رواية شهادة قيد الفصل الثالث والأربعون 43 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء الثالث والأربعون
رواية شهادة قيد البارت الثالث والأربعون

رواية شهادة قيد الحلقة الثالثة والأربعون
حركت مهرة رأسها بعدم فهم واستدارت نحو ذات، وعبر نبرة قلق واضحة في صوتها، قالت:
“ذات، ابن عمك.”
تجهم وجهها وكأنها كانت تتلمس شيئاً غير مريح، وتكلمت بصوت مختنق مفعم بالتوتر:
“قولي ليزيد مش عايزه أشوف وشه.”
كان هناك حيرة في عقل مهرة، حيث شعرت بأشياء غامضة تدور حولها، ولكنها في نفس الوقت حاولت أن تهدئ من روع ذات. حركت مهرة رأسها بالرفض بوضوح، وبدأت تتحدث بتوضيح وعمق أكبر:
“لا، يا ذات، ده مش يزيد، ده بيقول اسمه زين، ابن عمك.”
اتسعت عينا ذات في صدمة وكأنها استرجعت ذكرى قديمة، وتحركت بسرعة نحو الباب لتتأكد مما سمعته. وبالفعل وجدته هو، الشاب الذي طالما حملت له ذكريات من طفولتها التي اختلطت فيها البهجة والقلق. تكلمت بعدم تصديق واضح على وجهها:
“زين! أنت رجعت مصر إمتة؟”
كان صوتها مليئًا بالتساؤلات والقلق، حيث عاش قلبها فيها حالة من الدهشة. نظر زين لها بنبرة جدية، قال:
“من ساعتين تقريبا، ممكن أتكلم معاكي كلمتين على انفراد؟”
أومأت برأسها بالموافقة، ثم نظرت إلى مهرة وقالت:
“مهرة، معلش ممكن تسيبينا لوحدنا شوية؟”
ردت مهرة عليها بتوتر واضح، حيث بدت كأنها تعيش صراعًا داخليًا:
“ب ب بس، أبية مهران بعتني ليكي علشان استعجلك.”
تكلمت ذات بنبرة هادئة، وكأنها تريد تهدئة الموقف المتوتر، موضحة:
“ماشي، هما دقيقتين بس وهنزله.”
أومأت مهرة برأسها بالموافقة، وخرجت من الغرفة تاركة إياهم بمفردهم، محملة بمزيج من المشاعر المتضاربة. نظرت ذات إلى زين، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تتساءل برغبة في فهم الوضع:
“خير، يا زين، فيه إيه، ده أنت حتى مبركتش ليا على الجواز.”
كانت عيناها تبحثان عن إجابات تتخطى الكلمات، نظر لها زين نظرة مطولة، وقال…
خرج زين بعد ذلك من الغرفة والدموع تملأ وجه ذات، وكانت في تلك اللحظة تشعر وكأن الألم قد انكسر داخلها. وفي ذلك الوقت، سمعت صوت مهران، فأزالت عبراتها سريعًا ونظرت له، فوجدت ملامح وجهه غاضبة بشكل غير مسبوق. تكلمت بضيق، ونبرة صوتها كانت تحمل الخوف من المجهول:
“فيه إيه يا مهران؟”
تكلم بغضب، وصوت مختنق عكس مشاعره المتناقضة:
“البني آدم ده كان عندك بيعمل إيه وليه طلب يتكلم معاكي لوحدكم؟ ردي عليا، يا ذات، زين ابن عمك كان بيقولك إيه.”
ضغطت على أسنانها بغضب، وكأنها كانت في صراع داخلي بين حبها لأهلها وشعورها بالحب تجاه مهران، وقالت:
“حاجة متخصكش، مش هتتحكم فيا، يعني ابن عمي، وكان بيتكلم معايا على انفراد. ملكش فيه بقى كان بيقولي إيه.”
نظر لها والشرر يتطاير من عينه، وتكلم بغضب شديد، وكأن الكلمات المشحونة كانت تخرج بشكل قسري:
“ذاااات، متخرجنيش عن شعوري، وانطقي كان بيقولك أية.”
اقتربت منه، ونظرت له بعينين ملتهبتين بالغضب، كأنها كانت تحارب لعدم فقدان صوتها:
“كان بيفتح عيوني على حاجات كتير، أوي كنت عايشة ومغفلة، ومش عارفة مين عدوي من مين حبيبي.”
شعر باللغز الكبير الذي يغلف كلامها، ومع ذلك كان هناك شيء مؤلم في قلبه. ضغط على أسنانه وأمسكها من ذراعها بغضب، كأنه كان يرى كل شيء بطريقة مظلمة، وقال:
“وديني وما أعبد لو ما نطقتي وقولتيلي قالك إيه بالحرف الواحد، لكون لاغي الفرح وموريكي النجوم في عز الضهر، انطقي يا ذاااات.”
ابتسمت له بغضب، وكانت عيناها تحمل شجاعة غريبة، وقالت:
“حاجة مش جديدة على عيلتكم، بس أنا اللي كنت عبيطة وساذجة ومش شايفة حقيقتكم بعيني.”
صرخ مهران بغضب شديد، وتلك اللحظة كانت مليئة بالتوتر المتصاعد، وظل يركل الحائط بهستيريا قائلا:
“انتي عايزة توصلي لإيه بالضبط؟ عايزة تجنيني ولا عايزة تجيبي أجلي وتخلصي مني، يا شيخة، بقى هعملك علشانك إيه تاني؟ بعت الدنيا كلها علشانك، غمض عيوني على حاجات كتير كنتي بتعمليها، صدقتك حتى لو كدابة، لخصت الدنيا كلها في قربك، ودلوقتي جايه تقولي الكلام ده! حرام عليكي، والله العظيم، حررام.”
جلست على السرير، وكان لحظة انكسار جلي، ونظرت له بدموع، وكان الألم واضحاً في عينيها:
“طلقني، يا مهران، مش هقدر أكمل معاك تاني ولا أبص في وشك.”
تعالت ضحكاته بهستيريا وكأن كل شيء حوله أصبح غير واقعي، وتكلم من بين ضحكاته:
“طلقني يا مهران! جايه تطلبي الطلاق دلوقتي؟ والفرح شغال تحت والمعازيم موجودة؟ انتي مجنونة يا ذات؟ لا بجد انتي فيه حاجة في دماغك؟”
وقفت بغضب شديد، كأن ثورة عاطفية اجتاحت جسدها، واقتربت منه، وظلت تضربه بصدره، والدموع تتسابق على وجنتيها، كأنها تحاول إزالة جروحها:
“طلقني، يا مهران، أنا بكرهك وبكره أبوك اللي إيده كلها دم، بابا وماما بكرهكوا علشان حرمتوني منهم، وبسببكم عشت حياتي بالشكل ده. بكرهكم علشان كل العذاب اللي شوفته بسببكم، بكرهك علشان كنت عارف كل ده وعايش تحب فيا وكأن كل شيء عادي. ازاي يجيلك قلب تضحك عليا بالشكل ده؟ كنت بتنام جنبي وتخدني في حضنك وطبطب عليا، وأنت عارف إن أبوك وراه اللي حصل لأهلي، يبقى كل حاجة مكانتش صدفة. من أول لحظة جيت فيها على إنك حارس شخصي ليا، كنت جاي وأنا الهدف العبيط اللي جاي تستهدفه، ووقعتني فيك بكل سهولة. لا وكمان بقيت مراتك، ولو مكنتش عرفت الحقيقة كان زمان الجواز هيكون رسمي، وعلى الحقيقة ويكون عندي طفل، جدو مجرم وإيده ملطخة بدم جده وجدته. طلقني، يا مهران، مش طايقة أشوف وشك.”
نظر لها بصدمة، وكأن كلماته كانت تتلاشى في الفضاء، محاولًا فهم الوضع بهدوء، تكلم بترجي كما لو كان يتحشرج:
“ذات، افهمي بس، أنا مكنتش أعرف والله إلا من قريب، وكنت مستني الفرصة اللي هجيب ليكي حقك وحق أهلك. صدقيني، والله العظيم بحبك.”
لكن حديثه كان يتلاشى في موجة الغضب المتصاعدة. تكلمت بصراخ، وكان صوتها يحمل كل ألمها وفوضى مشاعرها:
“بس بقى، أرجوك كفاية كدب، انت مش بتحبني، انت زيك زيهم كل واحد فيكم بيحاول يستخدمني طعم علشان يصطاد بي التاني. وأنا اللي كنت عايشة في أحلام كدابه، طلعت معاك لفوق السحاب، وفي الآخر، وقعت على جدور رقبتي! أنا مش مسمحاكم على اللي عملتوا فيا. أنا بكرهكم، بكرهكم.”
أنهت كلامها، ورقدت إلى المرحاض، وأغلقت الباب خلفها، وأسندت ظهرها عليه، وظلت تبكي بحرقة كأنها تحاول غسل ألمها بالدموع. نظر مهران إلى الباب، ثم اقترب منه، وتكلم بصوت مختنق، وكأن الأمل ما زال يتحسس في قلبه:
“ذات، أنا حبيتك بجد، ولما عمك الله يرحمه جه وقدم ورقك وطلب مني حراستك، مكنتش أعرف الحقيقة، وخلال الفترة اللي عشنا فيها مع بعض، حبيت ذات البنت الشقية الجميلة اللي كلها حيوية، اللي ضحكتها كانت بتنور حياتي. وبعد كده بدأت أعمل تحريات على عاصم لما خطفك، وبعد كده هرب، ووقتها بس عرفت الحقيقة. وأقسمت أن هجيب ليكي حقك انتي وأهلك. مكنتش حابب تعرفي دلوقتي، بس متوقعتش إن زين ده يرجع مصر دلوقتي علشان ينفذ خطته هو وأبويا اللي كان مختفي الفترة اللي فاتت دي، بيدبر لحاجة، أه مش عارف إيه هي، بس متأكد إن حاجة فيها أذيتك. ذات، أنا بحبك، ومستحيل أفرط فيكي حتى لو آخر نفس فيا. أرجوكي اطلعي وانسي اللي فات، وخلينا نبدأ من جديد، صفحة بيضة مفيهاش أي حقد ولا كراهية.”
أنهى كلامه، وعلق نظرة على الباب منتظراً خروجه. ثواني معدودة خرجت من الداخل، ونظرت له بتحدي وكأنها عازمة على تصحيح مسارها:
“أنا هنزل الفرح معاك، علشان خاطر بس مهرة وشريف اللي خطوبتهم معانا، بس أخرك معايا الليلة دي، وبعد كده كل واحد من طريق، مش عايزة أشوفك لو صدفه، فاهم؟”
كاد أن يتكلم، لكنها قاطعته بخطوة حاسمة، وقالت:
“كلمة زيادة ومش نازلة الفرح، واللي عندك اعمله.”
نظر لها نظرة مطولة، محاولاً استجماع أفكاره وسط الفوضى، ليس أمامه حل غير أنه يستسلم لكلامها حتى تنتهي الليلة. وبعد ذلك، يتحدث معها بهدوء، محاولاً تبرير موقفه في هذه التهمة المنسوبة له ظلم. أومأ برأسه بالموافقة، وقبل أن يتكلم، تحركت أمامه، فتحت الباب وخرجت منه تاركةً وراءها كل زوابعها. حرك يده على شعره وزفر بضيق، وكأنه يحاول تشتيت الأفكار المزعجة، ثم ركض خلفها، وتكلم بنفاذ صبر:
“اهدي، يا ذات، مش هينفع تنزلي لوحدك، وبالشكل ده، الناس كلها هتاخد بالها وتلاحظ أن فيه حاجة.”
أغلقت عينيها بغضب، وضعت يدها داخل ذراعه على مضض، وتكلمت بضيق:
“حتى لمستك مبقتش طيقاها، ربنا يعدي الليلة دي، علشان أخلص منك.”
حاول مهران أن يستخدم أقصى ما عنده من الثبات الانفعالي، تحرك معها إلى الأسفل، محاولًا تضميد جروحه الداخلية بالنظر للأمام بدلاً من تلك اللحظات الحرجة. بعد التهنئة لهم، جلست ذات على مقعدها بوجه متجهم، مما أثار فضول جميع المتواجدين لمعرفة السبب وراء هذا الغضب. اقترب شريف عند مهران، وقال:
“مهران، تعالى، عايزك.”
أومأ مهران برأسه بضيق، ونظر إلى ذات بحزن شديد، كان قلبه مليئًا بالأسئلة والقلق، ونهض مع شريف وابتعدوا عن الضجيج، كأشخاص يبحثون عن مساحة آمنة من مشاكلهم. وتكلم بتساؤل:
“فيه إيه يا مهران، مالك انت وذات وشكم عامل كده كأن مقتول ليكم قتيل، الناس كلها أخدت بالها منكم.”
تنهد بحزن شديد، وتكلم بنبرة مختنقة:
“ابن الكلب زين ابن عمها جه وقال لذات كل حاجة، ولما عرفت، طلبت الطلاق مني.”
اتسعت عيون شريف بصدمة، وكأن عاصفة من الصدمة اجتاحت مشاعره، وقال:
“يا ولاد الكلب حتى مش عتقينك في يوم زي ده.”
نظر له بضيق، وأحس بعبء الكلمات على قلبه. تنحنح شريف بإحراج، وقال:
“سوري، مقصدش أغلط في أبوك بس هو طيب ويستاهل الصراحة.”
زفر مهران بضيق، وكأنما كان يحاول تحرير نفسه من مصيره المؤلم، وقال:
“كنت عارف إن غيابه اليومين اللي فاتوا دول بيخطط لحاجة توقف الجواز، بس مكنتش أعرف إنه هيبعت زين لذات يقولها الحقيقة علشان الفرح ميتمش. أنا مش عارف هعمل ايه مع ذات، ولا هتصرف ازاي علشان أخليها تفهم الحقيقة، بس مستحيل أفرط فيها بالسهولة دي بعد ما صدقت إنها بقت مراتي. أنا عارف إن من حقها تزعل وتغضب، وكنت متوقع ده، بس متوقعتش يكون في اليوم ده بالذات.”
ربت شريف على كتفه، وكأنما يحاول منح مهران القوة، وقال:
“اهدا عليها بس لحد ما تاخد وقتها في الزعل، وتقدر تستوعب الحقيقة، وبعد كده ابقى راضيها، ورجعها تاني لحضنك، بس إياك تفقد أعصابك وتتعصب عليها، يا مهران، لأنها هي دلوقتي مجروحة، وبين نارين، بين حبها لأهلها وزعلها عليهم، وبين حبها ليك، وقلبها اللي بيتعذب.”
أومأ برأسه بتفهم، وكأنه كان يستقرأ أفكاره وأحاسيسه، وقال:
“فاهم كل ده يا شريف، وبحاول أمسك أعصابي عليها على قد ما أقدر، وإن شاء الله ربنا ينصرني عليهم، ووقتها هتعرف إن أنا مستعد أعمل أي حاجة علشانها. المهم اجهز يلا علشان تلبس مهرة الشبكة، علشان هنهي الفرح بدري.”
وبالفعل، تحركوا الاثنين، وبدأ شريف يمسك محبس الخطبة، وأمسك يد مهرة، وبدأ يضعه بأصابعها، لكن صوت مراد الغاضب منعه من ذلك. اقترب منه بغضب شديد، وأمسك مهرة من ذراعها، ونظر لشريف، وتكلم من بين أسنانه، في تهديد شبه صريح:
“أنت مين سمحلك تخطب بنتي من وراه ضهري؟”
نظر شريف له بتحدي، كما لو كان زلزالاً يتسرب بين عينيه، وقال:
“أنا خاطبها من اخواتها، وهي صاحبة الشأن موافقة، وعايزاني.”
ضغط بقوة على يد مهرة، مما جعلها تتألم بصوت مرتفع، وكأن فرحتها قد تحولّت إلى جراح، وقال:
“بنتي، أنا هعرف أربيها كويس أوي على عملتها دي، أما اخواتها عندك، أهم وريني هيتمموا الخطوبة غصب عني إزاي.”
اقترب مهران بغضب شديد، محاولاً أن يحافظ على صلته بالوضوح، وتكلم بتحذير:
“سيب مهرة، أحسنلك، قسماً بالله لو ما سيبتها، ما هعمل حساب لصلة الرحم اللي ما بينا، وهخلص عليك وقتي.”
نظر مراد له بغضب، وكيف أن الكلمات تفيض من بين شفتيه، وتكلم بتحذير:
“لو مستغني عن عمرك وعمرها، فكر توقف قدامي، يا مهران.”
تكلم ماهر بتلعثم، وعيناه تحمل رعدة من الخوف، قائلاً:
“ب ب بابا، أرجوك، س سيب مهرة، شريف راجل ويستاهلها، وهما الاتنين بيحبوا بعض.”
هدر به بغضب شديد، وكأن فورة الغضب اقتلعت جذوره، وقال:
“غور من وشي، يا ماهر، وحسابي معاك بعدين، بقى ليك رأي، وبتعصي كلامي.”
انتفض ماهر مكانه بخوف شديد، وتراجع إلى الخلف. اقترب شريف منه، وأمسك يد مهرة، وانطوت ثواني أمام صوت القوة والحب الذي يقدمانه للآخر، وقال:
“سيب مهرة، بقولك، والنهاردة هتكون مراتي، ووريني هتقدر تمنع الجوازة دي إزاي.”
أخرج مراد سلاحه، ووجهه لشريف، وكأنما قاعة الحفل تحولت إلى ساحة قتال، وتكلم بتحذير:
“لو مبعدتش عن سكتي حالا، هفرغ سلاحي ده كله فيك.”
رغم ألم مهرة من مسك يدها، إلا أنها تكلمت برجاء، محاولة استجماع قوتها:
“ابوس ايدك، ابعد يا شريف، بترجاك.”
أخرج مهران سلاحه، وبدت اللحظة كأنها تجسد صراع القدر، حيث تكلم:
“طلقة بطلقة، ونبقى خالصين، أيه رأيك؟”
كل ذلك تحت نظرات ذات الغاضبة لهم، كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتنجز ما لم يكن متوقعًا. وقفت مديحة أمام مهران وتكلمت بدموع، وكأن قلبها يصرخ بالمساعدة:
“ابوس ايدك، كفاية، يا مراد، بترجاك، وحياة العشرة اللي ما بينا، يهون عليك مهران، أول ما عينك شافت، يهون عليك تأذية؟”
نظر مراد إلى مديحة بغضب، غير مدرك لحالة الفوضى التي يعيشون فيها، وتكلم بأمر قاطع:
“أمشي قدامي.”
ثم أرغم مهرة على التحرك معه، وكأنما كان كل شيء قد ضاع أمام عينيه. كاد مهران أن يتحرك حتى يمنعه، لكن مديحة منعته، ونظرت له برجاء عظيم، وكأنها تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقالت:
“بلاش، علشان خاطري، يا ابني.”
ولكن في ذلك الوقت، تفاجأ مهران بذات تخطف السلاح من يده، وتوجه إلى مراد، وكأنها انطلقت بدافع لا يمكن كبحه، وخرجت رصاصة منه أصيبت والده من الظهر. الجميع وقف مكانه من الصدمة، توقفت عقارب الزمن، ويرتسم الخوف على وجوههم، يسمع أصوات أنفاسهم العالية فقط بالمكان، حالة من الإنكار عند مهران، يحاول تكذيب ما يراه بعينه. حبيبته، زوجته، أغلى ما يملك، أصيبت والده أمام عينه في ليلة عمرهم. هل هذا كابوس مزعج وسوف يستيقظ منه في القريب العاجل؟ إعادة على أرض الواقع، صوت صرخات مديحة ومهرة، وهم جالسين بجوار جسد مراد الملقى أمامهم في الأرض، والدماء متناثرة حوله، والتي تروي قصة مأساة وقعت بسرعة أكبر من أن يدركوها. وصوت شريف وهو يدفعه بقوة حتى يعيده لرشده، وماهر وهو يتصل بالاسعاف، الجميع في حالة من الصراخ والذعر. التف ونظر إلى ذات، وجدها تقف، عينيها مثبتة أمامها، كأنها فقدت الصوت والتصرفات، لا يوجد أي رد فعل لها، كأنها مغيبة تمامًا عن الواقع. أخيرًا استطاع أن يتحدث، وتكلم بصوت متقطع، متكلماً من قلبه الذي تمزق:
“اللي حصل ده بجد يا شريف؟ قولي إنه مش حقيقي. ليه؟ ها، ليه حصل كل ده في يوم زي ده؟ لا، لا، أكيد دي فقرة كوميدي بس دمها تقيل شوية. أصل أزاي ذات تقتل، وبابا سايح في دمه على إيد مراتي. رد عليا يا شريف، قولي كل ده كدب.”
احتضنه شريف بقوة، وكان في عينيه أخا يحاول أن يفسر له:
“اهدى يا مهران، لازم تهدا علشان نشوف هنعمل أيه، وأبوك هيكون فيه النفس ولا لا، ومصير ذات هيكون إيه؟ لازم نفكر في المصيبة اللي إحنا فيها، مش وقت انهيار، يا مهران.”
مسح بيده على وجهه حتى يهدأ كما طلب منه شريف، لكن شيء صعب عليه، موقف يكاد يكون أكثر تعقيدًا مما يمكن تحمله. تحرك باتجاه ذات، وأمسكها من ذراعها، كأنه كان يحاول إحياء شعلة من الأمل، حركها بقوة، وتكلم بغضب متحشرج:
“ليه تعملي كده، يا غبية! قولتلك هجيبلك حقك وحق أهلك بس بطريقة قانونية! ضيعتي نفسك، وضعت معاكي! قوليلي هقدر أعيش في النار دي إزاي؟ ردي عليا، ردي يا ذات.”
ظل بؤبؤ عينيها ثابت لا يتحرك، كأنها فقدت الحياة، عائقة بين ذلك الماض المظلم والمستقبل المجهول، لا تسمع، لا تتكلم، لا ترى أمامها شيء. الآن بدأ كل شيء يتلاشى من أمام عينيها، ساقطة داخل أحضان مهران، فاقدة للوعي، مستسلمة لعالم مظلم لا تستطيع الخروج منه. حملها مهران بقلق شديد، وكأن قلبه ينزف معها، ركض بها إلى الخارج، تاركًا خلفه كل شيء، وضعها بالسيارة، وتحرك بها سريعًا إلى المشفى، والآمال تتلاشى في قلبه مثل غيوم خريفية.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»
داخل المشفى…
وضع مهران ذات بحذر على سرير الفحص، ثم ركض مسرعًا إلى الخارج يبحث عن طبيبة في حالة من الذعر. كانت أنفاسه تتسارع بينما يدق قلبه بشدة في صدره، وكأن كل لحظة تمر كانت أكثر ثقلاً من سابقتها. بعد ثوانٍ معدودة، عاد إليها ومعه الطبيبة، التي وقفت بجانبه، وبدأ في انتظار نتائج الفحص بقلق شديد. عندما انتهت الطبيبة من الفحص، خرجت بوجه جاد وعينيها تحمل عبء الخبر. تحدثت بتوضيح مهني:
“عندها انهيار عصبي، واضح أنها تعرضت لصدمة كبيرة.”
أومأ مهران برأسه بحزن عميق، وصوته مختنق حين قال:
“آيوه، النهاردة كان فرحنا، و حصلت مشاكل واتلغى.”
ردت عليه بصرامة مهنية:
“واضح طبعًا من فستان الفرح. تمام أنا أديتها حقنة مهدئة، وهتفضل نايمة كده لصبح.”
بصوت يجمع بين الأمل والخوف، قال:
“ممكن أفضل جنبها؟”
أومأت برأسها بالموافقة وقالت:
“أه طبعًا، مافيش مشكلة، أهم حاجة بلاش أي إزعاج ليها، ولو فاقت في أي وقت، ياريت تبلغنا على طول عن أذنك.”
أنهت كلامها وتحركت بعيدًا عنه. نظر مهران إلى باب الغرفة، تنهد بوجع، ثم تحرك إلى الداخل حيث وقف بحيرة، تملؤه مشاعر متناقضة: غاضب، متعاطف، حزين، قلق، يشعر بلوم وعتاب، ويشتاق إليها. اقترب منها ببطء، ثم جلس بجوارها، ممسكًا بيدها، وتحدث بصوت خافت مليء بالمشاعر:
“ليه يا ذات تعملي كده؟ عارف إن الصدمة كانت كبيرة عليكي، لكن والله العظيم أنا كنت ناوي أجيب حقك أنتي وأهلك، كنت هبرد نار قلبك وبعد كده أداويه بأيدي. قوليلي دلوقتي أعمل إيه؟ مش هقدر أعيش من غيرك ولا هقدر أمنع العقوبة عنك. قوليلي يا ذات، الحل إيه دلوقتي؟”
وضع رأسه على صدرها، متشبثًا بها كطفل صغير يخاف فقدان أمه، ظلت يده ممسكة بها بقوة، كأنها كانت ملاذه الآمن في بحر من الفوضى. كانت أصوات احتفالات الفرح تتسلل من بعيد، وصور الوجوه السعيدة ترفرف في ذهنه، لكن هنا، في هذه اللحظة، كل ما كان يهتم به هو سلامتها.بقي على هذا الوضع حتى جاء صوت هاتفه، مما أخرجه من غفلته. أخرج الهاتف من جيب بنطاله ليجد المتصل هو شريف. أجاب بصوت مختنق:
“طمني يا شريف، إيه اللي حصل عندك؟”
أجاب شريف بصوت مكتوم:
“حالته خطر، لسه بيحاولوا معاه بس كل الدكاترة قالوا إن حالته صعبة.”
زفر مهران بضيق، قائلاً بصوت حزين:
“أنا لو عليا، ميفرقش معايا حالته، ولا شاغل بالي بي، بس كل اللي خايف منه هو موقف ذات في القضية. لو مات، غبية ضيعت نفسها وضيعتني معاها.”
رد شريف بقلق:
“طيب هي عاملة إيه دلوقتي؟”
نظر مهران إلى ذات الممددة أمامه، التي لا تشعر بشيء، وكأنها عانت من عاصفة شديدة أدت بها إلى هذا الاستسلام. ثم قال:
“عندها انهيار عصبي، وخدت حقنة مهدئة، هتنام لصبح.”
ثم زفر مجددًا بضيق:
“أنا هقفل دلوقتي يا شريف، ولو حصل حاجة، بلغني.”
أنهى المكالمة وأغلق الخط، ثم جلس على المقعد بجوار سرير ذات، وظل ينظر إليها ويشاهد أنفاسها حتى غفت عينيه، ووقع في سبات عميق.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
في صباح اليوم التالي…
وقفت مهرة أمام باب الرعاية، عيونها مليئة بالدموع، تنظر من خلفه إلى جسد والدها الفاقد للحياة، كالشبح الذي لا يشعر بشيء حوله. كانت تبكي بغزارة، وكأن كل دمعة تروي حزنها العميق. في تلك اللحظة، شعرت بيد دافئة على ظهرها تربت عليها برفق. التفتت إليه، وتكلمت من بين شهقاتها المتقطعة:
“أنا السبب يا شريف، لو مكنتش اتخطبت ليك من وراه مكانش جه الفرح وحصل اللي حصله ده. أنا بحبه وعُمري ما كرهته. أه كنت بزهق من تحكماته وطريقته الجافة معايا، بس في الآخر، ده أبويا اللي جابني لدنيا.”
أمسك شريف يدها بحب، نظراته تحمل الأمل وابتسامة هادئة:
“يا حبيبتي، خطوبتنا ملهاش دعوة بكل اللي حصل ده. أنا متأكد إن اللي كان مقصود بكل اللي حصل ده هو مهران وذات. كان عايز يوقف الجوازة بأي طريقة، بس أكيد مكانش متوقع ده اللي هيحصله في الآخر. وإن شاء الله، هيرجع أحسن من الأول، بس علشان خاطري، بلاش دموعك دي لأنها بتموتني.”
ارتمت داخل أحضانه، وبدأت تتحدث من بين شهقاتها:
“أنا قلبي واجعني أوي يا شريف، معرفش ليه مش مكتوب لينا الفرح. يوم ما الدنيا تضحك في وشنا، تكون بتطعنا في ضهرنا.”
ربت على ظهرها بحنو، وكأنه يحاول أن يخفف عنها آلامها:
“أكيد ربنا ليه حكمة في كده، وإن شاء الله هيعدي كل ده على خير وكل حاجة هترجع لوضعها الأول.”
ابتعدت عنه، وتنهدت بحزنٍ عميق، ثم قالت:
“يارب يا شريف، يارب.”
كان صوتها عبارة عن تضرعات مكسورة تحت وطأة الفراق والفشل. وقفوا كلاهما أمام الباب، ينظرون إلى جسد مراد الخالي من الحياة، وظل شريف يفكر في المصائب التي ألمّت به منذ قليل، وكأن كل مصيبة تروي قصة عانا منها مهران ، وكانت تلك اللحظة بمثابة القنبلة الفاصلة في الأحداث القادمة، تتصاعد منها غيمة من الغموض والاضطرابات التي لن تنتهي لفترة طويلة، بينما كان الأمل يلوح في الأفق كنجمة بعيدة تخبو وتضيء مجددًا بين غيوم الشك واليأس.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
بدأت ذات تحرك رأسها ببطء شديد، وذكريات اليوم السابق تتسابق أمام عينيها كأفلام قديمة تعيد عرض مشاهد مؤلمة. انهمرت الدموع من عينيها، رافضةً واقعها المرير. بدأت أنفاسها تتسارع بشدة، مما أدى إلى استيقاظ مهران من نومه. انتفض في مكانه واقترب منها، وعبرت ملامح وجهه عن القلق العميق. قال بنبرة هادئة، محاولاً تهدئتها:
“ذات، حبيبتي، افتحي عيونك، أنا جنبك، اهو ذات، علشان خاطري، ردي عليا.”
تكلمت بصراخ، وهي تحرك رأسها بحركة يائسة، رافضةً ما سمعت:
“مقتلتهوش والله العظيم ما اقتلته.”
كانت الكلمات تتدفق من شفتَيها كالصراخ في مهب الريح، تحمل معها ثقل كلمات لم تجد لها صدى في عالمها المظلم. أومأ مهران برأسه، محاولاً تهدئتها:
“اهدي يا ذات، هو لسه عايش، مماتش، صدقيني، والله مماتش.”
كان صوته مليئاً بالخوف، ولكنه أيضا يحمل لهجة من الأمل، كمن يغمر قلبه في المياه العميقة بحثاً عن نافذة من الضوء. ظلت تصرخ بدموع، تكرّر كلماتها المفعمة بالخوف:
“مقتلتهوش، مقتلتهوش.”
بدت كأنها تشعر بصرخة ألم تتدفق من أعماقها، كما لو أنها تخشى الاعتراف بالواقع الذي تواجهه. استمررت في ترديد هذه الجملة حتى شعر مهران برعب شديد عليها، فركض مسرعًا إلى الخارج وأبلغ الطبيبة بحالتها. على الفور، أتت معه إلى الغرفة وأعطتها حقنة مهدئة.بينما كانت ذات تشعر بالاسترخاء ينشر دفءً في جسدها، همست بصوت خافت:
“مقتلتش مراد الشرنوبي، مقتلتهوش.”
بعد ذلك، استسلمت لعالم آخر، عالم يعمّه الصمت والغياب، حيث لا صوت يزعج سكينتها المنكسرة، ولا ذكريات مؤلمة تطاردها. نظر مهران إليها بحزن عميق، ثم خرج من الغرفة، وقلبه يتقطع من شدة الألم عليها. في تلك اللحظة، جاءه اتصال، تنهد بضيق وأجاب بصوت متعب:
“ايوه يا ماهر، فيه حاجه جدت عندك.”
كان هناك شيء في صوت ماهر جعل قلب مهران يتوقف للحظة، ثم تنبه، ورد ماهر عليه بصدمة، وقال:
“مهران، مش ذات اللي ضربت بابا بالرصاصة…”
««««««««««««««««»»»»»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)