات يا مهران…”
«««««««««««««»»»»»»»»»»

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى